تعتبر الزراعة من الأعمال الهامة التي مارسها الإنسان منذ القدم، وهي بشتى مجالاتها من الأعمال التي يصح إيجار النفس من أجل العمل فيها، فتكون بذلك مشمولة - إجمالاً - لأحكام الإجارة التي سلف ذكرها، لكن نظراً لتشعب فروع التعامل بها وكثرة الأحكام المتعلقة بها واختلافها من بعض النواحي عن الإجارة واختصاصها بعقد خاص بها، هي وبعض فروعها، فإن الفقهاء قد جعلوا لها قسماً خاصاً في كتبهم الفقهية، فأصبحت بذلك مستقلةً عن باب الإجارة، رغم أنها في جوهرها ليست منفصلة عنها إلا جزئياً.
وعملية الزراعة لا تقتصر على بذر الحب أو غرس النبتة في التراب، بل إن لها مقدمات ضرورية، كفلاحة الأرض وتثليمها وتسوية قنوات الري وأنابيبه ونحو ذلك، كما أن لها نوعاً من الرعاية بعد زرعها يستمر إلى ما بعد قطافها، كتسميد التربة وإزالة الحشائش الضارة وسقاية الزرع وأعمال أخرى كثيرة، ورغم كون هذه العملية واحدة ومتكاملة في مراحلها، فإن الشريعة قد دونت أحكامها تحت عناوين ثلاثة:
الأول: المزارعة، وهي مصطلح فقهي يراد به: (التعاقد بين متولي الأرض وبين الزارع على زراعة الأرض بغير الأشجار بحصة من حاصلها مقدرة بالكسور)، فهي تختص بنفس استحداث الزرع بعد أن لم يكن، وذلك بمثل زراعة الحبوب والخضار، ثم تعهده إلى حين قطافه وحصاده؛ أما زراعة غروس الأشجار التي تراد لخشبها أو لثمرها فإنها قد اختصت بعنوان خاص، هو (المغارسة) الذي سنذكره لاحقاً.
الثاني: المغارسة، وهي مصطلح يراد به: (التعاقد على زرع الأشجار - بخاصة - وغرسها بحصة مستقلة عن الأرض أو مع حصة من الأرض)، وذلك مع تعهدها بالرعاية حتى تصير منتجة، وهو ما سنعرض له في آخر بحث المزارعة.
الثالث: المساقاة، وهي صيغة "مفاعلة" تفيد المشاركة، مأخوذة من سقي الماء وإفاضته على الزرع، ولكن المصطلح الفقهي أعمّ من ذلك، فهي: (اتفاق شخص مع آخر على رعاية أشجار ونحوها وإصلاح شؤونها إلى مدةٍ معينة بحصة من حاصلها)، فهي تختص بكونها رعاية لزرع موجود نابت بمثل السقاية والتعشيب ونحوهما إلى حين قطافه.
وهنا لا بدّ من ملاحظة ما يلي:
أولاً: إن المزارعة والمساقاة تشتركان في أن الهدف من التعاقد على كل منهما هو العناية بالزرع ورعايته، وتختلفان في أن الأولى اسم لنفس استحداث الزرع واستنباته، مضافاً للعناية به ورعايته بالسقاية ونحوها فيما بعد، وأما الثانية فإنها إسم لنفس رعايته بالسقاية ونحوها بعد وجوده وظهوره.
ثانياً: إنه سوف يظهر من استعراض الأحكام المتعلقة بهما أن الاختلاف لا يقتصر فقط على نوع العمل المطلوب في كل منهما، بل يشمل الاختلاف أموراً أخرى من فروع كل منهما.