السيد محمد حسين فضل الله لـ"تحوّلات":
لبنان وضع الحرب الأهلية وراءه
اللقاء مع السيد محمد حسين فضل الله، رحلةٌ للفكر وللروح، ومساحة لتحفيز العقل على فهم الأحداث، وشحذ الهمم لاستنهاض عناصر القوة التي تختزنها أمتنا، وهو إلى ذلك مرجعيةٌ إسلامية كبرى تتميز بعمق في الرؤية والتحليل، وشمولية في الثقافة التي تشكل مرتكزه للبحث الدائم عن الحقيقة الكامنة في جوهر الأشياء. معه كان هذا الحوار...
س: بعد التطورات الأخيرة في لبنان والمنطقة، نلاحظ أن المخطط الأمريكي هدفه هو إثارة الفتنة بين المسلمين لإضعافهم، وكل التقارير الصحافية الأمريكية تركز على دور الإدارة الأمريكية في إثارة الفتنة السنية الشيعية كجزء من استراتيجيتها في المنطقة، ما رأيكم في ذلك؟
ج: عندما ندرس الخطة الأمريكية من خلال سياسة الإدارة الأمريكية، نجد أن أهدافها تتلخّص بإثارة ما يسمى الفوضى الخلاّقة في عدة دوائر:
أولاً: في الدائرة الإسلامية: تحاول هذه الإدارة إثارة المشكلة السنية الشيعية لإشغال المسلمين بهذا الجدل التاريخي الطويل عن كل القضايا الكبرى التي يمكن أن يتحركوا باتجاهها، كون هذا الجدل يشمل بعض المواقع، ويثير بعض الحساسيات المذهبية، سنية أو شيعية، نتيجة التعرّض لأمور تعتبر من المقدسات عند كل طرف، حتى وصل الأمر إلى أن تكفر فئةٌ فئةً أخرى نتيجة بعض العناوين التي يعتبرها البعض كفراً في هذا المجال. ونحن نلاحظ كيف يحرّك بعض المسؤولين في العالم العربي هذه المسألة بطريقة أو بأخرى، استجابةً للخط الأمريكي، لأنّهم أدمنوا الخضوع للسياسة الأمريكية، وهو ما يظهر من تصريحات بعض المسؤولين العرب، وإن قاموا بنفيها فيما بعد، إلى ما هنالك من مسائل.
ومن الطبيعي أن مسألة العراق تعتبر من المسائل التي قد تشعل النار، لأن الدماء التي تسيل تحت العناوين المذهبية، قد تخلق حالة من المشاعر الملتهبة التي يتعصب فيها فريق من هذه الجهة، وآخر من تلك الجهة، فيحصل تعميق لمشاعر التنابذ التي تتحرك بطريقة غرائزية بعيدة عن العقلانية.
الدائرة الثانية: هي دائرة التطرف والاعتدال، فالإدارة الأمريكية تحاول أن تقسِّم العالم العربي أو الإسلامي إلى قسمين: الدائرة المعتدلة التي تتوافق مع سياسة الإدارة الأمريكية، وإن كانت تتنكر للشعارات الأمريكية التقليدية التي أطلقتها هذه الإدارة، مثل شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو ما يثير مفارقة مفادها أن أغلب هذه الدول التي تعتبرها أمريكا في شعارها الجديد معتدلة، هي الدول التي تأخذ بالديمقراطية ولا تحترم حقوق الإنسان، في مقابل الدول أو الجهات التي تعتبرها متطرفة مثل إيران، وسوريا، وحزب الله، وحماس. وكل من يرصد حركة وزيرة الخارجية الأمريكية "رايس"، يرى الهدف الأمريكي في تعميق فكرة التطرف والاعتدال، لإدخال خطوط السياسة الأمريكية على مستوى المنطقة بما فيها المسألة الإسرائيلية، لأننا عندما ندرس خلفيات الكثير من هذه الدول، سواء التي صالحت إسرائيل، أو التي عملت على إيجاد بعض العلاقات معها، كبعض الدول الخليجية، نجد أن هناك شيئاً من التنسيق بين إسرائيل وتلك الدول العربية، بحيث إن الفكرة التي يفرضها خط الاعتدال تقول بأن إسرائيل ليست هي العدو، بل إن العدو هو إيران.
ثم تمتد المسألة إلى الدائرة الثالثة؛ دائرة القومية العربية في مقابل القومية الإيرانية، تحت تأثير أن إيران تريد السيطرة على العالم العربي، وأنّها تمثّل الخطر على هذا العالم، خصوصاً في إثارة الملف النووي الإيراني الذي تحاول أمريكا، ومعها أوروبا أيضاً، اتهام إيران من خلاله بأنها تعمل على صنع القنبلة النووية التي تمثل خطراً على دول الخليج، ثم محاولة الإدارة الأمريكية إثارة هذه المسألة من خلال تداخلها مع عناوين تتحدث عن التطرف الذي يختزن الإرهاب، إضافةً إلى القضايا المذهبية إلى جانب مسألة القومية.
س: هذا بالنسبة إلى المخطط الخارجي، ولكن الوقع الداخلي البنيوي يبدو أنه يسمح بتقدم هذا المشروع، فإيران، مثلاً، ذات طابع شيعي، والمقاومة في لبنان ذات طابع شيعي، وهذا يجعل الخلاف السياسي وكأنه ذو طبيعة مذهبية على مستوى المنطقة بأسرها؟
ج: لا، المسألة ليست كذلك، فإيران، مثلاً، دولة تشتمل على أكثرية شيعية، ولكن هناك 15 مليون سني فيها، وهكذا بالنسبة إلى لبنان، فالشيعة فيه لا يمثلون كل اللبنانيين.
س: لكن الحكم أو السلطة الموجودة في إيران هي شيعية وتمثل "ولاية الفقيه"؟
ج: الحكم في إيران ليس له صفة شيعية بالمعنى المذهبي، وولاية الفقيه مجرد نظرية لا تتناقض مع فكرة الديمقراطية التي تحكم بالفعل الداخل الإيراني، وبالرغم من وجود بعض الاتجاهات السياسة في العالم العربي التي تأخذ بولاية الفقيه، مثل حزب الله، إلا أنّنا نجد أنّ هناك اتجاهات سياسية أخرى، سواء في العراق أو في الخليج، لا تأخذ بمبدأ ولاية الفقيه، كما أن الاختلافات حول هذه النظرية الفقهية تطال علماء الشيعة أيضاً. لذلك لا أعتبر أن مسألة السنية والشيعية بالمعنى المذهبي لها أي دور في المسألة السياسية.
إن المسألة تتمثل في الإطار العام الذي يحكم المنطقة، وعندما ندرس الخطوط الدولية، نرى أنها لا يهمها الإسلام أساساً، فالقضية لدى الدول الكبرى ليست في إيران الشيعية أو في علاقتها بدول الخليج ودول العالم العربي السنية أو ما شاكل، فالمقاربة لدى هذه الدول مختلفة، والدليل على ذلك، أنه قبل الثورة الإسلامية، كان لدول الخليج ولبعض الدول العربية الأخرى علاقات قوية بنظام الشاه. لذلك نحن نعتقد أن الهدف هو إيجاد حالة من الإثارة الغرائزية للمسألة المذهبية، لتستخدم وتوظف في المسألة السياسية.
س: ما رأيكم في ما يطرحه البعض حول أن إيران وحزب الله لديهما مشروع مشترك، وأنّ السلاح الموجود مع حزب الله هو سلاح شيعي؟
ج: ليست القضية أن يكون السلاح بيد الشيعة أو لا، إنما ما ينبغي التركيز عليه هو وظيفة هذا السلاح. نحن نعرف أن سلاح حزب الله، ومنذ انطلق حتى الآن، كان السلاح الذي يقف إلى جانب القضية العربية التي لا علاقة لها بالتشيع، فلطالما كان هذا السلاح لمواجهة إسرائيل عندما تتحرك ضد لبنان، وقد واجهها بالفعل، واستطاع أن يحرر لبنان عام 2000، كما استطاع أن يلحق بها الهزيمة عام 2006. لذلك نحن نقول في هذا المجال، إن القضية ليست السلاح بيد من؟ بل ما هي وظيفة هذا السلاح ووجهته؟ أثناء الحرب الأخيرة، رأينا كل العالم العربي والإسلامي يقف متظاهراً ومتحمساً للمقاومة وللنتائج التي حققها سلاحها في المعركة، هذا السلاح لم ولن يستعمل في الدائرة الداخلية، بينما نجد أن بعض الفئات تتسلح ـ كما أشار إلى ذلك البطريرك صفير ـ مع فارق أن مهمتها، على ما يبدو، هي مهمة داخلية، فهي تتسلح لتواجه المعارضة وحزب الله. أما إيران، فهي تقف إلى جانب القضية الفلسطينية وقوى المقاومة في فلسطين، وهي ليست شيعية بالمطلق، فإيران تدعم كل حركات التحرر في مواجهة إسرائيل.
س: هل تعتبرون أن المقاومة في مأزق بسبب محاولات عزلها وحصارها في أطر مذهبية معينة؟ وما هي الطرق للخروج من هذا المأزق؟
ج: أعتقد أن المقاومة ليست في مأزق، فنحن عندما ندرس المقاومة الآن في لبنان، وندرس الجدل الذي يدور حولها، نجد أنّها انفتحت في معارضتها للحكومة الحالية على الجانب المسيحي الذي يمثله التيار الوطني الحر وكتلة التغيير والإصلاح، وانفتحت أيضاً على الجانب الدرزي الذي يمثله أرسلان ووهاب، وعلى الجانب السني الذي يمثله عمر كرامي وفتحي يكن وسليم الحص وأسامة سعد، وهي منفتحة على كل القوى والأحزاب والشخصيات الوطنية اللبنانية، وهي صرّحت مراراً بأنها لا تسعى إلى مناصب ومواقع. وحتى في موضوع الحكومة الوطنية، أبدت قيادة المقاومة الاستعداد لإعطاء المواقع الوزارية كلها لحلفائها. هذا هو الخطاب السياسي للمقاومة، وهو يدل على أن المقاومة الإسلامية لم ولن تتحرك مذهبياً، وهذا بحدّ ذاته ينفي وجود "المأزق".
س: صحيح أن خطاب المقاومة الإسلامية وعلاقاتها يعبِّران عن هذا الانفتاح، لكن بنيتها الثقافية مذهبية؟
ج: لماذا لا نتحدث عن التيارات الأخرى التي تمثل أيضاً دوائر مذهبية، والتي اعتبرت أن المعارضة عندما انطلقت لتعارض الحكومة، إنما انطلقت لمعارضة السنّة؟! المشكلة في لبنان هي في نظامه الطائفي الذي خلق دوائر طائفية أشبه بالدول الطائفية. كنت أقول إن لبنان يمثّل "ولايات غير متحدة"، لأن لكل طائفة كيانها الخاص ومنطقتها الخاصة، والنظام الطائفي هو الذي يفتح الثغرات التي تدخل منها كل الدول، سواء الدول الإقليمية أو الخارجية. لذلك نحن نرى ندعو إلى المواطنة، بمعنى أن يحصل كل مواطن لبناني، كأي مواطن في أي دولة، على حقوقه وأن يقوم بواجباته.
س: طالما أنّ المشكلة هي في النظام الطائفي، هل توافقون على قيام نظام مدني؟
ج: في الستينات والسبعينات، كنا كإسلاميين ندعو إلى توظيف الإسلام على مستوى الواقع السياسي، لكن إذا تعذّر قيام الدولة الإسلامية في لبنان، وهو أمر غير ممكن، فأدعو إلى دولة الإنسان، ودولة الإنسان هي دولة المواطنة.
الشيعة ليس لهم مشروع خاص، لا في لبنان ولا في المنطقة. لقد عاش الشيعة في كثير من البلدان الاضطهاد في حقوقهم، ولاسيما في البلدان الخليجية، واعتبروا مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، فطالبوا بمساواتهم مع غيرهم في الحقوق والواجبات، وهم على العموم يخلصون لأوطانهم.
س: إذاً أنت توافق على قيام دولة الإنسان وعلى وجود تشريع مدني؟
ج: التشريع في لبنان هو تشريع مدني، ما عدا الأحوال الشخصية.
س: هل توافق أن يكون نظام الأحوال الشخصية مدنياً ومشتركاً؟
ج: الدولة اللبنانية تعترف بالزواج المدني، ولكن لا تشرّعه.
س: في دولة الإنسان التي تدعو إليها، هل توافق على تشريع الزواج المدني، وعلى إيجاد قانون مدني للأحوال الشخصية في لبنان؟
ج: في لبنان يُعترف بالزواج المدني واقعياً، ولكن لا يتمّ ذكر ذلك في القانون، لأن القضية تنطلق من خلال بعض الحساسيات الموجودة في الساحة، والحقيقة أن العلمانيين موجودون أيضاً، وهم يشكّلون الطائفة السابعة عشرة أو الثامنة عشرة في لبنان.
س: هل تعتقد أن موقع أمريكا يتراجع في العالم لمصلحة قوى المعارضة والممانعة لمشروع العولمة الأمريكي؟
ج: إننا عندما ندرس الجانب الشعوري لدى الناس في العالم حول الموقف من أمريكا، نجد أن هناك عولمة مضادة لسياسة الإدارة الأمريكية، ولكنها ـ أي هذه الإدارة ـ لا تزال تملك نقاط قوة في العالم. لذا، نحن نعتقد أنها تتراجع على مستوى علاقتها بشعوب العالم، لكن سقوطها أمام هذا الواقع يحتاج إلى وقت طويل، وفي الوقت نفسه، يجب أن نلتفت إلى النمو الاقتصادي العسكري والسياسي لدول ناشئة مثل الصين، فهي تتقدم الآن تدريجياً لتشكل مشكلة لأمريكا، ونلاحظ في الخطاب الروسي ما يوحي بحصول تبدلات عن طريق استعادة روسيا لعنفوانها ودورها في المنطقة والعالم، وإن كان ذلك بحاجة إلى وقت طويل أيضاً.
س: برأيك سماحة السيد، ما هو مفهوم ولاية الفقيه؟ وما هو ارتباطه بالإسلام السياسي؟ وهل هناك تناقض بين فكرة "ولاية الفقيه" وفكرة "الحرية"، واستطراداً "الديمقراطية"؟
ج: إن نظرية ولاية الفقيه هي نظرية فقهية، ولا تمثل شمولية في الواقع الفقهي الشيعي، وهي انطلقت من الفكرة الإسلامية الشيعية التي تؤمن بالإمامة، وتعتبر أن الإمام الغائب لا يمارس سلطته، ولكن له الحق في السلطة لأنه خليفة النبي، والفقيه يمثل النائب الذي ينوب عن الإمام في شرعية السلطة في العالم الإسلامي. في إيران مثلاً، هناك لجنة منتخبة هي التي تحكم ولاية الفقيه، والشعب الإيراني هو الذي ينتخب مجلس الخبراء، ومجلس الخبراء ينتخب الفقيه، وبإمكانه عزله إذا انحرف عن الخط المستقيم. فالفقيه لا يملك الاستبداد في رأيه، بل بدّ من أن يكون له مجلس شورى يتولّى مراقبة كل أعماله.
إنّ الإمام الخميني هو الذي أطلق نظرية "ولاية الفقيه"، وقد ركّز في ذلك على الاستفتاء الشعبي. وهناك تزاوج بين ولاية الفقيه والديمقراطية، لأنّ مجلس الشورى لا بدّ من أن يكون منتخباً، والبرلمان كذلك، وكذلك مجلس الخبراء، ونحن نرى أنّه في الوقت الذي يدور الجدل لدى الكثير من الهيئات الإسلامية، بأنّه هل يجوز للمرأة أن تنتخب أو لا يجوز لها ذلك؟ نرى أنّ المرأة في إيران، ومنذ بداية الثورة الإسلامية، لا تتميّز عن الرجل في شيء في مسألة الانتخابات، بل إنّ لها الحق في أن تنتخب وأن تترشح، وفي بعض الحالات قد تنجح المرأة ويسقط العالم الديني.
س: لكن الديمقراطية في إيران يشترك فيها الشيعة الموافقون على هذا النظام؟
ج: هذا ليس صحيحاً، فالمجلس النيابي فيه سنّة وشيعة ويهود ومسيحيّون، الآن مجلس الشورى يضم كل الفئات الموجودة في إيران، حتى اليهود لهم ممثل، والأرمن دخلوا في الجيش الإيراني.
س: في رأيك، هل يسير لبنان نحو الحرب أم نحو التسوية؟
ج: أعتقد أن لبنان وضع الحرب وراءه، وأخذ دوره من الحرب الأهلية، ولا عودة إلى الوراء، رغم أن أمريكا تتحرك لإيجاد حالة من الفوضى والاهتزاز السياسي، ولكن ليس من مصلحة أمريكا إسقاط الاستقرار في هذا البلد، لأن أي خلل أمني على مستوى الحرب الأهلية، سوف يسقط سياسة القوات الدولية، وسوف يفتح الحدود اللبنانية الفلسطينية على مصراعيها، فتتحول الحرب ضد إسرائيل إلى حالة من الفوضى، سيدخل فيها الفلسطيني ويدخل فيها السوري بطريقة غير رسمية، وبذلك تختلط الأمور، وهذا ما لا يتفق مع السياسة الأمريكية، وحتى الآن، أجد أن السياسة الدولية تتحرك بالنسبة إلى لبنان على أساس إيجاد اهتزاز سياسي ولكن مع استقرار أمني نسبي.
س: هل لإسرائيل مصلحة في الحرب لردّ الاعتبار؟
ج: ليس لها مصلحة، لأنها لا تضمن أن يعود لها الاعتبار في حرب جديدة، بل من الممكن أن تخسر ما تبقى لها من اعتبار. الفرق بين المقاومة وإسرائيل، أن إسرائيل لا تملك الجندي الذي يحمل قضية، بينما تمتلك المقاومة المقاوم الذي يحمل قضية، وهو مستعد للشهادة من أجلها.
حاور سماحته: سركيس أبوزيدزهير فياض ـ زاهر العريضي
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 24 صفر 1428 هـ الموافق: 14/03/2007 م