أحكام العمل أو إجارة النفس:
لا بد أن يكون قد لفت نظرنا دور "الجهد" الإنساني في إحداث الملكية وتحقيق السيطرة على المباحات التي وجدها الإنسان ماثلةً أمامه، وهو الذي صرنا - في هذا العصر الحديث - نصطلح عليه بـ"العمل"، ونريد به: (ما يبذله "العامل" من جهد لإنجاز وإيجاد شيءٍ ما، مادي، كبناء الدار أو صنع الباب أو حفر البئر، أو معنوي، كمداواة مرض أو تعليم فكرة، أو نحو ذلك، إما لنفسه أو لغيره، مجاناً أو بعوض وأجرة). وقد تزايد الاهتمام به مع تسارع وتيرة النهوض الاقتصادي واشتداد الحاجة إلى العمال، فصارت له في الفكر الإنساني الحديث فلسفته وقوانينه التي أخذت مساحة واسعة في شرائع ودساتير الدول الحديثة، وقبل ذلك كان الإسلام قد اعتنى بهذا الجانب، فخصه بأحكام تفصيلية تنظّمه وتقنّن له من أجل الوصول به إلى أهدافه المرجوة، علماً أنه لم يذكر في كتب الفقه المتداولة تحت هذا العنوان ولا بذلك اللفظ المستحدث، بل ذكر تحت عنوان "الإجارة" الذي يشمل إيجار النفس، وهو هذا الباب، وإيجار الأعيان المملوكة، وقد آثرنا - في رسالتنا العملية هذه - أن نفصل بين مسائل موضوع إيجار النفس ومسائل موضوع إيجار العين، لأنهما وإن التقيا في أحكام عديدة، فإن توسع بحوث (إجارة النفس) وأحكام "العمل" وامتدادها إلى مثل الجعالة والمزارعة والمساقاة، مضافاً إلى جوانب الاختلاف بينهما، وإلى انسجام ذلك مع بحوث هذا المقصد الذي يبحث في تملك المباحات، إن جميع هذه الأسباب وغيرها قد دعتنا إلى أن نرجح الفصل بينهما ونخص جانب إجارة النفس بهذا الباب ذي الفصول المتعددة الواسعة، ونقدمه على مبحث إجارة الأعيان الذي ذكرناه فيه خاتمة له لتأكيد أولويته عليه.
و(الإجارة): لغةً هي: الأجرة على العمل، ثم صارت تطلق على هذا العقد المعلوم، ويمكن تعريفها بأنها: (بذل الإنسان لمنافع نفسه أو منافع الأعيان المملوكة له ليستفيد منها الغير مقابل عوض). ويقابل ذلك (التطوع)، وهو بذل منافع النفس مجاناً، و(العارية) وهي بذل منافع العين مجاناً، وقد يقال لها (هبة) منافع العين، وأقل من ذلك: هبة منافع النفس، وقد غلب في زماننا إطلاق كلمة الإجارة على استثمار وإيجار منافع الأعيان، وإطلاق كلمة العمل على إيجار النفس.. وهذا هو الذي اخترناه وانسجمنا معه.
أما فصول هذا الباب فهي تتعرض لما يلي:
الأول: وفيه أحكام ما يحلّ من الأعمال وما يحرم.
الثاني: وفيه أحكام إيجار النفس بعوض من خلال عقد الإجارة لغير الزراعة والسقاية.
الثالث: وفيه مطلبان: المطلب الأول: في المزارعة، وهو يتعرض لأحكام إيجار النفس لخصوص زراعة الأرض، وهو موضوع له "عقده" الخاص وأحكامه الخاصة، والمطلب الثاني: في المساقاة، وهو يتعرض لخصوص حالة إيجار النفس لسقاية الزرع، وهو - أيضاً - موضوع له "عقده" الخاص وأحكامه الخاصة.
الرابع: وفيه أحكام (الجعالة)، المأخوذة من (جَعْل) أجرةٍ لمن يؤدي عملاً محدداً ،&nbs