في هذا الشَّهر المبارك، شهر رمضان، لا بدَّ للإنسان من أن يحقّق لنفسه هدفين؛ أن يعرف نفسه ويروّضها على السَّير في طاعة الله، وأن يعرف ربَّه، ليعبده كما ينبغي له، وليتحسَّس عبوديته له من خلال ما يعرفه من عظمته سبحانه.
الوعيُ في العبادة
وقد رأينا أنَّ كلَّ برامج شهر رمضان، سواء كانت قرآنيَّة أو عباديَّة أو دعائيَّة، تشارك في تحقيق هذا الهدف، ولكن لا بدَّ للإنسان من أن يكون واعياً لما يقرأ، وواعياً لما يعبد، حتَّى تكون عبادته في صلاته وصيامه عبادةَ الإنسان الواعي لما يفعل. ولا بدَّ أن يكون واعياً لدعائه، بحيث يفهم كلمات الدّعاء كما لو كان هو الَّذي ينشئ هذا الدّعاء، فلا تعتبر نفسك إنساناً يقرأ دعاءً في كتاب، ولكن اعتبر نفسك إنساناً يدعو الله بهذه الكلمات، بحيث تتبنَّاها عندما تقرأها، لأنَّ أيَّ عمل لا ينطلق به الإنسان من وعيٍ، فهو جهد ضائع، فأنت عندما تقرأ القرآن من دون فهم، لن تنفتح على معانيه، وهكذا في الدّعاء وفي الصَّلاة.
إنَّ الإنسان إذا استطاعَ أن يحقّق ذلك كلّه لنفسه، فإنَّه يستطيع أن يعي نفسه ويفهمها، لأنَّ الإنسان قد يكتشف في كثيرٍ من الحالات أنَّه لا يفهم نفسه، ولا يعرف ما هي خططه وبرامجه في الحياة، وما القاعدة الَّتي ينطلق منها في علاقاته بالنَّاس، عندما يقاطع جماعةً أو يصل جماعة، ما القاعدة الَّتي يتَّخذ مواقفه من خلالها عندما يؤيّد أو يرفض، فربَّما يكتشف الإنسان نفسه أنَّه خشبة في مجرى التيَّار، بحيث لا يملك أمره في ذلك كلّه، فقد يكتشف أحدنا نفسه أنَّه يتحرَّك من خلال تحريك الآخرين له، ويقف من خلال إيقافهم له، من دون أن يملك لنفسه موقفاً أو موقعاً.
مراقبةُ الله في الأعمال
والمسألة الَّتي ينبغي لكلّ واحدٍ منَّا أن يتحسَّسها، هي أن يعرف أنَّه سيقدّم إلى الله حساباً على كلّ عملٍ يعمله، وأن يعلم أنَّه "فِي حَلالِهَا حِسابٌ، وَفِي حَرامِهَا عِقابٌ، وَفِي الشُّبُهاتِ عِتابٌ" {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[النّحل: 111]. ففي يوم القيامة، تتولَّى الدّفاع عن نفسك {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}[الصّافّات: 24]، بحيث إنَّك ستسأل عن كلّ عملك، وعليك أن تحضّر لنفسك كلّ الدّفاعات الَّتي تبرّر بها عملك عند من يعرف سرَّك وعلانيتك. هناك دفاعات نمارسها في الحياة عن طريق محامٍ، أو عن طريق الأحاديث الَّتي نجريها مع النَّاس، فقد نستطيع أن نستغلّ بعض أجواء الترهيب والترغيب لنقنع النَّاس أو نسكتهم، ولكن هل نملك ذلك عند من يملك السّرّ وأخفى، وعند من يسمع وساوس الصّدور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور؟!
هذه هي الزّاوية الّتي علينا أن ننطلق منها، أن نفكّر قبل أن نقدم على أيّ عمل: هل نستطيع أن ندافعَ عنه أمام الله أم لا نستطيع؟ هل يضرّنا عند الله أم ينفعنا؟! علينا، مهما أمكن، أن لا نراقب النَّاس من حولنا كيف ينظرون إلينا وكيف يحكمون علينا، بل أن نستحضر في أنفسنا كيف ينظرُ الله إلينا عندما نقوم بأيّ عمل، لأنَّ الله يراقبني، وعين الله تراني، فهل يرضى الله عنّي في هذا أم لا؟ سواء رضي النَّاس أو لم يرضوا.
وقد كانت عظمة النَّبيّ (ص) في كلّ ما كان يتحمَّله من مشاكل وآلام واضطهاد واتّهامات وسباب وشتائم، أنَّه لم يكن يراقب النَّاس، بل كان يراقب الله، وكان يقول: "إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي"، ولذلك، عندما جاءه عمّه أبو طالب يقدّم إليه عرضَ قريشٍ لتسوية الأمور بينه وبينهم، وعرض عليه أن يجعلوه ملكاً عليهم، وأن يزوّجوه أجمل نسائهم، وأن يعطوه أفضل أموالهم، كانت كلمته: "يا عمَّاهُ، واللهِ لَو وَضعوا الشَّمسَ في يميني، والقمرَ في شمالِي، علَى أن أتركَ هذا الأمرَ، حتَّى يُظهرَه اللهُ أو أهلِكَ فيه، ما تركتُهُ".
لماذا كان له هذا الموقف أمام اندفاعة قريش بكلّ عشائرها وتهديدها له، فإمَّا أن يقبل عرضها، وإلَّا أعلنت الحرب عليه، بالمستوى الَّذي قد تصل الأمور إلى أن يفقد حياته؟ ما السّرّ إلَّا أنَّه راقب الله، وعندما راقبه، لم يكن أحد أمامه.
استحضارُ عظمةِ الله
هذا المعنى ربَّما قد يصعب على كثير منَّا، لأنَّنا مشدودون إلى ما حولنا ومَنْ حولنا، لكنَّنا نستطيع أن نصل إلى النَّتائج الكبرى من خلال تمثُّلِ عظمة الله في نفوسنا.. إنّنا نراقب النَّاس ونخاف منهم ونرغب فيهم لأنّنا لا نعيش عظمة الله في نفوسنا، ونخاف من الدَّولة فلا نعمل ما تمنعه، ونخاف من الأقوياء فلا نقوم بما لا يرضيهم، ونخاف ممن حولنا من أزواجنا وذرّيّاتنا وأقربائنا، لأنَّنا نخشى أن تتغيَّر عواطفهم معنا، أمَّا مسألة الله، فإنّنا نجعلها من أهونِ المسائلِ عندَنا، ونجعل الله أهون ناظر إلينا! ففي كثيرٍ من الحالات، تكون الأمور هكذا.. فأن يراقبني الله ليست مشكلة عندي، ولكن المشكلة أن يراقبني حتّى الطّفل الصَّغير وأنا أقوم بعمل أخجل منه، بل إنّي أقفل الأبواب والنَّوافذ لكي لا ينظر إليَّ، لكن أن يراني الله فلا مشكلة عندي، هذا ليس إلَّا لأنَّنا لا نعرف ربَّنا.
ولذا، يحاول الله سبحانه وتعالى أن يجسّد هذه العظمة في نفوسنا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزّمر: 67]، وهذا تعبير كنائيّ عن أنَّ الله بيده كلّ شيء، وقادر على كلّ شيء، وأنّه سبحانه مسيطر على السَّماوات والأرض، تماماً كما يسيطر أحدكم على حبل يطويه بيمينه، وهذا كلّه لتجسيد عظمة الله سبحانه وتعالى في نفس الإنسان بالمعنى المادّيّ.
وهكذا في كلّ آيات القرآن في هذا المجال. وفي بعض الآيات القرآنيَّة، يحدّثنا الله عمَّن خاف مقام ربّه، بحيث يتصوَّر مقامه سبحانه في عظمته وربوبيَّته {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}[النّازعات: 40 - 41]، {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}[الأنفال: 2]، بحيث نصل إلى حدّ من الشّعور والإحساس والمعرفة بعظمة الله، تستولي فيه عظمته على كلّ عقولنا وقلوبنا وإحساسنا، فإذا ذكر الله اهتزّت قلوبنا.
*موعظة دينيّة لسماحته، بتاريخ: 12/02/1994م/ الموافق: اليوم الأوّل من شهر رمضان.
في هذا الشَّهر المبارك، شهر رمضان، لا بدَّ للإنسان من أن يحقّق لنفسه هدفين؛ أن يعرف نفسه ويروّضها على السَّير في طاعة الله، وأن يعرف ربَّه، ليعبده كما ينبغي له، وليتحسَّس عبوديته له من خلال ما يعرفه من عظمته سبحانه.
الوعيُ في العبادة
وقد رأينا أنَّ كلَّ برامج شهر رمضان، سواء كانت قرآنيَّة أو عباديَّة أو دعائيَّة، تشارك في تحقيق هذا الهدف، ولكن لا بدَّ للإنسان من أن يكون واعياً لما يقرأ، وواعياً لما يعبد، حتَّى تكون عبادته في صلاته وصيامه عبادةَ الإنسان الواعي لما يفعل. ولا بدَّ أن يكون واعياً لدعائه، بحيث يفهم كلمات الدّعاء كما لو كان هو الَّذي ينشئ هذا الدّعاء، فلا تعتبر نفسك إنساناً يقرأ دعاءً في كتاب، ولكن اعتبر نفسك إنساناً يدعو الله بهذه الكلمات، بحيث تتبنَّاها عندما تقرأها، لأنَّ أيَّ عمل لا ينطلق به الإنسان من وعيٍ، فهو جهد ضائع، فأنت عندما تقرأ القرآن من دون فهم، لن تنفتح على معانيه، وهكذا في الدّعاء وفي الصَّلاة.
إنَّ الإنسان إذا استطاعَ أن يحقّق ذلك كلّه لنفسه، فإنَّه يستطيع أن يعي نفسه ويفهمها، لأنَّ الإنسان قد يكتشف في كثيرٍ من الحالات أنَّه لا يفهم نفسه، ولا يعرف ما هي خططه وبرامجه في الحياة، وما القاعدة الَّتي ينطلق منها في علاقاته بالنَّاس، عندما يقاطع جماعةً أو يصل جماعة، ما القاعدة الَّتي يتَّخذ مواقفه من خلالها عندما يؤيّد أو يرفض، فربَّما يكتشف الإنسان نفسه أنَّه خشبة في مجرى التيَّار، بحيث لا يملك أمره في ذلك كلّه، فقد يكتشف أحدنا نفسه أنَّه يتحرَّك من خلال تحريك الآخرين له، ويقف من خلال إيقافهم له، من دون أن يملك لنفسه موقفاً أو موقعاً.
مراقبةُ الله في الأعمال
والمسألة الَّتي ينبغي لكلّ واحدٍ منَّا أن يتحسَّسها، هي أن يعرف أنَّه سيقدّم إلى الله حساباً على كلّ عملٍ يعمله، وأن يعلم أنَّه "فِي حَلالِهَا حِسابٌ، وَفِي حَرامِهَا عِقابٌ، وَفِي الشُّبُهاتِ عِتابٌ" {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[النّحل: 111]. ففي يوم القيامة، تتولَّى الدّفاع عن نفسك {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ}[الصّافّات: 24]، بحيث إنَّك ستسأل عن كلّ عملك، وعليك أن تحضّر لنفسك كلّ الدّفاعات الَّتي تبرّر بها عملك عند من يعرف سرَّك وعلانيتك. هناك دفاعات نمارسها في الحياة عن طريق محامٍ، أو عن طريق الأحاديث الَّتي نجريها مع النَّاس، فقد نستطيع أن نستغلّ بعض أجواء الترهيب والترغيب لنقنع النَّاس أو نسكتهم، ولكن هل نملك ذلك عند من يملك السّرّ وأخفى، وعند من يسمع وساوس الصّدور، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور؟!
هذه هي الزّاوية الّتي علينا أن ننطلق منها، أن نفكّر قبل أن نقدم على أيّ عمل: هل نستطيع أن ندافعَ عنه أمام الله أم لا نستطيع؟ هل يضرّنا عند الله أم ينفعنا؟! علينا، مهما أمكن، أن لا نراقب النَّاس من حولنا كيف ينظرون إلينا وكيف يحكمون علينا، بل أن نستحضر في أنفسنا كيف ينظرُ الله إلينا عندما نقوم بأيّ عمل، لأنَّ الله يراقبني، وعين الله تراني، فهل يرضى الله عنّي في هذا أم لا؟ سواء رضي النَّاس أو لم يرضوا.
وقد كانت عظمة النَّبيّ (ص) في كلّ ما كان يتحمَّله من مشاكل وآلام واضطهاد واتّهامات وسباب وشتائم، أنَّه لم يكن يراقب النَّاس، بل كان يراقب الله، وكان يقول: "إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيَّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي"، ولذلك، عندما جاءه عمّه أبو طالب يقدّم إليه عرضَ قريشٍ لتسوية الأمور بينه وبينهم، وعرض عليه أن يجعلوه ملكاً عليهم، وأن يزوّجوه أجمل نسائهم، وأن يعطوه أفضل أموالهم، كانت كلمته: "يا عمَّاهُ، واللهِ لَو وَضعوا الشَّمسَ في يميني، والقمرَ في شمالِي، علَى أن أتركَ هذا الأمرَ، حتَّى يُظهرَه اللهُ أو أهلِكَ فيه، ما تركتُهُ".
لماذا كان له هذا الموقف أمام اندفاعة قريش بكلّ عشائرها وتهديدها له، فإمَّا أن يقبل عرضها، وإلَّا أعلنت الحرب عليه، بالمستوى الَّذي قد تصل الأمور إلى أن يفقد حياته؟ ما السّرّ إلَّا أنَّه راقب الله، وعندما راقبه، لم يكن أحد أمامه.
استحضارُ عظمةِ الله
هذا المعنى ربَّما قد يصعب على كثير منَّا، لأنَّنا مشدودون إلى ما حولنا ومَنْ حولنا، لكنَّنا نستطيع أن نصل إلى النَّتائج الكبرى من خلال تمثُّلِ عظمة الله في نفوسنا.. إنّنا نراقب النَّاس ونخاف منهم ونرغب فيهم لأنّنا لا نعيش عظمة الله في نفوسنا، ونخاف من الدَّولة فلا نعمل ما تمنعه، ونخاف من الأقوياء فلا نقوم بما لا يرضيهم، ونخاف ممن حولنا من أزواجنا وذرّيّاتنا وأقربائنا، لأنَّنا نخشى أن تتغيَّر عواطفهم معنا، أمَّا مسألة الله، فإنّنا نجعلها من أهونِ المسائلِ عندَنا، ونجعل الله أهون ناظر إلينا! ففي كثيرٍ من الحالات، تكون الأمور هكذا.. فأن يراقبني الله ليست مشكلة عندي، ولكن المشكلة أن يراقبني حتّى الطّفل الصَّغير وأنا أقوم بعمل أخجل منه، بل إنّي أقفل الأبواب والنَّوافذ لكي لا ينظر إليَّ، لكن أن يراني الله فلا مشكلة عندي، هذا ليس إلَّا لأنَّنا لا نعرف ربَّنا.
ولذا، يحاول الله سبحانه وتعالى أن يجسّد هذه العظمة في نفوسنا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزّمر: 67]، وهذا تعبير كنائيّ عن أنَّ الله بيده كلّ شيء، وقادر على كلّ شيء، وأنّه سبحانه مسيطر على السَّماوات والأرض، تماماً كما يسيطر أحدكم على حبل يطويه بيمينه، وهذا كلّه لتجسيد عظمة الله سبحانه وتعالى في نفس الإنسان بالمعنى المادّيّ.
وهكذا في كلّ آيات القرآن في هذا المجال. وفي بعض الآيات القرآنيَّة، يحدّثنا الله عمَّن خاف مقام ربّه، بحيث يتصوَّر مقامه سبحانه في عظمته وربوبيَّته {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}[النّازعات: 40 - 41]، {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}[الأنفال: 2]، بحيث نصل إلى حدّ من الشّعور والإحساس والمعرفة بعظمة الله، تستولي فيه عظمته على كلّ عقولنا وقلوبنا وإحساسنا، فإذا ذكر الله اهتزّت قلوبنا.
*موعظة دينيّة لسماحته، بتاريخ: 12/02/1994م/ الموافق: اليوم الأوّل من شهر رمضان.