لقـد صـار لزامـاً علينا ـ بعدمـا أتممنا الكلام في «الصيد» كسبب أول ومستقلّ في التذكية ـ أن نستعرض في هذا المطلب أحكام الذباحة كسببٍ ثان ومستقلّ ـ أيضـاً ـ في التذكيـة؛ وحقيقـة الذباحـة ـ ومعها النحر ـ أنها: (إماتة الحيوان بإسالة دمه واستنـزافه حتى تزهق روحه)، وذلك بطريقتين:
الأولى ـ الذبح: وهو قطع ما يصطلح عليه بـ «الأوداج الأربعة»، وهي: عرقا الدم الرئيسان الأيمن والأيسر الموجودان في الرقبة، والحلقوم، وهو مجرى الهواء، والمريء، وهو مجرى الطعام، وهي التي تتجمع في أعلى الرقبة عند نقطة الاتصال بالرأس؛ فإذا قطعت هذه الأوداج بشروط معينة صار الحيوان بها مذكى، وحكم بطهارته وجواز أكله إن كان مأكول اللحم، وهذه الطريقة يذكى بها كل حيوان غير الجمل من حيوانات البر الأهلية أو الوحشية ومن الطيور. أما الأسماك والحشرات والزواحف فلا يتحقق فيها الذبح ولا النحر لاختلافها تكويناً وخلقاً عن سائر الحيوانات القابلة لذلك.
الثانية ـ النحر: وهو طعن الجمل خاصة في لُبّته، و(الُلبّة) هي: (نقطة التقاء رقبته بصدره)، فإذا طعن فيها الجمل بشروط معينة صار مذكى وحكم بطهارته وجواز أكله.
ويجب أن يعلم أن ذبح الجمل لا يغني عن نحره ولا تتحقق ذكاته بالذبح وحده، كذلك فإن غير الجمل لا يغني نحره ولا يصير مذكى بمجرد النحر من دون ذبح، نعم لا يضر ذبح الجمل بقطع أوداجه ثم إتباع ذلك، فوراً وقبل موته، بنحره في لبته، وكذا فإنه لا يضر نحر غير الجمل ثم إتباع ذلك فوراً بذبحه.
ولما كانت شروط الذبح والنحر وأحكامهما واحدة، فإننا سنذكر ذلك في فروع:
الفرع الأول ـ في شروط الذبح والنحر:
يشترط في تحقق التذكية بالذبح أو النحر أمور:
الأول: يتحقق الذبح من كل مسلم، ذكر أو أنثى، مؤمن أو فاسق أو مخالف، مختار أو مكره، لأن المهم هو تحقق الذبح بالشروط المعتبرة من واحد من هؤلاء، أما الكافر فإنه إن كان ملحداً لا يؤمن بالله تعالى ولا يتصور صدور التسمية منه فإن ذبيحته لا تحل أبداً، وإن كان ممن يؤمن بالله تعالى، فإن كان من غير أهل الكتاب لم تحل ذبيحته أيضاً حتى لو سمى على الأحوط وجوباً، وإن كان من أهل الكتاب حلت ذبيحته إذا سمى، وإن كان الأحوط استحباباً تجنبها.
مسألة 105: لا يشترط في أصل الذبح بلوغ الذابح سن التكليف، نعم يستشكل في أمره من ناحيتين: الأولى: من جهة صدق كونه مسلماً، فإن ولد المسلم لا يلحق بأبيه في الإسلام مطلقاً، إلا أن يُربّى وتُوضّح له الأمور بالنحو الذي يصدق عليه أنه ولد مسلم، فتصح ذبيحته من هذه الناحية حينئذ؛ والثانية: من جهة إمكان عدم تحقق القصد منه لصغره، فإن كان في سن يتحقق فيها القصد منه ويعي ما يفعل حلت ذبيحته ولو لم يكن بالغاً.
الثاني: يجب أن يتمتع الذابح بدرجة من الشعور يتحقق معها القصد إلى الفعل والوعي له، فلا تحل ذبيحة من وقعت السكين من يده فذبحت الحيوان، ولا ذبيحة الصغير الذي لا يتحقق منه القصد، أما المجنون والسكران فإن ذبيحتهما تحل إذا كان عندهما مرتبة من الوعي يتحقق فيها القصد، وإلا لم يصح منهما.
الثالث: استقبال القبلة بالذبيحة حال الذبح، فإن أخل بالاستقبال عالماً عامداً حرمت، وإن كان نسياناً أو للجهل بالاشتراط أو خطأً منه في جهة القبلة، بأن وجهها إلى جهة معتقداً أنها القبلة فتبين الخلاف، لم تحرم في جميع ذلك؛ وكذا تحل الذبيحة ـ أيضاً ـ إذا لم يعرف القبلة، أو لم يتمكن من توجيهها إليها ولو بالاستعانة بالغير واضطر إلى تذكيتها في حالتها تلك، كالحيوان المستعصي أو المتردي في البئر ونحوه.
مسألة 106: إذا خاف موت الذبيحة لو اشتغل بالاستقبال بها إلى جهة القبلة فالظاهر عدم لزومه.
مسألة 107: لا يشترط في الذبح استقبال الذابح نفسه وإن كان ذلك أحوط.
مسألة 108: يتحقق استقبال الحيوان فيما إذا كان قائماً أو قاعداً بما يتحقق به استقبال الإنسان حال الصلاة في الحالتين، وأما إذا كان مضطجعاً على الأيمن أو الأيسر فيتحقق باستقبال المنحر والبطن، ولا يعتبر استقبال الوجه واليدين والرجلين.
الرابع: تسمية الذابح عليها حين الشروع في الذبح أو متصلاً به عرفاً، فلا يجزىء تسمية غير الذابح عليها، كما لا يجزىء الإتيان بها عند مقدمات الذبح كربط المذبوح؛ وإذا ترك التسمية عمداً حرمت وإذا تركها نسياناً أو جهلاً لم تحرم.
مسألة 109: يعتبر في التسمية وقوعها بهذا القصد، أي بعنوان كونها على الذبيحة بداعي الذبح، فلا تجزىء التسمية الاتفاقية أو الصادرة لغرض آخر، ولا يعتبر أن يكون الذابح ممن يعتقد وجوبها في الذبح، فيصح الذبح من غير المعتقد إذا كان قد سمّى.
مسألة 110: يجوز ذبح الأخرس، ويُكتفى في تسميته بتحريك لسانه وشفتيه تشبيهاً لمن يتلفظ بها مع ضم الإشارة بالأصبع إليه، هذا في الأخرس الأصم من الأول، وأما الأخرس لعارض مع التفاته إلى لفظها فيأتي به على قدر ما يمكنه، فإن عجز حرّك لسانه وشفتيه حين إخطاره بقلبه، وأشار بإصبعه إليه على نحوٍ يناسب تمثل لفظها إذا تمكن منها على هذا النحو، وإلا فبأي وجه ممكن.
مسألة 111: تتحقق التسمية بذكر الله تعالى مقروناً بلفظ من ألفاظ الثناء والتعظيم، مثل «الله أكبر» و«بسم الله» ونحو ذلك، بل يكفي ذكر لفظ الجلالة وحده من دون إضافة شيء إليه. وقد سبق ذكر ذلك في شروط الصيد المتقدمة.
الخامس: تحَقُّقُ قطع الأوداج بكل ما يقطعها من الآلات المعدنية الحادة، سواء في ذلك معدن الحديد أو غيره من المعادن، كالنحاس والذهب والفضة ونحوها، فضلاً عن أنه يجوز الذبح بالحديد المطلي ببعض المعادن الأخرى، مثل الستيل ونحوه.
وإذا لم يوجد المعدن جاز الذبح بكل ما يقطع الأوداج من غيره، حتى لو لم يكن هناك ضرورة تدعو للاستعجال في الذبح، كالخوف من تلف الحيوان وموته بالتأخير، فيصح الذبح بالقصب والخشب والحجارة الحادة والزجاجة ونحو ذلك. أما الذبح بالظفر والسن فلا تحل به الذبيحة ولو كان للضرورة.
السادس: قطع الأوداج الأربعة، وهي ـ كما تقدم ـ: عرْقا الدم الرئيسان الواقعان في جانبي الرقبة، والحلقوم والمريء؛ ولا يغني شقها وقطعها جزئياً عن القطع التام الكلي، كذلك فإنه يجب قطع الأربعة جميعها، فلا يغني قطع الحلقوم عن قطع سائر الأوداج، ولا غيره عن غيره؛ ولا بد من حدوث هذا القطع أثناء حياة الحيوان بنحو يستند الموت إلى قطع الأوداج الأربعة بتمامها، فلو قطع بعضها فمات الحيوان ثم قطع الباقي لم يحل.
مسألة 112: قد أفاد أهل الخبرة أن القطع من فوق «الجوزة» بالنحو الذي تبقى الجوزة فيه مع الجسد لا يعتبر قطعاً لتمام الأوداج وإن مات الحيوان به، فاللازم القطع من تحت الجوزة كي تبقى مع الرأس ويتحقق بها قطع الأوداج، لكنّ الذابح إذا أخطأ فذبح الحيوان من فوق الجوزة فالتفت وبادر إلى ذبحه من تحتها قبل موته صحّ ذبحه وحلّ به.
مسألة 113: إذا طرأ حادث على الحيوان استلزم إشرافه على الهلاك، كأن مرض أو افترسه سبع أو أصيب بجرح بالغ أو نحو ذلك، فحالـه ـ حينئـذ ـ على نحوين: الأول: أن تبقى أوداجه سليمة، فيحل بالذبح ولو لم تعلم حياته إلا من حركة يده أو طرفة عينه. الثاني: أن يستلزم ذلك الحادث تمزق بعض أوداجه، فإذا أدركه حياً وقطع بالذبح باقي الأوداج حل كذلك، أما إذا سبّب الحادث قطع أوداجه الأربعة فإنه لا يحل بإمرار السكين عليها بعد انقطاعها كلها.
مسألة 114: يجوز قطع الأوداج من القفا وتحل به الذبيحة، وإذا قطع الأوداج من جهة المذبح فإنه يجوز غرز السكين في رقبة الحيوان تحت العروق ثم تحريكها إلى الأمام لقطع الأوداج بها، وتحل بذلك الذبيحة أيضاً.
مسألة 115: ينبغي أن لا يستمر الذابح في حز المذبح حتى يفصل الرأس عن الجسد، فإن فعل ذلك عمداً لم تحرم به الذبيحة ولم يأثم وإن كُرِه منه ذلك، ولا شيء فيه لو حصل سهواً أو لحدة السكين.
ومن ذلك ما لو استمر في الحز حتى أصاب نخاعها، و(النخاع) هو: (الحبل الممتد من الرأس في الرقبة نزولاً في سلسلة الظهر)، فإنه يكره تعمد ذلك ولا تحرم به الذبيحة.
مسألة 116: ما ذكر في قطع الأوداج الأربعة إنما هو خاص بما يقبل الذبح من الحيوانات، وهي ـ كما سبق القول ـ ما عدا الجمل من حيوانات البر الأهلية أو الوحشية ومن الطيور أيضاً، أما الجمل فقد أشرنا سابقاً إلى أنه ينحر نحراً، وكيفية النحر هي: أن يدخل الآلة الحادة من سكين أو غيرها في الموضع الذي يقال له (لُبَّة)، وهو الذي قلنا سابقاً: «إنه الموضع المنخفض الواقع في أعلى الصدر متصلاً بالعنق»، بدون فرق بين أن تكون قائمة أو باركة أو ساقطة على جنبها، والأفضل نحرها قائمة.
وقد قلنا ـ أيضاً ـ: «إن النحر لا يغني عن الذبح في غير الجمل، وإن الذبح لا يغني عن نحر الجمل»، كذلك فإنه يشترط في النحر جميع ما يشترط في الذبح عدا قطع الأوداج الذي يكون بديله في النحر هو الطعن في اللبة لا غير.
الفرع الثاني ـ في ذكاة الجنين:
وفيه مسائل:
مسألة 117: تختلف ذكاة الجنين على النحو التالي:
1 ـ إذا خرج الجنين من بطن أمه حياً، واتسع الوقت لتذكيته لم يحل إلا بالذبح أو النحر، سواء كانت أمه حية أو ميتة، وسواء ماتت بالتذكية أو بدونها.
2 ـ إذا مات الجنين في بطن أمه عند موتها، فإن ماتت بالتذكية حل معها، وإن ماتت بغيرها لم يحل، وكذا لو أخرج حياً عند موتها فمات قبل أن يتسع الوقت لتذكيته.
مسألة 118: لا تجب المبادرة إلى شق بطن الحيوان بعد ذبحه وإخراج الجنين منه على الوجه المتعارف، فلو توانى عن ذلك زائداً على المقدار المتعارف فأدّى ذلك إلى موت الجنين لم يحرم أكله.
مسألة 119: يشترط في حلّ الجنين بذكاة أمّه أن يكون تام الخلقة، ويعرف ذلك بنبات الوبر أو الشعر على جسده حتى لو لم تكن قد ولجته الروح بعد، فإن لم يكن تام الخلقة لم يحل بذكاة أمّه.
مسألة 120: لا فرق في ذكاة الجنين بذكاة أمه بين محلل الأكل ومحرمه إذا كان مما يقبل التذكية.
الفرع الثالث ـ في الأحكام العامة:
وفيه مسائل:
مسألة 121: لا يشترط خروج الدم بعد الذبح أو النحر بالكمية المتعارفة له، وكذا لا يشترط تحرك شيءٍ من الحيوان بالذبح أو بعده، بل الأصل في ذلك ـ كما سبق القول ـ العلم بحياته حين ذبحه أو نحره، فإن لم تُعلم حياته حين تقديمه للذبح لم يحل أكله إلا إذا ظهرت عليه أمارات الحياة، كأن خرجت منه بعد ذبحه كمية الدم المتعارفة أو حرَّك أجفان عينيه أو شيئاً من أطرافه، حيث يكتفى بإحدى هاتين العلامتين في استكشاف حياة الحيوان وحليّته بالذبح أو النحر.
مسألة 122: إذا فُعِلَ بالحيوان بعد ذبحه ما يَستلزم موتَه لو حدث مستقلاً عن الذبح، كأن يذبحه ثم يبادر هو أو غيره إلى شق بطنه واستخراج أمعائه مثلاً، فإنه يحكم بحلية الذبيحة إذا كان موتها مستنداً إلى ذبحها لا إلى شق بطنها الذي هو مجرد أمر طارىء غير مؤثر كثيراً في موتها، وإلا لم تحل الذبيحة؛ نعم قد يحكم بحرمة هذا الفعل إذا استلزم تعذيب الحيوان أو التشنيع على الإسلام في ظروف خاصة.
أما إذا تردّى الحيوان من نفسه بعد ذبحه في بئر أو وقع من شاهق أو سقط في الماء بحيث ساعد ذلك كثيراً أو قليلاً على موته فإنه لا يحرم بذلك، خلافاً لما ذكر في الحيوان المصطاد. (أنظر المسألة 86).
مسألة 123: لا يعتبر اتحاد الذابح أو الناحر، فيجوز وقوع الذبح من اثنين على سبيل الاشتراك مقترنين بأن يأخذا السكين بيديهما ويذبحا معاً، أو يقطع أحدهما بعض الأعضاء والآخر الباقي، دفعة أو على وجه التدريج، ولا تجب التسمية منهما معاً بل يجتزأ بتسمية أحدهما على الأقوى.
مسألة 124: قلنا في مستهل هذا البحث: «إن الحيوان المحلل يحل أكله بعد تذكيته بالصيد أو الذباحة»، وهنا نزيد على ذلك فنقول: إن حلية الحيوان بهذين الأمرين لا تشمل جميع أجزاء الحيوان، بل يحرم منه أمور هي:
1 ـ الدم، ولو كان قليلاً، كمثل الذي يتخلّف ويبقى في داخل القلب أو الكبد.
2 ـ غائطه المتخلف في داخله، ويقال له: «الروث» في المواشي، و«السلح» في الطيور.
3 ـ العضو التناسلي، وهو القضيب والبيضتان من الذكر؛ والفرج ظاهره وباطنه من الأنثى، والمثانة.
4 ـ المشيمة، وهي موضع الولد.
5 ـ العَصَبان الممتدان من الرقبة على جانبي سلسلة الظهر ما بينها وبين الجلد وصولاً إلى الذَنَب، ويقال لهما: (العلباوان) مفردها (علباء)، وهي حبل أبيض قاسٍ جداً.
6 ـ خرزة الدماغ، وهو حبة تشبه الحمّص وبقدرها، يميل لونها إلى البني الغامق، وتوجد في أسفل الدماغ.
7 ـ النخاع الشوكي، وهو حبل أبيض طري يمتد في داخل سلسلة الظهر من الرقبة إلى الحوض.
8 ـ الغدد، ويقال لها: «الدّرن»، وهي كتل من اللحم لونها رمادي، وتتواجد في أماكن مختلفة من الجسم، وأكثر ما توجد في الدهن الذي يكون مع الرئتين، والمعروف في بعض البلدان بإسم «المعلاق».
9 ـ الطحال، 10 ـ المرارة، 11 ـ حدقة العين، وهي «البؤبؤ».
وما عدا ذلك فهو حلال، بما في ذلك الغضروف والأمعاء؛ وإن كان يكره الكلى وأذنا القلب؛ وأما ما لا يعتاد أكله، كالعظم والجلد من الحيوان، فإن الأحوط الأولى تركه، ولا بأس بما كان منهما من الأسماك والطيور.
ثم إنه لا يختلف الحكم بحرمة هذه الأجزاء بين ما هو موجودٌ منها في حيوان البر وبين الموجود منها في حيوان الجو أو البحر من الطيور والأسماك، وإن كان الموجود من هذه الأعضاء في الطيور أقلّ مما في الحيوان، وما في الأسماك منها أقل مما في الطيور.
لقـد صـار لزامـاً علينا ـ بعدمـا أتممنا الكلام في «الصيد» كسبب أول ومستقلّ في التذكية ـ أن نستعرض في هذا المطلب أحكام الذباحة كسببٍ ثان ومستقلّ ـ أيضـاً ـ في التذكيـة؛ وحقيقـة الذباحـة ـ ومعها النحر ـ أنها: (إماتة الحيوان بإسالة دمه واستنـزافه حتى تزهق روحه)، وذلك بطريقتين:
الأولى ـ الذبح: وهو قطع ما يصطلح عليه بـ «الأوداج الأربعة»، وهي: عرقا الدم الرئيسان الأيمن والأيسر الموجودان في الرقبة، والحلقوم، وهو مجرى الهواء، والمريء، وهو مجرى الطعام، وهي التي تتجمع في أعلى الرقبة عند نقطة الاتصال بالرأس؛ فإذا قطعت هذه الأوداج بشروط معينة صار الحيوان بها مذكى، وحكم بطهارته وجواز أكله إن كان مأكول اللحم، وهذه الطريقة يذكى بها كل حيوان غير الجمل من حيوانات البر الأهلية أو الوحشية ومن الطيور. أما الأسماك والحشرات والزواحف فلا يتحقق فيها الذبح ولا النحر لاختلافها تكويناً وخلقاً عن سائر الحيوانات القابلة لذلك.
الثانية ـ النحر: وهو طعن الجمل خاصة في لُبّته، و(الُلبّة) هي: (نقطة التقاء رقبته بصدره)، فإذا طعن فيها الجمل بشروط معينة صار مذكى وحكم بطهارته وجواز أكله.
ويجب أن يعلم أن ذبح الجمل لا يغني عن نحره ولا تتحقق ذكاته بالذبح وحده، كذلك فإن غير الجمل لا يغني نحره ولا يصير مذكى بمجرد النحر من دون ذبح، نعم لا يضر ذبح الجمل بقطع أوداجه ثم إتباع ذلك، فوراً وقبل موته، بنحره في لبته، وكذا فإنه لا يضر نحر غير الجمل ثم إتباع ذلك فوراً بذبحه.
ولما كانت شروط الذبح والنحر وأحكامهما واحدة، فإننا سنذكر ذلك في فروع:
الفرع الأول ـ في شروط الذبح والنحر:
يشترط في تحقق التذكية بالذبح أو النحر أمور:
الأول: يتحقق الذبح من كل مسلم، ذكر أو أنثى، مؤمن أو فاسق أو مخالف، مختار أو مكره، لأن المهم هو تحقق الذبح بالشروط المعتبرة من واحد من هؤلاء، أما الكافر فإنه إن كان ملحداً لا يؤمن بالله تعالى ولا يتصور صدور التسمية منه فإن ذبيحته لا تحل أبداً، وإن كان ممن يؤمن بالله تعالى، فإن كان من غير أهل الكتاب لم تحل ذبيحته أيضاً حتى لو سمى على الأحوط وجوباً، وإن كان من أهل الكتاب حلت ذبيحته إذا سمى، وإن كان الأحوط استحباباً تجنبها.
مسألة 105: لا يشترط في أصل الذبح بلوغ الذابح سن التكليف، نعم يستشكل في أمره من ناحيتين: الأولى: من جهة صدق كونه مسلماً، فإن ولد المسلم لا يلحق بأبيه في الإسلام مطلقاً، إلا أن يُربّى وتُوضّح له الأمور بالنحو الذي يصدق عليه أنه ولد مسلم، فتصح ذبيحته من هذه الناحية حينئذ؛ والثانية: من جهة إمكان عدم تحقق القصد منه لصغره، فإن كان في سن يتحقق فيها القصد منه ويعي ما يفعل حلت ذبيحته ولو لم يكن بالغاً.
الثاني: يجب أن يتمتع الذابح بدرجة من الشعور يتحقق معها القصد إلى الفعل والوعي له، فلا تحل ذبيحة من وقعت السكين من يده فذبحت الحيوان، ولا ذبيحة الصغير الذي لا يتحقق منه القصد، أما المجنون والسكران فإن ذبيحتهما تحل إذا كان عندهما مرتبة من الوعي يتحقق فيها القصد، وإلا لم يصح منهما.
الثالث: استقبال القبلة بالذبيحة حال الذبح، فإن أخل بالاستقبال عالماً عامداً حرمت، وإن كان نسياناً أو للجهل بالاشتراط أو خطأً منه في جهة القبلة، بأن وجهها إلى جهة معتقداً أنها القبلة فتبين الخلاف، لم تحرم في جميع ذلك؛ وكذا تحل الذبيحة ـ أيضاً ـ إذا لم يعرف القبلة، أو لم يتمكن من توجيهها إليها ولو بالاستعانة بالغير واضطر إلى تذكيتها في حالتها تلك، كالحيوان المستعصي أو المتردي في البئر ونحوه.
مسألة 106: إذا خاف موت الذبيحة لو اشتغل بالاستقبال بها إلى جهة القبلة فالظاهر عدم لزومه.
مسألة 107: لا يشترط في الذبح استقبال الذابح نفسه وإن كان ذلك أحوط.
مسألة 108: يتحقق استقبال الحيوان فيما إذا كان قائماً أو قاعداً بما يتحقق به استقبال الإنسان حال الصلاة في الحالتين، وأما إذا كان مضطجعاً على الأيمن أو الأيسر فيتحقق باستقبال المنحر والبطن، ولا يعتبر استقبال الوجه واليدين والرجلين.
الرابع: تسمية الذابح عليها حين الشروع في الذبح أو متصلاً به عرفاً، فلا يجزىء تسمية غير الذابح عليها، كما لا يجزىء الإتيان بها عند مقدمات الذبح كربط المذبوح؛ وإذا ترك التسمية عمداً حرمت وإذا تركها نسياناً أو جهلاً لم تحرم.
مسألة 109: يعتبر في التسمية وقوعها بهذا القصد، أي بعنوان كونها على الذبيحة بداعي الذبح، فلا تجزىء التسمية الاتفاقية أو الصادرة لغرض آخر، ولا يعتبر أن يكون الذابح ممن يعتقد وجوبها في الذبح، فيصح الذبح من غير المعتقد إذا كان قد سمّى.
مسألة 110: يجوز ذبح الأخرس، ويُكتفى في تسميته بتحريك لسانه وشفتيه تشبيهاً لمن يتلفظ بها مع ضم الإشارة بالأصبع إليه، هذا في الأخرس الأصم من الأول، وأما الأخرس لعارض مع التفاته إلى لفظها فيأتي به على قدر ما يمكنه، فإن عجز حرّك لسانه وشفتيه حين إخطاره بقلبه، وأشار بإصبعه إليه على نحوٍ يناسب تمثل لفظها إذا تمكن منها على هذا النحو، وإلا فبأي وجه ممكن.
مسألة 111: تتحقق التسمية بذكر الله تعالى مقروناً بلفظ من ألفاظ الثناء والتعظيم، مثل «الله أكبر» و«بسم الله» ونحو ذلك، بل يكفي ذكر لفظ الجلالة وحده من دون إضافة شيء إليه. وقد سبق ذكر ذلك في شروط الصيد المتقدمة.
الخامس: تحَقُّقُ قطع الأوداج بكل ما يقطعها من الآلات المعدنية الحادة، سواء في ذلك معدن الحديد أو غيره من المعادن، كالنحاس والذهب والفضة ونحوها، فضلاً عن أنه يجوز الذبح بالحديد المطلي ببعض المعادن الأخرى، مثل الستيل ونحوه.
وإذا لم يوجد المعدن جاز الذبح بكل ما يقطع الأوداج من غيره، حتى لو لم يكن هناك ضرورة تدعو للاستعجال في الذبح، كالخوف من تلف الحيوان وموته بالتأخير، فيصح الذبح بالقصب والخشب والحجارة الحادة والزجاجة ونحو ذلك. أما الذبح بالظفر والسن فلا تحل به الذبيحة ولو كان للضرورة.
السادس: قطع الأوداج الأربعة، وهي ـ كما تقدم ـ: عرْقا الدم الرئيسان الواقعان في جانبي الرقبة، والحلقوم والمريء؛ ولا يغني شقها وقطعها جزئياً عن القطع التام الكلي، كذلك فإنه يجب قطع الأربعة جميعها، فلا يغني قطع الحلقوم عن قطع سائر الأوداج، ولا غيره عن غيره؛ ولا بد من حدوث هذا القطع أثناء حياة الحيوان بنحو يستند الموت إلى قطع الأوداج الأربعة بتمامها، فلو قطع بعضها فمات الحيوان ثم قطع الباقي لم يحل.
مسألة 112: قد أفاد أهل الخبرة أن القطع من فوق «الجوزة» بالنحو الذي تبقى الجوزة فيه مع الجسد لا يعتبر قطعاً لتمام الأوداج وإن مات الحيوان به، فاللازم القطع من تحت الجوزة كي تبقى مع الرأس ويتحقق بها قطع الأوداج، لكنّ الذابح إذا أخطأ فذبح الحيوان من فوق الجوزة فالتفت وبادر إلى ذبحه من تحتها قبل موته صحّ ذبحه وحلّ به.
مسألة 113: إذا طرأ حادث على الحيوان استلزم إشرافه على الهلاك، كأن مرض أو افترسه سبع أو أصيب بجرح بالغ أو نحو ذلك، فحالـه ـ حينئـذ ـ على نحوين: الأول: أن تبقى أوداجه سليمة، فيحل بالذبح ولو لم تعلم حياته إلا من حركة يده أو طرفة عينه. الثاني: أن يستلزم ذلك الحادث تمزق بعض أوداجه، فإذا أدركه حياً وقطع بالذبح باقي الأوداج حل كذلك، أما إذا سبّب الحادث قطع أوداجه الأربعة فإنه لا يحل بإمرار السكين عليها بعد انقطاعها كلها.
مسألة 114: يجوز قطع الأوداج من القفا وتحل به الذبيحة، وإذا قطع الأوداج من جهة المذبح فإنه يجوز غرز السكين في رقبة الحيوان تحت العروق ثم تحريكها إلى الأمام لقطع الأوداج بها، وتحل بذلك الذبيحة أيضاً.
مسألة 115: ينبغي أن لا يستمر الذابح في حز المذبح حتى يفصل الرأس عن الجسد، فإن فعل ذلك عمداً لم تحرم به الذبيحة ولم يأثم وإن كُرِه منه ذلك، ولا شيء فيه لو حصل سهواً أو لحدة السكين.
ومن ذلك ما لو استمر في الحز حتى أصاب نخاعها، و(النخاع) هو: (الحبل الممتد من الرأس في الرقبة نزولاً في سلسلة الظهر)، فإنه يكره تعمد ذلك ولا تحرم به الذبيحة.
مسألة 116: ما ذكر في قطع الأوداج الأربعة إنما هو خاص بما يقبل الذبح من الحيوانات، وهي ـ كما سبق القول ـ ما عدا الجمل من حيوانات البر الأهلية أو الوحشية ومن الطيور أيضاً، أما الجمل فقد أشرنا سابقاً إلى أنه ينحر نحراً، وكيفية النحر هي: أن يدخل الآلة الحادة من سكين أو غيرها في الموضع الذي يقال له (لُبَّة)، وهو الذي قلنا سابقاً: «إنه الموضع المنخفض الواقع في أعلى الصدر متصلاً بالعنق»، بدون فرق بين أن تكون قائمة أو باركة أو ساقطة على جنبها، والأفضل نحرها قائمة.
وقد قلنا ـ أيضاً ـ: «إن النحر لا يغني عن الذبح في غير الجمل، وإن الذبح لا يغني عن نحر الجمل»، كذلك فإنه يشترط في النحر جميع ما يشترط في الذبح عدا قطع الأوداج الذي يكون بديله في النحر هو الطعن في اللبة لا غير.
الفرع الثاني ـ في ذكاة الجنين:
وفيه مسائل:
مسألة 117: تختلف ذكاة الجنين على النحو التالي:
1 ـ إذا خرج الجنين من بطن أمه حياً، واتسع الوقت لتذكيته لم يحل إلا بالذبح أو النحر، سواء كانت أمه حية أو ميتة، وسواء ماتت بالتذكية أو بدونها.
2 ـ إذا مات الجنين في بطن أمه عند موتها، فإن ماتت بالتذكية حل معها، وإن ماتت بغيرها لم يحل، وكذا لو أخرج حياً عند موتها فمات قبل أن يتسع الوقت لتذكيته.
مسألة 118: لا تجب المبادرة إلى شق بطن الحيوان بعد ذبحه وإخراج الجنين منه على الوجه المتعارف، فلو توانى عن ذلك زائداً على المقدار المتعارف فأدّى ذلك إلى موت الجنين لم يحرم أكله.
مسألة 119: يشترط في حلّ الجنين بذكاة أمّه أن يكون تام الخلقة، ويعرف ذلك بنبات الوبر أو الشعر على جسده حتى لو لم تكن قد ولجته الروح بعد، فإن لم يكن تام الخلقة لم يحل بذكاة أمّه.
مسألة 120: لا فرق في ذكاة الجنين بذكاة أمه بين محلل الأكل ومحرمه إذا كان مما يقبل التذكية.
الفرع الثالث ـ في الأحكام العامة:
وفيه مسائل:
مسألة 121: لا يشترط خروج الدم بعد الذبح أو النحر بالكمية المتعارفة له، وكذا لا يشترط تحرك شيءٍ من الحيوان بالذبح أو بعده، بل الأصل في ذلك ـ كما سبق القول ـ العلم بحياته حين ذبحه أو نحره، فإن لم تُعلم حياته حين تقديمه للذبح لم يحل أكله إلا إذا ظهرت عليه أمارات الحياة، كأن خرجت منه بعد ذبحه كمية الدم المتعارفة أو حرَّك أجفان عينيه أو شيئاً من أطرافه، حيث يكتفى بإحدى هاتين العلامتين في استكشاف حياة الحيوان وحليّته بالذبح أو النحر.
مسألة 122: إذا فُعِلَ بالحيوان بعد ذبحه ما يَستلزم موتَه لو حدث مستقلاً عن الذبح، كأن يذبحه ثم يبادر هو أو غيره إلى شق بطنه واستخراج أمعائه مثلاً، فإنه يحكم بحلية الذبيحة إذا كان موتها مستنداً إلى ذبحها لا إلى شق بطنها الذي هو مجرد أمر طارىء غير مؤثر كثيراً في موتها، وإلا لم تحل الذبيحة؛ نعم قد يحكم بحرمة هذا الفعل إذا استلزم تعذيب الحيوان أو التشنيع على الإسلام في ظروف خاصة.
أما إذا تردّى الحيوان من نفسه بعد ذبحه في بئر أو وقع من شاهق أو سقط في الماء بحيث ساعد ذلك كثيراً أو قليلاً على موته فإنه لا يحرم بذلك، خلافاً لما ذكر في الحيوان المصطاد. (أنظر المسألة 86).
مسألة 123: لا يعتبر اتحاد الذابح أو الناحر، فيجوز وقوع الذبح من اثنين على سبيل الاشتراك مقترنين بأن يأخذا السكين بيديهما ويذبحا معاً، أو يقطع أحدهما بعض الأعضاء والآخر الباقي، دفعة أو على وجه التدريج، ولا تجب التسمية منهما معاً بل يجتزأ بتسمية أحدهما على الأقوى.
مسألة 124: قلنا في مستهل هذا البحث: «إن الحيوان المحلل يحل أكله بعد تذكيته بالصيد أو الذباحة»، وهنا نزيد على ذلك فنقول: إن حلية الحيوان بهذين الأمرين لا تشمل جميع أجزاء الحيوان، بل يحرم منه أمور هي:
1 ـ الدم، ولو كان قليلاً، كمثل الذي يتخلّف ويبقى في داخل القلب أو الكبد.
2 ـ غائطه المتخلف في داخله، ويقال له: «الروث» في المواشي، و«السلح» في الطيور.
3 ـ العضو التناسلي، وهو القضيب والبيضتان من الذكر؛ والفرج ظاهره وباطنه من الأنثى، والمثانة.
4 ـ المشيمة، وهي موضع الولد.
5 ـ العَصَبان الممتدان من الرقبة على جانبي سلسلة الظهر ما بينها وبين الجلد وصولاً إلى الذَنَب، ويقال لهما: (العلباوان) مفردها (علباء)، وهي حبل أبيض قاسٍ جداً.
6 ـ خرزة الدماغ، وهو حبة تشبه الحمّص وبقدرها، يميل لونها إلى البني الغامق، وتوجد في أسفل الدماغ.
7 ـ النخاع الشوكي، وهو حبل أبيض طري يمتد في داخل سلسلة الظهر من الرقبة إلى الحوض.
8 ـ الغدد، ويقال لها: «الدّرن»، وهي كتل من اللحم لونها رمادي، وتتواجد في أماكن مختلفة من الجسم، وأكثر ما توجد في الدهن الذي يكون مع الرئتين، والمعروف في بعض البلدان بإسم «المعلاق».
9 ـ الطحال، 10 ـ المرارة، 11 ـ حدقة العين، وهي «البؤبؤ».
وما عدا ذلك فهو حلال، بما في ذلك الغضروف والأمعاء؛ وإن كان يكره الكلى وأذنا القلب؛ وأما ما لا يعتاد أكله، كالعظم والجلد من الحيوان، فإن الأحوط الأولى تركه، ولا بأس بما كان منهما من الأسماك والطيور.
ثم إنه لا يختلف الحكم بحرمة هذه الأجزاء بين ما هو موجودٌ منها في حيوان البر وبين الموجود منها في حيوان الجو أو البحر من الطيور والأسماك، وإن كان الموجود من هذه الأعضاء في الطيور أقلّ مما في الحيوان، وما في الأسماك منها أقل مما في الطيور.