الفرع الثاني ـ في كيفية التطهير بالماء:
قلنا: إنَّ الماء هو أهم المطهرات من جهة إمكان تطهير معظم الأشياء المتنجسة به، وقوّة أثره في إزالة النجاسة وحصول النظافة التامة به. ولما كان الماء كثيراً تارة وقليلاً أخرى، وكانت الأشياء المتنجسة والأعيان النجسة المسببة لنجاستها مختلفة، فإنَّ تفصيل أحكام التطهير بالماء هو على النحو التالي:
شروط التطهير:
من أجل تحقّق التطهير بالماء لا بُدَّ من توفر أمور:
1 ـ إزالة عين النجاسة إذا كان أثر النجاسة موجوداً على الشيء الذي تنجس بها، كمثل أثر الدم أو الغائط أو المني أو اللبن أو الوحل المتنجسين، ونحو ذلك مما يكون من أثر نفس عين النجاسة أو المتنجس بها. ومن الطبيعي أن تكون إزالة عين النجاسة مقدمة ضرورية لحصول التطهير، لأنه لا معنى للتطهير ولا تَحقُّقَ له إلاَّ بإزالة أثر النجاسة وعينها من الأساس.
ولما كانت الشريعة مبنية على التساهل والتسامح فإنه يكفي في إزالة عين النجاسة إزالة جرمها المخصوص الظاهر، من دون ضرورة لإزالة اللون أو الرائحة، وإن كانت إزالتهما أفضل وأكمل في الطهارة.
مسألة 122: لا يشترط إزالة عين النجاسة بالماء بل تكفي إزالتها بكلّ وسيلة قالعة لها، كالورق والحجر والمسح بالأرض أو الأخشاب ونحو ذلك.
وإذا أراد المكلّف إزالتها بالماء فإنه لا يجب فصل غسلة الإزالة عن غسلة التطهير، فيمكن للمكلّف أن يصبّ الماء على الشيء المتنجس حتى تزول عين النجاسة ويستمر بالصب قليلاً بعد الإزالة ليحصل به التطهير، ويكفيه ذلك من دون حاجة إلى غسلتين، غسلة لإزالة عين النجاسة، فيقطع، ثُمَّ يغسل غسلة ثانية لتطهير الشيء المتنجس، وإن كان ذلك حسناً، خاصة في التطهير من البول.
2 ـ التعدّد: والمراد به صبّ الماء أكثر من مرة، وهو واجب عند تنجس بعض الأشياء ببعض الأعيان النجسة، كما سيأتي تفصيله لاحقاً. ومن الضروري تعدّد الصبّ بالقطع بين الصبة والصبة ليتحقّق الغَسل أكثر من مرة، فلا يكفي صبّ كمية كبيرة من الماء دفعة واحدة بما يقدر بثلاث أو سبع غسلات من دون فصل بين الغسلة والأخرى. كذلك فإنَّ غسلة إزالة عين النجاسة تحسب من عدد الغسلات، ففي الإناء المتنجس بالدم مثلاً يجب تغسيله بالماء القليل ثلاث مرات، فالغسلة التي يزال فيها أثر الدم عن الإناء بالماء تحسب الغسلة الأولى، كما ذكرنا في الشرط السابق، ويغسله مرتين بعدها فيطهر، وهكذا في سائر موارد التعدّد.
3 ـ بقاء الماء على إطلاقه عند التطهير به، فإذا تغير الماء المعتصم الذي في الطشت مثلاً لحظة وضع الشيء المتنجس فيه، كالجبن المقطع أو الثوب المصبوغ أو الخضروات المقطعة، لتطهيره لـم يطهر بذلك إذا تحول الماء عن الإطلاق إلى الإضافة، بل لا بُدَّ من تغيير ذلك الماء مرة بعد مرة حتى يتم وضع الشيء المتنجس في ماء نقية ليطهر.
نعم إذا لـم يتغير الماء فوراً عند وضع المتنجس فيه واستولى عليه ونفذ فيه ثُمَّ تغير بعد ذلك فإنه يطهر حينئذ. وهنا لا بُدَّ من ملاحظة أنَّ الشيء المتنجس إذا كان مما يجب التعدّد فيه احتسبت تلك الغسلات المتغيرة من العدد، ولم يضره تغير الماء في الغسلات الأولى، وكفاه كون الماء نقياً في الغسلة الأخيرة.
4 ـ صب الماء القليل وإلقاؤه على المتنجس، فإنْ وُضعَ المتنجس فيه تنجس الماء ولم يطهر المتنجس، ويعبّر الفقهاء عن ذلك بورود الماء على المتنجس لا ورود المتنجس على الماء، أي أنه يجب جعل الماء على المتنجس لا جعل المتنجس في الماء. أمّا الماء الكثير فإنه لا يشترط فيه ذلك لاعتصامه، فيصح وضع المتنجس فيه ويطهر ويبقى الماء طاهراً إذا لـم يتغير بالنجاسة كما ذكرنا آنفاً.
5 ـ تحرّك ماء الغُسالة وانتقاله عن الموضع المتنجس، فإن كان التطهير بالماء القليل وكان الواجب غسل المتنجس مرة واحدة كفى في تحقّق الانتقال مجرّد ابتعاد الماء عن الموضع المتنجس وجريانه عنه بنفسه أو بدفعه باليد أو بآلة كالممسحة أو بالتنشيف بقطعة قماش، وحينئذ لا تتنجس الآلة ولا قطعة القماش بذلك لأنَّ ماء الغسالة محكوم بالطهارة في مثل هذه الحالة، وكذلك الحكم في الغسلة الأخيرة عند وجوب التعدّد، أمّا في غير الغسلة الأخيرة فإنه وإن كانت الغسالة نجسة، فإنها لا تُنجِّس المواضع الطاهرة التي تجري عليها، كما أنها إذا دفعت بآلة أو جففت بثوب لا تنجس الآلة أو الثوب، والسبب في ذلك أنَّ ماء الغسالة يعتبر «متنجساً ثانياً» فلا ينجِّس ما يلاقيه (كما ذكرنا في المسألة 80).
أمّا إذا كان التطهير بالماء الكثير بالصب منه على الموضع المتنجس فإنه في صورة عدم وجوب التعدّد لا يجب انتقال ماء الغسالة عن الموضع المتنجس، وكذا في الغسلة الأخيرة عند وجوب التعدّد، أمّا غير الغسلة الأخيرة فحكمها حكم الماء القليل في لزوم توفر ذلك الشرط.
وحيث يجب تحريك ماء الغسالة ونقلها عن الموضع المتنجس فإنه لا يضر بقاء القليل من الماء مما جرت العادة ببقائه.
هذا كلّه في غير الثوب، أمّا عند تطهير الثوب بالماء القليل فإنه لا بُدَّ من العصر أو الدلك من أجل إخراج ماء الغسالة، وذلك على التفصيل الآتي.
في تطهير الثوب ونحوه:
مسألة 123: يجب في تطهير الثوب أو الفراش ونحوه من جميع النجاسات غسله مرة واحدة، وذلك بعد إزالة عين النجاسة بالماء أو بغيره، بغسلة منفصلة أو متصلة بغسلة التطهير إذا كانت الإزالة تتم بالماء، ولا فرق في ذلك بين الماء القليل والكثير، ولا بين البول وغيره، ولا بين بول الرضيع وغيره، وإن كان الأحوط استحباباً في البول الفصل بين غسلة الإزالة وغسلة التطهير، سواء في ذلك الثوب وغيره.
هذا ولا يجب عصر الثوب ولا دلك ما لا يقبل العصر كالفراش عند تطهيره إلاَّ عند نفوذ النجاسة فيه وتطهيره بالماء القليل، كما في حالة تنجسه بالبول أو الدم أو الماء القليل المتنجس أو نحو ذلك، فإن لـم تنفذ فيه النجاسة بل لامست سطح الثوب أو الفراش فلا يجب عصره ولا دلكه. أمّا عند تطهيره بالماء الكثير فإنه لا يجب عصره ولا دلكه حتى عند نفوذ النجاسة فيه إلاَّ في صورة بقاء عين النجاسة وإزالتها بالماء فإنه يجب عصره ـ حينئذ ـ من غسلة الإزالة هذه.
مسألة 124: لا يشترط في العصر والدلك كيفية خاصة، فيجزي في العصر الاعتماد على سرعة الدوران في الغسالات الكهربائية لشفط الماء من الثوب، كذلك يكفي في الدلك وضع شيء ثقيل على الفراش أو السجاد وتركه كذلك حتى يخرج منه ماء الغسالة.
مسألة 125: يتحقّق التطهير بالغسالة الأتوماتيكية الحديثة، حتى مع فرض تلوث جوانب الحوض بعصارة الغسيل المتنجس، لأنَّ الحوض يطهر تبعاً لطهارة الثياب الموجودة فيه ما دام الماء الطاهر يصيب تلك الأماكن المتنجسة.
مسألة 126: الثوب الذي عليه بقايا من عين النجاسة، كالغائط مثلاً، إذا كان بين الثياب المطهرة لا تنجس به سائر الثياب إلاَّ أن يعلم سيلان الماء المتنجس من نفس المكان الملوث بالغائط إلى ما يجاوره، ومع الشك في ذلك يحكم بالطهارة. وكذلك الحكم في غير الثوب من الأشياء المتنجسة إذا بقي أثر النجاسة على بعضها.
مسألة 127: إذا وجد في الثوب أثر لمساحيق التنظيف المتنجسة، فإن كانت هذه المواد من قبيل أجزاء الصابون ونفذ فيها الماء طهر باطنها بذلك، أمّا ظاهرها فإنه يطهر ـ دائماً ـ بتطهيـر الثوب، وإن كانت من قبيل المائعات التي لها جرم معين، كالشامبو ونحوه، فإنه لا بُدَّ من تطهير موضعها ما لـم يكن الأثر من قبيل اللون.
في تطهير الأواني:
مسألة 128: المراد بالإناء ما يستخدم في الطعام أو الشراب، مثل القدور والصواني والصحون والكؤوس والأباريق ونحوها مما يحفظ أو يعدّ أو يقدّم فيها الطعام أو الشراب، ولا يشمل مثل الطشت مما يستخدم لغسل الخضروات أو الثياب حتى لو وضع فيه الطعام استثناء، والمرجع في ذلك هو عرف كلّ جيل وزمانه مما يختلف بحسب المجتمعات والأزمنة.
مسألة 129: إذا ولغ الكلب من إناء، أي شرب منه بطرف لسانه، أو شرب منه من دون ولوغ، كأن يكون مقطوع اللسان، أو لحسه بلسانه من دون شرب، وجب تعفيره بالتراب قبل التطهير بالماء، والأحوط وجوباً كون التراب طاهراً. والمراد بالتعفير أن يوضع في الإناء مقدار من التراب أو الرمل، ثُمَّ يوضع معه مقدار من الماء، فيمسح الإناء بالمزيج من التراب والماء، ثُمَّ يغسل بالماء لإزالة أثر التراب، ثُمَّ يغسل بالكثير مرة أو بالقليل مرتين. ولا يغني الوحل عن التراب، وفي صورة ما لو كان الإناء فارغاً فلحسه بلسانه لـم يجب تعفير جميع الإناء، بل يقتصر على موضع الملاقاة.
كذلك فإنه لا يجب التعفير لمجرّد وقوع لعابه فيه من دون ولوغ أو لطع. وفي الآنية الضيقة يكفي وضع التراب والماء فيه وإدارته حتى يصل إلى تمام المواضع المتنجسة ثُمَّ إلقاؤه وغسله بالماء كما سلف.
مسألة 130: يجب تطهير الإناء من شرب الخنزير منه أو موت الجرذ فيه سبع مرات بالماء الكثير أو القليل، والمراد بالجرذ الفأر الكبير البري، فلا يشمل الفأر الصغير الذي يعيش في البيوت أو في البرية، بل إنها لو ماتت في الإناء لحقها حكم غيرها من النجاسات، مرة بالماء الكثير، أو ثلاث مرات بالماء القليل، كذلك فإنه لا بُدَّ من حدوث الموت في الإناء، فلو وضع الجرذ الميت في الإناء الرطب كان حكمه في التطهير حكم سائر النجاسات.
مسألة 131: لا ينجس الإناء بملاقاة الخمر، وإن كان الأحوط استحبابا تطهيره ثلاث مرات بالماء القليل أو الكثير.
مسألة 132: إذا تنجس الإناء بغير ما سلف من النجاسات فإنَّ الواجب تطهيره ثلاث مرات بالماء القليل، أو مرة واحدة بالماء الكثير.
مسألة 133: يمكن تطهير الإناء بالماء القليل بوضع مقدار من الماء فيه وإدارته حتى يصل إلى جميع المواضع المتنجسة وإفراغه، ثُمَّ يوضع ماء جديد مرة ثانية ويفعل به كذلك، وهكذا، كما يمكن تطهيره بملئه وإفراغه مرة بعد مرة مع تجديد الماء في كلّ مرة إلى أن يتمّ العدد المطلوب.
مسألة 134: الأواني الكبيرة المثبتة التي يصعب إفراغ الماء منها يمكن تطهيرها بالماء القليل بصب الماء فيها ثُمَّ إخراج الماء المجتمع بآلة مثل الإسفنجة ونحوها، ثُمَّ يُصب فيها ماء جديد ويُخرج بالإسفنجة، وهكذا يفعل ذلك بعدد المرات الواجبة لحصول الطهارة،هذا ولا تتنجس الإسفنجة خلال ذلك بماء الغسالة لأنه متنجس ثانٍ.
في تطهير سائر المتنجسات:
مسألة 135: اللحم أو الحبــوب أو الخضـروات المتنجسـة ـ ما لـم تنفذ النجاسة إلى باطنها ـ يمكن تطهيرها بوضعها في طشت وصب الماء القليل حتى يستولي عليها وعلى ما تنجس من الطشت مرة واحدة ثُمَّ إفراغه من الماء، فتطهر الخضروات ويطهر الطشت تبعاً لها، هذا إذا وضعت في مثل الطشت، أمّا إذا وضعت في آنية، مثل القدر، فإنه حيث يتنجس بها الإناء لا يكفي تطهيره مرة بالقليل، بل لا بُدَّ من تطهيره مع ما فيه ثلاث مرات. أمّا مع نفوذ النجاسة إلى باطنها كما في البرغل أو الجبن أو الخبز ونحوها فإنه لا بُدَّ من وضعها في الماء المعتصم، كالكر ونحوه، حتى ينفذ الماء الطاهر إلى باطنها فتطهر، ولا تطهر بوضعها في الماء القليل، نعم إذا كان باطنها غير صلب بحيث ينفذ الماء فيه بسهولة فإنه يكفي في طهارتها ـ حينئذ ـ صب الماء القليل عليها كغيرها من المتنجسات.
مسألة 136: لا يشترط جفاف الباطن المتنجس عند تطهيره، بل المهم إبقاؤه في الماء مدّة يعلم معها بنفوذ الماء الطاهر إلى المواضع التي نفذ فيها الماء المتنجس، أو الاستمرار في الصب من الماء القليل حتى يعلم تغلغله في جميع الباطن المتنجس.
مسألة 137: إذا شك في نفوذ النجاسة إلى الباطن يبني على عدم النفوذ ويحكم بطهارته، وإذا علم بنفوذ النجاسة لكن شك في نفوذ الماء الطاهر إلى ذلك الموضع النجس بنى على عدم النفوذ وعلى بقاء النجاسة.
مسألة 138: الزيوت والدهون لا تطهر إذا تنجست حتى لو وضعت في كر ماء حار يغلي وتحللت ثُمَّ اجتمعت بعد برد الماء، فلا تستعمل ـ والحالة هذه ـ إلاَّ في مثل التداوي والإسراج ونحوهما مما لا يشترط فيه الطهارة.
مسألة 139: إذا تنجس الحليب لا يطهر إلاَّ بصنعه جنباً وجعله في ماء الكر حتى ينفذ الماء إلى داخله فيطهره.
مسألة 140: قد تتنجس الحلي أثناء صوغها لنجاسة الأواني التي يذوب فيها المعدن مثلاً، فإنه يكفي تطهير ظاهرها بعد صياغتها، خاصة وأنه لا يعلم بنفوذ النجاسة في مثل المعدن المذاب إلى الباطن كي تترتب أحكام أخرى.
مسألة 141: لا يمنع مجرّد الدسم الموجود على اللحم أو الشحم أو اليد أو الزيتون من تطهيرها بالماء ما دام ليس له جرم ظاهر، والأمر كذلك في اللحم المطبوخ إذا تنجس مرقه فإنه يمكن إخراجه من المرق وتطهيره، لكن في هذه الحالة لا بُدَّ من نفوذ الماء الطاهر إلى ما نفذ إليه الماء المتنجس، وذلك كما سلف القول في أمثاله في المسألة 135.
مسألة 142: الطعام المتنجس الذي يعلق بين الأسنان يبقى على النجاسة، لكنه لا يتنجس به الباطن، نعم يحرم ابتلاعه وابتلاع ما يلاقيه من الطعام الجديد الذي سوف يتنجس به، ويطهر ظاهره بالمضمضة، وكذا باطنه إذا نفذ الماء الطاهر إليه، أمّا نفس باطن الفم فإنه يطهر بزوال عين النجاسة أو المتنجس منه من دون ضرورة لتطهيره بالماء كما سيأتي في المسألة 172 وما بعدها.
الفرع الثاني ـ في كيفية التطهير بالماء:
قلنا: إنَّ الماء هو أهم المطهرات من جهة إمكان تطهير معظم الأشياء المتنجسة به، وقوّة أثره في إزالة النجاسة وحصول النظافة التامة به. ولما كان الماء كثيراً تارة وقليلاً أخرى، وكانت الأشياء المتنجسة والأعيان النجسة المسببة لنجاستها مختلفة، فإنَّ تفصيل أحكام التطهير بالماء هو على النحو التالي:
شروط التطهير:
من أجل تحقّق التطهير بالماء لا بُدَّ من توفر أمور:
1 ـ إزالة عين النجاسة إذا كان أثر النجاسة موجوداً على الشيء الذي تنجس بها، كمثل أثر الدم أو الغائط أو المني أو اللبن أو الوحل المتنجسين، ونحو ذلك مما يكون من أثر نفس عين النجاسة أو المتنجس بها. ومن الطبيعي أن تكون إزالة عين النجاسة مقدمة ضرورية لحصول التطهير، لأنه لا معنى للتطهير ولا تَحقُّقَ له إلاَّ بإزالة أثر النجاسة وعينها من الأساس.
ولما كانت الشريعة مبنية على التساهل والتسامح فإنه يكفي في إزالة عين النجاسة إزالة جرمها المخصوص الظاهر، من دون ضرورة لإزالة اللون أو الرائحة، وإن كانت إزالتهما أفضل وأكمل في الطهارة.
مسألة 122: لا يشترط إزالة عين النجاسة بالماء بل تكفي إزالتها بكلّ وسيلة قالعة لها، كالورق والحجر والمسح بالأرض أو الأخشاب ونحو ذلك.
وإذا أراد المكلّف إزالتها بالماء فإنه لا يجب فصل غسلة الإزالة عن غسلة التطهير، فيمكن للمكلّف أن يصبّ الماء على الشيء المتنجس حتى تزول عين النجاسة ويستمر بالصب قليلاً بعد الإزالة ليحصل به التطهير، ويكفيه ذلك من دون حاجة إلى غسلتين، غسلة لإزالة عين النجاسة، فيقطع، ثُمَّ يغسل غسلة ثانية لتطهير الشيء المتنجس، وإن كان ذلك حسناً، خاصة في التطهير من البول.
2 ـ التعدّد: والمراد به صبّ الماء أكثر من مرة، وهو واجب عند تنجس بعض الأشياء ببعض الأعيان النجسة، كما سيأتي تفصيله لاحقاً. ومن الضروري تعدّد الصبّ بالقطع بين الصبة والصبة ليتحقّق الغَسل أكثر من مرة، فلا يكفي صبّ كمية كبيرة من الماء دفعة واحدة بما يقدر بثلاث أو سبع غسلات من دون فصل بين الغسلة والأخرى. كذلك فإنَّ غسلة إزالة عين النجاسة تحسب من عدد الغسلات، ففي الإناء المتنجس بالدم مثلاً يجب تغسيله بالماء القليل ثلاث مرات، فالغسلة التي يزال فيها أثر الدم عن الإناء بالماء تحسب الغسلة الأولى، كما ذكرنا في الشرط السابق، ويغسله مرتين بعدها فيطهر، وهكذا في سائر موارد التعدّد.
3 ـ بقاء الماء على إطلاقه عند التطهير به، فإذا تغير الماء المعتصم الذي في الطشت مثلاً لحظة وضع الشيء المتنجس فيه، كالجبن المقطع أو الثوب المصبوغ أو الخضروات المقطعة، لتطهيره لـم يطهر بذلك إذا تحول الماء عن الإطلاق إلى الإضافة، بل لا بُدَّ من تغيير ذلك الماء مرة بعد مرة حتى يتم وضع الشيء المتنجس في ماء نقية ليطهر.
نعم إذا لـم يتغير الماء فوراً عند وضع المتنجس فيه واستولى عليه ونفذ فيه ثُمَّ تغير بعد ذلك فإنه يطهر حينئذ. وهنا لا بُدَّ من ملاحظة أنَّ الشيء المتنجس إذا كان مما يجب التعدّد فيه احتسبت تلك الغسلات المتغيرة من العدد، ولم يضره تغير الماء في الغسلات الأولى، وكفاه كون الماء نقياً في الغسلة الأخيرة.
4 ـ صب الماء القليل وإلقاؤه على المتنجس، فإنْ وُضعَ المتنجس فيه تنجس الماء ولم يطهر المتنجس، ويعبّر الفقهاء عن ذلك بورود الماء على المتنجس لا ورود المتنجس على الماء، أي أنه يجب جعل الماء على المتنجس لا جعل المتنجس في الماء. أمّا الماء الكثير فإنه لا يشترط فيه ذلك لاعتصامه، فيصح وضع المتنجس فيه ويطهر ويبقى الماء طاهراً إذا لـم يتغير بالنجاسة كما ذكرنا آنفاً.
5 ـ تحرّك ماء الغُسالة وانتقاله عن الموضع المتنجس، فإن كان التطهير بالماء القليل وكان الواجب غسل المتنجس مرة واحدة كفى في تحقّق الانتقال مجرّد ابتعاد الماء عن الموضع المتنجس وجريانه عنه بنفسه أو بدفعه باليد أو بآلة كالممسحة أو بالتنشيف بقطعة قماش، وحينئذ لا تتنجس الآلة ولا قطعة القماش بذلك لأنَّ ماء الغسالة محكوم بالطهارة في مثل هذه الحالة، وكذلك الحكم في الغسلة الأخيرة عند وجوب التعدّد، أمّا في غير الغسلة الأخيرة فإنه وإن كانت الغسالة نجسة، فإنها لا تُنجِّس المواضع الطاهرة التي تجري عليها، كما أنها إذا دفعت بآلة أو جففت بثوب لا تنجس الآلة أو الثوب، والسبب في ذلك أنَّ ماء الغسالة يعتبر «متنجساً ثانياً» فلا ينجِّس ما يلاقيه (كما ذكرنا في المسألة 80).
أمّا إذا كان التطهير بالماء الكثير بالصب منه على الموضع المتنجس فإنه في صورة عدم وجوب التعدّد لا يجب انتقال ماء الغسالة عن الموضع المتنجس، وكذا في الغسلة الأخيرة عند وجوب التعدّد، أمّا غير الغسلة الأخيرة فحكمها حكم الماء القليل في لزوم توفر ذلك الشرط.
وحيث يجب تحريك ماء الغسالة ونقلها عن الموضع المتنجس فإنه لا يضر بقاء القليل من الماء مما جرت العادة ببقائه.
هذا كلّه في غير الثوب، أمّا عند تطهير الثوب بالماء القليل فإنه لا بُدَّ من العصر أو الدلك من أجل إخراج ماء الغسالة، وذلك على التفصيل الآتي.
في تطهير الثوب ونحوه:
مسألة 123: يجب في تطهير الثوب أو الفراش ونحوه من جميع النجاسات غسله مرة واحدة، وذلك بعد إزالة عين النجاسة بالماء أو بغيره، بغسلة منفصلة أو متصلة بغسلة التطهير إذا كانت الإزالة تتم بالماء، ولا فرق في ذلك بين الماء القليل والكثير، ولا بين البول وغيره، ولا بين بول الرضيع وغيره، وإن كان الأحوط استحباباً في البول الفصل بين غسلة الإزالة وغسلة التطهير، سواء في ذلك الثوب وغيره.
هذا ولا يجب عصر الثوب ولا دلك ما لا يقبل العصر كالفراش عند تطهيره إلاَّ عند نفوذ النجاسة فيه وتطهيره بالماء القليل، كما في حالة تنجسه بالبول أو الدم أو الماء القليل المتنجس أو نحو ذلك، فإن لـم تنفذ فيه النجاسة بل لامست سطح الثوب أو الفراش فلا يجب عصره ولا دلكه. أمّا عند تطهيره بالماء الكثير فإنه لا يجب عصره ولا دلكه حتى عند نفوذ النجاسة فيه إلاَّ في صورة بقاء عين النجاسة وإزالتها بالماء فإنه يجب عصره ـ حينئذ ـ من غسلة الإزالة هذه.
مسألة 124: لا يشترط في العصر والدلك كيفية خاصة، فيجزي في العصر الاعتماد على سرعة الدوران في الغسالات الكهربائية لشفط الماء من الثوب، كذلك يكفي في الدلك وضع شيء ثقيل على الفراش أو السجاد وتركه كذلك حتى يخرج منه ماء الغسالة.
مسألة 125: يتحقّق التطهير بالغسالة الأتوماتيكية الحديثة، حتى مع فرض تلوث جوانب الحوض بعصارة الغسيل المتنجس، لأنَّ الحوض يطهر تبعاً لطهارة الثياب الموجودة فيه ما دام الماء الطاهر يصيب تلك الأماكن المتنجسة.
مسألة 126: الثوب الذي عليه بقايا من عين النجاسة، كالغائط مثلاً، إذا كان بين الثياب المطهرة لا تنجس به سائر الثياب إلاَّ أن يعلم سيلان الماء المتنجس من نفس المكان الملوث بالغائط إلى ما يجاوره، ومع الشك في ذلك يحكم بالطهارة. وكذلك الحكم في غير الثوب من الأشياء المتنجسة إذا بقي أثر النجاسة على بعضها.
مسألة 127: إذا وجد في الثوب أثر لمساحيق التنظيف المتنجسة، فإن كانت هذه المواد من قبيل أجزاء الصابون ونفذ فيها الماء طهر باطنها بذلك، أمّا ظاهرها فإنه يطهر ـ دائماً ـ بتطهيـر الثوب، وإن كانت من قبيل المائعات التي لها جرم معين، كالشامبو ونحوه، فإنه لا بُدَّ من تطهير موضعها ما لـم يكن الأثر من قبيل اللون.
في تطهير الأواني:
مسألة 128: المراد بالإناء ما يستخدم في الطعام أو الشراب، مثل القدور والصواني والصحون والكؤوس والأباريق ونحوها مما يحفظ أو يعدّ أو يقدّم فيها الطعام أو الشراب، ولا يشمل مثل الطشت مما يستخدم لغسل الخضروات أو الثياب حتى لو وضع فيه الطعام استثناء، والمرجع في ذلك هو عرف كلّ جيل وزمانه مما يختلف بحسب المجتمعات والأزمنة.
مسألة 129: إذا ولغ الكلب من إناء، أي شرب منه بطرف لسانه، أو شرب منه من دون ولوغ، كأن يكون مقطوع اللسان، أو لحسه بلسانه من دون شرب، وجب تعفيره بالتراب قبل التطهير بالماء، والأحوط وجوباً كون التراب طاهراً. والمراد بالتعفير أن يوضع في الإناء مقدار من التراب أو الرمل، ثُمَّ يوضع معه مقدار من الماء، فيمسح الإناء بالمزيج من التراب والماء، ثُمَّ يغسل بالماء لإزالة أثر التراب، ثُمَّ يغسل بالكثير مرة أو بالقليل مرتين. ولا يغني الوحل عن التراب، وفي صورة ما لو كان الإناء فارغاً فلحسه بلسانه لـم يجب تعفير جميع الإناء، بل يقتصر على موضع الملاقاة.
كذلك فإنه لا يجب التعفير لمجرّد وقوع لعابه فيه من دون ولوغ أو لطع. وفي الآنية الضيقة يكفي وضع التراب والماء فيه وإدارته حتى يصل إلى تمام المواضع المتنجسة ثُمَّ إلقاؤه وغسله بالماء كما سلف.
مسألة 130: يجب تطهير الإناء من شرب الخنزير منه أو موت الجرذ فيه سبع مرات بالماء الكثير أو القليل، والمراد بالجرذ الفأر الكبير البري، فلا يشمل الفأر الصغير الذي يعيش في البيوت أو في البرية، بل إنها لو ماتت في الإناء لحقها حكم غيرها من النجاسات، مرة بالماء الكثير، أو ثلاث مرات بالماء القليل، كذلك فإنه لا بُدَّ من حدوث الموت في الإناء، فلو وضع الجرذ الميت في الإناء الرطب كان حكمه في التطهير حكم سائر النجاسات.
مسألة 131: لا ينجس الإناء بملاقاة الخمر، وإن كان الأحوط استحبابا تطهيره ثلاث مرات بالماء القليل أو الكثير.
مسألة 132: إذا تنجس الإناء بغير ما سلف من النجاسات فإنَّ الواجب تطهيره ثلاث مرات بالماء القليل، أو مرة واحدة بالماء الكثير.
مسألة 133: يمكن تطهير الإناء بالماء القليل بوضع مقدار من الماء فيه وإدارته حتى يصل إلى جميع المواضع المتنجسة وإفراغه، ثُمَّ يوضع ماء جديد مرة ثانية ويفعل به كذلك، وهكذا، كما يمكن تطهيره بملئه وإفراغه مرة بعد مرة مع تجديد الماء في كلّ مرة إلى أن يتمّ العدد المطلوب.
مسألة 134: الأواني الكبيرة المثبتة التي يصعب إفراغ الماء منها يمكن تطهيرها بالماء القليل بصب الماء فيها ثُمَّ إخراج الماء المجتمع بآلة مثل الإسفنجة ونحوها، ثُمَّ يُصب فيها ماء جديد ويُخرج بالإسفنجة، وهكذا يفعل ذلك بعدد المرات الواجبة لحصول الطهارة،هذا ولا تتنجس الإسفنجة خلال ذلك بماء الغسالة لأنه متنجس ثانٍ.
في تطهير سائر المتنجسات:
مسألة 135: اللحم أو الحبــوب أو الخضـروات المتنجسـة ـ ما لـم تنفذ النجاسة إلى باطنها ـ يمكن تطهيرها بوضعها في طشت وصب الماء القليل حتى يستولي عليها وعلى ما تنجس من الطشت مرة واحدة ثُمَّ إفراغه من الماء، فتطهر الخضروات ويطهر الطشت تبعاً لها، هذا إذا وضعت في مثل الطشت، أمّا إذا وضعت في آنية، مثل القدر، فإنه حيث يتنجس بها الإناء لا يكفي تطهيره مرة بالقليل، بل لا بُدَّ من تطهيره مع ما فيه ثلاث مرات. أمّا مع نفوذ النجاسة إلى باطنها كما في البرغل أو الجبن أو الخبز ونحوها فإنه لا بُدَّ من وضعها في الماء المعتصم، كالكر ونحوه، حتى ينفذ الماء الطاهر إلى باطنها فتطهر، ولا تطهر بوضعها في الماء القليل، نعم إذا كان باطنها غير صلب بحيث ينفذ الماء فيه بسهولة فإنه يكفي في طهارتها ـ حينئذ ـ صب الماء القليل عليها كغيرها من المتنجسات.
مسألة 136: لا يشترط جفاف الباطن المتنجس عند تطهيره، بل المهم إبقاؤه في الماء مدّة يعلم معها بنفوذ الماء الطاهر إلى المواضع التي نفذ فيها الماء المتنجس، أو الاستمرار في الصب من الماء القليل حتى يعلم تغلغله في جميع الباطن المتنجس.
مسألة 137: إذا شك في نفوذ النجاسة إلى الباطن يبني على عدم النفوذ ويحكم بطهارته، وإذا علم بنفوذ النجاسة لكن شك في نفوذ الماء الطاهر إلى ذلك الموضع النجس بنى على عدم النفوذ وعلى بقاء النجاسة.
مسألة 138: الزيوت والدهون لا تطهر إذا تنجست حتى لو وضعت في كر ماء حار يغلي وتحللت ثُمَّ اجتمعت بعد برد الماء، فلا تستعمل ـ والحالة هذه ـ إلاَّ في مثل التداوي والإسراج ونحوهما مما لا يشترط فيه الطهارة.
مسألة 139: إذا تنجس الحليب لا يطهر إلاَّ بصنعه جنباً وجعله في ماء الكر حتى ينفذ الماء إلى داخله فيطهره.
مسألة 140: قد تتنجس الحلي أثناء صوغها لنجاسة الأواني التي يذوب فيها المعدن مثلاً، فإنه يكفي تطهير ظاهرها بعد صياغتها، خاصة وأنه لا يعلم بنفوذ النجاسة في مثل المعدن المذاب إلى الباطن كي تترتب أحكام أخرى.
مسألة 141: لا يمنع مجرّد الدسم الموجود على اللحم أو الشحم أو اليد أو الزيتون من تطهيرها بالماء ما دام ليس له جرم ظاهر، والأمر كذلك في اللحم المطبوخ إذا تنجس مرقه فإنه يمكن إخراجه من المرق وتطهيره، لكن في هذه الحالة لا بُدَّ من نفوذ الماء الطاهر إلى ما نفذ إليه الماء المتنجس، وذلك كما سلف القول في أمثاله في المسألة 135.
مسألة 142: الطعام المتنجس الذي يعلق بين الأسنان يبقى على النجاسة، لكنه لا يتنجس به الباطن، نعم يحرم ابتلاعه وابتلاع ما يلاقيه من الطعام الجديد الذي سوف يتنجس به، ويطهر ظاهره بالمضمضة، وكذا باطنه إذا نفذ الماء الطاهر إليه، أمّا نفس باطن الفم فإنه يطهر بزوال عين النجاسة أو المتنجس منه من دون ضرورة لتطهيره بالماء كما سيأتي في المسألة 172 وما بعدها.