المبحث الثاني ـ في ربا المعاملة

كنا قد ذكرنا في شروط العوضين: «لزوم كونهما معلومي المقدار بنحو لا يوجب وقوع المتبايعين في الغـرر»؛ ولكنَّ مـا بـه يكون التقديـر ـ وهو الوزن والكيل والمساحة والعد، والذي سنسميه (المقدار) ـ له أحكام خاصة من جهة نفس كونه (مقداراً)، سواء كان في المبيع أو في الثمن؛ لذا فإن ما يمكن قوله هنا إجمالاً وتمهيداً لما سيأتي هو ما يلي:
إنه يصح ـ إجمالاً ـ بيع كل سلعة بغير جنسها مطلقاً، سواء كان العوضان مشاهدين أو موزونين أو مقدرين بغير ذلك من أنواع المقادير، ومع التفاضل وبدونه؛كذلك فإنه يجوز ـ إجمالاً ـ بيع السلعة بمثلها إذا لم يكن العوضان معاً من المكيل ولا الموزون ولا من الذهب والفضة ومطلقاً أيضاً، أي سواء كانا معدودين أو ممسوحين أو مشاهدين، ومع التفاضل وبدونه، وإنما قلنا: «إجمالاً» في الموردين إلفاتاً لما سيأتي من الاستشكال في بيع النسيئة في مطلع المطلب الأول الآتي في هذا المبحث، (أنظر الوجه الثاني من المسألة 779)؛ فإن كانا معاً من المكيل أو الموزون، أو كانا معاً من النقدين الذهب أو الفضة، فإن للعوضين حينئذٍ أحكاماً خاصة نذكرها في مطلبين: الأول: في بيع المكيل والموزون، وهو ما يصطلح عليه بـ (ربا المعاملة)، والثاني: في بيع الصرف؛ لكنه لما كان مدار الأحكام في بيع الصرف (النقدين) على كون الذهب والفضة من الموزون، فإنهما يلحقهما حكم المكيل والموزون عموماً لولا بعض الخصوصيات التي استدعت إفرادهما بمطلب مستقل، ومن هنا صح أن نعنون هذا المبحث الشامل لهذين المطلبين بعنوان واحد مشترك هو (ربا المعاملة).
والربا من كبائر المحرّمات، وقد أغلظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في النهي عنه وتشديد العقاب عليه بما هو مشهور ومعروف، وله موردان هما: ربا المعاملة وربا الدين، وقد اعتمدنا ما هو المعروف في نهج الفقهاء، فقدمنا ذكر ربا المعاملة في هذا الباب، وأخرنا ذكر ربا الدَّين إلى باب الدين الآتي إن شاء الله تعالى، انسجاماً مع ما في كل منهما من خصوصيات تستلزم إفراده بالذكر.
المطلب الأول ـ في بيع المكيل والموزون:
وهو يقع في مسائل:
مـسألة 779: يختلف حكم الربا في البيع على وجهين، وتفصيلهما كما يلي:
الوجه الأول: في البيع نقداً، وحكمه يختلف باختلاف موارده على النحو التالي:
أ ـ يجوز بيع المتحدين في الجنس من المكيل والموزون أحدهما بالآخر نقداً دون زيادة في أحدهما على الآخر، كبيع عشرين كيلواً من القمح بعشرين منه، سواء اتفقا في الصنف وفي الجودة والرداءة أو اختلفا.
ب ـ يجوز بيع المختلفين في الجنس أحدهما بالآخر نقداً، سواء كانا من المكيل والموزون أو كانا من غيرهما، وسواء بالزيادة أو بدونها، فيجوز مثلاً بيع عشرين كيلواً من القمح بعشرة كيلوات من الأرز نقداً، وهكذا غيره من أمثلة الموارد الأخرى مما هو أوضح منه.
ج ـ لا يجوز بيع المتحدين في الجنس من المكيل والموزون نقداً مع الزيادة في أحدهما على الآخر، مثل أن يبيعه عشرين كيلواً من القمح باثنين وعشرين كيلواً منه، سواء كانا معاً من الموزون، كالمثال المتقدم، أو كانا من المكيل، كأن يبيعه مُدَّيْن من القمح بمد ونصف منه، أو كان أحدهما مكيلاً والآخر موزوناً، كأن يبيعه مداً يزن في بعض البلاد خمسة عشر كيلواً من القمح بعشرين كيلواً منه.
هذا، ولا فرق في الزيادة المذكورة في هذا الوجه الأول بأنحائه الثلاثة بين الزيادة العينية وبين الزيادة الحكمية، والزيادة العينية هي: (الزيادة المادية التي هي من جنس المبيعين أو من غير جنسهما، كالقمح والكتاب والثوب والنقود ونحوها من الأمور الخارجية المنظورة)، وأما الزيادة الحكمية فهي: (ما كانت بخلاف ذلك، كالحقوق والأعمال ونحوها)، كأن يبيعه عشرين كيلواً من القمح بعشرين كيلواً منه نقداً مع تعهده بخياطة ثوبه مثلاً، أو تعهده بإعطائه حق المرور في ملكه إلى أرضه المجاورة مثلاً، ونحو ذلك من الأمور التي ليس لها أعيان خارجية.
الوجه الثاني: في البيع نسيئة، وحكمه أيضاً يختلف باختلاف موارده على النحو التالي:
أ ـ يحرم بيع المتحدين في الجنس والمقدار نسيئة إذا كانا من المكيل أو الموزون، كأن يبيعه عشرين كيلواً من القمح بعشرين كيلواً منه مؤجلاً لشهر. لأن هذا التأجيل يُعدّ ميزة لأحدهما على الآخر و (زيادة حكمية) تجعله رباً محرماً.
ب ـ يشكل بيع المختلفين في الجنس من المكيل والموزون نسيئة، سواء اتحدا في المقدار، كأن يبيعه مائة كيلو من القمح مثلاً بمائة كيلو من الأرز لشهر، أو كانا مختلفين في المقدار، كأن باعه مائة كيلو من الأرز بمائةٍ وعشرين كيلواً من القمح لمدة شهر.
ج ـ يشكل بيع المتحدين في الجنس من المعدود مع الزيادة العينية نسيئة، كبيع عشرين جوزة بخمس عشرة جوزة لشهر مثلاً.
وما عدا ذلك من موارد هذا الوجه جائز ما لم يحرم من جهة أخرى.
مسألة 780: المعيار في كون الشيئين مثلين هو اتحادهما في الجنس والذات معاً، كما في كونهما معاً من القمح أو الغنم أو زيت الزيتون أو نحو ذلك، أو اتحادهما في الجنس دون الذات، كما في كون أحدهما من الغنم والآخر من الماعز، أو أحدهما من الحنطة والآخر من الشعير، أو نحو ذلك، فإذا اتحدا بهذا النحو كانا مثلين حتى لو لم يتفقا في الصفات، كالسمن والضعف، والجودة والرداءة، والصحة والمرض، والسماكة والرقة، وغير ذلك من الأوصاف التي تختلف باختلاف الأعيان.
مسألة 781: قد ذكر الفقهاء أموراً يعرف بها اتحاد جنس الأشياء واختلافه، وذلك على النحو التالي:
1 ـ الحبوب كل واحد منها جنس، فالعدس والحمص والفول والأرز والقمح كل واحد منها جنس مختلف عن الآخر، نعم تعتبر الحنطة والشعير جنساً واحداً هنا في باب الربا رغم أنهما في الزكاة جنسان.
2 ـ الحيوانات كل واحد منها جنس، فالوحشي يختلف عن الأهلي وإن كان لهما اسم واحد، فالبقرة الأهلية جنس مختلف عن البقرة الوحشية، والحمار الأهلي جنس مختلف عن الحمار الوحشي، والبقر والغنم والإبل والغزال كل واحد منها جنس، نعم يعتبر الغنم والماعز جنساً واحداً، وكذا البقر والجاموس، وكذا ما يعرف من الإبل بـ (العراب) فإنه غير ما يعرف منها بـ (البخاتي).
وكل ما سمي من الطيور والأسماك باسم فهو جنس برأسه، فالعصفور غير الحمام، وهما غير الحجل، وهي غير الشقراق، نعم مثل الدوري والقبرة وأسود الرأس ونحوه مما هو من أصناف العصفور يعد جنساً واحداً، وكذا أصناف الحمام؛ وهكذا الأسماك كالبوري والعرموط والشبوط ونحوها، فإن كل ما اختص منها باسم يعد جنساً برأسه، وهكذا سائر الأشياء.
3 ـ اللحوم والأسمان والألبان والزيوت ونحوها مما هو نتاج منفصل لشي‏ء آخر أو معتصر منه تختلف باختلاف مصدرها، فيعد كل ما كان منها من جنس برأسه جنساً مستقلاً، فمثل لحم الغنم ولحم البقر جنسان، فيما يعد لحم الغنم ولحم الماعز جنس واحد، وهكذا اللبن والسمن؛ وكذا الزيوت، فإن زيت الزيتون غير زيت الذرة، وهما غير زيت السمسم، وهكذا تتعدد أجناسها بتعدد مصادرها النباتية.
أما حكم هذه الفروع مع أصولها فإن المرجع في صيرورة الفرع جنساً مستقلاً عن أصله هو العرف، فإذا كان الاختلاف بين ثمرة الزيتون وزيته على درجة من التباين يراهما فيها العرف شيئين مختلفين فهما شيئان مختلفان حينئذ، وذلك من قبيل الخل والعنب والسمسم وزيته، بل وسائر الزيوت وكثير من السوائل المعتصرة من مصادرها، كالورد ومائه وما أشبهه من النباتات المأخوذة سوائلها بالتقطير؛ فيما لا يرى العرف تبايناً بين الرمان وعصيره مثلاً، ولا بين الحليب والجبن، ولا بين القمح والطحين، وهكذا. هذا، ومما يعد من المثلين لحم الحيوان المذكى والحيوان من جنسه، فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر مع التفاضل.
ثم إنه إذا اتفق العرف على اعتبارهما مختلفين أو مثلين فلا إشكال، وأما إذا اختلفت نظرة العرف إليهما، فإن كان ذلك بين عرف هذا البلد وعرف ذاك البلد أخذ كل بلد بالعرف المتفق عليه عنده، وإن كان الاختلاف في عرف البلد الواحد فلا مفر من الاحتياط الوجوبي بمعاملتهما معاملة المثلين.
مسألة 782: إذا اختلفت البلدان في ما تقدر به بعض الأشياء، فكان في بلد مقدراً بالوزن وفي آخر بالعد، كان لكل بلد حكمه؛ وأما إذا اختلف تقديره في البلد الواحد بين الوزن والعد مثلاً، فالأحوط وجوباً ترك بيعه بالتفاضل فيه وإن كان نقداً.
وإذا كان الشي‏ء الواحد في حال موزوناً وفي حال أخرى معدوداً، وذلك كالثياب، فإنها تباع بالوزن مستعملة وتباع بالعدد جديدة، أو نحو ذلك، فإن لكل حالة حكمها، فيجوز بيع الجديدة بالمستعملة مع التفاضل نقداً، وكذا يجوز بيع الجديدة بالجديدة كذلك لأنها من المعدود، فيما لا يجوز بيع المستعملة بالمستعملة نقداً مع التفاضل لأنها من الموزون.
وإذا كان الأصل مما يوزن وفرعه المتحد معه في الجنس مما يعد، وذلك كالصوف المجتز من الحيوان والثياب المنسوجة من صوف غيره إن رآهما العرف جنساً واحداً، فإنه يجوز بيع أحدهما بالآخر مع التفاضل، وهكذا أشباهه كالقطن والكتان والثياب المنسوجة منهما، وغير ذلك من موارد اتحاد الأصول مع فروعها عند اختلاف تقدير أحدهما عن الآخر.
مسألة 783: إذا اختلف مقدار الموزون بين حالتي رطوبته وجفافه في مثل العنب والزبيب والرُّطب والتمر، فإنه لا شك في جريان ما تقدم من الأحكام عليه حال بيع الجاف منه بالجاف والرَّطب منه بالرطب، أما بيع الرَّطب بالجاف فهو غير جائز مع التفاضل، حتى لو لوحظ في التفاضل مقدار ما سينقص من الرَّطب عند جفافه بحيث يصير مساوياً للجاف عندئذٍ، وجائز على كراهة مع التماثل نقداً.
مسألة 784: الأوراق النقدية المستحدثة في هذا الزمان معتبرة من المعدود، فلا يحرم بيع بعضها ببعضها الآخر متفاضلاً مع اختلاف الجنس نقداً أو نسيئة، فيجوز مثلاً بيع خمسة دنانير كويتية بعشرة دنانير عراقية مطلقاً؛ كذلك فإنه يجوز بيعها مع اتحادها في الجنس نقداً بالتفاضل، وأما نسيئة فإن الاحتياط الوجوبي يقتضي تركه.
مسألة 785: يحرم ربا المعاملة على الأحوط لزوماً على من استثناهم مشهور الفقهاء من الحكم بحرمة الربا، وهم:
أ ـ الوالد وولده، فإنه لا يجوز لهما التعامل بالربا وأخذ أحدهما الزيادة من الآخر على الأحوط لزوماً، وذلك دون فرق في الولد بين الذكر والأنثى، والصغير والكبير، ومن كان من صلبه أو كان ولداً لابنه أو ابنته مهما تسلسلوا.
ب ـ الزوج والزوجة، دائمة كانت أو متمتعاً بها أو في عدة طلاق رجعي، فإنه لا يجوز لكل منهما أخذ الزيادة الربوية من الآخر على الأحوط لزوماً.
ج ـ الكافر الحربي، فإنه لا يجوز للمسلم أن يأخذ منه الربا على الأحوط لزوماً، بل ولا يجوز أن يعطيه إياه. أما الذمي فتحرم المراباة معه كالمسلم، لكن إذا عصى المسلم فتعامل معه بالربا جاز له أخذ الزيادة منه إذا كان الربا حلالاً في شريعته، وإلا لم يجز أخذها بدون رضاه، وكذلك كل شخص يُجوِّز ذلك في التزاماته الدينية أو القانونية.
مسألة 786: يمكن التخلص من الربا بضم شي‏ء آخر على أحد العوضيين أو عليهما من غير جنسهما، وذلك على النحو التالي:
أ ـ من أجل التخلص من الربا في بيع المثلين نقداً مع التفاضل، يمكنه أن يضم شيئاً من غير جنسهما إلى الطرف الناقص، ويقصد أن يكون في مقابل المقدار الزائد في الطرف الثاني، ومثاله: أن يبيعه عشرين كيلواً من القمح وكتاباً بخمسة وعشرين كيلواً منها نقداً.
ب ـ من أجل التخلص من الربا في بيع المثلين نقداً أو نسيئة، ولو مع التفاضل، يمكنه أن يبيعه مثلاً عشرين كيلواً قمحاً وكتاباً بثلاثين كيلواً وكتابين، على أن يكون قصدهما جعل الكتاب مقابل الثلاثين من القمح وجعل الكتابين مقابل العشرين، أو بالعكس؛ والقاعدة فيه: أن يجعلا الضميمة في كل طرف في مقابل المثمن أو الثمن في الطرف الآخر.
ج ـ ونفس الفرض (ب) يمكن استخدامه للتخلص من الربا في البيع النقدي خاصة ولكن بصورة أخرى، وذلك في نفس المثال بأن يقصدا كون الكتاب في الطرف الناقص مقابل الكتابين والمقدار الزائد من الطرف الآخر.
ولكن يجب في المورد (ب) و(ج) المتقدمين أن يكون قصد كون الكتاب في قبال القمح جدياً، بل وأن يكون في إقدامهما على التورط في مثل هذه المعاملة قدرٌ من الضرورة العرفية المحقِّقة للقصد الجدي والمعذِّرة في اقتحام الشبهة، فإن لم يكن كذلك، بل كان هدفهما الحقيقي والجدي هو تملك القمح بالتفاضل، فيما يكون قصدهما من التعاقد على الكتاب تصحيح تملك القمح واقعاً دون أن تكون لملكية الكتاب أهمية تذكر، فلا تعتبر هذه المعاملة صحيحة حينئذٍ.
مسألة 787: يختص ربا المعاملة بكل معاوضة بين عينين، سواء كانت بالبيع أو بالصلح، أو كانت بالمبادلة المحضة دون قصد العوضية والمعوضية، فكما يحرم الربا بالنحو المتقدم في البيع فإنه يحرم بالصلح بمثل أن يقول: «صالحتك على عشرين كيلواً من القمح بثلاثين منه»؛ فإن كانت المعاوضة بالصلح على غير العينين مباشرة، بل على أن يهبه عشرين من القمح مثلاً مقابل أن يهبه الآخر ثلاثين، لم يكن ذلك من الربا إذا قصدا الهبة جدياً، وكذا لو تم التعاوض بالتبارؤ، وهو يتحقق فيما لو كان لكل منهما مقدار من القمح مثلاً في ذمة الآخر فاتفقا على أن يبرأه من العشرين مداً من القمح التي له في ذمة صاحبه على أن يبرأه صاحبه من الثلاثين مداً التي له في ذمته، فإنه لا يكون ذلك ربا أيضاً إذا قصدا الإبراء جدياً.
هذا، فيما إذا كانت المعاملة معاوضة، أما المعاملات الأخرى، كالهبة ولو كانت معوضة والصدقة ونحوهما مما يمكن أن يجر للطرفين نفعاً متبادلاً، فلا يجري فيها الربا بالنحو المتقدم في المعاوضات.
مسألة 788: المعاملة الربوية باطلة إذا صدرت من العالم بحرمة الربا، فلا يتملك المال الربوي ولا يحل له التصرف فيه، وعليه إرجاعه لمن أخذه منه، مسلماً كان المأخوذ منه أو كافراً ذمياً، بل وحربياً على الأحوط وجوباً؛ نعم يكفي في تملكه له علمه برضا صاحبه بأن يتملكه رغم عدم استحقاق الآخذ له، وكذا يكفي في تملكه ما إذا كان صاحب المال غير مسلم وكان الربا حلالاً في شريعته أو في القوانين التي يلتزم بها. وأما الجاهل بحرمة الربا حكماً أو موضوعاً فإنه يتملك ما أخذه بالربا، ولا يجب عليه إرجاعه إلى المأخوذ منه، وعليه أن يقلع عن ذلك بعد علمه بالحرمة.
المطلب الثاني ـ في بيع الصرف:
ويراد به بيع المعدنين الثمينين الذهب والفضة بغض النظر عن كونهما نقدين أو ليسا بنقدين، بما في ذلك ما لو كانا حلياً مصوغة، وكذا بغضّ النظر في النقدين منهما عن كونهما مسكوكين أو غير مسكوكين، وعن كونهما متداولين في حركة التبادل التجاري أو غير متداولين، وعن كونهما مما يباع بالوزن أو بالعدِّ مثلاً؛ إذ إنهما قد لوحظا في ما سوف نذكره من أحكام لهما بما لهما من صفة الذهبية والفضية مجردة عن تلك الخصوصيات، ثمناً كان أحدهما أو مثمناً، رغم أن الوضع التاريخي لهما قد كرسهما كنقدين ملحوظين بمقدارهما الموزون، ورغم أن بيع الصرف ينصرف إلى ما كان نقداً من هذين المعدنين بسبب سيادة وغلبة معدني الذهب والفضة في عالم النقد قديماً على غيرهما من المعادن.
أما تفصيل أحكام بيع الصرف فهو يقع في مسائل:
مسألة 789: لا يجوز بيع الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة، مع الزيادة في أحدهما عن الآخر، حتى لو كان الناقص مصوغاً حلياً، سواء في ذلك البيع نقداً، أو نسيئة بطريق الأولى؛ وكذا لا يجوز بيع أحدهما بالآخر مع الزيادة أو بدونها إذا كان البيع نسيئة، دون ما لو كان البيع نقداً، فإنه يجوز مطلقاً. هذا، ويثبت حكم بيع النقدين المذكور لبيع أحدهما بأجزاء منه، كبيع الليرة الرشادية المعروفة في هذا الزمان بنصفين منها، لأنّه ما يزال يعتبر من الموزون.
مسألة 790: لا بد في بيع الصرف من التقابض قبل الافتراق عن مجلس العقد، سواء بيع الذهب أو الفضة بمثله أو بيعه بالآخر، فلو تفرقا ولم يتقابضا بطل البيع، ولو تم القبض في البعض صح فيه وبطل في الجزء الذي لم يقبض، بل إنه لا بد من التقابض حتى في صورة ما لو كان أحدهما قد ضم إلى النقد غيره، كما لو باعه درهماً وكتاباً بدرهمين، فإنه إن لم يتقابضا يبطل البيع في النقد ويصح في الضميمة، وهي الكتاب في المثال. هذا، ولو فرض أنهما خرجا عن مجلس العقد مصطحبين، فلا بد من تقابضهما قبل التفرق أيضاً.
مسألة 791: إذا تعاقدا بالتخابر الهاتفي أو بالكتابة فلا بد من التقابض أيضاً، وذلك إما بأن يوصل كل منهما العين إلى الآخر قبل العقد، أو يوكل من يقبض عنه عند التعاقد، وإلا لم يصح البيع.
مسألة 792: رغم أن القبض شرط في صحة بيع الصرف لكن الإقباض ليس واجباً على كل واحد من المتبايعين حتى لو أقبضه صاحبه، ومعنى ذلك أن لكل منهما أن يتسبب ببطلان البيع وإلغاء أثر العقد بامتناعه عن إقباض ما بيده لصاحبه؛ بل إن عقد البيع في الصرف لا يحقق الانتقال قبل القبض بنفس القوة التي يحدثها العقد في بيع غير الصرف، ولذا فإن نماء المبيع أو الثمن ومنافعه المتحققة قبل القبض هي للمالك الأول، أي لمن انتقل عنه لا لمن انتقل إليه.
مسألة 793: تختص شرطية التقابض في الصرف بالبيع، فلو تمت المعاوضة في الصرف بالصلح لم يجب فيه التقابض.
مسألة 794: إذا كان أحد العوضين ديناً في ذمة الآخر فباعه إياه بنقد آخر، من جنسه أو من غير جنسه، كفى قبض الدائن ما يدفعه إليه المدين ثمناً، ولم يحتج المدين إلى قبض ما في ذمته ما دام حاضراً عنده ولو اعتباراً.
نعم إذا باع الدائن ماله في ذمة زيد على غيره، وليكن هو سعيداً مثلاً، فإنه لا بد من قبض سعيد لما في ذمة زيد، بل إنه حتى لو وكل سعيد زيداً بأن يقبض ما في ذمته نيابة عنه لم يغنِ ذلك التوكيل عن لزوم إخراج زيد لما في ذمته وتشخيصه في نقد معين وقبضه وكالة عن سعيد.
مسألة 795: إذا اشترى زيد عشرة دنانير مثلاً بمائة درهم، ثم باعها قبل قبضها لسعيد، لم يصح البيع الأول حتى يقبض زيد ما اشتراه قبل التفرق، أما البيع الثاني فإنه محكوم بالبطلان على كل حال، أي حتى لو قبض سعيد بعد ذلك ما اشتراه من زيد قبل التفرق.
مسألة 796: يجوز بيع أحد النقدين بجنسه مع الزيادة إذا جعل مع الآخر ضميمة ذات مالية معتد بها وإن كانت في قيمتها أقل بكثير من الزيادة الموجودة في الآخر، فيصح أن يبيعه عشر ليرات ذهبية إنكليزية مع كتابٍ معين بخمس عشرة ليرة رشادية ذهبية.
هذا، ولما كان الشائع في سك النقود إضافة معدن النحاس مع الذهب حتى يشتد، وإضافة معدن الرصاص مع الفضة، وهي الإضافة التي يصطلح عليها بـ (الغش)، لكنه غش مقبول وضروري من الناحية الصناعية، فإن هذا المقدار من النحاس الموجود في النقد لا يصلح ضميمة مبررة للزيادة في النقد الآخر الذي من جنسه، بنحو يعتبر فيه المتعاقدان أن الزيادة هنا مقابل كمية النحاس الموجودة هناك في داخل تلك الليرات أو الدنانير، وذلك لأنه لا مالية له، كما أن لحاظه كضميمة ليس بجدي.
مسألة 797: لا بأس في بيع الشي‏ء المحلى بالذهب أو بالفضة بنقد من جنس الحلية، كالكتاب والسبحة والسيف ونحوها، حتى لو كانت الحلية أقل من الذهب النقدي، بل ولا يجب على مشتري السيف مثلاً أن يقصد كون الزائد من الثمن في مقابل الآلة، وذلك لأن الملحوظ في المبيع هو ا لآلة المحلاة لا الحلية التي عليها.
مسألة 798: قد ذكرنا في أول مسألة من هذا المبحث ما يفيد بأن كون أحد المعدنين الثمينين مصوغاً حلية لا يبرر جعل النقد الذي في مقابله أزيد منه إذا كان من جنسه، بل ومن غير جنسه إذا كان البيع نسيئة، بقصد أن يكون الزائد في مقابل الصياغة؛ وزيادة على ذلك نقول:
لا يجوز أن يبيع مثقالاً ـ مثلاً ـ من الذهب الخالص بمثقال من الذهب (المغشوش) بشرط أن يصوغ له خاتماً، حتى لو قصدا كون (صياغة الخاتم) في مقابل ما يزيد في الذهب الخالص عن النقد الذهبي المغشوش؛ نعم، يجوز أن يطلب منه صياغة خاتم على أن تكون (جعالة) هذا العمل وأجرته أن يبيعه مثقالاً من الذهب الخالص بمثقال من الذهب المغشوش، ولكن شرط أن يكون ذلك على سبيل القصد الجدي؛ كذلك فإنه يجوز أن يبيعه ـ مثلاً ـ مثقالاً من فضة غير مصوغٍ بمثقال منها مصوغٍ خاتماً، إذ لا تعتبر الصياغة في الآخر زيادةً ربوية.
مسألة 799: النقود المعدنية من غير الذهب والفضة المتداولة في هذا الزمان تعتبر من المعدود لا من الموزون، فيجوز بيع نقد منها بالآخر مع الزيادة حتى لو كانت من جنس واحد، وكذا يجوز صرفها إلى أبعاضها مع التفاضل، فيصح بيع المارك والجنيه ونحوهما من القطع المعدنية بنصفين منها أو أربعة أرباع حتى لو كان وزن تلك الأجزاء والأبعاض مجتمعة أكثر من وزن القطعة الواحدة من فئة (المارك) مثلاً؛ كذلك فإنه لا يشترط التقابض في بيعها قبل التفرق عن مجلس البيع.
وأما العملة الورقية المتداولة في زماننا هذا، بل والغالبة في التداول النقدي، فلا إشكال ـ مطلقاً ـ في بيع بعضها ببعض مع التفاضل؛ بل ولا يشترط فيها التقابض في مجلس العقد، حتى لو كان رصيد تلك العملة الورقية ذهباً.
فائدة فيها مسائل:
مسألة 800: إذا كان له في ذمة غيره نقدٌ ذهبيٌ معيّن، كالليرة العثمانية، فطلب منه تحويلها ليرة إنكليزية، أو ليرات عثمانية من فئة الربع ليرة، أوأجزاءً أخرى من الليرة العثمانية أو غيرها، أو كان له في ذمته أجزاء من الليرة الذهبية فطلب تحويلها إلى نقد ذهبي من فئة الليرة، وما أشبه ذلك، فإذا قبل المدين طلب الدائن تحول ما في ذمته إلى ما طلبه منه، ولزم ذلك (التحويل) عليهما، ولم يكن لأحدهما التراجع عنه إلا برضا الآخر.
مسألة 801: من اشتغلت ذمته لآخر بنقد معين من الذهب أو الفضة، كأن اقترض منه عشرين ليرة رشادية، أو كان مهراً لزوجته، أو جعله ثمناً في البيع، فتغير سعره حين الوفاء به عما كان عليه حين اشتغال الذمة به، لم يكن عليه إلا نفس النقد، زادت قيمته أو نقصت، فإن أراد قيمته من العملات الأخرى فليس له عليه إلا قيمته الحالية مهما كانت قليلة أو كثيرة.
مسألة 802: لا يجوز تزوير العملات الورقية والمعدنية المتداولة في زماننا هذا في ظل النظام النقدي العالمي المتعارف، كما لا يجوز التعامل بها في البيع والشراء، بل يجب التصدي لفاعل ذلك عالماً متعمداً ونهيه عن هذا المنكر بكل وسيلة محققة للارتداع بالنحو الذي يذكر في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يجب إلفات الجاهل إلى حرمته ومنعه من الجري على مقتضى جهله رغم كونه معذوراً.
وكذلـك الحكـم في النقـد الذهبـي أو الفضـي ـ رغم قلة التعامل بهما ـ وبخاصة ما لو كان التزوير أو الغش كبيراً بالغاً حدّ تغير الحقيقة وانعدام عنصر الذهب أو الفضة منه؛ نعم يذكر الفقهاء كلمة (الغش) في فتاواهم ويريدون به في النقدين كونهما ممزوجين بمقدار من معدن آخر، كالنحاس في الذهب والرصاص في الفضة، مما هو مقصود عند سك النقود ومعلوم ومقبول في عرف الناس، وذلك في مقابل النقد المسكوك من الذهب الخالص، إن مثل هذا (الغش) المقصود منه معناه اللغوي لا الأخلاقي كان جائزاً ومقبولاً، وهو جائز فعلاً حيث يكون رائجاً ومقصوداً، سواء كان معلوماً عند المتعاملين به أو مجهولاً، فإن لم يكن رائجاً فهو عمل محرم وغش ممقوت.
كنا قد ذكرنا في شروط العوضين: «لزوم كونهما معلومي المقدار بنحو لا يوجب وقوع المتبايعين في الغـرر»؛ ولكنَّ مـا بـه يكون التقديـر ـ وهو الوزن والكيل والمساحة والعد، والذي سنسميه (المقدار) ـ له أحكام خاصة من جهة نفس كونه (مقداراً)، سواء كان في المبيع أو في الثمن؛ لذا فإن ما يمكن قوله هنا إجمالاً وتمهيداً لما سيأتي هو ما يلي:
إنه يصح ـ إجمالاً ـ بيع كل سلعة بغير جنسها مطلقاً، سواء كان العوضان مشاهدين أو موزونين أو مقدرين بغير ذلك من أنواع المقادير، ومع التفاضل وبدونه؛كذلك فإنه يجوز ـ إجمالاً ـ بيع السلعة بمثلها إذا لم يكن العوضان معاً من المكيل ولا الموزون ولا من الذهب والفضة ومطلقاً أيضاً، أي سواء كانا معدودين أو ممسوحين أو مشاهدين، ومع التفاضل وبدونه، وإنما قلنا: «إجمالاً» في الموردين إلفاتاً لما سيأتي من الاستشكال في بيع النسيئة في مطلع المطلب الأول الآتي في هذا المبحث، (أنظر الوجه الثاني من المسألة 779)؛ فإن كانا معاً من المكيل أو الموزون، أو كانا معاً من النقدين الذهب أو الفضة، فإن للعوضين حينئذٍ أحكاماً خاصة نذكرها في مطلبين: الأول: في بيع المكيل والموزون، وهو ما يصطلح عليه بـ (ربا المعاملة)، والثاني: في بيع الصرف؛ لكنه لما كان مدار الأحكام في بيع الصرف (النقدين) على كون الذهب والفضة من الموزون، فإنهما يلحقهما حكم المكيل والموزون عموماً لولا بعض الخصوصيات التي استدعت إفرادهما بمطلب مستقل، ومن هنا صح أن نعنون هذا المبحث الشامل لهذين المطلبين بعنوان واحد مشترك هو (ربا المعاملة).
والربا من كبائر المحرّمات، وقد أغلظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة في النهي عنه وتشديد العقاب عليه بما هو مشهور ومعروف، وله موردان هما: ربا المعاملة وربا الدين، وقد اعتمدنا ما هو المعروف في نهج الفقهاء، فقدمنا ذكر ربا المعاملة في هذا الباب، وأخرنا ذكر ربا الدَّين إلى باب الدين الآتي إن شاء الله تعالى، انسجاماً مع ما في كل منهما من خصوصيات تستلزم إفراده بالذكر.
المطلب الأول ـ في بيع المكيل والموزون:
وهو يقع في مسائل:
مـسألة 779: يختلف حكم الربا في البيع على وجهين، وتفصيلهما كما يلي:
الوجه الأول: في البيع نقداً، وحكمه يختلف باختلاف موارده على النحو التالي:
أ ـ يجوز بيع المتحدين في الجنس من المكيل والموزون أحدهما بالآخر نقداً دون زيادة في أحدهما على الآخر، كبيع عشرين كيلواً من القمح بعشرين منه، سواء اتفقا في الصنف وفي الجودة والرداءة أو اختلفا.
ب ـ يجوز بيع المختلفين في الجنس أحدهما بالآخر نقداً، سواء كانا من المكيل والموزون أو كانا من غيرهما، وسواء بالزيادة أو بدونها، فيجوز مثلاً بيع عشرين كيلواً من القمح بعشرة كيلوات من الأرز نقداً، وهكذا غيره من أمثلة الموارد الأخرى مما هو أوضح منه.
ج ـ لا يجوز بيع المتحدين في الجنس من المكيل والموزون نقداً مع الزيادة في أحدهما على الآخر، مثل أن يبيعه عشرين كيلواً من القمح باثنين وعشرين كيلواً منه، سواء كانا معاً من الموزون، كالمثال المتقدم، أو كانا من المكيل، كأن يبيعه مُدَّيْن من القمح بمد ونصف منه، أو كان أحدهما مكيلاً والآخر موزوناً، كأن يبيعه مداً يزن في بعض البلاد خمسة عشر كيلواً من القمح بعشرين كيلواً منه.
هذا، ولا فرق في الزيادة المذكورة في هذا الوجه الأول بأنحائه الثلاثة بين الزيادة العينية وبين الزيادة الحكمية، والزيادة العينية هي: (الزيادة المادية التي هي من جنس المبيعين أو من غير جنسهما، كالقمح والكتاب والثوب والنقود ونحوها من الأمور الخارجية المنظورة)، وأما الزيادة الحكمية فهي: (ما كانت بخلاف ذلك، كالحقوق والأعمال ونحوها)، كأن يبيعه عشرين كيلواً من القمح بعشرين كيلواً منه نقداً مع تعهده بخياطة ثوبه مثلاً، أو تعهده بإعطائه حق المرور في ملكه إلى أرضه المجاورة مثلاً، ونحو ذلك من الأمور التي ليس لها أعيان خارجية.
الوجه الثاني: في البيع نسيئة، وحكمه أيضاً يختلف باختلاف موارده على النحو التالي:
أ ـ يحرم بيع المتحدين في الجنس والمقدار نسيئة إذا كانا من المكيل أو الموزون، كأن يبيعه عشرين كيلواً من القمح بعشرين كيلواً منه مؤجلاً لشهر. لأن هذا التأجيل يُعدّ ميزة لأحدهما على الآخر و (زيادة حكمية) تجعله رباً محرماً.
ب ـ يشكل بيع المختلفين في الجنس من المكيل والموزون نسيئة، سواء اتحدا في المقدار، كأن يبيعه مائة كيلو من القمح مثلاً بمائة كيلو من الأرز لشهر، أو كانا مختلفين في المقدار، كأن باعه مائة كيلو من الأرز بمائةٍ وعشرين كيلواً من القمح لمدة شهر.
ج ـ يشكل بيع المتحدين في الجنس من المعدود مع الزيادة العينية نسيئة، كبيع عشرين جوزة بخمس عشرة جوزة لشهر مثلاً.
وما عدا ذلك من موارد هذا الوجه جائز ما لم يحرم من جهة أخرى.
مسألة 780: المعيار في كون الشيئين مثلين هو اتحادهما في الجنس والذات معاً، كما في كونهما معاً من القمح أو الغنم أو زيت الزيتون أو نحو ذلك، أو اتحادهما في الجنس دون الذات، كما في كون أحدهما من الغنم والآخر من الماعز، أو أحدهما من الحنطة والآخر من الشعير، أو نحو ذلك، فإذا اتحدا بهذا النحو كانا مثلين حتى لو لم يتفقا في الصفات، كالسمن والضعف، والجودة والرداءة، والصحة والمرض، والسماكة والرقة، وغير ذلك من الأوصاف التي تختلف باختلاف الأعيان.
مسألة 781: قد ذكر الفقهاء أموراً يعرف بها اتحاد جنس الأشياء واختلافه، وذلك على النحو التالي:
1 ـ الحبوب كل واحد منها جنس، فالعدس والحمص والفول والأرز والقمح كل واحد منها جنس مختلف عن الآخر، نعم تعتبر الحنطة والشعير جنساً واحداً هنا في باب الربا رغم أنهما في الزكاة جنسان.
2 ـ الحيوانات كل واحد منها جنس، فالوحشي يختلف عن الأهلي وإن كان لهما اسم واحد، فالبقرة الأهلية جنس مختلف عن البقرة الوحشية، والحمار الأهلي جنس مختلف عن الحمار الوحشي، والبقر والغنم والإبل والغزال كل واحد منها جنس، نعم يعتبر الغنم والماعز جنساً واحداً، وكذا البقر والجاموس، وكذا ما يعرف من الإبل بـ (العراب) فإنه غير ما يعرف منها بـ (البخاتي).
وكل ما سمي من الطيور والأسماك باسم فهو جنس برأسه، فالعصفور غير الحمام، وهما غير الحجل، وهي غير الشقراق، نعم مثل الدوري والقبرة وأسود الرأس ونحوه مما هو من أصناف العصفور يعد جنساً واحداً، وكذا أصناف الحمام؛ وهكذا الأسماك كالبوري والعرموط والشبوط ونحوها، فإن كل ما اختص منها باسم يعد جنساً برأسه، وهكذا سائر الأشياء.
3 ـ اللحوم والأسمان والألبان والزيوت ونحوها مما هو نتاج منفصل لشي‏ء آخر أو معتصر منه تختلف باختلاف مصدرها، فيعد كل ما كان منها من جنس برأسه جنساً مستقلاً، فمثل لحم الغنم ولحم البقر جنسان، فيما يعد لحم الغنم ولحم الماعز جنس واحد، وهكذا اللبن والسمن؛ وكذا الزيوت، فإن زيت الزيتون غير زيت الذرة، وهما غير زيت السمسم، وهكذا تتعدد أجناسها بتعدد مصادرها النباتية.
أما حكم هذه الفروع مع أصولها فإن المرجع في صيرورة الفرع جنساً مستقلاً عن أصله هو العرف، فإذا كان الاختلاف بين ثمرة الزيتون وزيته على درجة من التباين يراهما فيها العرف شيئين مختلفين فهما شيئان مختلفان حينئذ، وذلك من قبيل الخل والعنب والسمسم وزيته، بل وسائر الزيوت وكثير من السوائل المعتصرة من مصادرها، كالورد ومائه وما أشبهه من النباتات المأخوذة سوائلها بالتقطير؛ فيما لا يرى العرف تبايناً بين الرمان وعصيره مثلاً، ولا بين الحليب والجبن، ولا بين القمح والطحين، وهكذا. هذا، ومما يعد من المثلين لحم الحيوان المذكى والحيوان من جنسه، فلا يجوز بيع أحدهما بالآخر مع التفاضل.
ثم إنه إذا اتفق العرف على اعتبارهما مختلفين أو مثلين فلا إشكال، وأما إذا اختلفت نظرة العرف إليهما، فإن كان ذلك بين عرف هذا البلد وعرف ذاك البلد أخذ كل بلد بالعرف المتفق عليه عنده، وإن كان الاختلاف في عرف البلد الواحد فلا مفر من الاحتياط الوجوبي بمعاملتهما معاملة المثلين.
مسألة 782: إذا اختلفت البلدان في ما تقدر به بعض الأشياء، فكان في بلد مقدراً بالوزن وفي آخر بالعد، كان لكل بلد حكمه؛ وأما إذا اختلف تقديره في البلد الواحد بين الوزن والعد مثلاً، فالأحوط وجوباً ترك بيعه بالتفاضل فيه وإن كان نقداً.
وإذا كان الشي‏ء الواحد في حال موزوناً وفي حال أخرى معدوداً، وذلك كالثياب، فإنها تباع بالوزن مستعملة وتباع بالعدد جديدة، أو نحو ذلك، فإن لكل حالة حكمها، فيجوز بيع الجديدة بالمستعملة مع التفاضل نقداً، وكذا يجوز بيع الجديدة بالجديدة كذلك لأنها من المعدود، فيما لا يجوز بيع المستعملة بالمستعملة نقداً مع التفاضل لأنها من الموزون.
وإذا كان الأصل مما يوزن وفرعه المتحد معه في الجنس مما يعد، وذلك كالصوف المجتز من الحيوان والثياب المنسوجة من صوف غيره إن رآهما العرف جنساً واحداً، فإنه يجوز بيع أحدهما بالآخر مع التفاضل، وهكذا أشباهه كالقطن والكتان والثياب المنسوجة منهما، وغير ذلك من موارد اتحاد الأصول مع فروعها عند اختلاف تقدير أحدهما عن الآخر.
مسألة 783: إذا اختلف مقدار الموزون بين حالتي رطوبته وجفافه في مثل العنب والزبيب والرُّطب والتمر، فإنه لا شك في جريان ما تقدم من الأحكام عليه حال بيع الجاف منه بالجاف والرَّطب منه بالرطب، أما بيع الرَّطب بالجاف فهو غير جائز مع التفاضل، حتى لو لوحظ في التفاضل مقدار ما سينقص من الرَّطب عند جفافه بحيث يصير مساوياً للجاف عندئذٍ، وجائز على كراهة مع التماثل نقداً.
مسألة 784: الأوراق النقدية المستحدثة في هذا الزمان معتبرة من المعدود، فلا يحرم بيع بعضها ببعضها الآخر متفاضلاً مع اختلاف الجنس نقداً أو نسيئة، فيجوز مثلاً بيع خمسة دنانير كويتية بعشرة دنانير عراقية مطلقاً؛ كذلك فإنه يجوز بيعها مع اتحادها في الجنس نقداً بالتفاضل، وأما نسيئة فإن الاحتياط الوجوبي يقتضي تركه.
مسألة 785: يحرم ربا المعاملة على الأحوط لزوماً على من استثناهم مشهور الفقهاء من الحكم بحرمة الربا، وهم:
أ ـ الوالد وولده، فإنه لا يجوز لهما التعامل بالربا وأخذ أحدهما الزيادة من الآخر على الأحوط لزوماً، وذلك دون فرق في الولد بين الذكر والأنثى، والصغير والكبير، ومن كان من صلبه أو كان ولداً لابنه أو ابنته مهما تسلسلوا.
ب ـ الزوج والزوجة، دائمة كانت أو متمتعاً بها أو في عدة طلاق رجعي، فإنه لا يجوز لكل منهما أخذ الزيادة الربوية من الآخر على الأحوط لزوماً.
ج ـ الكافر الحربي، فإنه لا يجوز للمسلم أن يأخذ منه الربا على الأحوط لزوماً، بل ولا يجوز أن يعطيه إياه. أما الذمي فتحرم المراباة معه كالمسلم، لكن إذا عصى المسلم فتعامل معه بالربا جاز له أخذ الزيادة منه إذا كان الربا حلالاً في شريعته، وإلا لم يجز أخذها بدون رضاه، وكذلك كل شخص يُجوِّز ذلك في التزاماته الدينية أو القانونية.
مسألة 786: يمكن التخلص من الربا بضم شي‏ء آخر على أحد العوضيين أو عليهما من غير جنسهما، وذلك على النحو التالي:
أ ـ من أجل التخلص من الربا في بيع المثلين نقداً مع التفاضل، يمكنه أن يضم شيئاً من غير جنسهما إلى الطرف الناقص، ويقصد أن يكون في مقابل المقدار الزائد في الطرف الثاني، ومثاله: أن يبيعه عشرين كيلواً من القمح وكتاباً بخمسة وعشرين كيلواً منها نقداً.
ب ـ من أجل التخلص من الربا في بيع المثلين نقداً أو نسيئة، ولو مع التفاضل، يمكنه أن يبيعه مثلاً عشرين كيلواً قمحاً وكتاباً بثلاثين كيلواً وكتابين، على أن يكون قصدهما جعل الكتاب مقابل الثلاثين من القمح وجعل الكتابين مقابل العشرين، أو بالعكس؛ والقاعدة فيه: أن يجعلا الضميمة في كل طرف في مقابل المثمن أو الثمن في الطرف الآخر.
ج ـ ونفس الفرض (ب) يمكن استخدامه للتخلص من الربا في البيع النقدي خاصة ولكن بصورة أخرى، وذلك في نفس المثال بأن يقصدا كون الكتاب في الطرف الناقص مقابل الكتابين والمقدار الزائد من الطرف الآخر.
ولكن يجب في المورد (ب) و(ج) المتقدمين أن يكون قصد كون الكتاب في قبال القمح جدياً، بل وأن يكون في إقدامهما على التورط في مثل هذه المعاملة قدرٌ من الضرورة العرفية المحقِّقة للقصد الجدي والمعذِّرة في اقتحام الشبهة، فإن لم يكن كذلك، بل كان هدفهما الحقيقي والجدي هو تملك القمح بالتفاضل، فيما يكون قصدهما من التعاقد على الكتاب تصحيح تملك القمح واقعاً دون أن تكون لملكية الكتاب أهمية تذكر، فلا تعتبر هذه المعاملة صحيحة حينئذٍ.
مسألة 787: يختص ربا المعاملة بكل معاوضة بين عينين، سواء كانت بالبيع أو بالصلح، أو كانت بالمبادلة المحضة دون قصد العوضية والمعوضية، فكما يحرم الربا بالنحو المتقدم في البيع فإنه يحرم بالصلح بمثل أن يقول: «صالحتك على عشرين كيلواً من القمح بثلاثين منه»؛ فإن كانت المعاوضة بالصلح على غير العينين مباشرة، بل على أن يهبه عشرين من القمح مثلاً مقابل أن يهبه الآخر ثلاثين، لم يكن ذلك من الربا إذا قصدا الهبة جدياً، وكذا لو تم التعاوض بالتبارؤ، وهو يتحقق فيما لو كان لكل منهما مقدار من القمح مثلاً في ذمة الآخر فاتفقا على أن يبرأه من العشرين مداً من القمح التي له في ذمة صاحبه على أن يبرأه صاحبه من الثلاثين مداً التي له في ذمته، فإنه لا يكون ذلك ربا أيضاً إذا قصدا الإبراء جدياً.
هذا، فيما إذا كانت المعاملة معاوضة، أما المعاملات الأخرى، كالهبة ولو كانت معوضة والصدقة ونحوهما مما يمكن أن يجر للطرفين نفعاً متبادلاً، فلا يجري فيها الربا بالنحو المتقدم في المعاوضات.
مسألة 788: المعاملة الربوية باطلة إذا صدرت من العالم بحرمة الربا، فلا يتملك المال الربوي ولا يحل له التصرف فيه، وعليه إرجاعه لمن أخذه منه، مسلماً كان المأخوذ منه أو كافراً ذمياً، بل وحربياً على الأحوط وجوباً؛ نعم يكفي في تملكه له علمه برضا صاحبه بأن يتملكه رغم عدم استحقاق الآخذ له، وكذا يكفي في تملكه ما إذا كان صاحب المال غير مسلم وكان الربا حلالاً في شريعته أو في القوانين التي يلتزم بها. وأما الجاهل بحرمة الربا حكماً أو موضوعاً فإنه يتملك ما أخذه بالربا، ولا يجب عليه إرجاعه إلى المأخوذ منه، وعليه أن يقلع عن ذلك بعد علمه بالحرمة.
المطلب الثاني ـ في بيع الصرف:
ويراد به بيع المعدنين الثمينين الذهب والفضة بغض النظر عن كونهما نقدين أو ليسا بنقدين، بما في ذلك ما لو كانا حلياً مصوغة، وكذا بغضّ النظر في النقدين منهما عن كونهما مسكوكين أو غير مسكوكين، وعن كونهما متداولين في حركة التبادل التجاري أو غير متداولين، وعن كونهما مما يباع بالوزن أو بالعدِّ مثلاً؛ إذ إنهما قد لوحظا في ما سوف نذكره من أحكام لهما بما لهما من صفة الذهبية والفضية مجردة عن تلك الخصوصيات، ثمناً كان أحدهما أو مثمناً، رغم أن الوضع التاريخي لهما قد كرسهما كنقدين ملحوظين بمقدارهما الموزون، ورغم أن بيع الصرف ينصرف إلى ما كان نقداً من هذين المعدنين بسبب سيادة وغلبة معدني الذهب والفضة في عالم النقد قديماً على غيرهما من المعادن.
أما تفصيل أحكام بيع الصرف فهو يقع في مسائل:
مسألة 789: لا يجوز بيع الذهب بالذهب، ولا الفضة بالفضة، مع الزيادة في أحدهما عن الآخر، حتى لو كان الناقص مصوغاً حلياً، سواء في ذلك البيع نقداً، أو نسيئة بطريق الأولى؛ وكذا لا يجوز بيع أحدهما بالآخر مع الزيادة أو بدونها إذا كان البيع نسيئة، دون ما لو كان البيع نقداً، فإنه يجوز مطلقاً. هذا، ويثبت حكم بيع النقدين المذكور لبيع أحدهما بأجزاء منه، كبيع الليرة الرشادية المعروفة في هذا الزمان بنصفين منها، لأنّه ما يزال يعتبر من الموزون.
مسألة 790: لا بد في بيع الصرف من التقابض قبل الافتراق عن مجلس العقد، سواء بيع الذهب أو الفضة بمثله أو بيعه بالآخر، فلو تفرقا ولم يتقابضا بطل البيع، ولو تم القبض في البعض صح فيه وبطل في الجزء الذي لم يقبض، بل إنه لا بد من التقابض حتى في صورة ما لو كان أحدهما قد ضم إلى النقد غيره، كما لو باعه درهماً وكتاباً بدرهمين، فإنه إن لم يتقابضا يبطل البيع في النقد ويصح في الضميمة، وهي الكتاب في المثال. هذا، ولو فرض أنهما خرجا عن مجلس العقد مصطحبين، فلا بد من تقابضهما قبل التفرق أيضاً.
مسألة 791: إذا تعاقدا بالتخابر الهاتفي أو بالكتابة فلا بد من التقابض أيضاً، وذلك إما بأن يوصل كل منهما العين إلى الآخر قبل العقد، أو يوكل من يقبض عنه عند التعاقد، وإلا لم يصح البيع.
مسألة 792: رغم أن القبض شرط في صحة بيع الصرف لكن الإقباض ليس واجباً على كل واحد من المتبايعين حتى لو أقبضه صاحبه، ومعنى ذلك أن لكل منهما أن يتسبب ببطلان البيع وإلغاء أثر العقد بامتناعه عن إقباض ما بيده لصاحبه؛ بل إن عقد البيع في الصرف لا يحقق الانتقال قبل القبض بنفس القوة التي يحدثها العقد في بيع غير الصرف، ولذا فإن نماء المبيع أو الثمن ومنافعه المتحققة قبل القبض هي للمالك الأول، أي لمن انتقل عنه لا لمن انتقل إليه.
مسألة 793: تختص شرطية التقابض في الصرف بالبيع، فلو تمت المعاوضة في الصرف بالصلح لم يجب فيه التقابض.
مسألة 794: إذا كان أحد العوضين ديناً في ذمة الآخر فباعه إياه بنقد آخر، من جنسه أو من غير جنسه، كفى قبض الدائن ما يدفعه إليه المدين ثمناً، ولم يحتج المدين إلى قبض ما في ذمته ما دام حاضراً عنده ولو اعتباراً.
نعم إذا باع الدائن ماله في ذمة زيد على غيره، وليكن هو سعيداً مثلاً، فإنه لا بد من قبض سعيد لما في ذمة زيد، بل إنه حتى لو وكل سعيد زيداً بأن يقبض ما في ذمته نيابة عنه لم يغنِ ذلك التوكيل عن لزوم إخراج زيد لما في ذمته وتشخيصه في نقد معين وقبضه وكالة عن سعيد.
مسألة 795: إذا اشترى زيد عشرة دنانير مثلاً بمائة درهم، ثم باعها قبل قبضها لسعيد، لم يصح البيع الأول حتى يقبض زيد ما اشتراه قبل التفرق، أما البيع الثاني فإنه محكوم بالبطلان على كل حال، أي حتى لو قبض سعيد بعد ذلك ما اشتراه من زيد قبل التفرق.
مسألة 796: يجوز بيع أحد النقدين بجنسه مع الزيادة إذا جعل مع الآخر ضميمة ذات مالية معتد بها وإن كانت في قيمتها أقل بكثير من الزيادة الموجودة في الآخر، فيصح أن يبيعه عشر ليرات ذهبية إنكليزية مع كتابٍ معين بخمس عشرة ليرة رشادية ذهبية.
هذا، ولما كان الشائع في سك النقود إضافة معدن النحاس مع الذهب حتى يشتد، وإضافة معدن الرصاص مع الفضة، وهي الإضافة التي يصطلح عليها بـ (الغش)، لكنه غش مقبول وضروري من الناحية الصناعية، فإن هذا المقدار من النحاس الموجود في النقد لا يصلح ضميمة مبررة للزيادة في النقد الآخر الذي من جنسه، بنحو يعتبر فيه المتعاقدان أن الزيادة هنا مقابل كمية النحاس الموجودة هناك في داخل تلك الليرات أو الدنانير، وذلك لأنه لا مالية له، كما أن لحاظه كضميمة ليس بجدي.
مسألة 797: لا بأس في بيع الشي‏ء المحلى بالذهب أو بالفضة بنقد من جنس الحلية، كالكتاب والسبحة والسيف ونحوها، حتى لو كانت الحلية أقل من الذهب النقدي، بل ولا يجب على مشتري السيف مثلاً أن يقصد كون الزائد من الثمن في مقابل الآلة، وذلك لأن الملحوظ في المبيع هو ا لآلة المحلاة لا الحلية التي عليها.
مسألة 798: قد ذكرنا في أول مسألة من هذا المبحث ما يفيد بأن كون أحد المعدنين الثمينين مصوغاً حلية لا يبرر جعل النقد الذي في مقابله أزيد منه إذا كان من جنسه، بل ومن غير جنسه إذا كان البيع نسيئة، بقصد أن يكون الزائد في مقابل الصياغة؛ وزيادة على ذلك نقول:
لا يجوز أن يبيع مثقالاً ـ مثلاً ـ من الذهب الخالص بمثقال من الذهب (المغشوش) بشرط أن يصوغ له خاتماً، حتى لو قصدا كون (صياغة الخاتم) في مقابل ما يزيد في الذهب الخالص عن النقد الذهبي المغشوش؛ نعم، يجوز أن يطلب منه صياغة خاتم على أن تكون (جعالة) هذا العمل وأجرته أن يبيعه مثقالاً من الذهب الخالص بمثقال من الذهب المغشوش، ولكن شرط أن يكون ذلك على سبيل القصد الجدي؛ كذلك فإنه يجوز أن يبيعه ـ مثلاً ـ مثقالاً من فضة غير مصوغٍ بمثقال منها مصوغٍ خاتماً، إذ لا تعتبر الصياغة في الآخر زيادةً ربوية.
مسألة 799: النقود المعدنية من غير الذهب والفضة المتداولة في هذا الزمان تعتبر من المعدود لا من الموزون، فيجوز بيع نقد منها بالآخر مع الزيادة حتى لو كانت من جنس واحد، وكذا يجوز صرفها إلى أبعاضها مع التفاضل، فيصح بيع المارك والجنيه ونحوهما من القطع المعدنية بنصفين منها أو أربعة أرباع حتى لو كان وزن تلك الأجزاء والأبعاض مجتمعة أكثر من وزن القطعة الواحدة من فئة (المارك) مثلاً؛ كذلك فإنه لا يشترط التقابض في بيعها قبل التفرق عن مجلس البيع.
وأما العملة الورقية المتداولة في زماننا هذا، بل والغالبة في التداول النقدي، فلا إشكال ـ مطلقاً ـ في بيع بعضها ببعض مع التفاضل؛ بل ولا يشترط فيها التقابض في مجلس العقد، حتى لو كان رصيد تلك العملة الورقية ذهباً.
فائدة فيها مسائل:
مسألة 800: إذا كان له في ذمة غيره نقدٌ ذهبيٌ معيّن، كالليرة العثمانية، فطلب منه تحويلها ليرة إنكليزية، أو ليرات عثمانية من فئة الربع ليرة، أوأجزاءً أخرى من الليرة العثمانية أو غيرها، أو كان له في ذمته أجزاء من الليرة الذهبية فطلب تحويلها إلى نقد ذهبي من فئة الليرة، وما أشبه ذلك، فإذا قبل المدين طلب الدائن تحول ما في ذمته إلى ما طلبه منه، ولزم ذلك (التحويل) عليهما، ولم يكن لأحدهما التراجع عنه إلا برضا الآخر.
مسألة 801: من اشتغلت ذمته لآخر بنقد معين من الذهب أو الفضة، كأن اقترض منه عشرين ليرة رشادية، أو كان مهراً لزوجته، أو جعله ثمناً في البيع، فتغير سعره حين الوفاء به عما كان عليه حين اشتغال الذمة به، لم يكن عليه إلا نفس النقد، زادت قيمته أو نقصت، فإن أراد قيمته من العملات الأخرى فليس له عليه إلا قيمته الحالية مهما كانت قليلة أو كثيرة.
مسألة 802: لا يجوز تزوير العملات الورقية والمعدنية المتداولة في زماننا هذا في ظل النظام النقدي العالمي المتعارف، كما لا يجوز التعامل بها في البيع والشراء، بل يجب التصدي لفاعل ذلك عالماً متعمداً ونهيه عن هذا المنكر بكل وسيلة محققة للارتداع بالنحو الذي يذكر في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يجب إلفات الجاهل إلى حرمته ومنعه من الجري على مقتضى جهله رغم كونه معذوراً.
وكذلـك الحكـم في النقـد الذهبـي أو الفضـي ـ رغم قلة التعامل بهما ـ وبخاصة ما لو كان التزوير أو الغش كبيراً بالغاً حدّ تغير الحقيقة وانعدام عنصر الذهب أو الفضة منه؛ نعم يذكر الفقهاء كلمة (الغش) في فتاواهم ويريدون به في النقدين كونهما ممزوجين بمقدار من معدن آخر، كالنحاس في الذهب والرصاص في الفضة، مما هو مقصود عند سك النقود ومعلوم ومقبول في عرف الناس، وذلك في مقابل النقد المسكوك من الذهب الخالص، إن مثل هذا (الغش) المقصود منه معناه اللغوي لا الأخلاقي كان جائزاً ومقبولاً، وهو جائز فعلاً حيث يكون رائجاً ومقصوداً، سواء كان معلوماً عند المتعاملين به أو مجهولاً، فإن لم يكن رائجاً فهو عمل محرم وغش ممقوت.
ص
530
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية