{وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[القصص: 60].
دورُ العقلِ في الاختيار
يريد الله لنا أن نحكّم عقلنا في كلّ ما نستهدفه ونسعى إليه في كلّ حياتنا، فإذا دار الأمرُ بين أن تحصل على شيء يزول، وبين أن تحصل على شيء يبقى، فإذا كنت عاقلاً، فماذا تختار؟
الآن، لو قال لك أحد إمَّا أن أعطيك شيئاً يبقى معك عشر سنوات، أو أعطيك شيئاً يبقى معك إلى الأبد، حتَّى بعد حياتك، فماذا تختار؟ فلو كنت تملك عقلاً، والعقل قيمته أنَّه يحسب حساب الأرباح والخسائر، فمن الطّبيعيّ أن تختار ما يبقى على ما يفنى، وهذا سلوك العاقل.
ولذا يقول الله: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ}، بمعنى أن ينظر كلّ واحد إلى الأشياء الَّتي عنده، قد يكون عنده مال أو جاه أو أولاد أو جماعة يتحزَّبون له ويهتفون باسمه، لكن فليفكّر، هل يمثّل هذا الشَّيء الَّذي يملكه حالة الخلود؟! هذا متاع الحياة الدنيا، وأنت تستفيد منه طالما أنت حيّ، فأنت تتزيّن به، بحيث تظهر كأيّ إنسان يزينه ماله وجاهه وتزينه المواقع الَّتي يملكها، ولكنَّها إمَّا تذهب عنه قبل أن يموت، أو تذهب عنه عند الموت. فالجاه الّذي يملكه هذا الإنسان في الحياة، إذا مات، قد يكتبون له على قبره: المحسن الكبير أو المصلح الكبير، ولكن هذا يبقى لوحةً على القبر، ولا يبقى لك من مالك إلَّا كفنك، ولا لك من أرضك إلَّا قبرك، ولا يبقى أمامك إلَّا عملك. لكن ما عند الله، وما وعدك به الله سبحانه وتعالى، هو الَّذي يبقى، وهو الّذي سوف تجده بعد الموت، كما تجد بعضه في الحياة {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف: 46].
السَّعادةُ الحقيقيَّة
وليس معنى ذلك أنَّ الله لا يريدنا أن نسعى لتحصيل المال أو الجاه من الحلال، في خطوط الخير أو المواقع المتحركة الَّتي تجعلك عنصراً نافعاً في الدنيا، فالله لا يريدنا أن نكون بطَّالين وكلّاً على النَّاس، ولكنَّه يريدنا أن لا نعطي الدّنيا أكثر من حجمها، فأنت من الطبيعيّ أن تعمل، وأن تتحمّل كلّ مسؤوليَّاتك من النّاحية الماديّة، لكن لا تعطِ الدّنيا أكبر من حجمها. وحجم الدّنيا هو بمقدار حياتك فيها، وبمقدار ما تستعملها للآخرة، والله يقول: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص: 77].
فالإسلام يحثّ الإنسان على أن يعمل في الدّنيا، بل إنَّ الله يكره العبد البطَّال، والله يريد للإنسان أن يعمل ليعمّر الدّنيا، ولكن من حلال. ولكنَّ الله يقول لك لا تجعل كلّ طموحك في الدنيا، وكلّ سعادتك فيها، ما تحصل عليه منها، ولا يكن شقاؤك فيما تفقده منها، بل إنَّ السَّعادة الحقيقيَّة هي فيما تقبل عليه عند الله، والشَّقاء الأشقى إنما هو لمن اغترَّ بالدّنيا، ووصل إلى حيث ينال غضب الله وعذابه.
{وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، يقول إنَّ مَنْ يقدّم الدنيا على الآخرة، هو شخصٌ لا يشغل عقله، لأنَّ العقل يدعو الإنسان إلى أن يفضّل الباقي على الفاني.
فريقُ الدّنيا وفريقُ الآخرة
ثمَّ يميّز الله بين فريقين من النَّاس؛ فريق الدّنيا وفريق الآخرة، بين من يعمل للدّنيا ومن يعمل للآخرة: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ – فمن عمل الصَّالحات، ووعده الله سبحانه الوعد الحسن في رضوانه ودخول الجنَّة والحصول على نعيمها، هذا أحسن، أم الآخر - كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ المحْضَرِين}[القصص: 61]، أي الّذي يحضّره الله للحساب.
فأيّهما أحسن، هل هو الشَّخص الَّذي يعمل الصَّالحات، ويستجيب لوعد الله بالرّضوان ودخول الجنَّة ولو تعب قليلاً، أم ذاك الَّذي أعطاه الله متاع الحياة الدّنيا، فاستسلم للحياة الدنيا، وأقبل على زينتها، وترك طاعة الله سبحانه وتعالى، وأحضر يوم القيامة للحساب، لينال جزاءه على ذلك. فمن أحسن؟ والله سبحانه يترك ذلك علامة استفهام لنجيب عنها، ومن الطبيعيّ أن نقول إنَّ الأوّل هو الأحسن.
عاقبةُ اتّباعِ الضَّالّين
ثمَّ يحدّثنا الله سبحانه عن يوم القيامة ومواقفها ومشاهدها، فهو سبحانه يريد أن يعرّفنا ونحن في الدنيا، أنَّنا قد ننتمي إلى جهة معيَّنة، وقد نؤيّد أشخاصاً ونستسلم لهم، بحيث نطيعهم ونعصي الله تعالى، ونسير معهم في ظلمهم وانحرافهم وضلالهم وعصيانهم، باعتبار أنَّنا نستغرق فيما يملكون من مواقع القدرة والقوَّة، وفيما يتمثَّلونه من مظاهر العظمة، فنستغرق فيهم، ونعتبر أنَّ طاعتهم هي الَّتي تحقّق لنا النَّتائج الكبرى، بينما تحقّق لنا معصيتهم الخسارة.
فهناك من النَّاس، وهم كثر، مَنْ يقول لك امشِ مع فلان الَّذي يملك موقعاً متقدّماً، سواء كان موقعاً سياسيّاً أو اقتصاديّاً أو اجتماعيّاً، لأنَّ بيده أن يحلّ ويربط، ولا تسر مع فلان الطيّب، لأنّك لا تستفيد منه، فتستسلم للطّغاة والظّالمين والمنحرفين، كما لو كانوا شركاء لله، لأنَّ الشّرك بالله ليس معناه أن تقول هذا إله آخر، أو أن تعبد الأصنام، بل إنَّ العبادة تعني الطّاعة والخضوع، فأن تعبد شخصاً يعني أن تخضع له وتطيعه، هذه هي العبادة. فأنت الآن تسير في الدّنيا مع فلان أو فلان، ويقال عنك بأنَّك من رجال فلان وجماعة فلان، وتعتزّ بهذا الموضوع، لكن يوم القيامة، سيسألك الله أين شركائي الّذين كنت تتبعهم: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ – الّذين كنتم تطيعونهم وتعصونني، والّذين كنتم تخضعون لهم وتتمرَّدون عليّ؟ فمن المفترض أن يأتي الإنسانُ بالأشخاصِ الَّذينَ يمثّلونَ الضَّمانةَ له، حتَّى يساعدوه يوم القيامة ويُنجوه من العذاب والعقاب، كما كانوا يفعلون معه في الدّنيا.
- قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ – الّذين ثبت عليهم القول والحكم الَّذي ألقي عليهم من الله - رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا – فهؤلاء الّذين اعتبرهم الأتباع شركاء لله في الطّاعة، يبرّرون بأنّهم كانوا غاوين، وأنَّ الآخرين هم من اتّبعوهم - تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ - فنحن لا نتحمَّل مسؤوليَّتهم - مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}[القصص: 63]، بل كانوا يعبدون مصالحهم، فقد كانت لهم مصالح وأطماع عندنا، وهم اتّبعوا أطماعهم.
{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ – وفكّروا وتمنّوا - لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}[القصص: 64]، لو أنّنا كنَّا مهتدين في الدنيا، كي لا نقف هذا الموقف الصَّعب.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}[القصص: 65]، نحن أرسلنا رسلاً إليكم، وهؤلاء الرّسل دعوكم إلى توحيدي في العبادة والطَّاعة والخضوع، فكيف أجبتموهم؟ {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ}[القصص: 66]، لأنَّ الرَّهبة والضَّغط النَّفسيَّ والرّعب الّذي أصابهم، جعلهم لا يتحدَّث أحدٌ منهم مع أحد.
ثمَّ يبيّن الله المصير: {فَأَمَّا مَن تَابَ - عن الكفر والشّرك والضَّلال - وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}[القصص: 67]، وقد ترك الله كلمة (عسى)، لكي يبقى الإنسان في حالة حذر وترقّب، باعتبار أنَّ الله قد لا يتقبَّل منه توبته.
الارتباطُ باللهِ وحدَه
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ – فالله يبيّن أنَّ الأمر له ولا أمر لغيره - مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[القصص: 68].
فعندما تتصوَّر أنَّ الله سبحانه وتعالى هو وحده الَّذي يملك الأمر كلَّه، ولا يملك أحد غيره شيئاً، وأنَّ الأمر كلَّه بيده، وأن ليس هناك من يملك أيَّ شيء إلّا من خلاله، فمن الطَّبيعيّ أن لا ترتبط إلّا به سبحانه، لأنَّ من الطبيعيّ أن يرتبط الإنسان بالَّذي يملك لا بالّذي لا يملك. ولذا، يقول الإمام زين العابدين (ع) في دعائه في الانقطاع إلى الله: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَخْلَصْتُ بِانْقِطَاعِي إِلَيْكَ، وَأَقْبَلْتُ بِكُلِّي عَلَيْكَ، وَصَرَفْتُ وَجْهِي عَمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى رِفْدِكَ، وَقَلَبْتُ مَسْأَلَتِي عَمَّنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ، وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْمُحْتَاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأْيِهِ، وَضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ". فإذا كنت مفلساً وتطلب من مفلس، فهذا دليل على أنّك سفيه ولا عقل لك.
ثمَّ يبيّن الإمام (ع) وهو يدعو ربَّه: "فَكَمْ قَدْ رَأَيْتُ، يَا إِلَهِي، مِنْ أُنَاسٍ طَلَبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِكَ فَذَلُّوا، وَرَامُوا الثَّرْوَةَ مِنْ سِوَاكَ فَافْتَقَرُوا، وَحَاوَلُوا الِارْتِفَاعَ فَاتَّضَعُوا، فَصَحَّ بِمُعَايَنَةِ أَمْثَالِهِمْ حَازِمٌ وَفَّقَهُ اعْتِبَارُهُ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى طَرِيقِ صَوَابِهِ اخْتِيَارُهُ". فالإنسان العاقل هو الّذي يحسب حسابات الرّبح والخسارة.
سرُّ حريّةِ الإنسان
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}. فأمام الله ليس لأحد الخيار، وهذا أمر نبّهت عليه مراراً، بعض النَّاس تقول له: أطع الله، صلّ وصم وحُجَّ وادفع الحقوق، لا تشربِ الخمرَ ولا تزنِ ولا تسرقْ، يقول لك: أنا حرّ، وأنا أختار أن أقبل أو أرفض، ولكنَّ الله يقول لك من أنت حتَّى تقول أنا حرّ؟! فأنت مخلوق خلقك الله، ولا تملك لنفسك ضرّاً ولا نفعاً إلَّا به سبحانه، فإذا كنت ترى أنَّك تملك بعض المال أو الجاه أو السّلاح، ولكن من الّذي أوجد هذا الهواء الَّذي تتنفَّسه، وهذا الماء الَّذي تشربه، وهذا الغذاء الّذي تتغذَّى به، من الَّذي أوجد كلّ هذه الأجهزة في جسمك؟ من الَّذي أوجد الرّئة الّتي تتنفَّس من خلالها، والقلب الَّذي يحرّك لك حياتك، والدّماغ الّذي يشرف على كلّ نظام جسدك، والمعدة الَّتي تقوم بعمليَّة توزيع وهضم، فمن أنت؟ أنت أمام الله عبد مملوك لا يقدر على شيء.
ولذا، على كلّ واحد منكم أن يتكلَّم مع نفسه ويفكّر: هل أستطيع أن أستغني عن الله في شيء؟ {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النَّحل: 53]، فإذا كان كلّ شيء من الله، فأنت عبد له، ولا يحقّ لك أن تختار أمامه سبحانه. نعم، كن حرّاً أمام العالم كلّه، ولكن كن عبداً لله وحده، وعبوديَّتك لله هي سرّ حرّيّتك، لأنَّ الله هو الَّذي خلقك، وهو الّذي يملك كلّ أمرك ويملك وجودك، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، فقد تنزَّه اللهُ وعَظُمَ وتعالى مجدُهُ عمَّا يشركون.
الإحساسُ بعظمةِ الله
ثمَّ يبيّن الله حقيقة إيمانيَّة أخرى، وهي أنَّه يعلم الغيب والشَّهادة، ويعلم السّرّ وأخفى، ويعلم وساوس الصّدور: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}[القصص: 69]، يستوي عنده السّرّ والعلانية، فأنت لا تستطيع أن تخفي شيئاً عن الله، لأنّك مكشوف أمامه.
وهذه كلّها تريد أن تنمّي في نفس الإنسان الإحساسَ بعظمة الله، حتَّى يتصوَّره سبحانَه في مواقع عظمته {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ - في الدّنيا، لأنَّ كلَّ مواقع الحمد له، وكلّ حمدٍ مستمدّ من حمده – وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[القصص: 70]، فيوم القيامة، يكون النّداء: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ - ويأتي الجواب - للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ}[غافر: 16]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ}[الانفطار: 19].
تساؤلاتٌ وفرضيَّات
ثمّ إنَّ الله يريد أن يبيّن لنا نقطة، فنحن الآن في اللَّيل ننتظر النَّهار، ولكن لنفترض أنَّ الله جعل اللَّيل أبديّاً، ولم يكن هناك نهار، فهل من أحد يقدر على أن يأتي بنهار؟ فكّروا في المسألة، واقصدوا من تريدون من الدّول الكبرى ومن الأمم المتّحدة، ومن كلّ من يملكون القدرات، ممن يملكون المال والسّلطة والجاه والسّلاح، هل يستطيعون أن يحوّلوا اللّيل إلى نهار؟ وهل يستطيعون أن يأتوا بنهار؟! وليس المقصود أن ينيروا من خلال الكهرباء، بل أن يأتوا لكم بشمس ليكون هناك نهار.
يقول تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ}[القصص: 71].
فالله يطلبُ من النَّبيّ (ص) أن يطرح هذه التَّساؤلات والفرضيَّات، لكي يدفعنا إلى التَّفكير، ولنهتدي من خلال التَّفكير إلى النَّتائج الإيجابيَّة في العقيدة.
ثمَّ قلب الله سبحانه المسألة والفرضيَّة: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[القصص: 72]، أفلا تبصرون الحقائق؟ {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[القصص: 73].
ولكنَّنا لا نشكر نعمة الله، لأنَّ شكر النّعمة ليس بالكلمة، بل بالإخلاص في الطَّاعة والعبادة.
نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصَّالحين على أنفسهم.
والحمد لله ربّ العالمين.
* موعظة رمضانيّة لسماحته، بتاريخ: 26 رمضان 1429هـ/ الموافق: 26 أيلول 2008 م.
{وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا ۚ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[القصص: 60].
دورُ العقلِ في الاختيار
يريد الله لنا أن نحكّم عقلنا في كلّ ما نستهدفه ونسعى إليه في كلّ حياتنا، فإذا دار الأمرُ بين أن تحصل على شيء يزول، وبين أن تحصل على شيء يبقى، فإذا كنت عاقلاً، فماذا تختار؟
الآن، لو قال لك أحد إمَّا أن أعطيك شيئاً يبقى معك عشر سنوات، أو أعطيك شيئاً يبقى معك إلى الأبد، حتَّى بعد حياتك، فماذا تختار؟ فلو كنت تملك عقلاً، والعقل قيمته أنَّه يحسب حساب الأرباح والخسائر، فمن الطّبيعيّ أن تختار ما يبقى على ما يفنى، وهذا سلوك العاقل.
ولذا يقول الله: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ}، بمعنى أن ينظر كلّ واحد إلى الأشياء الَّتي عنده، قد يكون عنده مال أو جاه أو أولاد أو جماعة يتحزَّبون له ويهتفون باسمه، لكن فليفكّر، هل يمثّل هذا الشَّيء الَّذي يملكه حالة الخلود؟! هذا متاع الحياة الدنيا، وأنت تستفيد منه طالما أنت حيّ، فأنت تتزيّن به، بحيث تظهر كأيّ إنسان يزينه ماله وجاهه وتزينه المواقع الَّتي يملكها، ولكنَّها إمَّا تذهب عنه قبل أن يموت، أو تذهب عنه عند الموت. فالجاه الّذي يملكه هذا الإنسان في الحياة، إذا مات، قد يكتبون له على قبره: المحسن الكبير أو المصلح الكبير، ولكن هذا يبقى لوحةً على القبر، ولا يبقى لك من مالك إلَّا كفنك، ولا لك من أرضك إلَّا قبرك، ولا يبقى أمامك إلَّا عملك. لكن ما عند الله، وما وعدك به الله سبحانه وتعالى، هو الَّذي يبقى، وهو الّذي سوف تجده بعد الموت، كما تجد بعضه في الحياة {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا}[الكهف: 46].
السَّعادةُ الحقيقيَّة
وليس معنى ذلك أنَّ الله لا يريدنا أن نسعى لتحصيل المال أو الجاه من الحلال، في خطوط الخير أو المواقع المتحركة الَّتي تجعلك عنصراً نافعاً في الدنيا، فالله لا يريدنا أن نكون بطَّالين وكلّاً على النَّاس، ولكنَّه يريدنا أن لا نعطي الدّنيا أكثر من حجمها، فأنت من الطبيعيّ أن تعمل، وأن تتحمّل كلّ مسؤوليَّاتك من النّاحية الماديّة، لكن لا تعطِ الدّنيا أكبر من حجمها. وحجم الدّنيا هو بمقدار حياتك فيها، وبمقدار ما تستعملها للآخرة، والله يقول: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص: 77].
فالإسلام يحثّ الإنسان على أن يعمل في الدّنيا، بل إنَّ الله يكره العبد البطَّال، والله يريد للإنسان أن يعمل ليعمّر الدّنيا، ولكن من حلال. ولكنَّ الله يقول لك لا تجعل كلّ طموحك في الدنيا، وكلّ سعادتك فيها، ما تحصل عليه منها، ولا يكن شقاؤك فيما تفقده منها، بل إنَّ السَّعادة الحقيقيَّة هي فيما تقبل عليه عند الله، والشَّقاء الأشقى إنما هو لمن اغترَّ بالدّنيا، ووصل إلى حيث ينال غضب الله وعذابه.
{وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}، يقول إنَّ مَنْ يقدّم الدنيا على الآخرة، هو شخصٌ لا يشغل عقله، لأنَّ العقل يدعو الإنسان إلى أن يفضّل الباقي على الفاني.
فريقُ الدّنيا وفريقُ الآخرة
ثمَّ يميّز الله بين فريقين من النَّاس؛ فريق الدّنيا وفريق الآخرة، بين من يعمل للدّنيا ومن يعمل للآخرة: {أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ – فمن عمل الصَّالحات، ووعده الله سبحانه الوعد الحسن في رضوانه ودخول الجنَّة والحصول على نعيمها، هذا أحسن، أم الآخر - كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ المحْضَرِين}[القصص: 61]، أي الّذي يحضّره الله للحساب.
فأيّهما أحسن، هل هو الشَّخص الَّذي يعمل الصَّالحات، ويستجيب لوعد الله بالرّضوان ودخول الجنَّة ولو تعب قليلاً، أم ذاك الَّذي أعطاه الله متاع الحياة الدّنيا، فاستسلم للحياة الدنيا، وأقبل على زينتها، وترك طاعة الله سبحانه وتعالى، وأحضر يوم القيامة للحساب، لينال جزاءه على ذلك. فمن أحسن؟ والله سبحانه يترك ذلك علامة استفهام لنجيب عنها، ومن الطبيعيّ أن نقول إنَّ الأوّل هو الأحسن.
عاقبةُ اتّباعِ الضَّالّين
ثمَّ يحدّثنا الله سبحانه عن يوم القيامة ومواقفها ومشاهدها، فهو سبحانه يريد أن يعرّفنا ونحن في الدنيا، أنَّنا قد ننتمي إلى جهة معيَّنة، وقد نؤيّد أشخاصاً ونستسلم لهم، بحيث نطيعهم ونعصي الله تعالى، ونسير معهم في ظلمهم وانحرافهم وضلالهم وعصيانهم، باعتبار أنَّنا نستغرق فيما يملكون من مواقع القدرة والقوَّة، وفيما يتمثَّلونه من مظاهر العظمة، فنستغرق فيهم، ونعتبر أنَّ طاعتهم هي الَّتي تحقّق لنا النَّتائج الكبرى، بينما تحقّق لنا معصيتهم الخسارة.
فهناك من النَّاس، وهم كثر، مَنْ يقول لك امشِ مع فلان الَّذي يملك موقعاً متقدّماً، سواء كان موقعاً سياسيّاً أو اقتصاديّاً أو اجتماعيّاً، لأنَّ بيده أن يحلّ ويربط، ولا تسر مع فلان الطيّب، لأنّك لا تستفيد منه، فتستسلم للطّغاة والظّالمين والمنحرفين، كما لو كانوا شركاء لله، لأنَّ الشّرك بالله ليس معناه أن تقول هذا إله آخر، أو أن تعبد الأصنام، بل إنَّ العبادة تعني الطّاعة والخضوع، فأن تعبد شخصاً يعني أن تخضع له وتطيعه، هذه هي العبادة. فأنت الآن تسير في الدّنيا مع فلان أو فلان، ويقال عنك بأنَّك من رجال فلان وجماعة فلان، وتعتزّ بهذا الموضوع، لكن يوم القيامة، سيسألك الله أين شركائي الّذين كنت تتبعهم: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ – الّذين كنتم تطيعونهم وتعصونني، والّذين كنتم تخضعون لهم وتتمرَّدون عليّ؟ فمن المفترض أن يأتي الإنسانُ بالأشخاصِ الَّذينَ يمثّلونَ الضَّمانةَ له، حتَّى يساعدوه يوم القيامة ويُنجوه من العذاب والعقاب، كما كانوا يفعلون معه في الدّنيا.
- قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ – الّذين ثبت عليهم القول والحكم الَّذي ألقي عليهم من الله - رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا – فهؤلاء الّذين اعتبرهم الأتباع شركاء لله في الطّاعة، يبرّرون بأنّهم كانوا غاوين، وأنَّ الآخرين هم من اتّبعوهم - تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ - فنحن لا نتحمَّل مسؤوليَّتهم - مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}[القصص: 63]، بل كانوا يعبدون مصالحهم، فقد كانت لهم مصالح وأطماع عندنا، وهم اتّبعوا أطماعهم.
{وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ – وفكّروا وتمنّوا - لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}[القصص: 64]، لو أنّنا كنَّا مهتدين في الدنيا، كي لا نقف هذا الموقف الصَّعب.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ}[القصص: 65]، نحن أرسلنا رسلاً إليكم، وهؤلاء الرّسل دعوكم إلى توحيدي في العبادة والطَّاعة والخضوع، فكيف أجبتموهم؟ {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ}[القصص: 66]، لأنَّ الرَّهبة والضَّغط النَّفسيَّ والرّعب الّذي أصابهم، جعلهم لا يتحدَّث أحدٌ منهم مع أحد.
ثمَّ يبيّن الله المصير: {فَأَمَّا مَن تَابَ - عن الكفر والشّرك والضَّلال - وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَىٰ أَن يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}[القصص: 67]، وقد ترك الله كلمة (عسى)، لكي يبقى الإنسان في حالة حذر وترقّب، باعتبار أنَّ الله قد لا يتقبَّل منه توبته.
الارتباطُ باللهِ وحدَه
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ – فالله يبيّن أنَّ الأمر له ولا أمر لغيره - مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[القصص: 68].
فعندما تتصوَّر أنَّ الله سبحانه وتعالى هو وحده الَّذي يملك الأمر كلَّه، ولا يملك أحد غيره شيئاً، وأنَّ الأمر كلَّه بيده، وأن ليس هناك من يملك أيَّ شيء إلّا من خلاله، فمن الطَّبيعيّ أن لا ترتبط إلّا به سبحانه، لأنَّ من الطبيعيّ أن يرتبط الإنسان بالَّذي يملك لا بالّذي لا يملك. ولذا، يقول الإمام زين العابدين (ع) في دعائه في الانقطاع إلى الله: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَخْلَصْتُ بِانْقِطَاعِي إِلَيْكَ، وَأَقْبَلْتُ بِكُلِّي عَلَيْكَ، وَصَرَفْتُ وَجْهِي عَمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى رِفْدِكَ، وَقَلَبْتُ مَسْأَلَتِي عَمَّنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ، وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْمُحْتَاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأْيِهِ، وَضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ". فإذا كنت مفلساً وتطلب من مفلس، فهذا دليل على أنّك سفيه ولا عقل لك.
ثمَّ يبيّن الإمام (ع) وهو يدعو ربَّه: "فَكَمْ قَدْ رَأَيْتُ، يَا إِلَهِي، مِنْ أُنَاسٍ طَلَبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِكَ فَذَلُّوا، وَرَامُوا الثَّرْوَةَ مِنْ سِوَاكَ فَافْتَقَرُوا، وَحَاوَلُوا الِارْتِفَاعَ فَاتَّضَعُوا، فَصَحَّ بِمُعَايَنَةِ أَمْثَالِهِمْ حَازِمٌ وَفَّقَهُ اعْتِبَارُهُ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى طَرِيقِ صَوَابِهِ اخْتِيَارُهُ". فالإنسان العاقل هو الّذي يحسب حسابات الرّبح والخسارة.
سرُّ حريّةِ الإنسان
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}. فأمام الله ليس لأحد الخيار، وهذا أمر نبّهت عليه مراراً، بعض النَّاس تقول له: أطع الله، صلّ وصم وحُجَّ وادفع الحقوق، لا تشربِ الخمرَ ولا تزنِ ولا تسرقْ، يقول لك: أنا حرّ، وأنا أختار أن أقبل أو أرفض، ولكنَّ الله يقول لك من أنت حتَّى تقول أنا حرّ؟! فأنت مخلوق خلقك الله، ولا تملك لنفسك ضرّاً ولا نفعاً إلَّا به سبحانه، فإذا كنت ترى أنَّك تملك بعض المال أو الجاه أو السّلاح، ولكن من الّذي أوجد هذا الهواء الَّذي تتنفَّسه، وهذا الماء الَّذي تشربه، وهذا الغذاء الّذي تتغذَّى به، من الَّذي أوجد كلّ هذه الأجهزة في جسمك؟ من الَّذي أوجد الرّئة الّتي تتنفَّس من خلالها، والقلب الَّذي يحرّك لك حياتك، والدّماغ الّذي يشرف على كلّ نظام جسدك، والمعدة الَّتي تقوم بعمليَّة توزيع وهضم، فمن أنت؟ أنت أمام الله عبد مملوك لا يقدر على شيء.
ولذا، على كلّ واحد منكم أن يتكلَّم مع نفسه ويفكّر: هل أستطيع أن أستغني عن الله في شيء؟ {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النَّحل: 53]، فإذا كان كلّ شيء من الله، فأنت عبد له، ولا يحقّ لك أن تختار أمامه سبحانه. نعم، كن حرّاً أمام العالم كلّه، ولكن كن عبداً لله وحده، وعبوديَّتك لله هي سرّ حرّيّتك، لأنَّ الله هو الَّذي خلقك، وهو الّذي يملك كلّ أمرك ويملك وجودك، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، فقد تنزَّه اللهُ وعَظُمَ وتعالى مجدُهُ عمَّا يشركون.
الإحساسُ بعظمةِ الله
ثمَّ يبيّن الله حقيقة إيمانيَّة أخرى، وهي أنَّه يعلم الغيب والشَّهادة، ويعلم السّرّ وأخفى، ويعلم وساوس الصّدور: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}[القصص: 69]، يستوي عنده السّرّ والعلانية، فأنت لا تستطيع أن تخفي شيئاً عن الله، لأنّك مكشوف أمامه.
وهذه كلّها تريد أن تنمّي في نفس الإنسان الإحساسَ بعظمة الله، حتَّى يتصوَّره سبحانَه في مواقع عظمته {وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَىٰ - في الدّنيا، لأنَّ كلَّ مواقع الحمد له، وكلّ حمدٍ مستمدّ من حمده – وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[القصص: 70]، فيوم القيامة، يكون النّداء: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ - ويأتي الجواب - للهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ}[غافر: 16]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ}[الانفطار: 19].
تساؤلاتٌ وفرضيَّات
ثمّ إنَّ الله يريد أن يبيّن لنا نقطة، فنحن الآن في اللَّيل ننتظر النَّهار، ولكن لنفترض أنَّ الله جعل اللَّيل أبديّاً، ولم يكن هناك نهار، فهل من أحد يقدر على أن يأتي بنهار؟ فكّروا في المسألة، واقصدوا من تريدون من الدّول الكبرى ومن الأمم المتّحدة، ومن كلّ من يملكون القدرات، ممن يملكون المال والسّلطة والجاه والسّلاح، هل يستطيعون أن يحوّلوا اللّيل إلى نهار؟ وهل يستطيعون أن يأتوا بنهار؟! وليس المقصود أن ينيروا من خلال الكهرباء، بل أن يأتوا لكم بشمس ليكون هناك نهار.
يقول تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاءٍ ۖ أَفَلَا تَسْمَعُونَ}[القصص: 71].
فالله يطلبُ من النَّبيّ (ص) أن يطرح هذه التَّساؤلات والفرضيَّات، لكي يدفعنا إلى التَّفكير، ولنهتدي من خلال التَّفكير إلى النَّتائج الإيجابيَّة في العقيدة.
ثمَّ قلب الله سبحانه المسألة والفرضيَّة: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ}[القصص: 72]، أفلا تبصرون الحقائق؟ {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[القصص: 73].
ولكنَّنا لا نشكر نعمة الله، لأنَّ شكر النّعمة ليس بالكلمة، بل بالإخلاص في الطَّاعة والعبادة.
نسأل الله أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصَّالحين على أنفسهم.
والحمد لله ربّ العالمين.
* موعظة رمضانيّة لسماحته، بتاريخ: 26 رمضان 1429هـ/ الموافق: 26 أيلول 2008 م.