وبيان ذلك في عناوين:
الأول ـ في أقسام الوصية:
تختلف رغبات كل إنسان وحاجاته التي يريد الإيصاء بها وتحقيقها بعد مماته، ويجمع ذلك قسمان:
1 ـ الوصية التمليكية: وهي التي يريد الموصي أن يُملِّك بها شيئاً من أمواله، أو من الحقوق التي له، لغيره، شخصاً كان ذلك الغير أو جهة؛ فهي نحو من التمليك أو التخصيص الذي تترتب آثاره بعد الموت من دون حاجة إلى سبب لإحداثه وإيقاعه؛ فمن قال: «سيارتي لزيد»، أو قال: «مكتبتي لمركز الدراسات الفلاني»، يصبح ذلك المال ملكاً للموصى له من دون حاجة إلى جعل جديد من الوصي أو الوارث، لأنه صار مستحقاً له ـ بعد مـوت الموصـي ـ بالوصية التي صدرت منه حين حياته.
هذا، ولا فرق في الوصية التمليكية بين أن يصدر فيها الإعطاء من الموصي بمثل قوله: «هذا المال لزيد أو للمسجد الفلاني أو للفقراء أو لطلاب العلوم الدينية بعد وفاتي»، وبين أن يقول لمن بعده: «أعطوا هذا المال لزيد أو للفقراء بعد وفاتي»، وذلك خلافاً للفقهاء الذين اعتبروا الصيغة الثانية وصية عهدية، بل إن مثل قوله: «بيعوا العقار الفلاني وادفعوا ثمنه لزيد أو للفقراء» هو في جوهره وصية تمليكية، ولكنها معلقة على فعل البيع من الوصي، فتترتب آثارها، وهي ملكية زيد مثلاً لثمن العقار بمجرد موت الموصي، وليس للوصي دورٌ في هذا التمليك أكثر من إيجاد الثمن خارجاً بالبيع.
2 ـ الوصية العهدية: وهي العهد لشخص معيّن بالقيام بأمور معينة مما يرغب الإنسان الموصي بأن يُفعل بعد مماته، وذلك في الأمور التالية:
أ ـ جعله قيِّماً على أولاده القاصرين.
ب ـ أداء ما عليه من الحقوق للناس، من ودائع وديون وحقوق مالية شرعية، كالخمس والزكاة والكفارات ورد المظالم ونحوها.
ج ـ تكليف من يقضي عنه ما عليه من عبادات.
د ـ صرف شيء من ماله في وجوه الخير مطلقاً أو بكيفية خاصة، وليس منها أمره بإعطاء شيء من أمواله للفقراء أو لشخص معين، فإنها من نوع الوصايا التمليكية كما سلف القول.
أما ما يطلبه في الوصايا العهدية غير ما ذكرناه، مما يعتبر تدخلاً في شؤون الغير، فإنه لا يعتبر نافذاً ولا ملزماً للوصي، وذلك كأن يوصي ولده أو صديقه بأن يصلي جماعةً وراء العالم الفلاني، أو يزوج ابنته للرجل الفلاني، أو أن يزرع أرضه أو يدير عمله التجاري بالنحو الفلاني، أو أن يصلي عنه هو ما عليه من قضاء، وما أشبه ذلك مما لا يكون عهداً له بتصرفٍ حقٍ للموصي، بل أمراً له أو لغيره بتصرف ليس له علاقة به.
هذا، وسوف نعقد مبحثاً خاصاً لما تصح الوصية به بقسميها تحت عنوان (الموصى به).
الثاني ـ في حكم الوصية:
مسألة 425: الوصية في أصل التشريع مستحبة، سواء في ذلك الوصية بما يرجع إلى أمور الدين أو الدنيا، وهذا في الوصية التمليكية واضح لا لبس فيه، وأما في الوصايا العهدية فإنه لما كان بعض ما يوصي به المكلف هو من الأمور الواجبة عليه، كوفاء دينه أو قضاء عباداته أو ردّ أماناته ونحوها، فإن الواجب فيها من أجل الخروج عن عهدتها ليس نفس الإيصاء بها، بل الواجب هو قيام المكلف بما من شأنه الاستيثاق من براءة ذمته من عهدتها، فإن توقف ذلك على الإيصاء بها وجبت وإلا لم تجب؛ وهذا الموضوع كنا قد فصلناه في الجزء الأول من هذه الرسالة في مقدمة أحكام الأموات ص 181.
الثالث ـ في صيغة الوصية:
مسألة 426: الوصية من الإيقاعات التي يقصد بها المكلف تحقيق أمر معين بعد وفاته، ويكفي في إنشائها كل ما يدل عليها من لفظ أو فعل أو إشارة، أو كتابة بخطِّ يده أو مذيلة بتوقيعه إذا ظهر منها إرادة العمل بمضمونها بعد موته، وهذا الإنشاء كافٍ في انعقادها وفي ثبوت مضمونها وفي وجوب العمل به دون حاجة إلى تعقبها بقبول الموصى له، سواء كانت عهدية أو تمليكية؛ بل يملك الموصى له العين الموصى بها في الوصية التمليكية حتى مع ردّه ورفضه لها في حياة الموصي أو بعد موته؛ وأما في الوصية العهدية فإنه إذا رد الوصاية ولم يقبلها ولو قبل صدورها من الموصي وبلغ الموصي ذلك الرد في زمن يمكنه تعيين وصي غيره لم يكن الموصى له ملزماً بشيء اتجاهه، وأما إذا كان الرد بعد موت الموصي أو في غيبته ولم يصل إليه، أو في زمان لا يمكن تعيين غيره فيه لم يكن لرده أثر، ولزمه تحمل تبعة الوصاية والقيام بشؤونها، وكذا لو كان ما أوصاه به هو القيمومة على القاصرين من أبنائه، أما إذا كان ما عهد به إليه هو بعض الأعمال التي يريدها منه، كالصلاة عنه قضاءً بنفسه أو الحج كذلك، فإنه إذا قبلها صار ملزماً بها، وله أن يرد مثل هذه الوصية حتى بعد قبوله بها، فيتحلل منها إذا بلغ ردُّه الموصي، وإلا صار ملزماً بها؛ وفي جميع حالات الوصية العهدية، فإنه إذا رد الموصى له الوصية فأصر الموصي ولم يقبل ردَّه صحت الوصية منه ولكن لا يُلزَمُ بها الوصي، وفيما بعد إن عمل بها الوصي فلا إشكال، وإن لم يعمل بها جرى عليها حكم الوصية التي لم يُعيَّن لها وصي فيتصدى لها الحاكم الشرعي.
هذا من جهة وجوب قبول الموصى له بالوصية التمليكية أو العهدية وعدم قبوله، وخاصة إذا كان الموصى به أعمالاً مهمةً مثل الوصاية أو النظارة أو الولاية على القاصر؛ وأما من جهة نفس الأعمال الموصى بها، كالصدقات والقربات والطاعات والعبادات والأموال ونحو ذلك من الأمور المنظور إليها بنفسها، فإنَّ ما هو واجب منها يتأكّد وجوب تنفيذه بالإيصاء به، كقضاء دينه ودفع الحقوق الشرعية التي عليه وقضاء صلاته وصومه ونحو ذلك مما يُخرَجُ من أصل التركة أو من الثلث، وأما ما ليس واجباً منها في حال الحياة، كقراءة مجالس العزاء أو القرآن أو بناء المشروع الخيري الفلاني أو ما أشبه ذلك من وجوه الخير، فإنه يصير واجب التنفيذ على الوصي بشروطه رغم كونه مستحباً في الأصل، بل حتى وصايا الميت في المباحات تصير واجبة التنفيذ إذا لم تكن عبثية، وذلك كما لو أوصى بهندسة البناء الذي أوصى به للأيتام بالنحو الفلاني أو ما أشبه ذلك.
مسألة 427: لا يضر بوجوب العمل بالوصية مرور مدة طويلة عليها أو زوال الداعي لها، فإذا أوصى وبقي حياً مدة طويلة حتى عرض عليه الموت وجب العمل بوصيته ما لم يعلم رجوعه عنها، وكذا إذا كان الدافع لكتابة الوصية خوفَ الموت في سفره الذي يزمع عليه، أو حدوث حرب يَخشَى معها الموت، أو غيرَ ذلك من الدواعي، فإذا عاد من سفره أو انتهت الحرب فإن وصيته تبقى قائمة ويجب العمل بها، إلا أن يعلم أنها كانت مقيدة بذلك الظرف الخاص، فتبطل حينئذ لانقضاء ذلك الظرف الموجب لها.
مسألة 428: الوصية جائزة من طرف الموصي، فإذا أوصى لشخص وعهد له بشيء جاز له العدول عنه وتغييره ما دام حياً مستكملاً للشروط. هذا، ولا يحتاج الرجوع عن الوصية إلى لفظ خاص، بل يكفي أن يوصي بشيء ثم يوصي بخلافه ليكون الثاني رجوعاً وعدولاً عن الأول؛ ومن ذلك ما لو وجدت في أوراق الميت وصيتان مختلفتا التاريخ بخط يده، فالمعتبرة هي الثانية دون الأولى، حتى لو كان الاختلاف بينهما لجهة إثبات شيء في الأولى، كقضاء صلاة عنه، وإهماله وإسقاطه في الثانية، فضلاً عما لو كان بينهما تعارض، كأن جعل الوصي شخصاً في الأولى وجعل غيره في الثانية، ونحو ذلك.
الرابع ـ ما تثبت به الوصية:
مسألة 429: تثبت الوصية المكتوبة إذا حملت توقيع الموصي، أو كانت بخط يده، بنحو يُعلم أو يُطمأن بكونها له وصادرة عنه، حتى لو لم يكن عليها شهود؛ فإذا شك في كونها له للشك في تزوير توقيعه أو تقليد خطه وأمكن تحصيل العلم ورفع الشك بأية وسيلة، بما في ذلك الوسائل المستحدثة المُعتَمدة على آلات متطورة، كفى ذلك في ثبوتها وترتيب الآثار عليها؛ وكذا تثبت الوصية المسجلة على الشريط الآلي المستحدث إذا عُلم أنه صوته، سواء مع صورته أو بدونها، وعُُلم أنه خال من التزوير؛ وكذا تثبت الوصية بكل ما يفيد العلم أو الاطمئنان بصدورها عن الموصي، بل وبما لا يفيد العلم كما سيأتي.
مسألة 430: لا يجب تحصيل العلم أو الاطمئنان بصدور الوصية عن الوصي، تمليكية كانت أو عهدية، بل يكفي فيها غير العلم من وسائل الإثبات المعتبرة في الشرع، وهي على النحو التالي:
أ ـ الوصية التمليكية: لما كانت الوصية التمليكية شأناً مالياً فإنها تثبت بكل ما تثبت به الأموال في الدعاوى المالية، فتثبت بالأمور التالية:
1 ـ شهادة المسلميْن العادليْن ولو لم يكونا على مذهب أهل البيت ().
2 ـ شهادة المسلم العدل الواحد مع يمين الموصى له.
3 ـ شهادة المسلم العدل الواحد مع مسلمتين عادلتين.
4 ـ شهادة النساء وحدهن دون أن يكون معهن رجال، وحينئذ إذا شهد على الوصية أربع نساء ثبت بها تمام المال المشهود عليه، وإذا كن ثلاثاً ثبت بها ثلاثة أرباع المال، وإذا كانتا اثنتين ثبت بها نصف المال، وإذا كانت واحدة ثبت بها ربع المال.
5 ـ إقرار الورثة إذا كانوا بالغين عقلاء ولو لم يكونوا عدولاً، فإذا أقروا جميعاً ثبت تمام الموصى به، وإن أقر بعضهم دون بعض ثبتت الوصية في حصة المقر بنسبتها، فإذا كانت حصة المقر سدساً ثبت له سدس الموصى به، وهكذا، نعم إذا كان في البعض الذي أقر بها من الورثة من تكون شهادته حجة، كأن كان ذلك البعض عدلَيْن، أو عدلاً مع يمين الموصى له أو رجلاً عدلاً مع امرأتين عادلتين أو نحو ذلك، لزمت تلك الشهادةُ المُنكِر وثبت بها تمام الموصى به.
6 ـ شهادة رجلين عدلين في دينهما من غير المسلمين، ذِمِّييْن كانا أو غيرَ ذميين.
ب ـ الوصية العهدية: وهي تثبت بما يلي:
1 ـ بشهـادة رجلين عدلين من المسلمين، أو رجلين عدلين من غير المسلمين؛ فلا تثبت بشهادة الرجل الواحد مع يمين الموصى له، ولا بشهادة النساء، منفرداتٍ عن الرجل أو مُنْضَمَّاتٍ إليه.
2 ـ تثبت بإقرار الورثة جميعاً إذا لم يكونوا عدولاً، وإذا أقر بعضهم وأنكر آخرون ثبتت في حصة المقر بنسبتها، إلا أن يكون في البعض المقر بيّنةٌ عادلة فتثبت في حصة المنكر أيضاً.
مسألة 431: إذا قامت البينة في حياة الموصي بأنه قد أوصى، فأنكر الموصي ذلك نافياً صدور الوصية منه، لم يقبل إنكاره وكانت البينة مقدَّمة على إنكاره، نعم إذا قصد بإنكاره الرجوع عن الوصية والعدول عنها بطلت وصيته حينئذ لعدوله لا لكذب البينة. وإذا فرض العكس، وذلك بأن قامت البينة على أنه لم يوصِ بكذا وكذا، فقال: «نعم إني قد أوصيت»، وكان من قصده إنشاء الوصية، صحّت منه واعتبر ذلك وصية له.
مسألة 432: إذا أقر الوارث بأصل الوصية فليس له أن ينكر وصاية من يدّعي الوصاية لمجرد عدم علمه بتفاصيل الوصية، بل ولا يَسمَعُ منه القاضي مثل هذا الادعاء الاعتباطي، إذ إن إنكار الوارث في مثل هذه الحالة كإنكار غير الوارث، فلا يعتدّ به إلا إذا أثبت كذب مدعي الوصاية. نعم إذا عُلم كذب مدعي الوصاية، وكانت الوصايا في غير أمور الميت، كالقيمومة على القاصر، أو الصرف على العناوين العامة كالفقراء والمساجد ونحو ذلك، كان لكل من يَعلمُ كذبه خصوصاً إذا رأى منه الخيانة أن ينكر عليه وأن يترافع معه عند الحاكم الشرعي من باب كونه معنياً بشؤون غيره من المسلمين، وهو ما يصطلح عليه بـ (الحسبة)، دون فرق في ذلك بين الوارث وغيره؛ وأما إذا كانت الوصايا من الأمور المتعلقة بالميت، كاستئجار من يصلّي عنه أو يزور المقامات المقدسة أو ما أشبه ذلك، فإن الوارث أولى من غيره بالإنكار وإقامة الدعوى على من يعلم ادّعاءه الوصاية عن مورّثه كذباً، وحقه في إقامة مثل هذه الدعوى مقدَّمٌ على حق غيره.
وبيان ذلك في عناوين:
الأول ـ في أقسام الوصية:
تختلف رغبات كل إنسان وحاجاته التي يريد الإيصاء بها وتحقيقها بعد مماته، ويجمع ذلك قسمان:
1 ـ الوصية التمليكية: وهي التي يريد الموصي أن يُملِّك بها شيئاً من أمواله، أو من الحقوق التي له، لغيره، شخصاً كان ذلك الغير أو جهة؛ فهي نحو من التمليك أو التخصيص الذي تترتب آثاره بعد الموت من دون حاجة إلى سبب لإحداثه وإيقاعه؛ فمن قال: «سيارتي لزيد»، أو قال: «مكتبتي لمركز الدراسات الفلاني»، يصبح ذلك المال ملكاً للموصى له من دون حاجة إلى جعل جديد من الوصي أو الوارث، لأنه صار مستحقاً له ـ بعد مـوت الموصـي ـ بالوصية التي صدرت منه حين حياته.
هذا، ولا فرق في الوصية التمليكية بين أن يصدر فيها الإعطاء من الموصي بمثل قوله: «هذا المال لزيد أو للمسجد الفلاني أو للفقراء أو لطلاب العلوم الدينية بعد وفاتي»، وبين أن يقول لمن بعده: «أعطوا هذا المال لزيد أو للفقراء بعد وفاتي»، وذلك خلافاً للفقهاء الذين اعتبروا الصيغة الثانية وصية عهدية، بل إن مثل قوله: «بيعوا العقار الفلاني وادفعوا ثمنه لزيد أو للفقراء» هو في جوهره وصية تمليكية، ولكنها معلقة على فعل البيع من الوصي، فتترتب آثارها، وهي ملكية زيد مثلاً لثمن العقار بمجرد موت الموصي، وليس للوصي دورٌ في هذا التمليك أكثر من إيجاد الثمن خارجاً بالبيع.
2 ـ الوصية العهدية: وهي العهد لشخص معيّن بالقيام بأمور معينة مما يرغب الإنسان الموصي بأن يُفعل بعد مماته، وذلك في الأمور التالية:
أ ـ جعله قيِّماً على أولاده القاصرين.
ب ـ أداء ما عليه من الحقوق للناس، من ودائع وديون وحقوق مالية شرعية، كالخمس والزكاة والكفارات ورد المظالم ونحوها.
ج ـ تكليف من يقضي عنه ما عليه من عبادات.
د ـ صرف شيء من ماله في وجوه الخير مطلقاً أو بكيفية خاصة، وليس منها أمره بإعطاء شيء من أمواله للفقراء أو لشخص معين، فإنها من نوع الوصايا التمليكية كما سلف القول.
أما ما يطلبه في الوصايا العهدية غير ما ذكرناه، مما يعتبر تدخلاً في شؤون الغير، فإنه لا يعتبر نافذاً ولا ملزماً للوصي، وذلك كأن يوصي ولده أو صديقه بأن يصلي جماعةً وراء العالم الفلاني، أو يزوج ابنته للرجل الفلاني، أو أن يزرع أرضه أو يدير عمله التجاري بالنحو الفلاني، أو أن يصلي عنه هو ما عليه من قضاء، وما أشبه ذلك مما لا يكون عهداً له بتصرفٍ حقٍ للموصي، بل أمراً له أو لغيره بتصرف ليس له علاقة به.
هذا، وسوف نعقد مبحثاً خاصاً لما تصح الوصية به بقسميها تحت عنوان (الموصى به).
الثاني ـ في حكم الوصية:
مسألة 425: الوصية في أصل التشريع مستحبة، سواء في ذلك الوصية بما يرجع إلى أمور الدين أو الدنيا، وهذا في الوصية التمليكية واضح لا لبس فيه، وأما في الوصايا العهدية فإنه لما كان بعض ما يوصي به المكلف هو من الأمور الواجبة عليه، كوفاء دينه أو قضاء عباداته أو ردّ أماناته ونحوها، فإن الواجب فيها من أجل الخروج عن عهدتها ليس نفس الإيصاء بها، بل الواجب هو قيام المكلف بما من شأنه الاستيثاق من براءة ذمته من عهدتها، فإن توقف ذلك على الإيصاء بها وجبت وإلا لم تجب؛ وهذا الموضوع كنا قد فصلناه في الجزء الأول من هذه الرسالة في مقدمة أحكام الأموات ص 181.
الثالث ـ في صيغة الوصية:
مسألة 426: الوصية من الإيقاعات التي يقصد بها المكلف تحقيق أمر معين بعد وفاته، ويكفي في إنشائها كل ما يدل عليها من لفظ أو فعل أو إشارة، أو كتابة بخطِّ يده أو مذيلة بتوقيعه إذا ظهر منها إرادة العمل بمضمونها بعد موته، وهذا الإنشاء كافٍ في انعقادها وفي ثبوت مضمونها وفي وجوب العمل به دون حاجة إلى تعقبها بقبول الموصى له، سواء كانت عهدية أو تمليكية؛ بل يملك الموصى له العين الموصى بها في الوصية التمليكية حتى مع ردّه ورفضه لها في حياة الموصي أو بعد موته؛ وأما في الوصية العهدية فإنه إذا رد الوصاية ولم يقبلها ولو قبل صدورها من الموصي وبلغ الموصي ذلك الرد في زمن يمكنه تعيين وصي غيره لم يكن الموصى له ملزماً بشيء اتجاهه، وأما إذا كان الرد بعد موت الموصي أو في غيبته ولم يصل إليه، أو في زمان لا يمكن تعيين غيره فيه لم يكن لرده أثر، ولزمه تحمل تبعة الوصاية والقيام بشؤونها، وكذا لو كان ما أوصاه به هو القيمومة على القاصرين من أبنائه، أما إذا كان ما عهد به إليه هو بعض الأعمال التي يريدها منه، كالصلاة عنه قضاءً بنفسه أو الحج كذلك، فإنه إذا قبلها صار ملزماً بها، وله أن يرد مثل هذه الوصية حتى بعد قبوله بها، فيتحلل منها إذا بلغ ردُّه الموصي، وإلا صار ملزماً بها؛ وفي جميع حالات الوصية العهدية، فإنه إذا رد الموصى له الوصية فأصر الموصي ولم يقبل ردَّه صحت الوصية منه ولكن لا يُلزَمُ بها الوصي، وفيما بعد إن عمل بها الوصي فلا إشكال، وإن لم يعمل بها جرى عليها حكم الوصية التي لم يُعيَّن لها وصي فيتصدى لها الحاكم الشرعي.
هذا من جهة وجوب قبول الموصى له بالوصية التمليكية أو العهدية وعدم قبوله، وخاصة إذا كان الموصى به أعمالاً مهمةً مثل الوصاية أو النظارة أو الولاية على القاصر؛ وأما من جهة نفس الأعمال الموصى بها، كالصدقات والقربات والطاعات والعبادات والأموال ونحو ذلك من الأمور المنظور إليها بنفسها، فإنَّ ما هو واجب منها يتأكّد وجوب تنفيذه بالإيصاء به، كقضاء دينه ودفع الحقوق الشرعية التي عليه وقضاء صلاته وصومه ونحو ذلك مما يُخرَجُ من أصل التركة أو من الثلث، وأما ما ليس واجباً منها في حال الحياة، كقراءة مجالس العزاء أو القرآن أو بناء المشروع الخيري الفلاني أو ما أشبه ذلك من وجوه الخير، فإنه يصير واجب التنفيذ على الوصي بشروطه رغم كونه مستحباً في الأصل، بل حتى وصايا الميت في المباحات تصير واجبة التنفيذ إذا لم تكن عبثية، وذلك كما لو أوصى بهندسة البناء الذي أوصى به للأيتام بالنحو الفلاني أو ما أشبه ذلك.
مسألة 427: لا يضر بوجوب العمل بالوصية مرور مدة طويلة عليها أو زوال الداعي لها، فإذا أوصى وبقي حياً مدة طويلة حتى عرض عليه الموت وجب العمل بوصيته ما لم يعلم رجوعه عنها، وكذا إذا كان الدافع لكتابة الوصية خوفَ الموت في سفره الذي يزمع عليه، أو حدوث حرب يَخشَى معها الموت، أو غيرَ ذلك من الدواعي، فإذا عاد من سفره أو انتهت الحرب فإن وصيته تبقى قائمة ويجب العمل بها، إلا أن يعلم أنها كانت مقيدة بذلك الظرف الخاص، فتبطل حينئذ لانقضاء ذلك الظرف الموجب لها.
مسألة 428: الوصية جائزة من طرف الموصي، فإذا أوصى لشخص وعهد له بشيء جاز له العدول عنه وتغييره ما دام حياً مستكملاً للشروط. هذا، ولا يحتاج الرجوع عن الوصية إلى لفظ خاص، بل يكفي أن يوصي بشيء ثم يوصي بخلافه ليكون الثاني رجوعاً وعدولاً عن الأول؛ ومن ذلك ما لو وجدت في أوراق الميت وصيتان مختلفتا التاريخ بخط يده، فالمعتبرة هي الثانية دون الأولى، حتى لو كان الاختلاف بينهما لجهة إثبات شيء في الأولى، كقضاء صلاة عنه، وإهماله وإسقاطه في الثانية، فضلاً عما لو كان بينهما تعارض، كأن جعل الوصي شخصاً في الأولى وجعل غيره في الثانية، ونحو ذلك.
الرابع ـ ما تثبت به الوصية:
مسألة 429: تثبت الوصية المكتوبة إذا حملت توقيع الموصي، أو كانت بخط يده، بنحو يُعلم أو يُطمأن بكونها له وصادرة عنه، حتى لو لم يكن عليها شهود؛ فإذا شك في كونها له للشك في تزوير توقيعه أو تقليد خطه وأمكن تحصيل العلم ورفع الشك بأية وسيلة، بما في ذلك الوسائل المستحدثة المُعتَمدة على آلات متطورة، كفى ذلك في ثبوتها وترتيب الآثار عليها؛ وكذا تثبت الوصية المسجلة على الشريط الآلي المستحدث إذا عُلم أنه صوته، سواء مع صورته أو بدونها، وعُُلم أنه خال من التزوير؛ وكذا تثبت الوصية بكل ما يفيد العلم أو الاطمئنان بصدورها عن الموصي، بل وبما لا يفيد العلم كما سيأتي.
مسألة 430: لا يجب تحصيل العلم أو الاطمئنان بصدور الوصية عن الوصي، تمليكية كانت أو عهدية، بل يكفي فيها غير العلم من وسائل الإثبات المعتبرة في الشرع، وهي على النحو التالي:
أ ـ الوصية التمليكية: لما كانت الوصية التمليكية شأناً مالياً فإنها تثبت بكل ما تثبت به الأموال في الدعاوى المالية، فتثبت بالأمور التالية:
1 ـ شهادة المسلميْن العادليْن ولو لم يكونا على مذهب أهل البيت ().
2 ـ شهادة المسلم العدل الواحد مع يمين الموصى له.
3 ـ شهادة المسلم العدل الواحد مع مسلمتين عادلتين.
4 ـ شهادة النساء وحدهن دون أن يكون معهن رجال، وحينئذ إذا شهد على الوصية أربع نساء ثبت بها تمام المال المشهود عليه، وإذا كن ثلاثاً ثبت بها ثلاثة أرباع المال، وإذا كانتا اثنتين ثبت بها نصف المال، وإذا كانت واحدة ثبت بها ربع المال.
5 ـ إقرار الورثة إذا كانوا بالغين عقلاء ولو لم يكونوا عدولاً، فإذا أقروا جميعاً ثبت تمام الموصى به، وإن أقر بعضهم دون بعض ثبتت الوصية في حصة المقر بنسبتها، فإذا كانت حصة المقر سدساً ثبت له سدس الموصى به، وهكذا، نعم إذا كان في البعض الذي أقر بها من الورثة من تكون شهادته حجة، كأن كان ذلك البعض عدلَيْن، أو عدلاً مع يمين الموصى له أو رجلاً عدلاً مع امرأتين عادلتين أو نحو ذلك، لزمت تلك الشهادةُ المُنكِر وثبت بها تمام الموصى به.
6 ـ شهادة رجلين عدلين في دينهما من غير المسلمين، ذِمِّييْن كانا أو غيرَ ذميين.
ب ـ الوصية العهدية: وهي تثبت بما يلي:
1 ـ بشهـادة رجلين عدلين من المسلمين، أو رجلين عدلين من غير المسلمين؛ فلا تثبت بشهادة الرجل الواحد مع يمين الموصى له، ولا بشهادة النساء، منفرداتٍ عن الرجل أو مُنْضَمَّاتٍ إليه.
2 ـ تثبت بإقرار الورثة جميعاً إذا لم يكونوا عدولاً، وإذا أقر بعضهم وأنكر آخرون ثبتت في حصة المقر بنسبتها، إلا أن يكون في البعض المقر بيّنةٌ عادلة فتثبت في حصة المنكر أيضاً.
مسألة 431: إذا قامت البينة في حياة الموصي بأنه قد أوصى، فأنكر الموصي ذلك نافياً صدور الوصية منه، لم يقبل إنكاره وكانت البينة مقدَّمة على إنكاره، نعم إذا قصد بإنكاره الرجوع عن الوصية والعدول عنها بطلت وصيته حينئذ لعدوله لا لكذب البينة. وإذا فرض العكس، وذلك بأن قامت البينة على أنه لم يوصِ بكذا وكذا، فقال: «نعم إني قد أوصيت»، وكان من قصده إنشاء الوصية، صحّت منه واعتبر ذلك وصية له.
مسألة 432: إذا أقر الوارث بأصل الوصية فليس له أن ينكر وصاية من يدّعي الوصاية لمجرد عدم علمه بتفاصيل الوصية، بل ولا يَسمَعُ منه القاضي مثل هذا الادعاء الاعتباطي، إذ إن إنكار الوارث في مثل هذه الحالة كإنكار غير الوارث، فلا يعتدّ به إلا إذا أثبت كذب مدعي الوصاية. نعم إذا عُلم كذب مدعي الوصاية، وكانت الوصايا في غير أمور الميت، كالقيمومة على القاصر، أو الصرف على العناوين العامة كالفقراء والمساجد ونحو ذلك، كان لكل من يَعلمُ كذبه خصوصاً إذا رأى منه الخيانة أن ينكر عليه وأن يترافع معه عند الحاكم الشرعي من باب كونه معنياً بشؤون غيره من المسلمين، وهو ما يصطلح عليه بـ (الحسبة)، دون فرق في ذلك بين الوارث وغيره؛ وأما إذا كانت الوصايا من الأمور المتعلقة بالميت، كاستئجار من يصلّي عنه أو يزور المقامات المقدسة أو ما أشبه ذلك، فإن الوارث أولى من غيره بالإنكار وإقامة الدعوى على من يعلم ادّعاءه الوصاية عن مورّثه كذباً، وحقه في إقامة مثل هذه الدعوى مقدَّمٌ على حق غيره.