وتفصيل أحكامه يقع في تمهيد وثلاثة فروع، وذلك على النحو التالي:
تمهيد:
وفيه مسائل:
مسألة 79: الصيد هو: (فعلُ ما من شأنه تعطيل الحيوان الممتنع وإيقافه، مقدمةً لأخذه والانتفاع به بعدما يصير حلالاً بنفس ذلك الاصطياد)، وتحقق الحلية بالاصطياد مختص بالحيوان الممتنع من الطيور والحيوان البري، فلا يستخدم ولا يحل به الحيوان الأهلي المستسلم والمنقاد للراغب فيه، فمن أطلق الرصاص على شاة أو دجاجة بعيدة عنه فماتت لم تحل بذلك ما لم يدركها حية ويذبحها قبل موتها بالرصاص؛ ويلحق بالأهلي فرخ الطائر قبل أن يستقل بالطيران وولد الحيوان الوحشي قبل أن يقدر على العدو، ونفس الحيوان الوحشي إذا استأنس، كالظبي وبعض الطيور؛ وعلى العكس من ذلك فإنه يلحق بالوحشي الحيوان الأهلي إذا ارتعب أو توتر ففر وصار صائلاً يصعب إمساكه، أو الحيوان الأهلي إذا تردى في بئر أو علق في شاهق أو مكان يصعب الوصول إليه، فإنه في مثل هاتين الحالتين يحل ذلك الحيوان بالاصطياد الجامع للشروط كما سيأتي.
مسألة 80: يصدق الصيد على طريقتين:
الأولى: على استخدام أداة غير قاطعة ولا شائكة من أدوات الصيد التي لا تسبب موت الحيوان، وذلك مثل إمساكه باليد أو بالفخ أو الشبكة أو نحوها، فإنه إذا مات من ذلك لم يحل أكله، بل لا بد من إدراكه حياً وتذكيته بالذبح كي يحل.
والصيد بهذا المعنى ليس داخلاً في نطاق هذا المطلب، بل إنه يسمى صيداً بالمعنى العام ولا يترتب عليه إلا تملك الحيوان المصطاد كما تقدم.
الثانية: على استخدام أداةٍ حيوانية كالكلب، أو جمادية جارحة كالسهم، فإذا أصابه بالآلة أو أمسكه الحيوان المعلّم بالشروط المعتبرة فيهما فأدركه الصائد ميتاً حل الصيد به وجاز أكله من دون ذبح؛ وبذلك يصير الصيد وسيلة مستقلة للتذكية إلى جانب تذكيته بالذبح كوسيلة مستقلة أيضاً، فإن اجتمعا في بعض الحالات التي سنذكرها كان ذلك خيراً على خير.
مسألة 81: إنما يسوغ الاصطياد ويحل من أجل أن يستفيد منه الإنسان فائدة معتبرة، وأعلاها هو جعله غذاءً وقوتاً ولو لم تنحصر معيشته به، ثم من أجل الاستفادة من شعره وريشه وفروه في لباسه، بل إنه لا بأس بالاصطياد من أجل تحنيط ذلك الحيوان أو الطائر وجعله زينة؛ وهكذا سائر الفوائد المعتبرة عند العرف.
أما الصيد الذي يخلو من الفائدة المعتبرة، ولا يكون للصائد هدفٌ منه سوى اللهو واللعب، وهو الذي يقال له «الصيد اللهوي»، فهو أمر ينبغي عدم صدوره من المسلم المؤمن، وعليه أن يتجنبه وإن لم يكن مأثوماً بفعله؛ نعم إذا كانت الآلة التي يقتل بها الحيوان لها ذخيرة ذات ثمن وقيمة، مثل الرصاص المستحدث، فإن صرفها في الاصطياد اللهوي يعد إسرافاً محرماً وتبذيراً مذموماً.
ومن جهة أخرى، فإن الشريعة لم تسوِّغ للمصطاد لهواً ـ رغم حليته ـ قصر الصلاة في سفره هذا بالنحو الذي سبق ذكره في أحكام صلاة المسافر، ربما لأنها لا تحترم مثل هذا السفر العابث، ولا تقدر تعب فاعله.
مسألة 82: يجب أن يلتفت الصائد إلى ضرورة المحافظة على أملاك الغير التي قد يمر فيها أو بجانبها، فلا يطلق رصاصه على شجرة محترمة تتضرر أغصانها به، أو يدوس على زرع فيتلفه، أو يتسور ويدخل إلى أرض مسورة، فإن في جميع ذلك عدواناً محرماً على أملاك الغير إذا لم يأذنوا مسبقاً بذلك ويرضوا به؛ كذلك فإن في بعض الدول قوانين ومحميات لتنظيم الصيد والمحافظة على الثروة الحيوانية، فينبغي للمؤمن أن يلتزم بها ويحافظ عليها، بل إنه ربما حرُم الاصطياد فيها إذا كان يؤدي إلى إبادة الحيوانات المحمية.
ثم إننا بعدما أشرنا في هذا التمهيد إلى أن الصيد تارة يكون بالآلة الجمادية، وأخرى يكون بواسطة الحيوان المعلَّم، فإننا ـ فيما يلي ـ يجب أن نذكر الأحكام المتعلقة بهما في ثلاثة فروع، وذلك على النحو التالي:
الفرع الأول ـ في الصيد بالآلة:
وهو الأسلوب الأكثر شيوعاً، والكلام فيه يقع:
أولاً ـ في آلة الصيد:
مسألة 83: يتحقق الصيد بكل آلة جارحة، سواء كانت حادة كالسيف والسكين، أو كانت شائكة كالسهم والرمح، أو كانت مدوّرة، وكانت مما ينفذ ويخرج بقوة الضغط، كحبات (الخردق) الموجودة في قذيفة البنادق الحديثة المستخدمة في الصيد؛ وكذلك لا فرق في الشائك بين ما كان له رأس رفيع ينفذ بسهولة، كرأس السهم، وبين ما كان له رأس مدبب ينفذ ويجرح بقوة الضغط، وذلك مثل رأس قاذف رصاصة البندقية الحربية. هذا، ولا يشترط في آلة الصيد أن تكون من معدن معين، فيصح أن تكون من معدن الحديد أو من غيره من المعادن، كالنحاس والفضة وغيرهما، بل إنه يصح أن تكون من الأحجار أو الأخشاب إذا صنعت وصقلت بطريقة تجعلها بنفسها جارحة لبدن الحيوان الذي تقع عليه، فضلاً عما لو كان في رأسها حديدة.
مسألة 84: لا بد من تحقق الجرح فعلاً في بدن الحيوان المصطاد بتلك الآلة كي يحل أكله، فلا يكفي اصطدام الآلة به ووقوعه ميتاً نتيجة تلك الصدمة إذا لم تحدث فيه جرحاً، حتى لو كانت الآلة مثل السيف والرمح، فضلاً عما لو كانت مثل الخشبة المروّسة.
مسألة 85: كل آلة لا يصدق عليها السلاح، أو ليس من شأنها أن تجرح، مما ليس قاطعاً ولا شائكاً لا يحل بها ما يموت من الصيد، وذلك مثل: الحجارة والعمود والعصا غير المروسة والشبكة ونحوها من الأدوات؛ بل لو فرض صدق السلاح على بعض الآلات غير القاطعة مما يستخدم في الحرب كالعمود، فإنه لا يحل صيده بمجرد ذلك، لفقدانه شأنية الجرح حتى لو جرح صدفة.
مسألة 86: يجب العلم باستناد موت الحيوان إلى ذلك الرمي، فلو رماه فوقع من شاهق أو سقط في الماء فمات من ذلك لا من الرمية لم يحل، وكذا لو شك في كونه هل مات من الرمية أو من غيرها لم يحل.
ثانياً ـ في الصائد:
مسألة 87: يشترط في حلية الصيد تحقق أمور من قِبَل الصائد، وهي:
الأول: أن يكون الصائد مسلماً إجمالاً، ولا فرق في المسلم بين الرجل والمرأة، ولا بين المؤمن والمخالف في المذهب، فإن كان الصائد كافراً من غير أهل الكتاب لم يحل صيده ولو سمى، أما صيد أهل الكتاب فيحرم من دون تسمية، فإذا سمى على الصيد كانت حرمته مبنية على الاحتياط، ولا يبعد الحل به.
الثاني: قصد الاصطياد بالرمي، فلو لم يكن الرامي بصدد الاصطياد، كما لو كان يتدرب على الرماية على هدف أمامه فمر الصيد صدفة فأصابه، أو كان يرمي على عدو أو حيوان أهلي فأصاب صيداً، لم يحل ذلك الصيد؛ وكما يجب قصد أصل الاصطياد بالرمي فإنه يجب ـ على الأحوط ـ قصد خصوص الصيد المحلل، فلو رمى على خنزير أو كلب فأصاب غزالاً فقتله لم يحل ذلك الغزال، بل عليه تجنب الطريدة من باب الاحتياط الوجوبي أيضاً فيما لو اعتقد أن ذلك الحيوان خنزير فرماه فتبيّن أنه غزال؛ نعم لا يشترط في الحلية قصد نوع محلّل بخصوصه، فلو كان يرمي على طائر فأصاب غزالاً حلّ، فضلاً عما لو قصد صنفاً من الطيور فأصاب غيره، أو قصد طائراً بخصوصه فأصاب المجاور له من نفس الصنف.
الثالث: صدور التسمية وذكر الله تعالى من الصائد، وذلك إما عند إطلاق الرمية أو بعد إطلاقها ولكن قبل الإصابة، وأكمله ذكر لفظ الجلالة مقترناً بالتعظيم، مثل «الله أكبر» أو «بسم الله»، ويمكن الاكتفاء بمجرد ذكر لفظ الجلالة، وإن كان الأحوط استحباباً عدم كفايته؛ والتسمية شرط عند الالتفات؛ فإذا تعمد ترك التسمية حرم صيده، وإذا سهى عن ذلك لم يحرم.
الفرع الثاني ـ الصيد بالحيوان:
استخدم الإنسان بعض الحيوانات المدربة في اصطياده لسائر الحيوانات والطيور، والمشهور منها الكلب من الحيوانات والباز والصقر من الطيور، وذلك بعدما دربها وأخضعها له، ولمعرفة حكم هذه الوسيلة في الاصطياد لا بدّ من ذكر مسائل:
مسألة 88: مثلما يجوز الاصطياد بالكلب من الحيوانات البرية كذلك يجوز بغيره من أصناف الحيوانات الأخرى، مثل النمر والفهد، وكذا يجوز بغير الحيوان البري من الطيور، مثل الباز والباشق والصقر وغيرها، بالشروط التي سنذكرها؛ ومعنى حلية الاصطياد بها هو: أن الصيد الذي تصيبه يحلُّ أكله إذا أدركه صاحبه ميتاً من دون حاجة إلى ذبحه ليصير حلالاً.
مسألة 89: يجب توفر أمور عند الاصطياد بكلِّ حيوان يستخدم لذلك، وسوف نجعل محور الكلام هو الكلب لأنه أشهرها، ولأنّ ما ينطبق عليه ينطبق على غيره، وهذه الأمور هي:
الأول: أن يكون الكلب مُدرّباً ومعلّماً على الاصطياد، ويتحقق ذلك عندما يكون الكلب مطيعاً للصائد، فإذا أرسله وأغراه بالطريدة تحمَّس وانبعث إليها، وإذا زجره واستوقفه توقف وانزجر، وبما أنه قد يصعب انزجار الكلب مباشرة بعد إرساله، فإنه لا يجب وصوله في الطاعة إلى هذه الدرجة، بل يكفي انزجاره في غير هذه الحالة؛ كذلك فإنه يجب أن يتوفر في الكلب المدرب ميزة عدم الأكل الدائم للطريدة التي يمسكها إذا كانت مما يمكن أن يأكله الكلب عادة، وإلا لم ينتفع منه صاحبه في الغاية التي علّمه من أجلها، بل إنه بفقده لهذه الميزة يصير كأنه غير معلَّم ولا مدرَّب، نعم لا ينافي ذلك ما لو حصل منه الأكل أحياناً كثيرة، إذ المهم ـ في المقام ـ أن لا يكون دائم الأكل.
الثاني: أن يقصد الصائد الاصطياد بإرسال الكلب، فلو أرسله لأمر آخر غير الاصطياد، كمطاردة عدوّ فاصطاد حيواناً لم يحل صيده، وكذا لو استرسل بنفسه فصاد لم يحل أيضاً؛ هذا، وكما ذكرنا في الصيد بالآلة، فإنه لا يجب قصد صيد حيوان معين ما دام الذي بعثه إليه وقصده به حيواناً محللاً، فلو بعثه لاصطياد غزال فاصطاد طائراً حل، وأما إذا أرسله لاصطياد خنـزير فاصطاد غزالاً لم يحل.
الثالث والرابع والخامس: يشترط في صيد الكلب أن يكون المرسل مسلماً إجمالاً، وأن يسمي قبل الإصابة، وأن يستند موت الحيوان إلى جرح الكلب أو عقره، وجميع ذلك بنفس التفاصيل التي مرّت في الصيد بالآلة؛ نعم إذا جلب الكلبُ الطريدة ميتة، ولم يوجد فيها أثر الجرح، فإن شُك في سبب موتها لم تحل، وإن علم موتها مختنقة بسبب إمساك الكلب فهي حلال.
الفرع الثالث ـ في الأحكام المشتركة:
مسألة 90: لا يشترط في حلية الصيد كون الوسيلة مباحة، فلو غصب كلباً أو بازياً أو سلاحاً فاصطاد به حل صيده وإن أثم بالتصرف بمال غيره.
مسألة 91: لا يشترط في حلية الصيد وحدة الصائد ولا وحدة الآلة، فلو اشترك اثنان في إطلاق الرصاص على هدف واحد فأصاباه حلّ، أو أرسل اثنان كلباً واحداً، أو أرسل واحد عدة كلاب، أو أطلق واحد رصاصاً وأرسل الآخر كلباً، فإنه في جميع الحالات المتصورة يحل الصيد بذلك إذا تحققت سائر الشروط المعتبرة؛ وهنا لا بد من ملاحظة أنه إذا تعدد الصائد والآلة واستند الموت إلى فعل الاثنين معاً فإنه لا بد من اجتماع الشروط فيهما، فلا يحل الصيد إذا أرسل مسلم وكافر كلبين، أو إذا سمى أحدهما ولم يسمِّ الآخر، أو فيما لو كان كلب أحدهما معلَّماً وكلب الآخر غير معلـم، وهكذا، أما إذا استند موت الصيد ـ في مثل هذه الحالات ـ إلى أحدهما بعينه فإنه يُرى اجتماع الشروط فيه وحده دون صاحبه الذي شاركه.
مسألة 92: إنما يحل الحيوان بالصيد بالحيوان أو بالآلة إذا أدركه الصائد ميتاً بعد إصابته وجرحه من قبل الكلب أو الآلة، فلو أدركه الصائد وبه رمق من الحياة وجب عليه أن يبادر إلى تذكيته بالذبح إذا اتّسع الوقت، فإن لم يذبحه ومات مع سعة الوقت لم يحل الصيد، ومن موارد عدم اتساع الوقت ما لو اشتغل بمقدمات الذبح، كتناول السكين وتوجيهه ورفع الشعر عن رقبته ونحو ذلك، فمات قبل ذبحه حل؛ ومعنى إدراكه حياً أن يصل إليه ويقدر على إمساكه، فلو وصل إليه لكنه كان معلقاً على شجرة أو كان ما يزال يعدو أمامه، فإنه إذا مات قبل أن يمسكه ـ والحالة هذه ـ يحل؛ كما أن حياته تتحقق بأن يجده وهو يطرف بعينه أو يحرك رجله أو يده أو ذيله، وهو أدنى مراتب الحياة، فإن وسع الزمان فذكاه وهو كذلك فقد حل، وإن لم يذكه فمات حرم.
مسألة 93: لا يجب على الصائد اللحاق بالكلب حين إرساله، ولا المبادرة إلى الصيد حين إصابة الكلب أو الآلة له إذا كان الصيد ما يزال ممتنعاً غير عاجز، من أجل المسارعة لإدراكه حياً وتذكيته بالذبح؛ وكذلك لا تجب المسارعة بعد إعجاز الصيد وإيقافه من قبل الكلب أو الآلة إذا علم لطول المسافة ونحوها بأنه لن يدركه حياً، أما إذا احتمل إدراكه حياً فإن عليه المسارعة إليه برجاء إدراكه حياً وتذكيته بالذبح.
مسألة 94: إذا أصاب الكلب أو الآلة عضواً من الصيد كيده أو رجله فقطعه لم يحل ذلك العضو المقطوع إذا فاته الحيوان، فإن عجز الحيوان بذلك ووقف فمات من هذه الإصابة قبل إدراكه حياً حل أكله وأكل العضو المنفصل عنه، وإن أدركه حياً ذكاه بالذبح وحل كذلك بالنحو المتقدم؛ أما إذا قطعه الكلب أو الآلة نصفين فمات قبل إدراكه حل النصفان جميعاً، وإن أدركه حياً واتّسع الوقت لذبحه لم يحل منه إلا النصف الذي فيه الرأس والرقبة بعد ذبحه وحرم النصف الآخر؛ وأما إذا كانت آلة الصيد غير السلاح والكلب، بل مثل الفخ، فقطعه نصفين حين أطبق عليه، فإن النصف الذي ليس فيه الرأس والرقبة حرام على كل حال، ولا يحل النصف الذي فيه الرأس والرقبة إلا بالذبح.
مسألة 95: إذا تردّى الحيوان الأهلي في بئر أو علق في مكان ضيق ولم يمكن ذبحه أو نحره، وخيف موته هناك، أمكنه تذكيته بعقره في غير موضع الذبح برمح أو سكين أو بإطلاق الرصاص عليه أو بغيرها مما يجرح ويقتل، فإذا مات بعد جرحه يصير مذكى، فيطهر ويحل أكله إذا توفرت سائر الشروط في العاقر، كالتسمية ونحوها، والأحوط وجوباً عدم حليته بالعقر بالكلب فيختص الحل بالآلة وحدها.
وتفصيل أحكامه يقع في تمهيد وثلاثة فروع، وذلك على النحو التالي:
تمهيد:
وفيه مسائل:
مسألة 79: الصيد هو: (فعلُ ما من شأنه تعطيل الحيوان الممتنع وإيقافه، مقدمةً لأخذه والانتفاع به بعدما يصير حلالاً بنفس ذلك الاصطياد)، وتحقق الحلية بالاصطياد مختص بالحيوان الممتنع من الطيور والحيوان البري، فلا يستخدم ولا يحل به الحيوان الأهلي المستسلم والمنقاد للراغب فيه، فمن أطلق الرصاص على شاة أو دجاجة بعيدة عنه فماتت لم تحل بذلك ما لم يدركها حية ويذبحها قبل موتها بالرصاص؛ ويلحق بالأهلي فرخ الطائر قبل أن يستقل بالطيران وولد الحيوان الوحشي قبل أن يقدر على العدو، ونفس الحيوان الوحشي إذا استأنس، كالظبي وبعض الطيور؛ وعلى العكس من ذلك فإنه يلحق بالوحشي الحيوان الأهلي إذا ارتعب أو توتر ففر وصار صائلاً يصعب إمساكه، أو الحيوان الأهلي إذا تردى في بئر أو علق في شاهق أو مكان يصعب الوصول إليه، فإنه في مثل هاتين الحالتين يحل ذلك الحيوان بالاصطياد الجامع للشروط كما سيأتي.
مسألة 80: يصدق الصيد على طريقتين:
الأولى: على استخدام أداة غير قاطعة ولا شائكة من أدوات الصيد التي لا تسبب موت الحيوان، وذلك مثل إمساكه باليد أو بالفخ أو الشبكة أو نحوها، فإنه إذا مات من ذلك لم يحل أكله، بل لا بد من إدراكه حياً وتذكيته بالذبح كي يحل.
والصيد بهذا المعنى ليس داخلاً في نطاق هذا المطلب، بل إنه يسمى صيداً بالمعنى العام ولا يترتب عليه إلا تملك الحيوان المصطاد كما تقدم.
الثانية: على استخدام أداةٍ حيوانية كالكلب، أو جمادية جارحة كالسهم، فإذا أصابه بالآلة أو أمسكه الحيوان المعلّم بالشروط المعتبرة فيهما فأدركه الصائد ميتاً حل الصيد به وجاز أكله من دون ذبح؛ وبذلك يصير الصيد وسيلة مستقلة للتذكية إلى جانب تذكيته بالذبح كوسيلة مستقلة أيضاً، فإن اجتمعا في بعض الحالات التي سنذكرها كان ذلك خيراً على خير.
مسألة 81: إنما يسوغ الاصطياد ويحل من أجل أن يستفيد منه الإنسان فائدة معتبرة، وأعلاها هو جعله غذاءً وقوتاً ولو لم تنحصر معيشته به، ثم من أجل الاستفادة من شعره وريشه وفروه في لباسه، بل إنه لا بأس بالاصطياد من أجل تحنيط ذلك الحيوان أو الطائر وجعله زينة؛ وهكذا سائر الفوائد المعتبرة عند العرف.
أما الصيد الذي يخلو من الفائدة المعتبرة، ولا يكون للصائد هدفٌ منه سوى اللهو واللعب، وهو الذي يقال له «الصيد اللهوي»، فهو أمر ينبغي عدم صدوره من المسلم المؤمن، وعليه أن يتجنبه وإن لم يكن مأثوماً بفعله؛ نعم إذا كانت الآلة التي يقتل بها الحيوان لها ذخيرة ذات ثمن وقيمة، مثل الرصاص المستحدث، فإن صرفها في الاصطياد اللهوي يعد إسرافاً محرماً وتبذيراً مذموماً.
ومن جهة أخرى، فإن الشريعة لم تسوِّغ للمصطاد لهواً ـ رغم حليته ـ قصر الصلاة في سفره هذا بالنحو الذي سبق ذكره في أحكام صلاة المسافر، ربما لأنها لا تحترم مثل هذا السفر العابث، ولا تقدر تعب فاعله.
مسألة 82: يجب أن يلتفت الصائد إلى ضرورة المحافظة على أملاك الغير التي قد يمر فيها أو بجانبها، فلا يطلق رصاصه على شجرة محترمة تتضرر أغصانها به، أو يدوس على زرع فيتلفه، أو يتسور ويدخل إلى أرض مسورة، فإن في جميع ذلك عدواناً محرماً على أملاك الغير إذا لم يأذنوا مسبقاً بذلك ويرضوا به؛ كذلك فإن في بعض الدول قوانين ومحميات لتنظيم الصيد والمحافظة على الثروة الحيوانية، فينبغي للمؤمن أن يلتزم بها ويحافظ عليها، بل إنه ربما حرُم الاصطياد فيها إذا كان يؤدي إلى إبادة الحيوانات المحمية.
ثم إننا بعدما أشرنا في هذا التمهيد إلى أن الصيد تارة يكون بالآلة الجمادية، وأخرى يكون بواسطة الحيوان المعلَّم، فإننا ـ فيما يلي ـ يجب أن نذكر الأحكام المتعلقة بهما في ثلاثة فروع، وذلك على النحو التالي:
الفرع الأول ـ في الصيد بالآلة:
وهو الأسلوب الأكثر شيوعاً، والكلام فيه يقع:
أولاً ـ في آلة الصيد:
مسألة 83: يتحقق الصيد بكل آلة جارحة، سواء كانت حادة كالسيف والسكين، أو كانت شائكة كالسهم والرمح، أو كانت مدوّرة، وكانت مما ينفذ ويخرج بقوة الضغط، كحبات (الخردق) الموجودة في قذيفة البنادق الحديثة المستخدمة في الصيد؛ وكذلك لا فرق في الشائك بين ما كان له رأس رفيع ينفذ بسهولة، كرأس السهم، وبين ما كان له رأس مدبب ينفذ ويجرح بقوة الضغط، وذلك مثل رأس قاذف رصاصة البندقية الحربية. هذا، ولا يشترط في آلة الصيد أن تكون من معدن معين، فيصح أن تكون من معدن الحديد أو من غيره من المعادن، كالنحاس والفضة وغيرهما، بل إنه يصح أن تكون من الأحجار أو الأخشاب إذا صنعت وصقلت بطريقة تجعلها بنفسها جارحة لبدن الحيوان الذي تقع عليه، فضلاً عما لو كان في رأسها حديدة.
مسألة 84: لا بد من تحقق الجرح فعلاً في بدن الحيوان المصطاد بتلك الآلة كي يحل أكله، فلا يكفي اصطدام الآلة به ووقوعه ميتاً نتيجة تلك الصدمة إذا لم تحدث فيه جرحاً، حتى لو كانت الآلة مثل السيف والرمح، فضلاً عما لو كانت مثل الخشبة المروّسة.
مسألة 85: كل آلة لا يصدق عليها السلاح، أو ليس من شأنها أن تجرح، مما ليس قاطعاً ولا شائكاً لا يحل بها ما يموت من الصيد، وذلك مثل: الحجارة والعمود والعصا غير المروسة والشبكة ونحوها من الأدوات؛ بل لو فرض صدق السلاح على بعض الآلات غير القاطعة مما يستخدم في الحرب كالعمود، فإنه لا يحل صيده بمجرد ذلك، لفقدانه شأنية الجرح حتى لو جرح صدفة.
مسألة 86: يجب العلم باستناد موت الحيوان إلى ذلك الرمي، فلو رماه فوقع من شاهق أو سقط في الماء فمات من ذلك لا من الرمية لم يحل، وكذا لو شك في كونه هل مات من الرمية أو من غيرها لم يحل.
ثانياً ـ في الصائد:
مسألة 87: يشترط في حلية الصيد تحقق أمور من قِبَل الصائد، وهي:
الأول: أن يكون الصائد مسلماً إجمالاً، ولا فرق في المسلم بين الرجل والمرأة، ولا بين المؤمن والمخالف في المذهب، فإن كان الصائد كافراً من غير أهل الكتاب لم يحل صيده ولو سمى، أما صيد أهل الكتاب فيحرم من دون تسمية، فإذا سمى على الصيد كانت حرمته مبنية على الاحتياط، ولا يبعد الحل به.
الثاني: قصد الاصطياد بالرمي، فلو لم يكن الرامي بصدد الاصطياد، كما لو كان يتدرب على الرماية على هدف أمامه فمر الصيد صدفة فأصابه، أو كان يرمي على عدو أو حيوان أهلي فأصاب صيداً، لم يحل ذلك الصيد؛ وكما يجب قصد أصل الاصطياد بالرمي فإنه يجب ـ على الأحوط ـ قصد خصوص الصيد المحلل، فلو رمى على خنزير أو كلب فأصاب غزالاً فقتله لم يحل ذلك الغزال، بل عليه تجنب الطريدة من باب الاحتياط الوجوبي أيضاً فيما لو اعتقد أن ذلك الحيوان خنزير فرماه فتبيّن أنه غزال؛ نعم لا يشترط في الحلية قصد نوع محلّل بخصوصه، فلو كان يرمي على طائر فأصاب غزالاً حلّ، فضلاً عما لو قصد صنفاً من الطيور فأصاب غيره، أو قصد طائراً بخصوصه فأصاب المجاور له من نفس الصنف.
الثالث: صدور التسمية وذكر الله تعالى من الصائد، وذلك إما عند إطلاق الرمية أو بعد إطلاقها ولكن قبل الإصابة، وأكمله ذكر لفظ الجلالة مقترناً بالتعظيم، مثل «الله أكبر» أو «بسم الله»، ويمكن الاكتفاء بمجرد ذكر لفظ الجلالة، وإن كان الأحوط استحباباً عدم كفايته؛ والتسمية شرط عند الالتفات؛ فإذا تعمد ترك التسمية حرم صيده، وإذا سهى عن ذلك لم يحرم.
الفرع الثاني ـ الصيد بالحيوان:
استخدم الإنسان بعض الحيوانات المدربة في اصطياده لسائر الحيوانات والطيور، والمشهور منها الكلب من الحيوانات والباز والصقر من الطيور، وذلك بعدما دربها وأخضعها له، ولمعرفة حكم هذه الوسيلة في الاصطياد لا بدّ من ذكر مسائل:
مسألة 88: مثلما يجوز الاصطياد بالكلب من الحيوانات البرية كذلك يجوز بغيره من أصناف الحيوانات الأخرى، مثل النمر والفهد، وكذا يجوز بغير الحيوان البري من الطيور، مثل الباز والباشق والصقر وغيرها، بالشروط التي سنذكرها؛ ومعنى حلية الاصطياد بها هو: أن الصيد الذي تصيبه يحلُّ أكله إذا أدركه صاحبه ميتاً من دون حاجة إلى ذبحه ليصير حلالاً.
مسألة 89: يجب توفر أمور عند الاصطياد بكلِّ حيوان يستخدم لذلك، وسوف نجعل محور الكلام هو الكلب لأنه أشهرها، ولأنّ ما ينطبق عليه ينطبق على غيره، وهذه الأمور هي:
الأول: أن يكون الكلب مُدرّباً ومعلّماً على الاصطياد، ويتحقق ذلك عندما يكون الكلب مطيعاً للصائد، فإذا أرسله وأغراه بالطريدة تحمَّس وانبعث إليها، وإذا زجره واستوقفه توقف وانزجر، وبما أنه قد يصعب انزجار الكلب مباشرة بعد إرساله، فإنه لا يجب وصوله في الطاعة إلى هذه الدرجة، بل يكفي انزجاره في غير هذه الحالة؛ كذلك فإنه يجب أن يتوفر في الكلب المدرب ميزة عدم الأكل الدائم للطريدة التي يمسكها إذا كانت مما يمكن أن يأكله الكلب عادة، وإلا لم ينتفع منه صاحبه في الغاية التي علّمه من أجلها، بل إنه بفقده لهذه الميزة يصير كأنه غير معلَّم ولا مدرَّب، نعم لا ينافي ذلك ما لو حصل منه الأكل أحياناً كثيرة، إذ المهم ـ في المقام ـ أن لا يكون دائم الأكل.
الثاني: أن يقصد الصائد الاصطياد بإرسال الكلب، فلو أرسله لأمر آخر غير الاصطياد، كمطاردة عدوّ فاصطاد حيواناً لم يحل صيده، وكذا لو استرسل بنفسه فصاد لم يحل أيضاً؛ هذا، وكما ذكرنا في الصيد بالآلة، فإنه لا يجب قصد صيد حيوان معين ما دام الذي بعثه إليه وقصده به حيواناً محللاً، فلو بعثه لاصطياد غزال فاصطاد طائراً حل، وأما إذا أرسله لاصطياد خنـزير فاصطاد غزالاً لم يحل.
الثالث والرابع والخامس: يشترط في صيد الكلب أن يكون المرسل مسلماً إجمالاً، وأن يسمي قبل الإصابة، وأن يستند موت الحيوان إلى جرح الكلب أو عقره، وجميع ذلك بنفس التفاصيل التي مرّت في الصيد بالآلة؛ نعم إذا جلب الكلبُ الطريدة ميتة، ولم يوجد فيها أثر الجرح، فإن شُك في سبب موتها لم تحل، وإن علم موتها مختنقة بسبب إمساك الكلب فهي حلال.
الفرع الثالث ـ في الأحكام المشتركة:
مسألة 90: لا يشترط في حلية الصيد كون الوسيلة مباحة، فلو غصب كلباً أو بازياً أو سلاحاً فاصطاد به حل صيده وإن أثم بالتصرف بمال غيره.
مسألة 91: لا يشترط في حلية الصيد وحدة الصائد ولا وحدة الآلة، فلو اشترك اثنان في إطلاق الرصاص على هدف واحد فأصاباه حلّ، أو أرسل اثنان كلباً واحداً، أو أرسل واحد عدة كلاب، أو أطلق واحد رصاصاً وأرسل الآخر كلباً، فإنه في جميع الحالات المتصورة يحل الصيد بذلك إذا تحققت سائر الشروط المعتبرة؛ وهنا لا بد من ملاحظة أنه إذا تعدد الصائد والآلة واستند الموت إلى فعل الاثنين معاً فإنه لا بد من اجتماع الشروط فيهما، فلا يحل الصيد إذا أرسل مسلم وكافر كلبين، أو إذا سمى أحدهما ولم يسمِّ الآخر، أو فيما لو كان كلب أحدهما معلَّماً وكلب الآخر غير معلـم، وهكذا، أما إذا استند موت الصيد ـ في مثل هذه الحالات ـ إلى أحدهما بعينه فإنه يُرى اجتماع الشروط فيه وحده دون صاحبه الذي شاركه.
مسألة 92: إنما يحل الحيوان بالصيد بالحيوان أو بالآلة إذا أدركه الصائد ميتاً بعد إصابته وجرحه من قبل الكلب أو الآلة، فلو أدركه الصائد وبه رمق من الحياة وجب عليه أن يبادر إلى تذكيته بالذبح إذا اتّسع الوقت، فإن لم يذبحه ومات مع سعة الوقت لم يحل الصيد، ومن موارد عدم اتساع الوقت ما لو اشتغل بمقدمات الذبح، كتناول السكين وتوجيهه ورفع الشعر عن رقبته ونحو ذلك، فمات قبل ذبحه حل؛ ومعنى إدراكه حياً أن يصل إليه ويقدر على إمساكه، فلو وصل إليه لكنه كان معلقاً على شجرة أو كان ما يزال يعدو أمامه، فإنه إذا مات قبل أن يمسكه ـ والحالة هذه ـ يحل؛ كما أن حياته تتحقق بأن يجده وهو يطرف بعينه أو يحرك رجله أو يده أو ذيله، وهو أدنى مراتب الحياة، فإن وسع الزمان فذكاه وهو كذلك فقد حل، وإن لم يذكه فمات حرم.
مسألة 93: لا يجب على الصائد اللحاق بالكلب حين إرساله، ولا المبادرة إلى الصيد حين إصابة الكلب أو الآلة له إذا كان الصيد ما يزال ممتنعاً غير عاجز، من أجل المسارعة لإدراكه حياً وتذكيته بالذبح؛ وكذلك لا تجب المسارعة بعد إعجاز الصيد وإيقافه من قبل الكلب أو الآلة إذا علم لطول المسافة ونحوها بأنه لن يدركه حياً، أما إذا احتمل إدراكه حياً فإن عليه المسارعة إليه برجاء إدراكه حياً وتذكيته بالذبح.
مسألة 94: إذا أصاب الكلب أو الآلة عضواً من الصيد كيده أو رجله فقطعه لم يحل ذلك العضو المقطوع إذا فاته الحيوان، فإن عجز الحيوان بذلك ووقف فمات من هذه الإصابة قبل إدراكه حياً حل أكله وأكل العضو المنفصل عنه، وإن أدركه حياً ذكاه بالذبح وحل كذلك بالنحو المتقدم؛ أما إذا قطعه الكلب أو الآلة نصفين فمات قبل إدراكه حل النصفان جميعاً، وإن أدركه حياً واتّسع الوقت لذبحه لم يحل منه إلا النصف الذي فيه الرأس والرقبة بعد ذبحه وحرم النصف الآخر؛ وأما إذا كانت آلة الصيد غير السلاح والكلب، بل مثل الفخ، فقطعه نصفين حين أطبق عليه، فإن النصف الذي ليس فيه الرأس والرقبة حرام على كل حال، ولا يحل النصف الذي فيه الرأس والرقبة إلا بالذبح.
مسألة 95: إذا تردّى الحيوان الأهلي في بئر أو علق في مكان ضيق ولم يمكن ذبحه أو نحره، وخيف موته هناك، أمكنه تذكيته بعقره في غير موضع الذبح برمح أو سكين أو بإطلاق الرصاص عليه أو بغيرها مما يجرح ويقتل، فإذا مات بعد جرحه يصير مذكى، فيطهر ويحل أكله إذا توفرت سائر الشروط في العاقر، كالتسمية ونحوها، والأحوط وجوباً عدم حليته بالعقر بالكلب فيختص الحل بالآلة وحدها.