العلامة محمد حسين فضل الله لـ"القبس":
الشيعة ليسوا جميعاً حزب الله وهم طائفة متنوعة الأبعاد
لأنه واجه الكثير من حالات الحصار، حتى منع عنه «الخمس» في أحيان كثيرة، لدفعه إلى الاستسلام أو إلى الموت الفقهي، لأنه العربي ـ العروبي ـ في العقل وفي القلب، ولأنه صاحب الفتاوى المتنورة التي تتفاعل مع العصر، وتتعامل مع النص الديني بعمق، وبشفافية، وبتفهم لكل الآراء دون أن تلامس أصابعه الكراهية، ولأنه العدو الأكبر لأي فتنة سنية ـ شيعية يراها خرابا للزمن الإسلامي كله دون أن يكون لها أي مبرر، وعلى المستويات كافة... لهذا كلّه، ولأسباب أخرى غيرها، قصدنا العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله... وهذا نصّ الحوار:
س: الشيعة في لبنان، طائفة في مهب الريح... لماذا؟
ج: إن السؤال ـ في تصوري ـ لا يملك الكثير من الدقة، لأنّ الشيعة في لبنان يمثلون الطائفة التي عاشت اضطهاد التاريخ، في ظروف جعلتها في عزلة سياسية عن الواقع السياسي اللبناني، بحيث إنها لم تنفتح على التطورات التي كانت تحيط بالواقع اللبناني السياسي، بل كل خطواتها السياسية تتحرك باتجاه الأجواء الإقطاعية التي كانت تتوارثها بعض العائلات. لذلك لم يحدث في بدايات القرن السابق أي تطور سياسي في الذهنية الشيعية الحركية، ولكنها في الوقت نفسه، انفتحت بعض الانفتاح على التطورات السياسية في المنطقة، عندما سقطت الخلافة العثمانية، وبدأت الدول الغربية تعمل على تنظيم الاستعمار على أساس المحاصصة السياسية والاقتصادية، فكانت أول انطلاقة شيعية بارزة في تأييد الملك فيصل الأول، ابن الشريف حسين، في ملكيته في سوريا، والتي لم يكن الفرنسيون يوافقون عليها. ثم تطورت الأمور في المنطقة مع بدايات المشكلة الفلسطينية، وأيضاً مع انطلاقة بعض الأحزاب اليسارية التي أخذت تتحرك في الواقع اللبناني، ولاسيما في الجنوب اللبناني الذي يمثل الشيعة أكثريةً فيه، فلاحظنا في الثلاثينيات وما بعدها، بعض التطورات في حركة الشباب الشيعي في الانتماء إلى خط اليسار من خلال الفلسطينيين، وأيضاً في مواجهة الاستعمار الفرنسي في ذلك الوقت، وقد اعتُقِل بعض الشباب آنذاك من قِبَل الفرنسيين وأدخلوا السجن.
وامتدت المسألة إلى ما بعد الخمسينيات، عندما ولدت إسرائيل في المنطقة، وانطلق التيار اليساري في هذا المجال بين ماركسية هنا، وقومية عربية هناك، إضافةً إلى بعض الخطوط اليمينيّة التي كان يمثلها بعض الزعماء التقليديين.
وانفتح الشيعة آنذاك على الواقع السياسي اللبناني الذي انفتح بدوره على قضايا المنطقة، حيث كانت حركة عبد الناصر، وكان الانقلاب في العراق على النظام الملكي (عام 1958). وهكذا انطلق الواقع الشيعي على الأرض اللبنانية التي اتسع دورهم فيها في خطوط اليسار بشكل كبير جداً، سواء في اليسار الماركسي، أو اليسار القومي العربي.
عند ذلك دخل الشيعة التاريخ، وانطلقت الأمور، حتى فكر الكثيرون، ومنهم السيد موسى الصدر، في تأسيس حركة أرادها أن تكون حركة مقاومة من جهة، وحركةً إسلاميةً معتدلةً ومنفتحةً من جهة ثانية. ومن الطبيعي أن السيد موسى الصدر الذي كان يشرف على هذه الحركة، وهي حركة أمل، كان له دور كبير في الحركية الشيعية التي حاولت من خلال انفتاحه الثقافي والديني والسياسي، الانفتاح على كل اللبنانيين، ولاسيما المسيحيين منهم، كما حاول أن يمتد في العالم العربي، فكانت له علاقة قريبة جداً من سوريا، وكذلك كان له علاقة مع السعودية، ثم انفتح على مصر التي كانت تثير علامات استفهام حوله، ولكنه عندما التقى بعبد الناصر، تغيرت نظرة مصر إليه. وانفتح من خلال هذه الذهنية الواسعة على الواقع اللبناني المحروم، فأسس حركة المحرومين التي كانت تضم الكثير من اللبنانيين من مختلف الطوائف. وتحرَّك أيضاً في المسألة الثقافية. وامتدت أفكاره وعلاقته بالفاتيكان، حتى كانت المأساة في سفره إلى ليبيا، حيث غيب هناك بالطريقة التي نعتقد فيها أنه لاقى وجه ربه. الشيعة لم يكونوا في مهبّ الريح، بل كانوا يتحرَّكون على الأرض
لذلك، فالشيعة لم يكونوا في مهب الريح، بل كانوا يتحركون على الأرض، وكانت الأرض تتَّسع بهم تارة، وتضيق بهم أخرى، وذلك بحسب الظروف التي كانت تحيط بالمنطقة. ثم عندما انطلقت الثورة الإسلامية في إيران نشأ «حزب الله» الذي انفتح على إيران انفتاحاً واسعاً، ولاسيما من خلال بعض أعضائه الذين آمنوا بولاية الفقيه، واعتبروا الإمام الخميني قائداً سياسياً إضافةً إلى كونه قائداً شرعياً.
وهكذا، خرجت من رحم حركة «أمل» بعض القيادات التي أصبحت قيادات لـ«حزب الله» الذي توجّه نحو المقاومة، منطلقاً من الذهنية التي أثارها السيد موسى الصدر. وقد تطورت مسألة المقاومة حتى تحوّلت إلى مقاومة لإسرائيل، ومن الطبيعي أنها التقت مع بعض الأوضاع الإقليمية التي كانت في حال مواجهة مع إسرائيل. وبدأ «حزب الله» يعمل على تعبئة الشباب في خط المقاومة وتسليحهم وتدريبهم، حتى إن الشيعة لم يكونوا يحلِّقون في الفضاء كما يحلق غيرهم، بل كانوا يمشون على الأرض، ولهذا استطاعوا أن يحرروا لبنان من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000م، وأن يهزموا إسرائيل عام 2006م، وهذا ما يدل على أنهم متجذّرون في الأرض، في الوقت الذي يعيش الكثير من اللبنانيين على سطح السطح، لا على السطح وحده. الشيعة في لبنان يملكون ما لا يملكه الآخرون من قوة تستطيع أن تواجه العدوان الإسرائيلي
ولذلك، فإننا نتصور أنّ الحديث عن أنّ الشيعة في مهبِّ الريح ليس حديثاً دقيقاً، لكن قد يدّعيه بعض الناس لإحساسهم بأن هناك قوة جديدة في لبنان تملك ما لا يملكه الآخرون من قدرة على مواجهة العدوان الإسرائيلي، بحيث استطاعت عام 2006م، ولأوّل مرة في تاريخ دولة إسرائيل الغاصبة، أن تخلق مشكلةً سياسيةً وأمنية واجتماعية لإسرائيل، ولأمريكا من خلال إسرائيل، بالمستوى الذي أوجد حالاً من الخوف لدى كثير من الأنظمة، والخوف من أن تمتد هذه الخطوط المقاومة إلى مناطق خارج لبنان في مواجهة الذين يعيشون في خط السياسية الأمريكية، ويقتربون من العلاقات الإسرائيلية ـ العربية.
لقد حدثني بعض الذين يعيشون هذا النوع من الإحساس في لبنان، ممّن يسيرون في خط السياسة الأمريكية، أن الشيعة يمثلون خطراً، ذلك لأنهم تعودوا أن يكون الشيعة دائماً على الهامش في السياسة اللبنانية، فكيف تطوروا وانتصروا وحاربوا وأصبحوا في الواجهة الكبيرة للبنان؟!
تمذهب المقاومة
س: ولكن أي مقاومة عندما تتمذهب...؟
ج: الشيعة لم يتمذهبوا، وأنا أتساءل أمام هذا العنوان: أي جهة في العالم لم تتمذهب؟ أي مقاومة للماركسيين عندما يتمذهبون بالماركسية؟ وأي مقاومة للقوميين عندما يتمذهبون بالقومية؟ وأي مقاومة للفرنسيين عندما يتمذهبون بالعمق الكاثوليكي؟... إن فرنسا لا تزال كاثوليكيةً في العمق، وقد لاحظناهم في أيام الحرب اللبنانية المشؤومة، كيف كانوا يتحركون بذهنية كاثوليكية، وهذا ما قلته لبعض سفراء فرنسا: «أنتم لستم علمانيين، بل إنكم كاثوليكيون». مشكلة المذهبية هي عندما توظف حال مذهبية ضيقة، أما عندما توظف لحال وطنية قومية إسلامية تنفتح على الواقع اللبناني والعربي والإسلامي، فأية مذهبية هي هذه المذهبية؟ الشيعة لم يحاربوا لحماية التشيّع، بل لحماية لبنان والعالم العربي
المذهبية تمثل قيمةً يؤمن بها أصحابها، لكن الشيعة لم يحاربوا لحماية التشيع، وإنما حاربوا لحماية لبنان كله، ولحماية العالم العربي من إسرائيل التي هزمت العروبة كلها وأسقطتها في كل صراعاتها مع العالم العربي، كما أن الشيعة لم يتمذهبوا شيعياً في مقابل السنة، بل إنهم تعاونوا مع السنة في هذا المجال، وفتحوا حركتهم للكثيرين ممن يريدون أن يتعاونوا معهم في قضية المقاومة. الشيعة ليسوا مذهبيين بالمعنى الضيّق للمذهبية، بل إنهم من دعاة الوحدة الإسلامية
جدار الفصل
س: ولكن هناك جدار فصل حالياً بين السنة والشيعة، وهذا واقع؟
ج: إنني أستطيع أن أؤكد أن الشيعة في الخط العام ليسوا مذهبيين بالمعنى الضيق الذي يحاول أن يضيق بالسنة، بل إنهم من دعاة الوحدة الإسلامية، وإذا كان هناك بعض الشيعة ممن يعيش بعض التعقيدات تجاه السنة، فإنّ هناك الكثير من العالم السني ممن يتطرف ضدّ الشيعة، بحيث إنهم يكفِّرونهم. ولعل الثقافة الواسعة في أكثر مواقع العالم الإسلامي السني، تنطلق من تكفير الشيعة، واعتبارهم مرتدّين ومشركين كفرة، ولهذا رأينا أن ّ«القاعدة» عندما دخلت إلى العراق، وعندما عاشت في أفغانستان، أعلنت في خطابها أنّهم يستحلّون دماء الشيعة، وقالوا إننا نحارب في العراق الشيعة والاحتلال.
أمّا الشيعة فلم يكفّروا السنة، لكن هناك بعض حالات التخلّف.
الانفتاح على الوحدة
س: ولكنّك حذرت في خطبة الجمعة من أن هناك شيعة تكفر السنّة؟
ج: كان هناك حركة ردِّ فعل ولم تكن حركة فعل؛ فعندما ندرس مثلاً حركة بعض العلماء الشيعة، مثل الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، وهو من مراجع الشيعة، نرى أنّه عندما سافر إلى القدس، أمّ جماعة المسلمين من كل المذاهب في بيت المقدس في المسجد الأقصى، ونحن نلاحظ أن العلماء الشيعة الكبار ينفتحون على الوحدة الإسلامية، وأذكر أنني في عام 1952، عندما شاركت في أربعين المرحوم السيد محسن الأمين، وكان إلى جانبي المرشد العام للإخوان المسلمين في سوريا ولبنان الدكتور مصطفى السباعي، كانت لي مداخلة في قصيدة دعوت فيها إلى الوحدة الإسلامية، وكانت مداخلة السباعي تتضمن أن شخصاً سنياً جاء إلى السيد محسن الأمين في الشام، وقال له: أريد أن أصبح شيعياً، فقال له: ليس هناك فرق بين الشيعة والسنة، كلنا مسلمون، ونحن نختلف مع السنة كما يختلف السنة بعضهم مع بعض في بعض القضايا، لكن الرجل أصرَّ على ذلك، فقال له: هل تريد أن تكون شيعياً؟ قال: نعم. قال: اجلس على ركبتيك. فجلس. قال: قل أشهد أن لا إله إلا الله، فقال. ثم أضاف: قل أشهد أن محمداً رسول الله، فقال. قال: صرت شيعياً. لأننا عندما نتحدث في مسألة التشيع، فإننا نتحدث عما قاله رسول الله(ص)، ونختلف مع السنة حول مسألة هل قال رسول الله بخلافة علي(ع) أو لم يقل؟
إيران وشيعة لبنان
س: أليست المشكلة في الحالة الشيعية اللبنانية، هي في هذا التماهي المطلق مع الحالة الإيرانية بمنأى عن الحالة العربية؟
ج: إنّ إيران دولة إسلامية كبقية الدول الإسلامية، كماليزيا وأندونيسيا وتركيا في الواقع الشعبي، فلماذا يوجه السؤال دائماً إلى الشيعة عن علاقتهم بإيران، مع أنّ الشيعة غير خاضعين للسياسة الإيرانية، وقد رأينا كيف كانوا معارضين لإيران أيام حكم الشاه.
أما عند ثورة الإمام الخميني، فالإمام الخميني كان يمثل مرجعية شيعية فقهية سياسية في مواجهة الاستكبار العالمي آنذاك، سواء أمريكياً أو سوفياتياً، وكان منفتحاً على المسألة الفلسطينية، بحيث طرد ممثل إسرائيل من السفارة الإسرائيلية في طهران وأقام مكانه الفلسطينيون.
التيار الشيعي في لبنان انفتح على الإمام الخميني وعلى الثورة الإسلامية كما انفتح عليها الكثيرون في العالم
لذلك، فإن التيار الشيعي في لبنان، انفتح على الإمام الخميني وعلى الثورة الإسلامية، كما انفتح عليها الكثيرون في العالم الإسلامي آنذاك. غاية ما هناك، أن هناك من الشيعة من التزم بولاية الفقيه، ولم يلتزم كل الشيعة بها.
س: ونسوا القومية العربية؟
ج: إنّ الذي يعمل لمواجهة إسرائيل، لا يمكن أن يتنكَّر للعروبة، لأنّ الذين يتحدثون عن العروبة انهزموا أمام إسرائيل وصالحوها، وانطلقوا في خط الصداقة معها، وها هي وزيرة خارجية أمريكا "رايس" تتجوّل في العالم العربي لتقسّمه إلى دول معتدلة تصادق إسرائيل وتعادي إيران، ودول متطرّفة. وأنا أسأل: إن الذين وقفوا وعلقوا ضد انتصار المقاومة على إسرائيل، كيف نستطيع أن نتحدث عن إخلاصهم للقومية العربية؟!
انتصــار!
س: الانتصار الذي حقّقته المقاومة في تموز 2006 هو انتصار نسبي، فعندما يقتل ألف ومائتا شخص لبناني ويدمَّر لبنان ويقاتل الشيعة بمفردهم، هل يمكن أن نسمي ذلك انتصاراً؟
ج: إنّ الدراسات السياسية لخبراء أميركيين تقول إنّ خطّة الحرب في لبنان، لأجل إسقاط المقاومة وسلاحها، كانت معدةً منذ أوائل الثمانينيات، وإنّ «حزب الله» عندما أسر الجنديين، فإنه كان يتحرك في الخط الذي سار فيه منذ أيام آرييل شارون، عندما أسر بعض الجنود الإسرائيليين واستطاع أن يبادل بهم الكثير من اللبنانيين والفلسطينيين، لذلك لم يكن «حزب الله» في موقع إعلان حرب... لماذا تحمَّل المقاومة الإسلامية مسؤولية الحرب ولا تحمَّل إسرائيل مسؤولية القتل والتدمير؟!
الدفاع عن الخطأ
س: هل تدافع عن الخطأ؟
ج: أنا لا أدافع عن الخطأ، لكن لماذا نحمل المقاومة مسؤولية الحرب، ولا نحمل إسرائيل هذه المسؤولية؟ هل إن أسر الجنديين الإسرائيليين يستدعي مثل هذه الحرب المدمرة للمدنيين اللبنانيين؟!
تجربة غزة
س: كانت تجربة غزة لا تزال ساخنة، وكان يفترض بأهل القرار أن يدركوا أو يستشعروا النتائج؟
ج: لم يكن هذا وارداً في الحسابات العامة على مستوى الخطوط السياسية الموجودة في المنطقة.
س: إذاً الخلل هو في الرؤية الاستراتيجية؟
ج: الخلل هو أن ثمة خطةً خفيةً أميركيةً ـ إسرائيليةً من أجل القضاء على المقاومة الإسلامية في لبنان.
قد يكون هناك عدم وضوح في الرؤية في هذا المجال، ولكن هذا لا يمنع من أن إسرائيل هي المسؤولة. إن بعض المسؤولين في العالم العربي، شعروا بالإحباط لهزيمة إسرائيل أمام المقاومة، لذلك فإنّ تعليقاتهم كانت تعليقات سلبية ضد المقاومة. كما أننا لاحظنا أن أمريكا، من خلال خطَّتها، دفعت إسرائيل إلى أن تمد الحرب إلى ثلاثة وثلاثين يوماً لتحقِّق انتصاراً، وعندما لم تستطع إسرائيل أن تنتصر في المعركة، حاولت أن تنصرها في مجلس الأمن. لذلك نلاحظ أنه لا اللبنانيون ولا العرب طالبوا أمريكا بأن يتضمن القرار 1701 وقفاً فورياً لإطلاق النار، لأنه ليس هناك وقف إطلاق نار بين لبنان وإسرائيل، بل هناك إيقاف للعمليات العسكرية الحربية فقط، بحيث إنه من الممكن جداً أن تنشب حرب لبنانية إسرائيلية على أساس أن وقف إطلاق النار لم يحصل. ولاء أي طائفة ليس للمرجعية الدينية
ولاء الطـائفـة
س: سياسياً، لمن يفترض أن يكون ولاء الطائفة الشيعية: للبنان، أم للعروبة، أم للمرجعية الدينية؟
ج: لا أعتقد أنه للمرجعية الدينية؛ وهل تمثّل سوريا مرجعيةً دينية؟ وهل المقاومة الفلسطينية تمثّل مرجعية دينية؟
س: ... قلت ولاء؟!
ج: ليس هناك ولاء، هناك فرق بين أن أواليك، بمعنى أني أخلص لك لأنك تتفق معي في الفكر وفي الخط؛ وبين أن أواليك بمعنى أن أخضع لك وأستعبد لك.
س: أليس الشيعة خاضعين لإيران؟
ج: أولاً، الشيعة ليسوا جميعاً «حزب الله»، الشيعة يمثلون طائفةً متنوعة الأبعاد، وفيهم اليساريون.
س: أين هم؟
ج: هم موجودون في لبنان، ثم نحن نسأل: أين هم المسيحيون في ما عدا الأحزاب والمنظمات البارزة في واجهة الصورة؟ وأين هم السنّة غير البارزين في واجهة الصورة؟ ليس كل طائفة تندفع في الخط السياسي بجميع أفرادها.
المرجعية المنفتحة
س: قبل الآن، كانت المرجعية الدينية في النجف، لكننا لم نكن نجد تلك السطوة الموجودة اليوم؟
ج: لا تزال المرجعية الدينية الفقهية أقوى من أية مرجعية دينية أخرى في إيران أو في العراق، فالمرجعية الدينية في النجف تمثّل أقوى المرجعيات في عدد الذين يرجعون إليها. كما إن المرجعية الدينية في النجف لم تنفتح على الجانب السياسي إلا في ثورة العشرين، عندما واجهت الاحتلال البريطاني، وفي بعض الحركات الجزئية التي كان يمثِّلها المرجع السيد محسن الحكيم، والتي حاولت أن تنطلق بطريقة عينية في حركة السيد محمد باقر الصدر وأخوانه في حزب الدعوة، الذي حاول أن ينطلق بمرجعية معينة للانفتاح السياسي.
أما بالنسبة إلى إيران، فإن أغلب المراجع في قم لا يمارسون أي عمل سياسي، بل إن الكثيرين منهم لا يؤيدون القيادة الإسلامية في إيران، والممثلة بولاية الفقيه، ولكن بعضهم يؤيدها ولكن لا يشارك فيها.
س: التقيت منتظري ومحتشمي، وكلهم يتعاطون السياسة؟
ج: منتظري هو مرجع أبعد عن فاعلية المرجعية. أنا أتحدث عن النجف، أما في إيران، فمن الطبيعي أن المرجعية الفقهية السياسية. التي قادت الثورة الإسلامية، قد تمثلت بالإمام الخميني، الذي كان يتحدث منذ كان في النجف عن الحكومة الإسلامية على أساس نظرية ولاية الفقيه. لذلك فمن الطبيعي أن تندفع إيران بقيادتها السياسية والفقهية في الخط السياسي، ولكن إيران الحوزة في قم لا تتحرك سياسياً، بل إن بعض المراجع يرفضون تأييد ولاية الفقيه، وبعضهم الآخر يؤيِّدها، ولكن لا يشارك سياسياً في عملها.
س: المرجعية، سماحة السيد محمد حسين فضل الله، في النجف أم في قم؟
ج: المرجعية تتحرك في العراق في حجم معين، وتتحرك بحجم أصغر في إيران، وتنطلق في العالم. المرجعية تتحرك في العراق في حجم معين، وتتحرك بحجم أصغر في إيران وتنطلق في العالم
س: الكثيرون في العالم العربي يجدون فيك المرجع الأهم، لماذا؟
ج: لا أدري إذا كانت كلمة الأهم دقيقة، لكنهم يجدون أن هذه المرجعية تنفتح على كل أوضاع الإسلام الحضاري، وتجيب عن كل علامات الاستفهام للشباب الإسلامي، وليس الشيعي فحسب، ولذلك فإنني أرصد كل السلبيات التي توجه إلى الإسلام والتشيع في العالم الإسلامي وفي العالم كله، وأتبنّى مواجهة الاستكبار العالمي والإقليمي المتمثل بإسرائيل، وبعض الخطوط الموجودة في بعض الأنظمة العربية والإسلامية. لذلك فهم يجدون أن ثمة مرجعية حركية تنفتح على قضايا الإنسان في العالم الإسلامي والشيعي دون أي تعصب، لأنني كنت من دعاة الوحدة الإسلامية منذ أوائل الخمسينيات.
لهذا يرفضونني
س: إذاً، لماذا يرفضك الفاعلون، أو الأقوياء؟
ج: أنا لا أعتقد أن كل الفاعلين يرفضونني، لكن طبيعة التنافس البشري الموجود بين موقع وموقع يفرض ذلك، كما أن هناك حالات من التخلف لا ترتضي بعض الأفكار التي يعتبرونها متطرفةً أو ضالةً، كما في تعبير بعض من أسميتهم الأقوياء. المقاومة لم تقاتل هباءً، والذين قاتلوا هباءً هم الذين انهزموا أمام إسرائيل
س: سيدي، نحن نقاتل منذ قرن تقريباً، نقاتل هباءً، أليس من الضروري أن نبحث عن البديل؟
ج: لم نقاتل هباءً، ولكنّنا قاتلنا الاستعمار، وقاتلنا إسرائيل وانتصرنا، ولم يكن الانتصار انتصاراً عنفوانياً بالمعنى الذي نستعرض فيه عضلاتنا السياسية، ولم يكن قتالنا هباءً، وإنما كان قتالاً مدروساً ضمن خطة تحاول إنقاذ الوطن وإنقاذ العالم العربي والإسلامي، والذين قاتلوا هباءً هم الذين انهزموا أمام إسرائيل.
الخروج من العالم
س: برنارد لويس المستشرق الأميركي، البريطاني الأصل، يقول: «لقد خرج المسلمون من العالم».
ج: أنا أعتقد أنهم دخلوا إلى العالم بشكل قويٍ فاعل، أزعج الكثير من قوى الاستكبار العالمي. لماذا؟ نحن الآن عندما نواجه الإعلام، فإننا نجد أن الإعلام مشغول بالمسلمين، سواء كانوا مسلمين ممن نرضى عن خطهم أو لا نرضى. إن الإسلام يشغل العالم، وهذا ما يفسر بعض الأمور الصادرة في أوروبا، مثل الصور المسيئة في الدانمرك، وفيلم «الفتنة» (للنائب الهولندي)، ومثل الدعايات السلبية ضد الإسلام التي قادها البابا الجديد في محاضرته ضد الإسلام، التي دللت على أنّه لم يفهم الإسلام فهماً علمياً موضوعياً يتناسب مع موقعه. العالم الإسلامي يملك بمختلف مواقعه المواقف المعارضة للسياسة الأمريكية
إننا نتصور أن الإسلام، سواء كان إسلاماً منفتحاً أو متخلفاً، حضارياً أو بدائياً، أصبح يشغل العالم كما لم يشغله أي شيء آخر. إن الرئيس بوش عندما يخوض حربه في العالم، فإنه يخوض حربه في العالم الإسلامي، لأن العالم الإسلامي يملك بمختلف مواقعه، المواقف المعارضة للسياسة الأمريكية، ولهذا نجد أن الأمريكيين يتحدثون بصوتٍ عالٍ: لماذا يكرهوننا؟ ونحن نقول لهم: لماذا نحبّكم؟
كلام خطير
س: سماحة السيد، هذا كلام خطير عندما تقول: سواء كان الإسلام متحضراً أو متخلفاً، لأنّ الإسلام المتخلّف يخيفنا نحن؟
ج: عندما نريد أن ندرس الإسلام في الواقع الداخلي للمسلمين، فإننا نرفض إسلام التخلف والغلوّ وإسلام البدائية، وندعو إلى الإسلام الحضاري، وحتى بالنسبة إلى الإسلام المتطرف، لعلّنا عندما ندرس خلفياته، فإننا نجد أنّها تمثّل رد فعل لما يمارسه الاستكبار العالمي.
س: كل المشاكل تقريباً هي في العالم الإسلامي، وقيل إن أحد أسبابها هو الضغط الأيديولوجي، أو لا بد من أن يكون هناك خلل ما، فهل هو خلل بنيوي أم مبرمج خارجياً؟
ج: إنني أعتقد أن مشكلة العالم الإسلامي، هي أنه أبعد الله عن فكره وروحه، لأنّ الله ليس مجرد لافتة نلوح بها، وليس مجرد عقيدة تجريدية؛ الله هو الرحمن الرحيم، والله هو المحبة، والله هو الانفتاح على العلم كله، {
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر:9]، والله هو الخط المتصاعد للانطلاق في أعلى درجات العلم، والله هو الذي ينفتح على كل الناس الذين يختلفون مع المسلمين في الدِّين إذا كانوا مسالمين {
لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونك في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم...} [الممتحنة:8]، والله هو {
نور السموات والأرض} [النور:35] هو نور العقل، نور القلب، نور الحياة، نور الإنسان. مشكلة العالم الإسلامي هي أنه أبعد الله من فكره وروحه
س: ماذا تفعل سماحتك من أجل رأب الصدع بين المسلمين السنّة والشيعة؟
ج: منذ زمن وأنا أعمل على مواجهة هذه المشكلة، التي تنطلق من تراكمات التاريخ أولاً، ومن التخلّف الذي يعيشه المسلمون الذين ينطلقون في خط العصبية، ثانياً، ومن الخطة الأمريكية التي تهدف إلى تمزيق العالم الإسلامي من خلال نظرية "بوش" الذي يتحدث عن الفوضى الخلاقة، لأنه ليس هناك فوضى أكثر عمقاً وتدميراً من فوضى الخلافات المذهبية في العالم الإسلامي. لذلك أنا أسأل: أي مشكلة بين السنة والشيعة في لبنان؟ لماذا تدخل العلاقة السلبية أو الإيجابية مع شخصية سياسية سنية أو شيعية في المسألة؟... ليس هناك فوضى أكثر عمقاً وتدميراً من فوضى الخلافات المذهبية في العالم
إن هناك محاولة في لبنان لإثارة المذهبية الخانقة التي يديرها بعض علماء الدين وبعض زعماء السياسة من أجل أن يكبر دورهم من خلال هذه العصبية الانفعالية التي تتيح لهم الكثير من المكاسب، وربما يخططون من خلالها، حسب الظروف التي يريدها الاستكبار العالمي، لحرب سنية ـ شيعية، وقد تحدث الكثيرون بأن بعض غير المسلمين من الزعماء يريدون أن يحاربوا حتى آخر سنّي أو آخر شيعي في هذا البلد.
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 12 ربيع الثاني 1429 هـ الموافق: 18/04/2008 م