نريد بإجارة النفس: (جعلها في معرض الاستخدام مقابل عوض)، دون تفريق بين مجالات الاستخدام الكثيرة المتنوعة، عدا ما حرم الإسلام الاشتغال به من أنواع المكاسب، مما سبق ذكره؛ وتتحقق هذه الإجارة بالعقد المشتمل على الإيجاب والقبول من عاقدين متمتعين بالصفات اللازمة شرعا ، فإذا تم العقد صار العامل ملزما بأداء ما التزم به والمستأجر ملزما بدفع الأجرة له عند قيامه بالعمل بالوجه المطلوب منه، وخلال ذلك قد يحصل إخلال من العامل بما التزم أومن المستأجر بما وعد، كما أنه قد يتلف موضوع العمل أو يصاب العامل أو يموت صاحب العمل أو العامل، وجميع ذلك له أحكام نفصلها في المباحث القادمة، أما في هذا التمهيد فإننا نعرض لأمور نذكرها في مسائل:
م - 223: لقد حث الإسلام على العمل واستخدام اليد وبذل الجهد في تحصيل المعاش، وهو ما كنا قد ذكرناه في مباحث (المدخل) من ناحية عامة، أما إجارة النفس بخصوصها فإننا - إضافة لكونها مشمولة لتلك الأحاديث العامة ومصداقاً لها - نلاحظ أن عدداً من الأنبياء والأوصياء قد آجروا أنفسهم في مهن شتى، فقد ذكر المؤرخون أن النبي محمد(ص) قد آجر نفسه للتجارة قبل نبوته، وأن علياً(ع) قد آجر نفسه لسقاية النخل، كما أن القرآن الكريم قد ذكر إجارة موسى نفسه لشعيب عليهما السلام لرعاية الماشية؛ مضافاً إلى أن القرآن الكريم قد أكد على الإجارة ودورها الهام في الإنتاج الاقتصادي وفي إعمار الحياة في قوله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخرياً} [الزخرف:32] وقد روي عن علي(ع) في تفسير هذه الآية قوله: "فأخبرنا سبحانه أن الإجارة أحد معايش الخلق، إذ خالف بحكمته بين هممهم وإرادتهم وسائر حالاتهم، وجعل ذلك قواما لمعايش الخلق، وهو الرجل يستأجر الرجل في ضيعته وأعماله وأحكامه".
هذا، ثم إنه لا ينافي ذلك ما ورد في بعض الأحاديث من كراهة إجارة النفس، كالمروي عن الباقر(ع) في قوله: "من آجر نفسه فقد حظر عليها الرزق، وكيف لا يحظر عليها الرزق وما أصاب فهو لرب أجره"، وذلك لأن الكراهة معللة بأن نتاجه لصاحب العمل، الأمر الذي يفهم منه أنها واردة في إطار المفاضلة والمقارنة مع العمل المستقل لنفسه، لا أنها واردة في بيان مدى محبوبية أصل العمل الذي هو مسلّم المحبوبية وراجح في التشريع.
م - 224: لما كانت الحرف والصناعات ضرورية لحياة الإنسان واستمرارها، فإنه يجب على المكلفين - وجوباً كفائياً - العمل بتلك الحرف حتى تتحقق الكفاية منها لحاجة المجتمع، وهذا يعني وجوب تعلم النجارة والطب والعمارة والزراعة والصيد والرعي وكل صنعة وحرفة للعمل بها وقضاء حاجة المجتمع منها؛ وهذا يعني أن العمل في الإسلام رسالة سامية وعمل أخلاقي والتزام اجتماعي قبل أن يكون مجرد رغبة شخصية يندفع إليها المكلف بهدف الربح، ويتجلى ذلك بأبهى صورة عندما يعمد النظام العادل إلى إيلاء التخطيط الاقتصادي أهميته المناسبة وتوزيع الجهد العام باتجاه حاجات المجتمع بنحو متواز يحقق الكفاية والسعادة.
م - 225: قد أشرناً سابقا ونعيد التأكيد الآن على أن لكلِّ حرفةٍ أهميتها وضرورتها بالمقدار الذي يناسب كل زمان وكل مجتمع، فليس فيها ما هو مرذول ما دام ضرورة وحاجة للناس حتى لو كرهته بعضالنفوس وتجنبته بعض المجتمعات، فكم من حرفة كانت مرذولة صارت م