الأول ـ في الاجتهاد:
وفيه مسائل:
مسألة 9: الاجتهاد: هو بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة، وذلك بعد حيازة العالـم وإلمامه بالمقدار اللازم من العلوم التي لها علاقة بالشريعة، والتي تعطيه المقدرة على ذلك.
مسألة 10: لما كان الاجتهاد من الأمور المهمة في حياة الأمّة، فإنَّه يعتبر واجباً كفائياً على كلّ فرد، فإذا تصدّى له وقام به من تتحقق به الغاية سقط الوجوب عن سائر المكلّفين، وإذا لـم يتصدّ إلاَّ غير القادر مالياً جاز البذل له من أموال الحقوق الشرعية، وإلاَّ وجب على النّاس البذل من أموالهم.
مسألة 11: حيث يحوز المجتهد على ملكة الاستنباط ويملك المقدرة عليه فإنَّه يمكن أن تسنح له الظروف ويؤاتيه الوقت ليستخرج جميع الأحكام التي يحتاج إليها، أو معظمها، فهذا هو المجتهد المطلق. وقد لا تؤاتيه الفرصة إلاَّ لاستنباط بعض الأحكام في بعض النواحي، فهذا هو المجتهد المتجزئ. فالإطلاق والتجزؤ ـ عندنـا ـ لا يتحقّق في نفس القابلية والملكة، بل في مدى المبذول ومساحته، من جهة مواءمة الظروف وعدمها، خلافاً لمن يرى غير ذلك من الفقهاء.
مسألة 12: لا يجوز للمجتهد تقليد غيره، بل يجب عليه العمل برأي نفسه في كلّ مسألة له رأي فيها. نعم في المسائل التي ليس له رأي فيها يجوز له تقلد غيره إلى أن يصبح له رأي خاص فيها، كما يجوز له العمل بالاحتياط، من دون فرق في ذلك بين المجتهد المطلق والمتجزئ.
مسألة 13: يعرف اجتهاد العالـم ـ وكذا أعلميته ـ بأمور:
الأول: المعرفة المباشرة بالمجتهد من قبل الخبير القادر على التمييز ولو لـم يكن مجتهداً، وذلك من خلال التعلّم عنده أو تعليمه، أو من خلال محاورته ومناقشته، أو من خلال الاطلاع على بحوثه ومؤلفاته، وذلك بنحو يحصل له اليقين أو الاطمئنان القريب من اليقين بأنَّه مجتهد.
الثاني: اشتهار وشيوع اجتهاده بين النّاس أو في الحوزات العلمية، بنحو يفيد اليقين أو الاطمئنان باجتهاده.
الثالث: شهادة أهل الخبرة، وتتحقّق بشهادة العدلين، أو العدل الواحد، أو الثقة. والخبير ـ في حدّه الأدنى ـ من له مرتبة من الفضيلة العلمية والمعرفة بالفقه والأصول تجعله قادراً على التمييز واتخاذ الموقف الواضح من اجتهاد الآخر أو أعلميته، ولا يشترط فيه الاجتهاد. وعند اختلاف أهل الخبرة لا تتساقط الشهادات، بل يُرجَّح بينها بقوّة الخبرة عند التفاوت فيها، أو بكثرة الشهادات في هذا الجانب وقلتها في الآخر عند التساوي في مستوى الخبرة أو عدم العلم بالتفاوت، وذلك جرياً على طريقة العقلاء في تقديـم بعض الخبراء على بعض عند وجود المرجحات، ومع فرض التساوي في الخبرة والعدد تتساقط الشهادات.
مسألة 14: لا يجب على كلّ مكلّف السعي بنفسه لسؤال أهل الخبرة واستماع الشهادة أو ملاحظة الشياع، بل يجوز لمثل الولد والزوجة والعامي الاكتفاء بتحري مثل الأب والزوج والعالـم غير الخبير عن اجتهاد العالـم، وذلك إذا حصل لهم الاطمئنان بمعرفة المتحري ودقته، وبذل الجهد للوصول إلى النتيجة من طرقها المعتبرة شرعاً.
مسألة 15: للمجتهد وظيفتان، الأولى: إصدار الفتوى المطابقة لرأيه للراغبين في الرجوع إليه والعمل بفتواه، وقد اصطلح على تسميته بـ «المرجع». والثانية: الحكم بين النّاس، وذلك في مقام التقاضي عنده في الخصومات والمنازعات، أو في مقام الرعاية للأمور الحسبية، مثل الأوقاف والقاصرين ونحوهما، أو في مقام التصدّي للقضايا العامة للأمّة فيما لو صار في موقع الحكم والولاية العامة، وهو ما يصطلح عليه بـ (الحاكم الشرعي) أو (الفقيه الولي). ولما كانت شروط وأحكام كلّ واحد منهما مختلفة عن الآخر فإنَّنا نفصل ذلك تحت هذين العنوانين:
1 ـ في المجتهد المرجع:
مسألة 16: يشترط في المرجع أمور:
1 ـ البلوغ. 2 ـ العقل. 3 ـ الذكورة. 4 ـ طهارة المولد. 5 ـ الحرية. 6 ـ الإيمان، وهو الانتماء للمذهب الإثني عشري. 7 ـ العدالة: ويُراد بها الاستقامة في خطّ الطاعة لله تعالى بالتزام أوامره وتجنب نواهيه، وتزول العدالة عند صدور الذنـب، فـإذا تـاب منـه توبـة نصوحـاً عـادت إليـه عدالتــه. 8 ـ استـذكــاره واستحضاره للمعلومات التي يحتاجها في عملية الاستنباط، وذلك بنحو لا يخرجه النسيان الكثير عن الحدّ المتعارف. 9 ـ الاجتهاد، مع الممارسة الطويلة في الفقه بحثاً وتدريساً، بحيث يملك النضج في مسألة الاستنباط الفقهي، سواء في ذلك المجتهد المطلق أو المتجزئ، هذا ولا بُدَّ من الإلفات إلى أنَّ اشتراط بعض الأمور من الشروط الستة الأُول مبنى على الاحتياط.
مسألة 17: يشترط ـ على الأحوط وجوباً ـ تقليد المرجع الحي في ما يسمى بـ (التقليد الابتدائي)، أي عند أول التزام بفتوى المرجع، أمّا من كان يقلّد مرجعاً فمات فإنَّه يجوز له الاستمرار والبقاء على تقليده، سواء في ذلك المسائل التي تعلمها أو غيرها، كما يجوز له العدول كلياً أو جزئياً إلى الحي حتى لو كان الميت أعلم منه.
مسألة 18: لا تشترط الأعلمية في مرجع التقليد، فيجوز للمكلّف تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم، وذلك لأنَّ السيرة العقلائية إنَّما تلزم بالرجوع إلى الأعلم في الموارد التي يطلب فيها إدراك الواقع على كلّ حال، مثل موارد الخطر على الحياة وهي قد لا يكتفى فيها بالرجوع إلى الأعلم أحياناً، بل يطلب تشكيل جمعية من أهل الاختصاص إلى جانبه، كما في مجال الصحة مثلاً، ومن المعلوم أنَّ مقامنا ليس من هذا القبيل، لأنَّ الشارع المقدس غاية ما يطلب منا المعذرية لا إدراك الواقع، فلا يعلم شمولها لهذا المقام وأمثاله، وإن كان ذلك هو الأحوط استحباباً.
ومرادنا بالأعلم: هو الأكثر كفاءة في الاستنباط، وذلك من جهة كونه أكثر قدرة وأشدّ براعة في فهم الكتاب والسنّة واستفادة الحكم منهما على الطريقة المعروفة في علوم اللغة العربية، وكذا من جهة كونه أكثر دقة في مطالب علم الأصول وتطبيقاته، مضافاً لكونه جيّد الفهم لروح الإسلام في أحكامه وموضوعاته المستنبطة.
مسألة 19: تعرف عدالة المرجع وغيره بأمور:
الأول: بالمعاشرة له مدّة تنكشف فيها تصرفاته في شتى المجالات، فيعرف منه الإيمان والاستقامة ويحصل العلم بذلك.
الثاني: اشتهاره بين إخوانه وعارفيه بالخير والفضيلة والاستقامة بحدود ما يظهر للنّاس من أحواله، بحيث لو سئل عنه لقيل: لا نعلم منه إلاَّ خيراً. وهو المعبر عنه بحسن الظاهر.
الثالث: شهادة العدلين، أو العدل الواحد، أو مطلق الثقة، بعدالته.
مسألة 20: يكفي في جواز تصدّي المجتهد للفتوى اعتقاده بأهليته واجتماع الشروط فيه، من دون أن يتوقف الجواز على شهادة النّاس فيه. نعم لا يكفي في تقليد غيره له شهادة المجتهد بنفسه، إلاَّ أن يحصل منها العلم أو الاطمئنان بمضمونها، وإلاَّ فلا بُدَّ من الاعتماد في معرفة اجتهاده على شهادة الخبراء بالنحو الذي سبق، وفي مقابل ذلك لا يجوز لمن يرى في نفسه عدم الأهلية التصدي للفتوى بقصد عمل الغير بها، فإنْ خلا إظهارُ الفتوى والتعبير عن الرأي من الإفتاء بقصد عمل الغير جاز.
مسألة 21: إذا تبدل رأي المجتهد، وكان له مقلدون، وجب عليه إعلام مقلديه بالرأي الجديد، لأنَّ ترك ذلك يعتبر مخالفاً لأمانة المجتهد المقلَّد والتزامه بإيصال الحقّ إلى مقلديه وتنبيههم إلى الباطل الذي اكتشف بطلانه بعد أن أعلمهم بأنَّه الحقّ، وذلك اعتماداً على فهم العقلاء وبنائهم على اعتبار التقليد نوعاً من التعاهد بين المرجع ومقلديه على إعطاء الفتوى الصحيحة لهم.
2 ـ في الفقيه الولي:
مسألة 22: يشترط في المجتهد المتصدي للقضاء أو للقيادة العامة جميع ما ذكر للمرجع المفتي من شروط ما عدا الأعلمية فإنَّهـا ـ حتماً ـ غير معتبرة فيه هنا. ولكن يكفي في شرط الخبرة والممارسة الاجتهادية تحققه في خصوص المسائل العائدة لشؤون القضاء والقيادة العامة دون غيرها. أمّا كون الاجتهاد مطلقاً فهو شرط في المتصدي للقيادة العامة دون المتصدي لأمور القضاء خاصة، فيكفيه أن يكون مجتهداً متجزئاً، وأمّا اشتراط الحياة فيهما فهو من البداهة بمكان.
إضافة إلى ذلك يشترط في الفقيه المتصدي للقيادة العامة أمران:
الأول: الشجاعة المعنوية المتمثّلة في الجرأة والثبات على الموقف.
الثاني: المعرفة بشؤون زمانه وعصره بالنحو الذي يساعده على الأداء السياسي الحكيم والإدارة الرشيدة.
مسألة 23: للفقيه المجتهد الولاية والسلطة على إدارة شؤون النّاس العامّة ممّا يحتاج فيه إلى ولايته، والشؤون العامّة هي: ما يرجع إلى النظام العام الذي يتوقف عليه توازن الحياة للمسلمين وغيرهم بما يحفظ مصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية ونحوها ويقوم به نظام حياتهم كمجتمع. كذلك فإنَّ له الولاية على الأفراد الذين فقدوا وليهم كالقاصرين والمجانين. هذا وحيث يُصدرُ الفقيه أمراً تجب طاعته، ولا يجوز الخروج عليه فيما هو ولي عليه، وفي حدود المنطقة التي يُعمِل ولايته فيها.
مسألة 24: ولاية الفقيه من المسائل الشرعية التي يُرجع في أصل الالتزام بها إلى رأي المكلّف إن كان مجتهداً، أو إلى رأي مرجعه إن كان مقلّداً، وليست هي من المسائل الاعتقادية التي يتحتم على المؤمنين الالتزام بها بمقتضى اعتقادهم.
مسألة 25: لما كانت ولاية الفقيه متجهة إلى الشؤون العامّة والموضوعات التي يبتلي بها المكلّف ـ فرداً أو جماعة ـ فإنَّ حكم الفقيه لا ينبغي أن يصادم التزام المكلّف تقليد المرجع غير الولي، لأنَّ تقليد المرجع منحصر في الأحكام لا في الموضوعات، ولو فرض أنَّ الولي أعمل سلطانه في حكم من الأحكام فإنَّ طاعته ـ حينئذٍ ـ واجبة حتى لو كانت تخالف ما يعتقد المكلّف صحته اجتهاداً أو تقليداً، كأن يأمر بلزوم استئذان الأب أو الجد للأب عند العقد على البكر الرشيدة من خلال موقع ولايته، أو يأمر بدفع الخمس أو الزكاة لجهة معينة وبطريقة معينة.
مسألة 26: من يرى ـ اجتهاداً أو تقليداً ـ عدم وجوب طاعة الولي الفقيه لا يجوز له الجهر بالمخالفة بالنحو الذي يؤدي إلى الإخلال بالنظام العام وتفتيت وحدة الأمّة وإضعاف قوّة الجماعة.
مسألة 27: لا يوجد في الأدلة ـ من حيث المبدأ ـ ما يمنع من تعدّد الفقهاء المتصدرين للشؤون العامّة في أكثر من قطر إسلامي، نعم إذا أضر هذا التعدّد كلياً أو جزئياً بانتظام الأمور العامّة للمسلمين ـ كأمّة ـ فإنَّه يجب الانضواء تحت حكومة ولي واحد بالقدر الذي يرفع الضرورة ويصون الوحدة ويحفظ الأمّة.
مسألة 28: لا يتفرّد الفقيه ـ من حيث المبدأ ـ في تشخيص المصالح والمفاسد، لا سيما المهمة منها، بل لا بُدَّ له من مشاورة جماعة من أهل الخبرة والاختصاص حتى في ما يكون له خبرة فيه، ثُمَّ إصدار الحكم الولايتي بعد التشاور، وذلك عبر نظام خاص يتفق عليه.
مسألة 29: إذا عُلم خطأ الولي الفقيه يقيناً لـم يجب على المتيقن طاعته في ما لا يتصل بالنظام العام، غير أنَّه لا يجوز الجهر بالمخالفة بالنحو الذي يؤدي إلى الإخلال بوحدة الصف واستقرار النظام.
مسألة 30: الحاكم الشرعي غير الولي يمكن التعرّف عليه من قبل أهل الخبرة بالنحو الذي مرّ في مسألة إثبات الاجتهاد والأعلمية، أمّا الولي الفقيه المتصدي للقيادة، فلا بُدَّ ـ كي تستقر له الأمور ـ من رضا معظم الأمّة به وقبولها لقيادته، وذلك إمّا من خلال معرفتها التامة به، أو من خلال شهادة كثيرين من أهل الخبرة المرضي عنهم من قبل الأمّة بكفاءته وأهليته، أو من خلال تعينه من بين الفقهاء بذلك.
مسألة 31: لا يجوز الترافع والتقاضي عند من لا يراه الشرع أهلاً للقضاء ممّن لـم تتوفر فيه الشروط المعتبرة، كما سوف يأتي تفصيله في أحكام القضاء، والمال المأخوذ بحكمه حرام وإن كان الآخذ محقّاً، نعم إذا انحصر تحصيل الحقّ بالتقاضي عنده جاز أخذ المال الذي يحكم به إذا كان المال عيناً مشخصة، كهذا البيت، من دون مراجعة الحاكم الشرعي، وأمّا إذا كان المحكوم به مالاً في الذمة، كعشرة دولارات مثلاً، لـم يجز أخذها إلاَّ بإذن الحاكم الشرعي.
مسألة 32: في قضايا المنازعات والخصومات يجب على المترافعين الالتزام بحكم القاضي المجتهد ولا يجوز لهما ردّه، كما لا يجوز نقض ذلك الحكم من قبل مجتهد آخر إلاَّ أن يعلم مخالفته للواقع أو صدوره عن تقصير في المقدمات المستخدمة في مثل هذه القضية.
مسألة 33: المأذون والوكيل عن المجتهد في التصرّف في الأوقاف وأموال القاصرين، دون المنصوب من قبله ولياً وقيماً، ينعزل بموت المجتهد وتلغى صلاحياته.
الأول ـ في الاجتهاد:
وفيه مسائل:
مسألة 9: الاجتهاد: هو بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية من مصادرها المعتبرة، وذلك بعد حيازة العالـم وإلمامه بالمقدار اللازم من العلوم التي لها علاقة بالشريعة، والتي تعطيه المقدرة على ذلك.
مسألة 10: لما كان الاجتهاد من الأمور المهمة في حياة الأمّة، فإنَّه يعتبر واجباً كفائياً على كلّ فرد، فإذا تصدّى له وقام به من تتحقق به الغاية سقط الوجوب عن سائر المكلّفين، وإذا لـم يتصدّ إلاَّ غير القادر مالياً جاز البذل له من أموال الحقوق الشرعية، وإلاَّ وجب على النّاس البذل من أموالهم.
مسألة 11: حيث يحوز المجتهد على ملكة الاستنباط ويملك المقدرة عليه فإنَّه يمكن أن تسنح له الظروف ويؤاتيه الوقت ليستخرج جميع الأحكام التي يحتاج إليها، أو معظمها، فهذا هو المجتهد المطلق. وقد لا تؤاتيه الفرصة إلاَّ لاستنباط بعض الأحكام في بعض النواحي، فهذا هو المجتهد المتجزئ. فالإطلاق والتجزؤ ـ عندنـا ـ لا يتحقّق في نفس القابلية والملكة، بل في مدى المبذول ومساحته، من جهة مواءمة الظروف وعدمها، خلافاً لمن يرى غير ذلك من الفقهاء.
مسألة 12: لا يجوز للمجتهد تقليد غيره، بل يجب عليه العمل برأي نفسه في كلّ مسألة له رأي فيها. نعم في المسائل التي ليس له رأي فيها يجوز له تقلد غيره إلى أن يصبح له رأي خاص فيها، كما يجوز له العمل بالاحتياط، من دون فرق في ذلك بين المجتهد المطلق والمتجزئ.
مسألة 13: يعرف اجتهاد العالـم ـ وكذا أعلميته ـ بأمور:
الأول: المعرفة المباشرة بالمجتهد من قبل الخبير القادر على التمييز ولو لـم يكن مجتهداً، وذلك من خلال التعلّم عنده أو تعليمه، أو من خلال محاورته ومناقشته، أو من خلال الاطلاع على بحوثه ومؤلفاته، وذلك بنحو يحصل له اليقين أو الاطمئنان القريب من اليقين بأنَّه مجتهد.
الثاني: اشتهار وشيوع اجتهاده بين النّاس أو في الحوزات العلمية، بنحو يفيد اليقين أو الاطمئنان باجتهاده.
الثالث: شهادة أهل الخبرة، وتتحقّق بشهادة العدلين، أو العدل الواحد، أو الثقة. والخبير ـ في حدّه الأدنى ـ من له مرتبة من الفضيلة العلمية والمعرفة بالفقه والأصول تجعله قادراً على التمييز واتخاذ الموقف الواضح من اجتهاد الآخر أو أعلميته، ولا يشترط فيه الاجتهاد. وعند اختلاف أهل الخبرة لا تتساقط الشهادات، بل يُرجَّح بينها بقوّة الخبرة عند التفاوت فيها، أو بكثرة الشهادات في هذا الجانب وقلتها في الآخر عند التساوي في مستوى الخبرة أو عدم العلم بالتفاوت، وذلك جرياً على طريقة العقلاء في تقديـم بعض الخبراء على بعض عند وجود المرجحات، ومع فرض التساوي في الخبرة والعدد تتساقط الشهادات.
مسألة 14: لا يجب على كلّ مكلّف السعي بنفسه لسؤال أهل الخبرة واستماع الشهادة أو ملاحظة الشياع، بل يجوز لمثل الولد والزوجة والعامي الاكتفاء بتحري مثل الأب والزوج والعالـم غير الخبير عن اجتهاد العالـم، وذلك إذا حصل لهم الاطمئنان بمعرفة المتحري ودقته، وبذل الجهد للوصول إلى النتيجة من طرقها المعتبرة شرعاً.
مسألة 15: للمجتهد وظيفتان، الأولى: إصدار الفتوى المطابقة لرأيه للراغبين في الرجوع إليه والعمل بفتواه، وقد اصطلح على تسميته بـ «المرجع». والثانية: الحكم بين النّاس، وذلك في مقام التقاضي عنده في الخصومات والمنازعات، أو في مقام الرعاية للأمور الحسبية، مثل الأوقاف والقاصرين ونحوهما، أو في مقام التصدّي للقضايا العامة للأمّة فيما لو صار في موقع الحكم والولاية العامة، وهو ما يصطلح عليه بـ (الحاكم الشرعي) أو (الفقيه الولي). ولما كانت شروط وأحكام كلّ واحد منهما مختلفة عن الآخر فإنَّنا نفصل ذلك تحت هذين العنوانين:
1 ـ في المجتهد المرجع:
مسألة 16: يشترط في المرجع أمور:
1 ـ البلوغ. 2 ـ العقل. 3 ـ الذكورة. 4 ـ طهارة المولد. 5 ـ الحرية. 6 ـ الإيمان، وهو الانتماء للمذهب الإثني عشري. 7 ـ العدالة: ويُراد بها الاستقامة في خطّ الطاعة لله تعالى بالتزام أوامره وتجنب نواهيه، وتزول العدالة عند صدور الذنـب، فـإذا تـاب منـه توبـة نصوحـاً عـادت إليـه عدالتــه. 8 ـ استـذكــاره واستحضاره للمعلومات التي يحتاجها في عملية الاستنباط، وذلك بنحو لا يخرجه النسيان الكثير عن الحدّ المتعارف. 9 ـ الاجتهاد، مع الممارسة الطويلة في الفقه بحثاً وتدريساً، بحيث يملك النضج في مسألة الاستنباط الفقهي، سواء في ذلك المجتهد المطلق أو المتجزئ، هذا ولا بُدَّ من الإلفات إلى أنَّ اشتراط بعض الأمور من الشروط الستة الأُول مبنى على الاحتياط.
مسألة 17: يشترط ـ على الأحوط وجوباً ـ تقليد المرجع الحي في ما يسمى بـ (التقليد الابتدائي)، أي عند أول التزام بفتوى المرجع، أمّا من كان يقلّد مرجعاً فمات فإنَّه يجوز له الاستمرار والبقاء على تقليده، سواء في ذلك المسائل التي تعلمها أو غيرها، كما يجوز له العدول كلياً أو جزئياً إلى الحي حتى لو كان الميت أعلم منه.
مسألة 18: لا تشترط الأعلمية في مرجع التقليد، فيجوز للمكلّف تقليد غير الأعلم مع وجود الأعلم، وذلك لأنَّ السيرة العقلائية إنَّما تلزم بالرجوع إلى الأعلم في الموارد التي يطلب فيها إدراك الواقع على كلّ حال، مثل موارد الخطر على الحياة وهي قد لا يكتفى فيها بالرجوع إلى الأعلم أحياناً، بل يطلب تشكيل جمعية من أهل الاختصاص إلى جانبه، كما في مجال الصحة مثلاً، ومن المعلوم أنَّ مقامنا ليس من هذا القبيل، لأنَّ الشارع المقدس غاية ما يطلب منا المعذرية لا إدراك الواقع، فلا يعلم شمولها لهذا المقام وأمثاله، وإن كان ذلك هو الأحوط استحباباً.
ومرادنا بالأعلم: هو الأكثر كفاءة في الاستنباط، وذلك من جهة كونه أكثر قدرة وأشدّ براعة في فهم الكتاب والسنّة واستفادة الحكم منهما على الطريقة المعروفة في علوم اللغة العربية، وكذا من جهة كونه أكثر دقة في مطالب علم الأصول وتطبيقاته، مضافاً لكونه جيّد الفهم لروح الإسلام في أحكامه وموضوعاته المستنبطة.
مسألة 19: تعرف عدالة المرجع وغيره بأمور:
الأول: بالمعاشرة له مدّة تنكشف فيها تصرفاته في شتى المجالات، فيعرف منه الإيمان والاستقامة ويحصل العلم بذلك.
الثاني: اشتهاره بين إخوانه وعارفيه بالخير والفضيلة والاستقامة بحدود ما يظهر للنّاس من أحواله، بحيث لو سئل عنه لقيل: لا نعلم منه إلاَّ خيراً. وهو المعبر عنه بحسن الظاهر.
الثالث: شهادة العدلين، أو العدل الواحد، أو مطلق الثقة، بعدالته.
مسألة 20: يكفي في جواز تصدّي المجتهد للفتوى اعتقاده بأهليته واجتماع الشروط فيه، من دون أن يتوقف الجواز على شهادة النّاس فيه. نعم لا يكفي في تقليد غيره له شهادة المجتهد بنفسه، إلاَّ أن يحصل منها العلم أو الاطمئنان بمضمونها، وإلاَّ فلا بُدَّ من الاعتماد في معرفة اجتهاده على شهادة الخبراء بالنحو الذي سبق، وفي مقابل ذلك لا يجوز لمن يرى في نفسه عدم الأهلية التصدي للفتوى بقصد عمل الغير بها، فإنْ خلا إظهارُ الفتوى والتعبير عن الرأي من الإفتاء بقصد عمل الغير جاز.
مسألة 21: إذا تبدل رأي المجتهد، وكان له مقلدون، وجب عليه إعلام مقلديه بالرأي الجديد، لأنَّ ترك ذلك يعتبر مخالفاً لأمانة المجتهد المقلَّد والتزامه بإيصال الحقّ إلى مقلديه وتنبيههم إلى الباطل الذي اكتشف بطلانه بعد أن أعلمهم بأنَّه الحقّ، وذلك اعتماداً على فهم العقلاء وبنائهم على اعتبار التقليد نوعاً من التعاهد بين المرجع ومقلديه على إعطاء الفتوى الصحيحة لهم.
2 ـ في الفقيه الولي:
مسألة 22: يشترط في المجتهد المتصدي للقضاء أو للقيادة العامة جميع ما ذكر للمرجع المفتي من شروط ما عدا الأعلمية فإنَّهـا ـ حتماً ـ غير معتبرة فيه هنا. ولكن يكفي في شرط الخبرة والممارسة الاجتهادية تحققه في خصوص المسائل العائدة لشؤون القضاء والقيادة العامة دون غيرها. أمّا كون الاجتهاد مطلقاً فهو شرط في المتصدي للقيادة العامة دون المتصدي لأمور القضاء خاصة، فيكفيه أن يكون مجتهداً متجزئاً، وأمّا اشتراط الحياة فيهما فهو من البداهة بمكان.
إضافة إلى ذلك يشترط في الفقيه المتصدي للقيادة العامة أمران:
الأول: الشجاعة المعنوية المتمثّلة في الجرأة والثبات على الموقف.
الثاني: المعرفة بشؤون زمانه وعصره بالنحو الذي يساعده على الأداء السياسي الحكيم والإدارة الرشيدة.
مسألة 23: للفقيه المجتهد الولاية والسلطة على إدارة شؤون النّاس العامّة ممّا يحتاج فيه إلى ولايته، والشؤون العامّة هي: ما يرجع إلى النظام العام الذي يتوقف عليه توازن الحياة للمسلمين وغيرهم بما يحفظ مصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية ونحوها ويقوم به نظام حياتهم كمجتمع. كذلك فإنَّ له الولاية على الأفراد الذين فقدوا وليهم كالقاصرين والمجانين. هذا وحيث يُصدرُ الفقيه أمراً تجب طاعته، ولا يجوز الخروج عليه فيما هو ولي عليه، وفي حدود المنطقة التي يُعمِل ولايته فيها.
مسألة 24: ولاية الفقيه من المسائل الشرعية التي يُرجع في أصل الالتزام بها إلى رأي المكلّف إن كان مجتهداً، أو إلى رأي مرجعه إن كان مقلّداً، وليست هي من المسائل الاعتقادية التي يتحتم على المؤمنين الالتزام بها بمقتضى اعتقادهم.
مسألة 25: لما كانت ولاية الفقيه متجهة إلى الشؤون العامّة والموضوعات التي يبتلي بها المكلّف ـ فرداً أو جماعة ـ فإنَّ حكم الفقيه لا ينبغي أن يصادم التزام المكلّف تقليد المرجع غير الولي، لأنَّ تقليد المرجع منحصر في الأحكام لا في الموضوعات، ولو فرض أنَّ الولي أعمل سلطانه في حكم من الأحكام فإنَّ طاعته ـ حينئذٍ ـ واجبة حتى لو كانت تخالف ما يعتقد المكلّف صحته اجتهاداً أو تقليداً، كأن يأمر بلزوم استئذان الأب أو الجد للأب عند العقد على البكر الرشيدة من خلال موقع ولايته، أو يأمر بدفع الخمس أو الزكاة لجهة معينة وبطريقة معينة.
مسألة 26: من يرى ـ اجتهاداً أو تقليداً ـ عدم وجوب طاعة الولي الفقيه لا يجوز له الجهر بالمخالفة بالنحو الذي يؤدي إلى الإخلال بالنظام العام وتفتيت وحدة الأمّة وإضعاف قوّة الجماعة.
مسألة 27: لا يوجد في الأدلة ـ من حيث المبدأ ـ ما يمنع من تعدّد الفقهاء المتصدرين للشؤون العامّة في أكثر من قطر إسلامي، نعم إذا أضر هذا التعدّد كلياً أو جزئياً بانتظام الأمور العامّة للمسلمين ـ كأمّة ـ فإنَّه يجب الانضواء تحت حكومة ولي واحد بالقدر الذي يرفع الضرورة ويصون الوحدة ويحفظ الأمّة.
مسألة 28: لا يتفرّد الفقيه ـ من حيث المبدأ ـ في تشخيص المصالح والمفاسد، لا سيما المهمة منها، بل لا بُدَّ له من مشاورة جماعة من أهل الخبرة والاختصاص حتى في ما يكون له خبرة فيه، ثُمَّ إصدار الحكم الولايتي بعد التشاور، وذلك عبر نظام خاص يتفق عليه.
مسألة 29: إذا عُلم خطأ الولي الفقيه يقيناً لـم يجب على المتيقن طاعته في ما لا يتصل بالنظام العام، غير أنَّه لا يجوز الجهر بالمخالفة بالنحو الذي يؤدي إلى الإخلال بوحدة الصف واستقرار النظام.
مسألة 30: الحاكم الشرعي غير الولي يمكن التعرّف عليه من قبل أهل الخبرة بالنحو الذي مرّ في مسألة إثبات الاجتهاد والأعلمية، أمّا الولي الفقيه المتصدي للقيادة، فلا بُدَّ ـ كي تستقر له الأمور ـ من رضا معظم الأمّة به وقبولها لقيادته، وذلك إمّا من خلال معرفتها التامة به، أو من خلال شهادة كثيرين من أهل الخبرة المرضي عنهم من قبل الأمّة بكفاءته وأهليته، أو من خلال تعينه من بين الفقهاء بذلك.
مسألة 31: لا يجوز الترافع والتقاضي عند من لا يراه الشرع أهلاً للقضاء ممّن لـم تتوفر فيه الشروط المعتبرة، كما سوف يأتي تفصيله في أحكام القضاء، والمال المأخوذ بحكمه حرام وإن كان الآخذ محقّاً، نعم إذا انحصر تحصيل الحقّ بالتقاضي عنده جاز أخذ المال الذي يحكم به إذا كان المال عيناً مشخصة، كهذا البيت، من دون مراجعة الحاكم الشرعي، وأمّا إذا كان المحكوم به مالاً في الذمة، كعشرة دولارات مثلاً، لـم يجز أخذها إلاَّ بإذن الحاكم الشرعي.
مسألة 32: في قضايا المنازعات والخصومات يجب على المترافعين الالتزام بحكم القاضي المجتهد ولا يجوز لهما ردّه، كما لا يجوز نقض ذلك الحكم من قبل مجتهد آخر إلاَّ أن يعلم مخالفته للواقع أو صدوره عن تقصير في المقدمات المستخدمة في مثل هذه القضية.
مسألة 33: المأذون والوكيل عن المجتهد في التصرّف في الأوقاف وأموال القاصرين، دون المنصوب من قبله ولياً وقيماً، ينعزل بموت المجتهد وتلغى صلاحياته.