المبحث الثامن ـ في فضل التكسب وآدابه

وفيه مطلبان:
المطلب الأول ـ في فضل التكسب:
يعتبر الكدح من أجل تحصيل المعاش من الأعمال الجليلة الممدوحة، فهو ضرورة طبيعية لازمة لقيام الإنسان بحاجاته ونهوض المجتمع بوظيفته في إعمار الأرض وإشاعـة الكـرامـة والعدالـة فيهـا، وهـو ـ كذلـك ـ ضـرورة إنسانيـة شخصية، لما له من دور فاعل في تحريك القابليات الفكرية والنفسية والجسدية للفرد، فيضفي عليه سعادةً اسثنائيةً وصحةً مونقة.
وإذا كان الإسلام دين الفطرة الذي وازن بين حاجات الروح والجسد وبين الدنيا والآخرة، فإنه لا غرو أن يحث الإنسان على العمل والكدح من أجل معاشه، فيعتبره كالجهاد في سبيل الله تعالى في الفضل والثواب، فقد رُوِيَ عن الإمام الكاظم (ع) أنه قال: «مَنْ طلب هذا الرزق من حِلِّه، ليعودَ به على نفسه وعياله، كان كالمجاهد في سبيل الله..»، كذلك فإنه أفضل العبادة، ففي الحديث عن النبي (ص) أنه قال: «العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال»؛ وهو مضافاً لآثاره الدنيوية له آثار أخروية باهرة، ففي الحديث عن النبي (ص) أنه قال: «من بات كالاً من طلب الحلال بات مغفوراً له».
وفي مقابل ذلك شدد الإسلام النكير على البطالين المتكاسلين عن طلب المعاش، سواء عن زهد في الدنيا أو توهماً منهم بأن الرزق ينزل بدون سعي اتكالاً منهم على جود الله تعالى وكرمه، ففي الحديث أن الإمام الصادق(ع) سأل عن رجل، فقيل له: «إنه جليس بيته يعبد الله ويقوته بعض أخوانه»، فقال (ع): «والله، للّذي يقوته أشد عبادة منه»، وفي الحديث عنه (ع) قال:«إني لأبغض الرجل فاغراً فاه إلى ربه، فيقول ارزقني، ويترك الطلب»، وفي بعض الأحاديث أن تارك العمل والسعي في رزقه ممن لا يستجاب لهم، وفي بعضها النهي عن ترك طلب الرزق ولو وقت الحرب.
ولا يقف الأمر عند هذا الحـد، فإنـه ـ مضافـاً لكونـه عملاً مستحبـاً ـ له فضل كبير وثواب جزيل، وقد يصير واجباً، بل إنه في أصل النظر وابتدائه من الواجبات الكفائية التي لا بد من قيام الناس به، فإذا تأدى الوجوب ووُجِد ما يكفي الناس من أنواع الحرف الضرورية وسبل العيش المهمة صار الاشتغال مستحباً، ثم حيث يضعف جانب منه وتشتد الحاجة وتدعو الضرورة إليه يصبح واجباً على نحو الكفاية، كما في مهنة الطب أو النجارة أو غيرهما مما يختلف أمره باختلاف المجتمعات والظروف.
كذلك فإن الأمر لا يقف عند حدّ الاقتصار على تحقيق الحاجة، بل إن في الأحاديث حثاً على طلب الغنى وسعة الرزق، وأن ذلك مما يعين على تقوى الله تعالى.
ومن الواضح ـ بحسب طبيعة الأشياء ـ أن جميع الأعمال مهمة وضرورية ـ نسبياً ـ لعامة المجتمعات، وهو ما يظهر ـ أيضاً ـ من النصوص الشريفة؛ وأما ما ورد منها مما فيه مفاضلة بين بعض الأعمال وبعضها الآخر فإنه ليس ناظراً إلى ما هو الأصل في ذلك، بل ربما يكون ناظراً إلى ما هو الأصلح من هذه الأعمال للفرد في مجتمعٍ يعيش الكفاية الاقتصادية، فكان أن لفتت بعض الأحاديث نظر الفرد إلى أن بعض الأعمال أهم من غيرها على مستوى الإنتاج الفردي، مضافاً لما لها من أهمية نسبية على مستوى الحركة الاقتصادية العامة؛ ومن ذلك ما جاء في الأحاديث الشريفة أن التجارة أفضل الأعمال، ففي الحديث عن النبي (ص) أنه قال: «البركة عشرة أجزاء: تسعة أعشارها في التجارة والعُشر الباقي في الجلود (الغنم)»؛ وفي الحديث عن المعلّى بن خنيس قال: «رآني أبو عبد الله (ع) وقد تأخرت عن السوق، فقال: «أغد إلى عزك»؛ وتأكيداً على فضلها فإنه قد ورد الذم لمن تركها، ففي الحديث عن الصادق y أنه قال: «ترك التجارة ينقص العقل». وفي حديث آخر عنه (ع) أنه قال: «لا تدعوا التجارة فتَهونوا، اتجروا بارك الله لكم». كما أنه قد جاء في بعضها الآخر الحثّ على الاهتمام بتربية الماشية والاشتغال بذلك، وهو ما يستلزم أو يتلازم ـ عادةً ـ مع الاهتمام بالأرض وزراعتها، ففي الحديث عن الباقر (ع) أنه قال في جواب من سأله عن الفلاحين: «هم الزارعون كنوز الله في أرضه، وما في الأعمال شيءٌ أحبُّ إلى الله من الزراعة..».
فإذا عطفنا هذا الحديث على ما ورد من أن البركة عشرة أجزاء: تسعة أجزاء في التجارة وعُشر في الجلود، أي الغنم، فإننا قد نستظهر من هذا الاختلاف في النصوص التي أعطت الأفضلية للتجارة ثم عادت فأعطتها للزراعة وتربية الماشية المتلازمتين عادة، أن الأفضلية نسبية، وأن سُبُل التكسب تختلف في أولويتها باختلاف ظروف المجتمعات والأفراد وعناصر التنمية المتوفرة عندهم، خاصةً وأن النموّ الاقتصادي ـ في زماننا ـ قد صار أمراً معقداً تتشابك فيه أمور كثيرة وتتكامل فيما بينها من خلال الثالوث الاقتصادي القائم في الصناعة والتجارة والزراعة، وذلك بنحو لا يمكن معه إهمال واحد منه ولا إعطاؤه الأولوية المطلقة، فهذه الأحاديث الشريفة وأمثالها ترشد إلى ما هو الأفضل إجمالاً، من موقع التوجيه لا من موقع التخطيط الاقتصادي بما هو عمل ميداني متغير في أولوياته بتغير الظروف وبما هو منسجم مع حاجة المجتمع لجميع الأعمال.
أما ما ورد في بعض الأحاديث الشريفة ـ بعد التسليم بصحة السند ـ من كراهة الاشتغال ببعض الحرف، مثل الحياكة والجزارة والحجامة، فإن النظر فيها ليس إلى ذات الحرفة كعمل إنتاجي وكحرفة لها أهميتها في حاجة الإنسان وحركة الاقتصاد، لأنها بهذا المعنى قد تصير واجبة عند الضرورة كسائر الحرف التي يحتاج إليها، بل إنه ربما كان النظر فيها إلى ظرف اجتماعي خاص أوجب دونية الصنعة أو المشتغلين بها، فنهى عنها الشرع نهياً تنزيهياً إرشادياً مرتبطاً بذلك الظرف وجوداً وعدماً، فمثلاً لا يعقل أن يمتنع المسلمون عن «الحياكة» في زماننا هذا بعدما صارت صناعة النسيج عملاً هاماً في حاجة الإنسان وفي حركة الاقتصاد، توهماً منهم أن ذلك هو مراد الإسلام من كراهة الحياكة؛ هذا وإنه قد تكون الغاية من الحكم بالكراهة إلفات نظر المسلم إلى ما في بعض الحرف من سلبيات نفسية أو روحية من أجل أن يتلافاها ويتوقاها، وذلك كما في الجزارة التي قد تورث قساوة القلب.
وفي كل الحالات فإنه ربما كان نظر الشارع المقدس فيما ورد من كراهة لبعض الأعمال، أو فيما ورد من تفضيلٍ لبعضها على البعض الآخر، هو الإرشاد إلى ما هو خيار الفرد في مجتمع لا يعيش الضرورة لمثل هذه الحرف والأعمال إذا انحكم خياره في بعضها لظرف اجتماعي خاص أو آثارٍ نفسية سلبية ناتجة عن تلك الحرفة أو ما شاكل ذلك من أسباب الكراهة أو الأفضلية.
المطلب الثاني ـ في الآداب العامة للتكسب:
قد ورد في الأحاديث الشريفة التعرض لجملة من آداب التكسب التي لا تختص بحرفة معينة، ومن المناسب أن نذكر منها هذه الأمور:
الأول: أن تكون الغاية طاعة الله ومرضاته والفوز في الآخرة، ففي الحديث أنه قال رجل لأبي عبد الله (ع): «والله إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها»، فقال(ع) : «تحب أن تصنع بها ماذا»، قال: «أعود بها على نفسي وعيالي، وأصلُ بها، وأتصدق بها وأحج وأعتمر»، فقال (ع): «ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة».
الثاني: أن يطلب الإنسان الرزق بالصبر والأناة من وجوه الحلال، ففي الحديث عن النبي (ص) أنه قال في حجة الوداع: «ألا إن الروح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله تبارك وتعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالاً ولم يقسّمها حراماً، فمن اتقى الله وصبر أتاه الله برزقه من حلِّه، ومن هتك حجاب الستر وعجّل فأخذه من غير حلّه قُص به من رزقه الحلال، وحُوسِبَ عليه يوم القيامة».
الثالث: الاقتصاد في طلب الرزق وإيكال الأمر إليه تعالى وعدم التلهف والتحسر على ما فات منه، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: «كم من متعب نفسَهُ مقتّر عليه، ومقتصد في الطلب قد ساعدتْه المقادير»، فعلى المرء أن يبذل الجهد العادي المتعارف في مثل عمله وظروفه من دون إفراط ومبالغة في الطلب.
الرابع: عدم مخالطة ومعاملة إلا من نشأ في الخير، فكان كريم السجايا سليم القلب حسن المعشر. ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «لا تخالطوا ولا تعاملوا إلا من نشأ في الخير».
الخامس: الاغتراب في طلب الرزق، ففي الحديث عن الصادق (ع) أنه قال: «إن الله تعالى ليحب الاغتراب في طلب الرزق»، وكأن المراد به حسن الاغتراب عند جمود الرزق في الوطن وتضيق فرص الطلب، فإنه يستحب له الانتقال عن مكانه ومفارقة وطنه عسى أن يكون أكثر توفيقاً وأوفر حظاً.
السادس: الدعاء طلباً للرزق عند السعي إليه، ففي الحديث عن النبي(ص) أنه قال: «إن الرزق ينزل من السماء إلى الأرض على عدد قطر المطر إلى كل نفس بما قُدِّر لها، ولكن لله فضولٌ، فاسألوا الله من فضله». وعن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «إن الله عز وجل جعل أرزاق المؤمنين من حيث لم يحتسبوا، وذلك أن العبد إذا لم يعرف وجه رزقه كثر دعاؤه».

وفيه مطلبان:
المطلب الأول ـ في فضل التكسب:
يعتبر الكدح من أجل تحصيل المعاش من الأعمال الجليلة الممدوحة، فهو ضرورة طبيعية لازمة لقيام الإنسان بحاجاته ونهوض المجتمع بوظيفته في إعمار الأرض وإشاعـة الكـرامـة والعدالـة فيهـا، وهـو ـ كذلـك ـ ضـرورة إنسانيـة شخصية، لما له من دور فاعل في تحريك القابليات الفكرية والنفسية والجسدية للفرد، فيضفي عليه سعادةً اسثنائيةً وصحةً مونقة.
وإذا كان الإسلام دين الفطرة الذي وازن بين حاجات الروح والجسد وبين الدنيا والآخرة، فإنه لا غرو أن يحث الإنسان على العمل والكدح من أجل معاشه، فيعتبره كالجهاد في سبيل الله تعالى في الفضل والثواب، فقد رُوِيَ عن الإمام الكاظم (ع) أنه قال: «مَنْ طلب هذا الرزق من حِلِّه، ليعودَ به على نفسه وعياله، كان كالمجاهد في سبيل الله..»، كذلك فإنه أفضل العبادة، ففي الحديث عن النبي (ص) أنه قال: «العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال»؛ وهو مضافاً لآثاره الدنيوية له آثار أخروية باهرة، ففي الحديث عن النبي (ص) أنه قال: «من بات كالاً من طلب الحلال بات مغفوراً له».
وفي مقابل ذلك شدد الإسلام النكير على البطالين المتكاسلين عن طلب المعاش، سواء عن زهد في الدنيا أو توهماً منهم بأن الرزق ينزل بدون سعي اتكالاً منهم على جود الله تعالى وكرمه، ففي الحديث أن الإمام الصادق(ع) سأل عن رجل، فقيل له: «إنه جليس بيته يعبد الله ويقوته بعض أخوانه»، فقال (ع): «والله، للّذي يقوته أشد عبادة منه»، وفي الحديث عنه (ع) قال:«إني لأبغض الرجل فاغراً فاه إلى ربه، فيقول ارزقني، ويترك الطلب»، وفي بعض الأحاديث أن تارك العمل والسعي في رزقه ممن لا يستجاب لهم، وفي بعضها النهي عن ترك طلب الرزق ولو وقت الحرب.
ولا يقف الأمر عند هذا الحـد، فإنـه ـ مضافـاً لكونـه عملاً مستحبـاً ـ له فضل كبير وثواب جزيل، وقد يصير واجباً، بل إنه في أصل النظر وابتدائه من الواجبات الكفائية التي لا بد من قيام الناس به، فإذا تأدى الوجوب ووُجِد ما يكفي الناس من أنواع الحرف الضرورية وسبل العيش المهمة صار الاشتغال مستحباً، ثم حيث يضعف جانب منه وتشتد الحاجة وتدعو الضرورة إليه يصبح واجباً على نحو الكفاية، كما في مهنة الطب أو النجارة أو غيرهما مما يختلف أمره باختلاف المجتمعات والظروف.
كذلك فإن الأمر لا يقف عند حدّ الاقتصار على تحقيق الحاجة، بل إن في الأحاديث حثاً على طلب الغنى وسعة الرزق، وأن ذلك مما يعين على تقوى الله تعالى.
ومن الواضح ـ بحسب طبيعة الأشياء ـ أن جميع الأعمال مهمة وضرورية ـ نسبياً ـ لعامة المجتمعات، وهو ما يظهر ـ أيضاً ـ من النصوص الشريفة؛ وأما ما ورد منها مما فيه مفاضلة بين بعض الأعمال وبعضها الآخر فإنه ليس ناظراً إلى ما هو الأصل في ذلك، بل ربما يكون ناظراً إلى ما هو الأصلح من هذه الأعمال للفرد في مجتمعٍ يعيش الكفاية الاقتصادية، فكان أن لفتت بعض الأحاديث نظر الفرد إلى أن بعض الأعمال أهم من غيرها على مستوى الإنتاج الفردي، مضافاً لما لها من أهمية نسبية على مستوى الحركة الاقتصادية العامة؛ ومن ذلك ما جاء في الأحاديث الشريفة أن التجارة أفضل الأعمال، ففي الحديث عن النبي (ص) أنه قال: «البركة عشرة أجزاء: تسعة أعشارها في التجارة والعُشر الباقي في الجلود (الغنم)»؛ وفي الحديث عن المعلّى بن خنيس قال: «رآني أبو عبد الله (ع) وقد تأخرت عن السوق، فقال: «أغد إلى عزك»؛ وتأكيداً على فضلها فإنه قد ورد الذم لمن تركها، ففي الحديث عن الصادق y أنه قال: «ترك التجارة ينقص العقل». وفي حديث آخر عنه (ع) أنه قال: «لا تدعوا التجارة فتَهونوا، اتجروا بارك الله لكم». كما أنه قد جاء في بعضها الآخر الحثّ على الاهتمام بتربية الماشية والاشتغال بذلك، وهو ما يستلزم أو يتلازم ـ عادةً ـ مع الاهتمام بالأرض وزراعتها، ففي الحديث عن الباقر (ع) أنه قال في جواب من سأله عن الفلاحين: «هم الزارعون كنوز الله في أرضه، وما في الأعمال شيءٌ أحبُّ إلى الله من الزراعة..».
فإذا عطفنا هذا الحديث على ما ورد من أن البركة عشرة أجزاء: تسعة أجزاء في التجارة وعُشر في الجلود، أي الغنم، فإننا قد نستظهر من هذا الاختلاف في النصوص التي أعطت الأفضلية للتجارة ثم عادت فأعطتها للزراعة وتربية الماشية المتلازمتين عادة، أن الأفضلية نسبية، وأن سُبُل التكسب تختلف في أولويتها باختلاف ظروف المجتمعات والأفراد وعناصر التنمية المتوفرة عندهم، خاصةً وأن النموّ الاقتصادي ـ في زماننا ـ قد صار أمراً معقداً تتشابك فيه أمور كثيرة وتتكامل فيما بينها من خلال الثالوث الاقتصادي القائم في الصناعة والتجارة والزراعة، وذلك بنحو لا يمكن معه إهمال واحد منه ولا إعطاؤه الأولوية المطلقة، فهذه الأحاديث الشريفة وأمثالها ترشد إلى ما هو الأفضل إجمالاً، من موقع التوجيه لا من موقع التخطيط الاقتصادي بما هو عمل ميداني متغير في أولوياته بتغير الظروف وبما هو منسجم مع حاجة المجتمع لجميع الأعمال.
أما ما ورد في بعض الأحاديث الشريفة ـ بعد التسليم بصحة السند ـ من كراهة الاشتغال ببعض الحرف، مثل الحياكة والجزارة والحجامة، فإن النظر فيها ليس إلى ذات الحرفة كعمل إنتاجي وكحرفة لها أهميتها في حاجة الإنسان وحركة الاقتصاد، لأنها بهذا المعنى قد تصير واجبة عند الضرورة كسائر الحرف التي يحتاج إليها، بل إنه ربما كان النظر فيها إلى ظرف اجتماعي خاص أوجب دونية الصنعة أو المشتغلين بها، فنهى عنها الشرع نهياً تنزيهياً إرشادياً مرتبطاً بذلك الظرف وجوداً وعدماً، فمثلاً لا يعقل أن يمتنع المسلمون عن «الحياكة» في زماننا هذا بعدما صارت صناعة النسيج عملاً هاماً في حاجة الإنسان وفي حركة الاقتصاد، توهماً منهم أن ذلك هو مراد الإسلام من كراهة الحياكة؛ هذا وإنه قد تكون الغاية من الحكم بالكراهة إلفات نظر المسلم إلى ما في بعض الحرف من سلبيات نفسية أو روحية من أجل أن يتلافاها ويتوقاها، وذلك كما في الجزارة التي قد تورث قساوة القلب.
وفي كل الحالات فإنه ربما كان نظر الشارع المقدس فيما ورد من كراهة لبعض الأعمال، أو فيما ورد من تفضيلٍ لبعضها على البعض الآخر، هو الإرشاد إلى ما هو خيار الفرد في مجتمع لا يعيش الضرورة لمثل هذه الحرف والأعمال إذا انحكم خياره في بعضها لظرف اجتماعي خاص أو آثارٍ نفسية سلبية ناتجة عن تلك الحرفة أو ما شاكل ذلك من أسباب الكراهة أو الأفضلية.
المطلب الثاني ـ في الآداب العامة للتكسب:
قد ورد في الأحاديث الشريفة التعرض لجملة من آداب التكسب التي لا تختص بحرفة معينة، ومن المناسب أن نذكر منها هذه الأمور:
الأول: أن تكون الغاية طاعة الله ومرضاته والفوز في الآخرة، ففي الحديث أنه قال رجل لأبي عبد الله (ع): «والله إنا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها»، فقال(ع) : «تحب أن تصنع بها ماذا»، قال: «أعود بها على نفسي وعيالي، وأصلُ بها، وأتصدق بها وأحج وأعتمر»، فقال (ع): «ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة».
الثاني: أن يطلب الإنسان الرزق بالصبر والأناة من وجوه الحلال، ففي الحديث عن النبي (ص) أنه قال في حجة الوداع: «ألا إن الروح الأمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء شيء من الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن الله تبارك وتعالى قسم الأرزاق بين خلقه حلالاً ولم يقسّمها حراماً، فمن اتقى الله وصبر أتاه الله برزقه من حلِّه، ومن هتك حجاب الستر وعجّل فأخذه من غير حلّه قُص به من رزقه الحلال، وحُوسِبَ عليه يوم القيامة».
الثالث: الاقتصاد في طلب الرزق وإيكال الأمر إليه تعالى وعدم التلهف والتحسر على ما فات منه، ففي الحديث عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال: «كم من متعب نفسَهُ مقتّر عليه، ومقتصد في الطلب قد ساعدتْه المقادير»، فعلى المرء أن يبذل الجهد العادي المتعارف في مثل عمله وظروفه من دون إفراط ومبالغة في الطلب.
الرابع: عدم مخالطة ومعاملة إلا من نشأ في الخير، فكان كريم السجايا سليم القلب حسن المعشر. ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «لا تخالطوا ولا تعاملوا إلا من نشأ في الخير».
الخامس: الاغتراب في طلب الرزق، ففي الحديث عن الصادق (ع) أنه قال: «إن الله تعالى ليحب الاغتراب في طلب الرزق»، وكأن المراد به حسن الاغتراب عند جمود الرزق في الوطن وتضيق فرص الطلب، فإنه يستحب له الانتقال عن مكانه ومفارقة وطنه عسى أن يكون أكثر توفيقاً وأوفر حظاً.
السادس: الدعاء طلباً للرزق عند السعي إليه، ففي الحديث عن النبي(ص) أنه قال: «إن الرزق ينزل من السماء إلى الأرض على عدد قطر المطر إلى كل نفس بما قُدِّر لها، ولكن لله فضولٌ، فاسألوا الله من فضله». وعن الإمام الصادق (ع) أنه قال: «إن الله عز وجل جعل أرزاق المؤمنين من حيث لم يحتسبوا، وذلك أن العبد إذا لم يعرف وجه رزقه كثر دعاؤه».

ص
46
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية