وتفصيل أحكامه يقع في عناوين:
1 ـ مراتب الأولياء:
لما كان لا بد لفاقد الأهلية من راع يرعى أموره ويدبِّرها على وفق مصلحة ذلك الفاقد، فإنّ الشريعة قد اهتمت بذلك وحفظت مصالح هذا الإنسان من خلال نظام الولاية؛ والولي بالدرجة الأولى هو: الأب والجدّ للأب، وبالدرجة الثانية: الموصى له بالقيمومة والإشراف والرعاية للقاصرين من قبل أحدهما بعد وفاته، وبالدرجة الثالثة: الحاكم الشرعي، وبالدرجة الرابعة: عدول المؤمنين.
فهنا أربع مراتب للأولياء:
الأولى: ولاية الأب والجد
مسألة 5: الولاية ثابتة للأب وللجد للأب على الصغير حتى يبلغ، وعلى المجنون والسفيه ـ إذا بلغا كذلك ـ حتى يعقل المجنون ويرشد السفيه، فإن حدث لهما الجنون أو السفه بعد البلوغ فالولي هو الحاكم الشرعي، وإن كان الأحوط استحباباً إشراك الأب أو الجد للأب معه في الولاية عليهما. وليس للأم ولا لأبيها ولا لغيرهما من الأرحام والأقرباء ولاية عليهم، لا في حياة الأب والجد للأب ولا بعد موتهما، نعم قد تكون الولاية لأحدهم بسبب أمرٍ غير القرابة من الأمور التي سنذكرها.
مسألة 6: إن هذه الولاية أصيلة قائمة بالأب والجد للأب بحكم تولّد القاصر منهما، فلا تحتاج في ثبوتها إلى جعل الحاكم الشرعي وتعيينه ولا إلى إشرافه واستئذانه، فيمارسان ولايتهما بالنحو الذي يريانه موافقاً لمصلحة القاصر ما دام المتصدي أهلاً لذلك.
مسألة 7: الأهلية في الولي تعتمد على كونه عاقلاً رشيداً، وعلى كونه أميناً على مصلحة القاصر في نفسه وماله، فلا يعتبر فيه الإسلام ولا الإيمان ولا العدالة؛ فإن جرى الأمر على ذلك لم يكن لأحد منازعته في تصرفاته، نعم إذا فقد الأهلية فصار مجنوناً أو سفيهاً أو خائناً، جاز للحاكم الشرعي منعه عن التصرف وكف يده وتولي أمور القاصر عنه حتى ترجع إليه الأهلية.
مسألة 8: ولاية الأب والجد ـ إذا كانـا حييـن ـ في مرتبة واحدة، وليس أحدهما فيها أولى من الآخر، فإذا تصديا معاً لأمر واحد وسبق أحدهما نفذ تصرفه دون الآخر، وإلا بطلا؛ وهو أمر قليل الحدوث، ولا سيّما وأن الغالب في ذلك هو تصدي الأب من دون معارضة الجدّ له.
الثانية: ولاية الوصي
مسألة 9: يستمدّ الوصي ولايته على فاقد الأهلية من ولاية الموصي الذي هو الأب أو الجد للأب، وذلك على أساس أن القيمومة على القاصر ورعاية شؤونه أمر يهمهما ويعنيهما حيين وميتين، فإذا أوصيا بهذه القيمومة لشخص ما فإنه يصير بمثابة الولي الأصلي وقائماً مقامه بعد موته وأولى من الحاكم الشرعي بها؛ ويشترط في صحتها من كل منهما فقد الآخر وموته، فلا تصح وصاية الأب بالقيمومة على القاصرين من أولاده مع وجود جدهم لأبيهم، وكذلك العكس؛ كذلك فإن مثل هذه الوصية لا تكون مشروعة ولا نافذة إلا من الولي الأصلي، وهو الأب أو الجد للأب، فلا تصح من الوصي ولا من الحاكم الشرعي ـ إجمالاً ـ كما سنبينه لاحقاً.
مسألة 10: تتّسع ولاية الوصي وتضيق طبقاً للقيود التي ذكرها الموصي، فإن أطلق الوصية له شملت كل ما كان يتولاه الموصي ما عدا الزواج، فإنه لا يكون ولياً عليه إلا إذا نص عليه الموصي، وما عدا أن يوصي بهذه الولاية لغيره بعده، إلا أن يكون مأذوناً بجعل وصي بعينه أو مطلقاً من قبل الموصي، وذلك بمثل قوله: «أوصي زيداً بالقيمومة على أولادي وبأن يوصي لعمرو ـ مثلاً ـ بأن يكون القيِّم بعد وفاته»، فإنها حق خاص بالموصي، أي بالأب أو الجد للأب، فلا يصحّ جعل القيم إلا من قبلهما مباشرة، أو من خلال الإذن للوصي بجعل وصي بعده.
مسألة 11: تثبت الوصية بالقيمومة لمن يدّعيها بشاهدين عدلين مسلمين، بل وتثبت بالعدل الواحد أو الثقة، وبشهادة كل من يفيد قوله الاطمئنان ولولم يكن مسلماً.
مسألة 12: يشترط في الوصي البلوغ والعقل والرشد، لا غير، فلا تشترط فيه الذكورة، فتصح الوصية للمرأة، ولا العدالة، بل يكفي أن يكون أميناً موثوقاً به ملتزماً بالحدود التي وضعها الموصي، وكذا لا يشترط فيه الإسلام إلا أن تترتب مفسدةٌ على الوصية لغير المسلم؛ فإن اختل شرط من هذه الشروط بطلت وصايته، فيتولى الحاكم الشرعي عمله الذي عهد إليه به أو يأذن لمن يثق به بالقيام بذلك نيابةً عنه؛ نعم إذا كان قد خان ضم إليه الحاكم أميناً يمنعه عن الخيانة، وإلا عزله ونصّب غيره.
مسألة 13: لا يجب على الوصيّ القيام بنفسه بشؤون الوصاية، بل يجوز له أن يوكلها إلى غيره بالطريقة التي يرغب بها، إلا أن يشترط عليه الموصي القيام بها بنفسه، فتجب المباشرة حينئذ.
هذا، وإننا سوف نعيد ذكر هذه الأمور بتفصيل أوفى في باب الوصية. (أنظر في ذلك: المطلب الخامس، ص 363، والمبحث الخامس، ص 367).
الثالثة: ولاية الحاكم الشرعي
وهو الفقيه المجتهد العادل؛ وإنما يكون ولياً على فاقد الأهلية في حال موت الولي الأصلي، وهو الأب والجد للأب، مع عدم وجود وصيٍّ قيِّمٍ مُنصَّبٍ من أحدهما، إذ يكون القاصر ـ حينئذ ـ دون ولي، فيصير وليّه الحاكم الشرعي.
مسألة 14: إذا صار فاقد الأهلية دون ولي، وأمكن الرجوع إلى الحاكم الشرعي، لم يجز لأحد من المسلمين، ولو كان من أقرباء القاصر، التصدي لشيء من أموره المالية بمثل البيع والشراء ونحوهما، ولا لشيء من أموره الشخصية الاستثنائية التي تحتاج إلى نظر الولي، إلا بعد مراجعة الحاكم الشرعي ونظره وصدور الإذن منه، حتى لو كان في بلد آخر.
مسألة 15: إذا تعدد الحاكم الشرعي الجامع للشروط كانت ولاية الجميع في مرتبة واحدة، فإذا تصدّى من يُكتفى به نفذ تصرّفه، وليس للآخر أن يعارضه، فإن تصديا معاً وتصرفا في أمر واحد نفذ تصرف السابق منهما.
مسألة 16: للحاكم الشرعي أن يباشر أمور القاصر بنفسه، وله أن يوكل من يقوم بها عنه من أقرباء القاصر أو من غيرهم.
الرابعة: ولاية العدل المؤمن
وهو العاقل الرشيد الخبير الملتزم بأحكام الشريعة من عامة المؤمنين، ولا يجب أن يكون من أهل البلد، ولا من أقرباء القاصر، وإن كان الغالب فيه ذلك بحسب العرف؛ فحيث لا يوجد الحاكم الشرعي، أو لا يمكن الوصول إليه، يجب ـ على نحو الوجوب الكفائي ـ تصدي واحد من المؤمنين العدول لإدارة أمور القاصر بالنحو الذي كان يتولاه الولي.
كذلك فإن ولاية المؤمنين المتعددين على درجة واحدة، وليس أحدهما أولى من الآخر، فإذا تصدى أحدهم وتصرف نفذ تصرّفه وصح، وليس لغيره إبطاله، وإذا تصرفا معاً نفذ تصرف السابق منهما.
2 ـ حدود ولاية الولي:
لما كان الهدف من جعل الولاية على فاقد الأهلية هو رعايته وتدبير أموره في نفسه وفي ماله، ولما كانت تصرفات الولي حادثة في حالة استثنائية تستدعي مراعاة الحذر والاحتياط، وهي فقدان المالك لأهلية التصرف، فإن الشريعة المطهّرة قد وضعت حدوداً لتصرفات الولي تختلف عما لو كان المتصرف هو المالك نفسه، وذلك على النحو التالي:
أولاً: إن الأظهر هو كون الوليّ مُنـزَلاً منزلة المالك في كيفية تصرفه بأمواله وبنفسه، وفي مدى طموحه الذي يرجو تحقيقه، فكما لا يكتفي المالك بتجميد أمواله وأوضاعه الحياتية، ولا يقتصر على دفع المفاسد التي تؤدي إلى خسران المال ونحوه، بل يسعى إلى جلب المنافع وتحقيق الأرباح والمكاسب، فيتاجر في ماله، رغبةً في الربح، ويتزوج لتحقيق غاية راجحة، ويقوم بمختلف التصرفات على قاعدة تحقيق المصلحة، فإن للولي ذلك كما لو كان هو المالك، ومثال ذلك ما لو كان لهذا القاصر مبلغٌ من المال، ودار الأمر بين أن يتاجر به مع رجاء الربح وبين أن يدخره من دون أن يخسر منه شيئاً بالادخار، فإن الأجدر بالولي أن يتاجر بمال ذلك القاصر لتحقيق الربح الذي هو مصلحة له، دون أن يمنعه منه احتمال الخسران الوارد دائماً في التجارة، ما دام الأسلوب الذي تدار به الأمور متعارفاً وجارياً على طبق الأصول التجارية؛ ومثاله ـ أيضاً ـ ما لو أراد الولي تزويج الصبي، فإنه يجب عليه مراعاة المصلحة العائدة على القاصر، بل وينبغي بذل الجهد في اختيار الأصلح، تماماً كما لو كان القاصر ولده؛ وهكذا الأمر في سائر الشؤون؛ أما إذا خلا العمل من المصلحة، كأن لم يكن في التجارة ربحٌ ولا مصلحة أخرى، ولا في زواج الصبي فائدة، لم يجز الإقدام عليه حتى لو خلا من المفسدة ولم يترتب عليه ضرر.
ثانياً: وعلى ضوء المبدأ الآنف الذكر، فإنه لا يصح من الولي أن يهب ولا أن يتصدق بشيءٍ من أموال القاصر حتى لو كان فيهما مصلحة للقاصر بوجه من الوجوه؛ نعم لا يشمل ذلك دفع الخمس والزكاة والضمان وغيرها من الأمور التي ورد استحباب أو وجوب بذلها من مال القاصر عند توفر شروطها، وأما مثل إقراض ماله للغير أو إعارته له مع الاطمئنان بوفاء القرض ورد العارية، فإن كان فيه مصلحة دنيوية للصبي مثلاً جاز فعله، وإن لم يكن فيه مصلحة لم يجز حتى لو كان المقترض أو المستعير أحد أقربائه.
ثالثاً: إنّ الولاية على شؤون فاقد الأهلية غير المالية، وهي ما يصطلح عليها بـ (الولاية على النفس)، تختلف باختلاف أسباب فقد الأهلية وباختلاف تلك الشؤون الحياتية:
فالسفيه لا ولاية لأحد عليه في ما عدا الزواج من أموره الشخصية، كالطلاق والوصية بغير المال ونحوهما، فيصحُّ منه طلاق زوجته حتى لو ترتب عليه بذل المهر لها، وكذا يصح أن يوصي بأن يدفن في مكان معين وأن يجهز في غسله وكفنه بطريقة معينة حتى لو ترتب عليه بذل مال، وهكذا سائر أموره من سكنه وتصرفاته الأخرى؛ أما الزواج، فإن عليه ـ على الأحوط وجوباً ـ أن يستأذن أباه أو جده لأبيه إذا كان سفيهاً في جميع أموره، وأما إذا كان سفيهاً في خصوص الزواج فإن عليه ـ على الأحوط وجوباً ـ أن يستأذن الحاكم الشرعي.
وأما المجنون والصبي فإن للأب والجد للأب ولايةً عليهما في كل ما له علاقة بأمورهما الأساسية، كالتربية والتعليم والسكن وطريقة الإنفاق ومقداره وكيفية استثمار أموالهما، ونحو ذلك مما يرجع إلى سلوكهما العام المؤثر في بناء الشخصية وتركيز الكيان الاجتماعي حاضراً ومستقبلاً؛ ونفس هذه الصلاحيات تثبت ـ أيضاً ـ للوصي عن أحدهما عند إطلاق الولاية، كما تثبت بنفس النحو للحاكم الشرعي، ولعدول المؤمنين عند فقد الحاكم الشرعي.
وأما تزويجهما فإن للأب وأبيه الولاية في ذلك، سواء مع اضطرارهما إلى الزواج أو عدمه، وأما الوصي فإنه لا ولاية له على ذلك إلا إذا نص الموصي عليه، وأما الحاكم الشرعي فهو ولي الصبي والمجنون في التزويج مع الضرورة لا بدونها، وكذلك عدول المؤمنين في حال فقد الحاكم الشرعي.
وأما الطلاق فإن للولي، كائناً من كان، أن يطلِّق زوجة المجنون مع وجود مصلحة له في الطلاق، ولا ولاية له على طلاق الصبي، مع المصلحة وبدونها، نعم للولي أن يهب عن الصبي زوجته المتمتَّع بها مدتها مع المصلحة له أو لها أو بدونها.
3 ـ التنازل عن الولاية:
قد ذكرنا فيما سبق إمكان نزع ولاية الأب أو أبيه أو الوصي عن أحدهما أو عدول المؤمنين إذا صدر من أحدهم ما يوجب فقدانه أهليّة الولاية، وفي هذا المجال قد ينفع التعرض لمسألة إمكان تنازل الولي الاختياري عن ولايته لسبب من الأسباب، فنقول:
إن ولاية الأب وأبيه ناتجة عن حكم شرعي يقضي بإلزامهما بهذه المسؤولية، فلا يصح ولا يقع منهما التنازل الاختياري عن هذه الولاية، فإن صدر منهما تنازل عنها عُدَّ لاغياً وتبقى ولايتهما ثابتة رغم ذلك؛ نعم يجوز لهما القبول بالشرط القاضي بتعطيل ولايتهما وتفويض هذه الولاية لشخص آخر إذا وقع ذلك الشرط في ضمن عقد لازم، كعقد الزواج الذي تشترط فيه الزوجة على زوجها أن تكون لها الولاية على الأولاد في ظروف معينة أو مطلقاً، فإن شرط ذلك على نفسه وجب عليه الوفاء به، ولم يكن ذلك منه تنازلاً عن الولاية، بل هو نوع من الإذن للغير بتولي أمور هذا القاصر، ومن البديهي ثبوت الحق للولي بإعطاء مثل هذا الإذن ما دام لا يجب عليه ـ أساساً ـ مباشرة أعمال الولاية بنفسه.
أما الوصي عن أحدهما فإن ولايته ليست أصيلة، بل هي مجعولة من قبل الغير، فهي مرهونة بإرادته في حدودها وتفاصيلها، وكذا في نزع وصايته من قِبَل الموصي ما دام حياً؛ كذلك فإنها رهن بإرادة الوصي الذي يحق له أن يرفض هذه الوصاية حال حياة الموصي بشرط أن يصله الرفض ويعلم به، وبشرط أن يكون الموصي قادراً على تعيين غيره، أما بعد الموت فإنه لا يحق للوصي رد الوصية ورفضها، سواء كان قد قبلها قبل صدور الرفض أو لم يكن قد صدر منه القبول.
وليس للوصي عزل نفسه وتفويض المهام التي أوكلت إليه إلى غيره، نعم له أن يتعاون مع الغير في تنفيذ الوصية من باب الاعتماد على أهل الخبرة، مثل المجتهد أو المُسْتأجَر للعبادة أو العارف بأمور التجهيز ونحو ذلك، إلا أن ينص الموصي على مباشرة الوصي لذلك بنفسه، فتتعين عليه المباشرة حينئذ، كما سبق ذكره. (أنظر المسألة 13).
أما العدل من المؤمنين فإنه يجوز له التخلي عما بيده من شؤون القاصر إن لم يكن ما يتصدى له واجباً متعيناً عليه ومنحصراً به، وإلا لم يجز له ذلك؛ وإنما ينحصر الأمر به في صورة ما لو لم يكن غيره كفؤاً، وكان في ترك التصدي ضرر بالغ يجب دفعه عن القاصر على كل قادر، كما لو تعرض عرض ذلك القاصر للعدوان، أو تعرض للانحراف في دينه أو أخلاقه، أو للأمراض في جسده، أو نحو ذلك من الأضرار الكبيرة.
4 ـ صلاحيات أخرى للولي:
يطلق الولي في بعض أبواب الفقه، ويراد به في باب (أحكام الأموات): (كل من يرث الميت من الطبقة التي مات عنها من الذكور والإناث)، وقد تقدمت أحكامه التي قلنا فيها: «إن لهذا الولي سلطة الإشراف على تجهيزه». (أنظر في ذلك الجزء الأول، المسألة 425).
وكذلك يطلق الولي في باب (القصاص) ويراد به من يرث مال المقتول من الرجال، وهو الذي له حقّ اتخاذ القرار بالاقتصاص من القاتل عمداً أو أخذ الدية منه.
أما الحاكم الشرعي فمن المعلوم أن مدى ولايته يتجاوز أمور الفاقد للأهلية لتكون له الولاية على الطلاق في بعض الحالات، إما مستقلاً كما في مثل حالة عدم الإنفاق، أو بالاشتراك مع الأب كما في حالة المفقود، كذلك فإن له الولاية على تحديد الأسعار وعلى الإلزام بالبيع وعلى جميع الشؤون العامة في إطار إقامة النظام الإسلامي ونشر العدل والتصدي للقضايا الكبرى.
وجميع هذه الأمور وغيرها ستبحث في أماكنها بعدما اقتصرنا على ما له علاقة بالولاية على القاصر.
وتفصيل أحكامه يقع في عناوين:
1 ـ مراتب الأولياء:
لما كان لا بد لفاقد الأهلية من راع يرعى أموره ويدبِّرها على وفق مصلحة ذلك الفاقد، فإنّ الشريعة قد اهتمت بذلك وحفظت مصالح هذا الإنسان من خلال نظام الولاية؛ والولي بالدرجة الأولى هو: الأب والجدّ للأب، وبالدرجة الثانية: الموصى له بالقيمومة والإشراف والرعاية للقاصرين من قبل أحدهما بعد وفاته، وبالدرجة الثالثة: الحاكم الشرعي، وبالدرجة الرابعة: عدول المؤمنين.
فهنا أربع مراتب للأولياء:
الأولى: ولاية الأب والجد
مسألة 5: الولاية ثابتة للأب وللجد للأب على الصغير حتى يبلغ، وعلى المجنون والسفيه ـ إذا بلغا كذلك ـ حتى يعقل المجنون ويرشد السفيه، فإن حدث لهما الجنون أو السفه بعد البلوغ فالولي هو الحاكم الشرعي، وإن كان الأحوط استحباباً إشراك الأب أو الجد للأب معه في الولاية عليهما. وليس للأم ولا لأبيها ولا لغيرهما من الأرحام والأقرباء ولاية عليهم، لا في حياة الأب والجد للأب ولا بعد موتهما، نعم قد تكون الولاية لأحدهم بسبب أمرٍ غير القرابة من الأمور التي سنذكرها.
مسألة 6: إن هذه الولاية أصيلة قائمة بالأب والجد للأب بحكم تولّد القاصر منهما، فلا تحتاج في ثبوتها إلى جعل الحاكم الشرعي وتعيينه ولا إلى إشرافه واستئذانه، فيمارسان ولايتهما بالنحو الذي يريانه موافقاً لمصلحة القاصر ما دام المتصدي أهلاً لذلك.
مسألة 7: الأهلية في الولي تعتمد على كونه عاقلاً رشيداً، وعلى كونه أميناً على مصلحة القاصر في نفسه وماله، فلا يعتبر فيه الإسلام ولا الإيمان ولا العدالة؛ فإن جرى الأمر على ذلك لم يكن لأحد منازعته في تصرفاته، نعم إذا فقد الأهلية فصار مجنوناً أو سفيهاً أو خائناً، جاز للحاكم الشرعي منعه عن التصرف وكف يده وتولي أمور القاصر عنه حتى ترجع إليه الأهلية.
مسألة 8: ولاية الأب والجد ـ إذا كانـا حييـن ـ في مرتبة واحدة، وليس أحدهما فيها أولى من الآخر، فإذا تصديا معاً لأمر واحد وسبق أحدهما نفذ تصرفه دون الآخر، وإلا بطلا؛ وهو أمر قليل الحدوث، ولا سيّما وأن الغالب في ذلك هو تصدي الأب من دون معارضة الجدّ له.
الثانية: ولاية الوصي
مسألة 9: يستمدّ الوصي ولايته على فاقد الأهلية من ولاية الموصي الذي هو الأب أو الجد للأب، وذلك على أساس أن القيمومة على القاصر ورعاية شؤونه أمر يهمهما ويعنيهما حيين وميتين، فإذا أوصيا بهذه القيمومة لشخص ما فإنه يصير بمثابة الولي الأصلي وقائماً مقامه بعد موته وأولى من الحاكم الشرعي بها؛ ويشترط في صحتها من كل منهما فقد الآخر وموته، فلا تصح وصاية الأب بالقيمومة على القاصرين من أولاده مع وجود جدهم لأبيهم، وكذلك العكس؛ كذلك فإن مثل هذه الوصية لا تكون مشروعة ولا نافذة إلا من الولي الأصلي، وهو الأب أو الجد للأب، فلا تصح من الوصي ولا من الحاكم الشرعي ـ إجمالاً ـ كما سنبينه لاحقاً.
مسألة 10: تتّسع ولاية الوصي وتضيق طبقاً للقيود التي ذكرها الموصي، فإن أطلق الوصية له شملت كل ما كان يتولاه الموصي ما عدا الزواج، فإنه لا يكون ولياً عليه إلا إذا نص عليه الموصي، وما عدا أن يوصي بهذه الولاية لغيره بعده، إلا أن يكون مأذوناً بجعل وصي بعينه أو مطلقاً من قبل الموصي، وذلك بمثل قوله: «أوصي زيداً بالقيمومة على أولادي وبأن يوصي لعمرو ـ مثلاً ـ بأن يكون القيِّم بعد وفاته»، فإنها حق خاص بالموصي، أي بالأب أو الجد للأب، فلا يصحّ جعل القيم إلا من قبلهما مباشرة، أو من خلال الإذن للوصي بجعل وصي بعده.
مسألة 11: تثبت الوصية بالقيمومة لمن يدّعيها بشاهدين عدلين مسلمين، بل وتثبت بالعدل الواحد أو الثقة، وبشهادة كل من يفيد قوله الاطمئنان ولولم يكن مسلماً.
مسألة 12: يشترط في الوصي البلوغ والعقل والرشد، لا غير، فلا تشترط فيه الذكورة، فتصح الوصية للمرأة، ولا العدالة، بل يكفي أن يكون أميناً موثوقاً به ملتزماً بالحدود التي وضعها الموصي، وكذا لا يشترط فيه الإسلام إلا أن تترتب مفسدةٌ على الوصية لغير المسلم؛ فإن اختل شرط من هذه الشروط بطلت وصايته، فيتولى الحاكم الشرعي عمله الذي عهد إليه به أو يأذن لمن يثق به بالقيام بذلك نيابةً عنه؛ نعم إذا كان قد خان ضم إليه الحاكم أميناً يمنعه عن الخيانة، وإلا عزله ونصّب غيره.
مسألة 13: لا يجب على الوصيّ القيام بنفسه بشؤون الوصاية، بل يجوز له أن يوكلها إلى غيره بالطريقة التي يرغب بها، إلا أن يشترط عليه الموصي القيام بها بنفسه، فتجب المباشرة حينئذ.
هذا، وإننا سوف نعيد ذكر هذه الأمور بتفصيل أوفى في باب الوصية. (أنظر في ذلك: المطلب الخامس، ص 363، والمبحث الخامس، ص 367).
الثالثة: ولاية الحاكم الشرعي
وهو الفقيه المجتهد العادل؛ وإنما يكون ولياً على فاقد الأهلية في حال موت الولي الأصلي، وهو الأب والجد للأب، مع عدم وجود وصيٍّ قيِّمٍ مُنصَّبٍ من أحدهما، إذ يكون القاصر ـ حينئذ ـ دون ولي، فيصير وليّه الحاكم الشرعي.
مسألة 14: إذا صار فاقد الأهلية دون ولي، وأمكن الرجوع إلى الحاكم الشرعي، لم يجز لأحد من المسلمين، ولو كان من أقرباء القاصر، التصدي لشيء من أموره المالية بمثل البيع والشراء ونحوهما، ولا لشيء من أموره الشخصية الاستثنائية التي تحتاج إلى نظر الولي، إلا بعد مراجعة الحاكم الشرعي ونظره وصدور الإذن منه، حتى لو كان في بلد آخر.
مسألة 15: إذا تعدد الحاكم الشرعي الجامع للشروط كانت ولاية الجميع في مرتبة واحدة، فإذا تصدّى من يُكتفى به نفذ تصرّفه، وليس للآخر أن يعارضه، فإن تصديا معاً وتصرفا في أمر واحد نفذ تصرف السابق منهما.
مسألة 16: للحاكم الشرعي أن يباشر أمور القاصر بنفسه، وله أن يوكل من يقوم بها عنه من أقرباء القاصر أو من غيرهم.
الرابعة: ولاية العدل المؤمن
وهو العاقل الرشيد الخبير الملتزم بأحكام الشريعة من عامة المؤمنين، ولا يجب أن يكون من أهل البلد، ولا من أقرباء القاصر، وإن كان الغالب فيه ذلك بحسب العرف؛ فحيث لا يوجد الحاكم الشرعي، أو لا يمكن الوصول إليه، يجب ـ على نحو الوجوب الكفائي ـ تصدي واحد من المؤمنين العدول لإدارة أمور القاصر بالنحو الذي كان يتولاه الولي.
كذلك فإن ولاية المؤمنين المتعددين على درجة واحدة، وليس أحدهما أولى من الآخر، فإذا تصدى أحدهم وتصرف نفذ تصرّفه وصح، وليس لغيره إبطاله، وإذا تصرفا معاً نفذ تصرف السابق منهما.
2 ـ حدود ولاية الولي:
لما كان الهدف من جعل الولاية على فاقد الأهلية هو رعايته وتدبير أموره في نفسه وفي ماله، ولما كانت تصرفات الولي حادثة في حالة استثنائية تستدعي مراعاة الحذر والاحتياط، وهي فقدان المالك لأهلية التصرف، فإن الشريعة المطهّرة قد وضعت حدوداً لتصرفات الولي تختلف عما لو كان المتصرف هو المالك نفسه، وذلك على النحو التالي:
أولاً: إن الأظهر هو كون الوليّ مُنـزَلاً منزلة المالك في كيفية تصرفه بأمواله وبنفسه، وفي مدى طموحه الذي يرجو تحقيقه، فكما لا يكتفي المالك بتجميد أمواله وأوضاعه الحياتية، ولا يقتصر على دفع المفاسد التي تؤدي إلى خسران المال ونحوه، بل يسعى إلى جلب المنافع وتحقيق الأرباح والمكاسب، فيتاجر في ماله، رغبةً في الربح، ويتزوج لتحقيق غاية راجحة، ويقوم بمختلف التصرفات على قاعدة تحقيق المصلحة، فإن للولي ذلك كما لو كان هو المالك، ومثال ذلك ما لو كان لهذا القاصر مبلغٌ من المال، ودار الأمر بين أن يتاجر به مع رجاء الربح وبين أن يدخره من دون أن يخسر منه شيئاً بالادخار، فإن الأجدر بالولي أن يتاجر بمال ذلك القاصر لتحقيق الربح الذي هو مصلحة له، دون أن يمنعه منه احتمال الخسران الوارد دائماً في التجارة، ما دام الأسلوب الذي تدار به الأمور متعارفاً وجارياً على طبق الأصول التجارية؛ ومثاله ـ أيضاً ـ ما لو أراد الولي تزويج الصبي، فإنه يجب عليه مراعاة المصلحة العائدة على القاصر، بل وينبغي بذل الجهد في اختيار الأصلح، تماماً كما لو كان القاصر ولده؛ وهكذا الأمر في سائر الشؤون؛ أما إذا خلا العمل من المصلحة، كأن لم يكن في التجارة ربحٌ ولا مصلحة أخرى، ولا في زواج الصبي فائدة، لم يجز الإقدام عليه حتى لو خلا من المفسدة ولم يترتب عليه ضرر.
ثانياً: وعلى ضوء المبدأ الآنف الذكر، فإنه لا يصح من الولي أن يهب ولا أن يتصدق بشيءٍ من أموال القاصر حتى لو كان فيهما مصلحة للقاصر بوجه من الوجوه؛ نعم لا يشمل ذلك دفع الخمس والزكاة والضمان وغيرها من الأمور التي ورد استحباب أو وجوب بذلها من مال القاصر عند توفر شروطها، وأما مثل إقراض ماله للغير أو إعارته له مع الاطمئنان بوفاء القرض ورد العارية، فإن كان فيه مصلحة دنيوية للصبي مثلاً جاز فعله، وإن لم يكن فيه مصلحة لم يجز حتى لو كان المقترض أو المستعير أحد أقربائه.
ثالثاً: إنّ الولاية على شؤون فاقد الأهلية غير المالية، وهي ما يصطلح عليها بـ (الولاية على النفس)، تختلف باختلاف أسباب فقد الأهلية وباختلاف تلك الشؤون الحياتية:
فالسفيه لا ولاية لأحد عليه في ما عدا الزواج من أموره الشخصية، كالطلاق والوصية بغير المال ونحوهما، فيصحُّ منه طلاق زوجته حتى لو ترتب عليه بذل المهر لها، وكذا يصح أن يوصي بأن يدفن في مكان معين وأن يجهز في غسله وكفنه بطريقة معينة حتى لو ترتب عليه بذل مال، وهكذا سائر أموره من سكنه وتصرفاته الأخرى؛ أما الزواج، فإن عليه ـ على الأحوط وجوباً ـ أن يستأذن أباه أو جده لأبيه إذا كان سفيهاً في جميع أموره، وأما إذا كان سفيهاً في خصوص الزواج فإن عليه ـ على الأحوط وجوباً ـ أن يستأذن الحاكم الشرعي.
وأما المجنون والصبي فإن للأب والجد للأب ولايةً عليهما في كل ما له علاقة بأمورهما الأساسية، كالتربية والتعليم والسكن وطريقة الإنفاق ومقداره وكيفية استثمار أموالهما، ونحو ذلك مما يرجع إلى سلوكهما العام المؤثر في بناء الشخصية وتركيز الكيان الاجتماعي حاضراً ومستقبلاً؛ ونفس هذه الصلاحيات تثبت ـ أيضاً ـ للوصي عن أحدهما عند إطلاق الولاية، كما تثبت بنفس النحو للحاكم الشرعي، ولعدول المؤمنين عند فقد الحاكم الشرعي.
وأما تزويجهما فإن للأب وأبيه الولاية في ذلك، سواء مع اضطرارهما إلى الزواج أو عدمه، وأما الوصي فإنه لا ولاية له على ذلك إلا إذا نص الموصي عليه، وأما الحاكم الشرعي فهو ولي الصبي والمجنون في التزويج مع الضرورة لا بدونها، وكذلك عدول المؤمنين في حال فقد الحاكم الشرعي.
وأما الطلاق فإن للولي، كائناً من كان، أن يطلِّق زوجة المجنون مع وجود مصلحة له في الطلاق، ولا ولاية له على طلاق الصبي، مع المصلحة وبدونها، نعم للولي أن يهب عن الصبي زوجته المتمتَّع بها مدتها مع المصلحة له أو لها أو بدونها.
3 ـ التنازل عن الولاية:
قد ذكرنا فيما سبق إمكان نزع ولاية الأب أو أبيه أو الوصي عن أحدهما أو عدول المؤمنين إذا صدر من أحدهم ما يوجب فقدانه أهليّة الولاية، وفي هذا المجال قد ينفع التعرض لمسألة إمكان تنازل الولي الاختياري عن ولايته لسبب من الأسباب، فنقول:
إن ولاية الأب وأبيه ناتجة عن حكم شرعي يقضي بإلزامهما بهذه المسؤولية، فلا يصح ولا يقع منهما التنازل الاختياري عن هذه الولاية، فإن صدر منهما تنازل عنها عُدَّ لاغياً وتبقى ولايتهما ثابتة رغم ذلك؛ نعم يجوز لهما القبول بالشرط القاضي بتعطيل ولايتهما وتفويض هذه الولاية لشخص آخر إذا وقع ذلك الشرط في ضمن عقد لازم، كعقد الزواج الذي تشترط فيه الزوجة على زوجها أن تكون لها الولاية على الأولاد في ظروف معينة أو مطلقاً، فإن شرط ذلك على نفسه وجب عليه الوفاء به، ولم يكن ذلك منه تنازلاً عن الولاية، بل هو نوع من الإذن للغير بتولي أمور هذا القاصر، ومن البديهي ثبوت الحق للولي بإعطاء مثل هذا الإذن ما دام لا يجب عليه ـ أساساً ـ مباشرة أعمال الولاية بنفسه.
أما الوصي عن أحدهما فإن ولايته ليست أصيلة، بل هي مجعولة من قبل الغير، فهي مرهونة بإرادته في حدودها وتفاصيلها، وكذا في نزع وصايته من قِبَل الموصي ما دام حياً؛ كذلك فإنها رهن بإرادة الوصي الذي يحق له أن يرفض هذه الوصاية حال حياة الموصي بشرط أن يصله الرفض ويعلم به، وبشرط أن يكون الموصي قادراً على تعيين غيره، أما بعد الموت فإنه لا يحق للوصي رد الوصية ورفضها، سواء كان قد قبلها قبل صدور الرفض أو لم يكن قد صدر منه القبول.
وليس للوصي عزل نفسه وتفويض المهام التي أوكلت إليه إلى غيره، نعم له أن يتعاون مع الغير في تنفيذ الوصية من باب الاعتماد على أهل الخبرة، مثل المجتهد أو المُسْتأجَر للعبادة أو العارف بأمور التجهيز ونحو ذلك، إلا أن ينص الموصي على مباشرة الوصي لذلك بنفسه، فتتعين عليه المباشرة حينئذ، كما سبق ذكره. (أنظر المسألة 13).
أما العدل من المؤمنين فإنه يجوز له التخلي عما بيده من شؤون القاصر إن لم يكن ما يتصدى له واجباً متعيناً عليه ومنحصراً به، وإلا لم يجز له ذلك؛ وإنما ينحصر الأمر به في صورة ما لو لم يكن غيره كفؤاً، وكان في ترك التصدي ضرر بالغ يجب دفعه عن القاصر على كل قادر، كما لو تعرض عرض ذلك القاصر للعدوان، أو تعرض للانحراف في دينه أو أخلاقه، أو للأمراض في جسده، أو نحو ذلك من الأضرار الكبيرة.
4 ـ صلاحيات أخرى للولي:
يطلق الولي في بعض أبواب الفقه، ويراد به في باب (أحكام الأموات): (كل من يرث الميت من الطبقة التي مات عنها من الذكور والإناث)، وقد تقدمت أحكامه التي قلنا فيها: «إن لهذا الولي سلطة الإشراف على تجهيزه». (أنظر في ذلك الجزء الأول، المسألة 425).
وكذلك يطلق الولي في باب (القصاص) ويراد به من يرث مال المقتول من الرجال، وهو الذي له حقّ اتخاذ القرار بالاقتصاص من القاتل عمداً أو أخذ الدية منه.
أما الحاكم الشرعي فمن المعلوم أن مدى ولايته يتجاوز أمور الفاقد للأهلية لتكون له الولاية على الطلاق في بعض الحالات، إما مستقلاً كما في مثل حالة عدم الإنفاق، أو بالاشتراك مع الأب كما في حالة المفقود، كذلك فإن له الولاية على تحديد الأسعار وعلى الإلزام بالبيع وعلى جميع الشؤون العامة في إطار إقامة النظام الإسلامي ونشر العدل والتصدي للقضايا الكبرى.
وجميع هذه الأمور وغيرها ستبحث في أماكنها بعدما اقتصرنا على ما له علاقة بالولاية على القاصر.