قد اشترط الفقهاء أن لا يزيد المال الموصى به تمليكاً أو عهداً على مقدار معين هو ثلث ما يتركه الميت من أموال، ولا بد لتوضيح هذا الشرط وتفصيل أحكامه من بيانه على النحو التالي:
أولاً ـ كيف توزع التركة:
مسألة 443: التركة هي: (كل مال مات عنه الإنسان وتركه لمن بعده)، فيدخل فيها ويعدّ منها كل مال كان قد دخل في ملكه فعلاً أثناء حياته مما استقرت ملكيته عليه حتى لو لم يكن موجوداً عنده لرهنٍ أو دينٍ أو نحوهما، وكذا يحسب منها ما أَوجَدَ سبَبَه حال حياته فحازه بعد مماته، كالشبكة ينصبها للاصطياد فيقع فيها الصيد بعد وفاته؛ وكذا مثل الدية مما وقع سببه عليه في حياته واستحقه بعد مماته بالجناية عليه بالقتل؛ أما مثل المال الذي يعطى تعويضاً له على عمله بعد وفاته بواحد من حوادث العمل، أو مثل الهبات التي تقدمها بعض المؤسسات أو الدول بسبب الكوارث الطبيعية أو الحروب لمن يقتل فيها، فإنها لا تكون داخلة في التركة، وكذا لا يدخل فيها المال الموصى له به إذا مات في حياة الموصي كما بينّاه سابقاً في المسألة 438؛ وعليه فإنه لا يُعدّ تركة من أمواله إلا ما يكون داخلاً تحت واحد من العناوين الثلاثة الأولى، وهي: ما دخل في ملكه فعلاً في حياته، وما أوجد سببه قبل موته، وما وقع عليه سببه في حياته، دون ما عداها.
ورغم كون الإنسان مالكاً لجميع أمواله ومتسلطاً عليها في حياته، فإنه إذا قرب منه الموت تقيدت سلطته على التصرف به بما سبق ذكره في منجزات المريض ص 40، وكذا تتقيد سلطته عليه عند موته باستحقاقات ما بعد الموت، فلا يكون حراً في الوصية بماله كيف يشاء، بل يجب عليه أن يراعي هو، أو مَنْ بعده، أموراً معينة نفصلها في المسألة التالية.
مسألة 444: توزَّع تركة الميت على مصارف كبرى ثلاثة:
المصرف الأول: على ما يجب إخراجه من أصل التركة، وهي أمور عديدة لها الأولوية على غيرها من مستحقات ما بعد الموت، فتؤخذ من مجموع التركة قبل الوصية وقبل حصص الورثة، وهذه الأمور هي:
1 ـ ما عليه من دين للناس.
2 ـ ما عليه من حق شرعي في أمواله، وهو الخمس والزكاة بخاصة، دون الكفارات ورد المظالم والنذور المالية فإنها لا تخرج من الأصل.
3 ـ نفقات تجهيزه، كتغسيله وتكفينه ودفنه.
4 ـ الحج الواجب بالاستطاعة، دون ما وجب عليه بالنذر فإنه لا يخرج من الأصل.
المصرف الثاني: ما ينبغي إخراجه من الثلث، أي من ثلث الباقي بعد استثناء ما يجب إخراجه من أصل التركة، وهذا الثلث خاص بالميت تخرج منه وصاياه، وهي أمور:
1 ـ كل ما يريد إعطاءه أو صرفه على أشخاص أو جهات أو في وجوه الخير من أمواله، أو في رد المظالم ووفاء النذور والكفارات.
2 ـ كل ما يريد أن يعمل له أو عنه بعد وفاته، من قضاء الصوم والصلاة وسائر القربات والطاعات من الأمور التي تستلزم بذل المال، واجبةً كانت أو مستحبةً أو مباحةً.
3 ـ ما نَصَّ على إخراجه من الثلث من الأمور التي تخرج من أصل التركة، وهي التي ذكرناها في المصرف الأول.
المصرف الثالث: وهو حصص الوُرَّاث التي لها ثلثا الباقي من التركة إن صُرف تمام الثلث في المصرف الثاني، وإلا فإنّ ما يفضل عن الوصية من الثلث يضاف إلى الثلثين ويوزع على الورثة بنسبة حصة كل واحد منهم؛ وكذا إن لم يكن قد أوصى بشيء، فإنه يضم الثلث إلى التركة ويوزع على الوراث بحسب حصصهم.
وعلى هذا الأساس فإنه لا تنفذ وصيته بما يزيد على الثلث الخاص به إلا إذا وافق الورثة، كذلك فإنه ليس للورثة أن يأخذوا حصصهم قبل إخراج ما يجب إخراجه من أصل التركة.
مسألة 445: إذا أوصى بوصايا متعددة، فهي من حيث مصرفها من التركة على أنحاء:
الأول: أن تكون الوصايا كلها من ما يجب إخراجه من أصل التركة، فيجب تنفيذها وإخراجها جميعها من تركته وإن زادت على الثلث.
الثاني: أن تكون الوصايا كلها واجبات لا تخرج من أصل التركة، وذلك مثل الصلاة والصوم والنذورات والكفّارات ونحوها، فإن وفى الثلث بها أخرجت جميعها منه، وإن زادت عليه وأجاز الورثة أخرجت جميعها من الثلث ومما أجازه الورثة، وأما إذا لم يجز الورثة فإن الواجب حينئذ تنفيذ جميع ما أوصى به من أعمال مع الإنقاص من كل عمل بنسبة مجموع الزائد عن الثلث إلى مجموع كلفة الأعمال، فلو كانت كلفة الأعمال الموصى بها ألف وخمسمائة دينار، وكان الثلث ألف دينار، كانت نسبة الزائد (وهو الخمسمائة) إلى مجموع كلفة الوصايا هي الثلث، فيُنقَّص من كل عمل أوصى به مقدارُُ الثلث؛ ومعنى ذلك أننا لا نقتصر في تنفيذ وصاياه على ما يسعه الثلث من الأعمال التي ذكرها في كلامه أولاً فأوَّلاً، إلا أنْ تقوم قرينة على أن هذا هو مراد الموصي وغايته من هذا الترتيب.
الثالث: أن تكون الوصايا كلها تبرعية غير واجبة، تمليكية كانت أو عهدية؛ ولا يختلف حكم هذا النحو من الوصايا عن النحو الثاني.
الرابع: أن تكون الوصايا كلها واجبةً، ولكنّ بعضها مما يُخرَج من الأصل، وبعضها مما يُخرج من الثلث، فإن لم ينص على إخراجها جميعاً من الثلث، يُبدأ بما يُخرج من الأصل فيخرج من أصل التركة، ثم يخرج غيره من ثلث الباقي، فإن وفى به فلا إشكال، وإن لم يف به وأجاز الورثة الصرف من حصصهم فلا إشكال أيضاً، وإن لم يجيزوا وجب التعامل مع النقص بالطريقة التي مرت في النحو الثاني؛ وأما إذا نص الموصي على إخراج الوصايا من الثلث، فإن وفى الثلث بها أخرجها جميعاً، وكذا إن لم يف بها وأجاز الورثة إخراج الزائد من حصصهم، وإن لم يجز الورثة بدأ بما يُخرج من الأصل فأخرجه منه، فإن فضل من الثلث شيءٌ أنفقه على بعض وصاياه مقدِّماً الاستئجار للصلاة والصوم وبطل في الباقي، وإن لم يفِ إلا بما يُخرج من الأصل بطلت الوصية فيما عداه من وصاياه الواجبة.
الخامس: أن تكون الوصايا مختلفة بين الواجب والتبرعي، فإن وسعها الثلث فهو المطلوب، وإن لم يسعها وأجاز الورثة الصرف على الزائد من حصصهم فلا إشكال، وإن لم يجيزوا وجب تقديم الواجب على غيره.
السادس: أن تكون وصاياه مشتملةً على واجبات تخرج من الأصل وواجبات تخرج من الثلث وأعمال تبرعية؛ وهذا النحو يعرف حكمه من مجموع أحكام الأنحاء الآنفة الذكر، وذلك على قاعدة كون الأولوية للواجبات التي تخرج من الأصل، ثم للواجبات التي تخرج من الثلث، ثم للأعمال التبرعية؛ فيَجْري المكلفُ فيه على هذه الطريقة طبق التفاصيل التي ذكرناها.
مسألة 446: إذا أخذ بعض الورثة حصته قبل إخراج ما يجب إخراجه من أصل التركة،كالدين والحج ونحوهما، ولم يدفع ما هو مترتب في حصته مقابل تلك الواجبات، فالواجب على سائر الورثة تحمل ذلك النقص من حصصهم بخاصة، ثم إنّ لهم أن يرجعوا على المتمرد عن الدفع حتى لو كان صرفهم على ما نقص من نصيب الواجبات الأصلية من حصصهم بدون إذن من الوصي أو الحاكم الشرعي.
مسألة 447: لا يمنع الإيصاء بإعطاء الغير عيناً مشخّصة، كداره مثلاً، من توزيع التركة بالنحو اللازم، ويكون استقرار ملكية الموصى له على العين متوقفاً على عدم مزاحمتها لما يخرج من أصل التركة أولاً، وعدم زيادة الباقي منها عن الثلث، فإذا اقتضى تنفيذُ ما عليه من الواجبات الأصلية التصرف ببعض الدار لضيق التركة عن الوفاء بها صحّ الأخذ منها لإتمام ما عليه، ثم ما يبقى من الدار يكون بين الوارث وبين الموصى له ثلثان لهم وثلث له.
مسألة 448: إذا تبرع متبرع بتجهيز الميت، أو أبرأه بعد موته من الدّيْن الذي له عليه، لم يعتبر مالاً جديداً خارجاً عن التركة، بل يعد منها ويلحقه حكمها ويُنَزَّل مصرَفُه الذي كان يجب صرفُه فيه منزلة المعدوم.
ثانياً ـ الوصية بالثلث وحكم الزيادة عليه:
لقد صار واضحاً أن الوصية ينبغي أن لا تزيد على ثلث ما يبقى من التركة بعد إخراج الواجبات الأصلية، فإن زادت عنه لم تنفذ في الزائد إلا إذا رضي الورثة بصرف الزائد من حصصهم، وتفصيل ذلك نذكره في مسائل:
مسألة 449: لا يشترط في صحة الوصية التفات الموصي وقصدُه أن يكون الموصى به من الثلث، فلو أوصى عامداً ملتفتاً بما يزيد على الثلث، بل لو أوصى بجميع ماله، صحت وصيته وتوقف نفوذها فيما زاد عن الثلث على إجازة الورثة.
مسألة 450: إذا أوصى بقسم محدد من ماله من دون أن يصرِّح بكوْنه ثلثاً، فإنه لا بد في نفوذ الوصية فيه من كونه بمقدار الثلث أو أقل، فإن كان أزيد توقف نفوذها فيه على إجازة الورثة.
مسألة 451: إذا كان الموصي قد عين الثلث الذي يرغب بإنفاقه في وصاياه بقسم معين من تركته،كقطعة الأرض الفلانية، أو مقدار النقد الفلاني، فإنه يتعين فيه، فيؤخذ ويصرف في وصيته؛ وإذا فوّض التعيين إلى الوصي كان التعيين من حقه، وليس للورثة الاعتراض على ما يعينه ثلثاً من الأعيان والأموال؛ أما إذا لم يعين هو ولا فوض التعيين للوصي كان الثلث مشاعاً في جميع أجزاء التركة، وحينئذ لا بد من رضا الورثة بما يُعزل من النقد والأعيان ليصرف في الوصية.
مسألة 452: إذا أوصى بثلث ماله (مشاعاً) لشخص بعينه، ثم أوصى بفرسه لشخص آخر بعينه، كأن قال: «أعطوا ثلث مالي لزيد وفرسي هذه لسعيد»، لزم إعطاء تمام ثلث المال إلا ما يساوي قيمة ثلث الفرس لزيد، وأعطي سعيد ثلث الفرس فحسب، وتوقف إعطاؤه ثلثي الفرس الآخرين على إجازة الورثة. نعم إذا كان ما أوصى به ـ بعد الوصية بالثلث مشاعاً ـ شيئاً غير مشخص، كأن يقول: «أعطوا ثلثي لزيد وأعطوا مائة دينار لسعيد»، فإن الظاهر منها أنه يريد إعطاء سعيد ذلك المبلغ منفصلاً ومستقلاً عن ثلث ماله الذي رغب بإعطائه لزيد، فتصح ـ بناءً على ذلك ـ وصيته بالثلث كاملاً لزيد وتتوقف وصيته بالمائة دينار لسعيد على إجازة الورثة.
مسألة 453: إذا أوصى بعين لتصرف في وصاياه أو لتعطى لزيد، كقطعة الأرض الفلانية، فإن تساوت قيمتها حين الوصية مع قيمتها حين الموت فلا إشكال، وإن اختلفت قيمتها حالهما اعتبرت قيمتها بمقدار الثلث حين الموت، فإن زادت قيمتها فصارت عند الموت أزيد من الثلث اقتصر من قيمتها على مقدار الثلث وتوقف التصرف في الزائد على إجازة الورثة، وإن نقصت عن الثلث لم تتمم من حصة الورثة. نعم إذا قامت القرينة على أن مقصود الموصي هو قيمتها حال الوصية، فإنه يجب حينئذ ملاحظة مطابقتها للثلث وعدمها على قيمتها حال الوصية.
وكذلك الحكم فيما إذا أوصى بكسر مشاعٍ فقال: أعطوا «ثلث مالي» دون أن يحدده في قسم من ماله، فإنه إذا استقر على قيمة واحدة إلى حين الموت، أو نقصت حال الموت عن ما كانت عليه حين الوصية، أخذ بقيمته حين الموت دون إشكال، وكذا يؤخذ بقيمته حين الموت على الأقوى إذا زادت عنها حين الوصية، اللهم إلا أن تقوم قرينة على أنه كان يريد بها قيمتها حين الوصية، فيُقتصر على قيمتها حينها ويضم الزائد عنه إلى التركة.
مسألة 454: إذا أوصى من لا وارث له إلا الإمام بجميع ماله للفقراء وأبناء السبيل، أو في وجوه الخير والقربات والطاعات نفذت وصيته، ولا بأس بالإحتياط بالاستجازة من الحاكم الشرعي.
مسألة 455: إذا دفع إنسان إلى آخر مالاً وأوصاه أن ينفقه عنه في أمور معينة، فالظاهر أنه يجب عليه أن يتأكد قبل صرفه في الوصية من كونه بمقدار الثلث، ولا يجوز له المبادرة إلى صرفه من دون ذلك، حتى لو احتمل أنه مأذون من الورثة بهذه الوصية، أو أن له ملزماً شرعياً يقتضي إخراجها من الأصل.
ثالثاً ـ صيغة الإجازة وأحكامها:
مسألة 456: لا يكفي في إجازة الوارث مجرد الرضى القلبي بصرف الوصايا الزائدة عن الثلث من حصته، بل لا بد أن تكون الإجازة متضمنة لما يفيد إمضاء الوصية والقبول بتنفيذها من ماله من الأقوال أو الأفعال.
نعم لا يعتبر فيها أن تكون فور ظهور زيادة الموصى به على الثلث، ولا فور طلب الوصي منهم الإجازة، فلو مضى زمن على ذلك ثم حصلت الإجازة صحت وأثَّرت.
مسألة 457: لا يشترط في الإجازة وقوعها بعد الوفاة، بل يكفي حدوثها حال حياة الموصي وتصح على الأقوى.
مسألة 458: إذا أجاز الورثة بعض الوصايا الزائدة عن الثلث دون بعض نفذت الوصية فيما أجازوا وبطلت فيما لم يجيزوا، وإذا أجاز بعضهم ولم يجز البعض الآخر نفذت الوصية في حصة المجيز دون غيره، وحينئذ فإنه يوزع النقص على جميع الوصايا بنسبته إلى مجموع تكاليفها على النحو الذي سلف ذكره في النحو الثاني من المسألة 445.
مسألة 459: إذا صدرت الإجازة من الوارث في حياة الموصي أو بعد وفاته فليس له أن يرجع عنها ويلغيها؛ ولو ردّ الوصية في الزائد عن الثلث ولم يجزها في حياة الموصي ثم أجازها بعد وفاته صحت إجازته ولزمت، وكذا لو ردها بعد وفاة الموصي ثم أجازها على الأقوى.
مسألة 460: لا يخفى أن إجازة الورثة تصحّ وتنفذ إذا كانوا بالغين عقلاء، وإلا فإن كان فيهم قاصر لصبىً أو جنون أو سفه لم يكن لوليهم أن يجيز مثل هذا التصرف الخالي من المصلحة في أموالهم، وحينئذ، فإما أن يتحمل غير القاصر تمام الزائد في حصته أو يُنتظر في تنفيذه أهلية القاصر بالبلوغ والعقل والرشد.
قد اشترط الفقهاء أن لا يزيد المال الموصى به تمليكاً أو عهداً على مقدار معين هو ثلث ما يتركه الميت من أموال، ولا بد لتوضيح هذا الشرط وتفصيل أحكامه من بيانه على النحو التالي:
أولاً ـ كيف توزع التركة:
مسألة 443: التركة هي: (كل مال مات عنه الإنسان وتركه لمن بعده)، فيدخل فيها ويعدّ منها كل مال كان قد دخل في ملكه فعلاً أثناء حياته مما استقرت ملكيته عليه حتى لو لم يكن موجوداً عنده لرهنٍ أو دينٍ أو نحوهما، وكذا يحسب منها ما أَوجَدَ سبَبَه حال حياته فحازه بعد مماته، كالشبكة ينصبها للاصطياد فيقع فيها الصيد بعد وفاته؛ وكذا مثل الدية مما وقع سببه عليه في حياته واستحقه بعد مماته بالجناية عليه بالقتل؛ أما مثل المال الذي يعطى تعويضاً له على عمله بعد وفاته بواحد من حوادث العمل، أو مثل الهبات التي تقدمها بعض المؤسسات أو الدول بسبب الكوارث الطبيعية أو الحروب لمن يقتل فيها، فإنها لا تكون داخلة في التركة، وكذا لا يدخل فيها المال الموصى له به إذا مات في حياة الموصي كما بينّاه سابقاً في المسألة 438؛ وعليه فإنه لا يُعدّ تركة من أمواله إلا ما يكون داخلاً تحت واحد من العناوين الثلاثة الأولى، وهي: ما دخل في ملكه فعلاً في حياته، وما أوجد سببه قبل موته، وما وقع عليه سببه في حياته، دون ما عداها.
ورغم كون الإنسان مالكاً لجميع أمواله ومتسلطاً عليها في حياته، فإنه إذا قرب منه الموت تقيدت سلطته على التصرف به بما سبق ذكره في منجزات المريض ص 40، وكذا تتقيد سلطته عليه عند موته باستحقاقات ما بعد الموت، فلا يكون حراً في الوصية بماله كيف يشاء، بل يجب عليه أن يراعي هو، أو مَنْ بعده، أموراً معينة نفصلها في المسألة التالية.
مسألة 444: توزَّع تركة الميت على مصارف كبرى ثلاثة:
المصرف الأول: على ما يجب إخراجه من أصل التركة، وهي أمور عديدة لها الأولوية على غيرها من مستحقات ما بعد الموت، فتؤخذ من مجموع التركة قبل الوصية وقبل حصص الورثة، وهذه الأمور هي:
1 ـ ما عليه من دين للناس.
2 ـ ما عليه من حق شرعي في أمواله، وهو الخمس والزكاة بخاصة، دون الكفارات ورد المظالم والنذور المالية فإنها لا تخرج من الأصل.
3 ـ نفقات تجهيزه، كتغسيله وتكفينه ودفنه.
4 ـ الحج الواجب بالاستطاعة، دون ما وجب عليه بالنذر فإنه لا يخرج من الأصل.
المصرف الثاني: ما ينبغي إخراجه من الثلث، أي من ثلث الباقي بعد استثناء ما يجب إخراجه من أصل التركة، وهذا الثلث خاص بالميت تخرج منه وصاياه، وهي أمور:
1 ـ كل ما يريد إعطاءه أو صرفه على أشخاص أو جهات أو في وجوه الخير من أمواله، أو في رد المظالم ووفاء النذور والكفارات.
2 ـ كل ما يريد أن يعمل له أو عنه بعد وفاته، من قضاء الصوم والصلاة وسائر القربات والطاعات من الأمور التي تستلزم بذل المال، واجبةً كانت أو مستحبةً أو مباحةً.
3 ـ ما نَصَّ على إخراجه من الثلث من الأمور التي تخرج من أصل التركة، وهي التي ذكرناها في المصرف الأول.
المصرف الثالث: وهو حصص الوُرَّاث التي لها ثلثا الباقي من التركة إن صُرف تمام الثلث في المصرف الثاني، وإلا فإنّ ما يفضل عن الوصية من الثلث يضاف إلى الثلثين ويوزع على الورثة بنسبة حصة كل واحد منهم؛ وكذا إن لم يكن قد أوصى بشيء، فإنه يضم الثلث إلى التركة ويوزع على الوراث بحسب حصصهم.
وعلى هذا الأساس فإنه لا تنفذ وصيته بما يزيد على الثلث الخاص به إلا إذا وافق الورثة، كذلك فإنه ليس للورثة أن يأخذوا حصصهم قبل إخراج ما يجب إخراجه من أصل التركة.
مسألة 445: إذا أوصى بوصايا متعددة، فهي من حيث مصرفها من التركة على أنحاء:
الأول: أن تكون الوصايا كلها من ما يجب إخراجه من أصل التركة، فيجب تنفيذها وإخراجها جميعها من تركته وإن زادت على الثلث.
الثاني: أن تكون الوصايا كلها واجبات لا تخرج من أصل التركة، وذلك مثل الصلاة والصوم والنذورات والكفّارات ونحوها، فإن وفى الثلث بها أخرجت جميعها منه، وإن زادت عليه وأجاز الورثة أخرجت جميعها من الثلث ومما أجازه الورثة، وأما إذا لم يجز الورثة فإن الواجب حينئذ تنفيذ جميع ما أوصى به من أعمال مع الإنقاص من كل عمل بنسبة مجموع الزائد عن الثلث إلى مجموع كلفة الأعمال، فلو كانت كلفة الأعمال الموصى بها ألف وخمسمائة دينار، وكان الثلث ألف دينار، كانت نسبة الزائد (وهو الخمسمائة) إلى مجموع كلفة الوصايا هي الثلث، فيُنقَّص من كل عمل أوصى به مقدارُُ الثلث؛ ومعنى ذلك أننا لا نقتصر في تنفيذ وصاياه على ما يسعه الثلث من الأعمال التي ذكرها في كلامه أولاً فأوَّلاً، إلا أنْ تقوم قرينة على أن هذا هو مراد الموصي وغايته من هذا الترتيب.
الثالث: أن تكون الوصايا كلها تبرعية غير واجبة، تمليكية كانت أو عهدية؛ ولا يختلف حكم هذا النحو من الوصايا عن النحو الثاني.
الرابع: أن تكون الوصايا كلها واجبةً، ولكنّ بعضها مما يُخرَج من الأصل، وبعضها مما يُخرج من الثلث، فإن لم ينص على إخراجها جميعاً من الثلث، يُبدأ بما يُخرج من الأصل فيخرج من أصل التركة، ثم يخرج غيره من ثلث الباقي، فإن وفى به فلا إشكال، وإن لم يف به وأجاز الورثة الصرف من حصصهم فلا إشكال أيضاً، وإن لم يجيزوا وجب التعامل مع النقص بالطريقة التي مرت في النحو الثاني؛ وأما إذا نص الموصي على إخراج الوصايا من الثلث، فإن وفى الثلث بها أخرجها جميعاً، وكذا إن لم يف بها وأجاز الورثة إخراج الزائد من حصصهم، وإن لم يجز الورثة بدأ بما يُخرج من الأصل فأخرجه منه، فإن فضل من الثلث شيءٌ أنفقه على بعض وصاياه مقدِّماً الاستئجار للصلاة والصوم وبطل في الباقي، وإن لم يفِ إلا بما يُخرج من الأصل بطلت الوصية فيما عداه من وصاياه الواجبة.
الخامس: أن تكون الوصايا مختلفة بين الواجب والتبرعي، فإن وسعها الثلث فهو المطلوب، وإن لم يسعها وأجاز الورثة الصرف على الزائد من حصصهم فلا إشكال، وإن لم يجيزوا وجب تقديم الواجب على غيره.
السادس: أن تكون وصاياه مشتملةً على واجبات تخرج من الأصل وواجبات تخرج من الثلث وأعمال تبرعية؛ وهذا النحو يعرف حكمه من مجموع أحكام الأنحاء الآنفة الذكر، وذلك على قاعدة كون الأولوية للواجبات التي تخرج من الأصل، ثم للواجبات التي تخرج من الثلث، ثم للأعمال التبرعية؛ فيَجْري المكلفُ فيه على هذه الطريقة طبق التفاصيل التي ذكرناها.
مسألة 446: إذا أخذ بعض الورثة حصته قبل إخراج ما يجب إخراجه من أصل التركة،كالدين والحج ونحوهما، ولم يدفع ما هو مترتب في حصته مقابل تلك الواجبات، فالواجب على سائر الورثة تحمل ذلك النقص من حصصهم بخاصة، ثم إنّ لهم أن يرجعوا على المتمرد عن الدفع حتى لو كان صرفهم على ما نقص من نصيب الواجبات الأصلية من حصصهم بدون إذن من الوصي أو الحاكم الشرعي.
مسألة 447: لا يمنع الإيصاء بإعطاء الغير عيناً مشخّصة، كداره مثلاً، من توزيع التركة بالنحو اللازم، ويكون استقرار ملكية الموصى له على العين متوقفاً على عدم مزاحمتها لما يخرج من أصل التركة أولاً، وعدم زيادة الباقي منها عن الثلث، فإذا اقتضى تنفيذُ ما عليه من الواجبات الأصلية التصرف ببعض الدار لضيق التركة عن الوفاء بها صحّ الأخذ منها لإتمام ما عليه، ثم ما يبقى من الدار يكون بين الوارث وبين الموصى له ثلثان لهم وثلث له.
مسألة 448: إذا تبرع متبرع بتجهيز الميت، أو أبرأه بعد موته من الدّيْن الذي له عليه، لم يعتبر مالاً جديداً خارجاً عن التركة، بل يعد منها ويلحقه حكمها ويُنَزَّل مصرَفُه الذي كان يجب صرفُه فيه منزلة المعدوم.
ثانياً ـ الوصية بالثلث وحكم الزيادة عليه:
لقد صار واضحاً أن الوصية ينبغي أن لا تزيد على ثلث ما يبقى من التركة بعد إخراج الواجبات الأصلية، فإن زادت عنه لم تنفذ في الزائد إلا إذا رضي الورثة بصرف الزائد من حصصهم، وتفصيل ذلك نذكره في مسائل:
مسألة 449: لا يشترط في صحة الوصية التفات الموصي وقصدُه أن يكون الموصى به من الثلث، فلو أوصى عامداً ملتفتاً بما يزيد على الثلث، بل لو أوصى بجميع ماله، صحت وصيته وتوقف نفوذها فيما زاد عن الثلث على إجازة الورثة.
مسألة 450: إذا أوصى بقسم محدد من ماله من دون أن يصرِّح بكوْنه ثلثاً، فإنه لا بد في نفوذ الوصية فيه من كونه بمقدار الثلث أو أقل، فإن كان أزيد توقف نفوذها فيه على إجازة الورثة.
مسألة 451: إذا كان الموصي قد عين الثلث الذي يرغب بإنفاقه في وصاياه بقسم معين من تركته،كقطعة الأرض الفلانية، أو مقدار النقد الفلاني، فإنه يتعين فيه، فيؤخذ ويصرف في وصيته؛ وإذا فوّض التعيين إلى الوصي كان التعيين من حقه، وليس للورثة الاعتراض على ما يعينه ثلثاً من الأعيان والأموال؛ أما إذا لم يعين هو ولا فوض التعيين للوصي كان الثلث مشاعاً في جميع أجزاء التركة، وحينئذ لا بد من رضا الورثة بما يُعزل من النقد والأعيان ليصرف في الوصية.
مسألة 452: إذا أوصى بثلث ماله (مشاعاً) لشخص بعينه، ثم أوصى بفرسه لشخص آخر بعينه، كأن قال: «أعطوا ثلث مالي لزيد وفرسي هذه لسعيد»، لزم إعطاء تمام ثلث المال إلا ما يساوي قيمة ثلث الفرس لزيد، وأعطي سعيد ثلث الفرس فحسب، وتوقف إعطاؤه ثلثي الفرس الآخرين على إجازة الورثة. نعم إذا كان ما أوصى به ـ بعد الوصية بالثلث مشاعاً ـ شيئاً غير مشخص، كأن يقول: «أعطوا ثلثي لزيد وأعطوا مائة دينار لسعيد»، فإن الظاهر منها أنه يريد إعطاء سعيد ذلك المبلغ منفصلاً ومستقلاً عن ثلث ماله الذي رغب بإعطائه لزيد، فتصح ـ بناءً على ذلك ـ وصيته بالثلث كاملاً لزيد وتتوقف وصيته بالمائة دينار لسعيد على إجازة الورثة.
مسألة 453: إذا أوصى بعين لتصرف في وصاياه أو لتعطى لزيد، كقطعة الأرض الفلانية، فإن تساوت قيمتها حين الوصية مع قيمتها حين الموت فلا إشكال، وإن اختلفت قيمتها حالهما اعتبرت قيمتها بمقدار الثلث حين الموت، فإن زادت قيمتها فصارت عند الموت أزيد من الثلث اقتصر من قيمتها على مقدار الثلث وتوقف التصرف في الزائد على إجازة الورثة، وإن نقصت عن الثلث لم تتمم من حصة الورثة. نعم إذا قامت القرينة على أن مقصود الموصي هو قيمتها حال الوصية، فإنه يجب حينئذ ملاحظة مطابقتها للثلث وعدمها على قيمتها حال الوصية.
وكذلك الحكم فيما إذا أوصى بكسر مشاعٍ فقال: أعطوا «ثلث مالي» دون أن يحدده في قسم من ماله، فإنه إذا استقر على قيمة واحدة إلى حين الموت، أو نقصت حال الموت عن ما كانت عليه حين الوصية، أخذ بقيمته حين الموت دون إشكال، وكذا يؤخذ بقيمته حين الموت على الأقوى إذا زادت عنها حين الوصية، اللهم إلا أن تقوم قرينة على أنه كان يريد بها قيمتها حين الوصية، فيُقتصر على قيمتها حينها ويضم الزائد عنه إلى التركة.
مسألة 454: إذا أوصى من لا وارث له إلا الإمام بجميع ماله للفقراء وأبناء السبيل، أو في وجوه الخير والقربات والطاعات نفذت وصيته، ولا بأس بالإحتياط بالاستجازة من الحاكم الشرعي.
مسألة 455: إذا دفع إنسان إلى آخر مالاً وأوصاه أن ينفقه عنه في أمور معينة، فالظاهر أنه يجب عليه أن يتأكد قبل صرفه في الوصية من كونه بمقدار الثلث، ولا يجوز له المبادرة إلى صرفه من دون ذلك، حتى لو احتمل أنه مأذون من الورثة بهذه الوصية، أو أن له ملزماً شرعياً يقتضي إخراجها من الأصل.
ثالثاً ـ صيغة الإجازة وأحكامها:
مسألة 456: لا يكفي في إجازة الوارث مجرد الرضى القلبي بصرف الوصايا الزائدة عن الثلث من حصته، بل لا بد أن تكون الإجازة متضمنة لما يفيد إمضاء الوصية والقبول بتنفيذها من ماله من الأقوال أو الأفعال.
نعم لا يعتبر فيها أن تكون فور ظهور زيادة الموصى به على الثلث، ولا فور طلب الوصي منهم الإجازة، فلو مضى زمن على ذلك ثم حصلت الإجازة صحت وأثَّرت.
مسألة 457: لا يشترط في الإجازة وقوعها بعد الوفاة، بل يكفي حدوثها حال حياة الموصي وتصح على الأقوى.
مسألة 458: إذا أجاز الورثة بعض الوصايا الزائدة عن الثلث دون بعض نفذت الوصية فيما أجازوا وبطلت فيما لم يجيزوا، وإذا أجاز بعضهم ولم يجز البعض الآخر نفذت الوصية في حصة المجيز دون غيره، وحينئذ فإنه يوزع النقص على جميع الوصايا بنسبته إلى مجموع تكاليفها على النحو الذي سلف ذكره في النحو الثاني من المسألة 445.
مسألة 459: إذا صدرت الإجازة من الوارث في حياة الموصي أو بعد وفاته فليس له أن يرجع عنها ويلغيها؛ ولو ردّ الوصية في الزائد عن الثلث ولم يجزها في حياة الموصي ثم أجازها بعد وفاته صحت إجازته ولزمت، وكذا لو ردها بعد وفاة الموصي ثم أجازها على الأقوى.
مسألة 460: لا يخفى أن إجازة الورثة تصحّ وتنفذ إذا كانوا بالغين عقلاء، وإلا فإن كان فيهم قاصر لصبىً أو جنون أو سفه لم يكن لوليهم أن يجيز مثل هذا التصرف الخالي من المصلحة في أموالهم، وحينئذ، فإما أن يتحمل غير القاصر تمام الزائد في حصته أو يُنتظر في تنفيذه أهلية القاصر بالبلوغ والعقل والرشد.