فضل الله: «المسألة المذهبية» أصبحت مشكلةً في العالم الإسلامي
المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله يتحدث عن
المسلمين الشيعة في العالم العربي في ظلّ التحدّيات الراهنة
أقامت «وكالة شرق برس» حلقة نقاش مع المرجع الديني، السيد محمد حسين فضل الله، تحت عنوان «دور الشيعة في العالم العربي في ظلّ التحديات الراهنة»، حضرها طاقم من دائرتي الصحافة والعلاقات الإعلامية في الوكالة، بدأها الزميل الإعلامي محمد شري مقدماً السيد، معتبراً أنه شكّل ولا يزال معلماً من معالم الإسلام الأصيل والتشيع النفسي في هذا العصر، قائلاً: «كثيرون هم العلماء، وربما المراجع أيضاً، لكن القليلين هم الذين امتازوا، والذين تجرّأوا، وجدّدوا، وواجهوا، والقليلين هم الذين أزهر عطاؤهم علماً وجهاداً وتربيةً وأخلاقاً وسياسة ومؤسسات في مختلف الحقول.
وسماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله، من هذه الفئة النادرة المشعة في وجودها التي تنير الطريق لمن حولها، ولمن يأتي بعدها، معين لا ينضب من العلم والعطاء والجهاد، عقل مؤمن مسلم منفتح وواثق في حراك دائم لا يهدأ. ملمٌ بتفاصيل التفاصيل، وعالم عارف محدق بالكليات، خبير في التكتيك دون أن ينفك عن الاستراتيجية، ونحن في زمن تكاد تضيع فيه الكليات والاستراتيجيات لمصلحة التكتيك والتفاصيل حيث تكمن الشياطين».
تفاصيل الحوار:
الواقع الشيعي والمتغيرات الدولية مؤخّراً
س: سماحة السيد: بدأنا نقرأ ونسمع عن المسألة الشيعية في العالم العربي، ونسمع أيضاً عن الهلال الشيعي، والخطر الشيعي، والمشروع الشيعي. ما هي قراءة سماحتك لدور الشيعة وموقعهم في العالم العربي في مواجهة التحدّيات الراهنة، فهل هناك مسألة شيعية؟ وهل هناك مشروع شيعي خاص مستقل عن مشروع الأمة؟ وإذا لم يكن كذلك، فهل يفرض على الشيعة العرب تحديداً، أن يستكينوا لتهميشهم وهدر حقوقهم وحرمانهم من المشاركة العادلة في حكم أوطانهم؟ وكيف السبيل لذلك دون الوقوع في شرك الفتنة أو دون السقوط في فخّ المشروع الأميركي الاستكباري؟
ما رأي سماحتك في من يرى أن على الشيعة العرب أن يستفيدوا من المتغيّرات الدولية والإقليمية، وأن يتعلموا من تجاربهم، وأن يسعوا إلى السلطة حتى لو كانت عن طريق الأجنبي والأميركي، ألا يحق لهم ما يحق لغيرهم؟
سماحة السيد، كيف نوفّق بين همّ الأمة والإسلام، وهمّ الشيعة والتشيع؟ وهل نضحّي بمصالح الشيعة من أجل مصالح الأمة، أو نضحي بمصالح الأمة من أجل مصالح الشيعة؟
ج: في البداية، أحبّ أن أشكركم على هذه المشاعر والعواطف الإسلامية الطيّبة التي تملأ قلبي بالمحبة التي عشتها مع كلّ هذا الجيل وعاشها معي من خلال رسالة الإسلام التي حملتها منذ أكثر من 50 سنة، الإسلام الوحدوي الذي ينفتح على كلّ الخطوط الاجتهادية في الواقع الإسلامي، سواء على مستوى تنوّع المذاهب، أو على مستوى تنوّع الاجتهادات.
أما بالنسبة إلى المسألة الشيعية، فإننا عندما ندرسها من خلال الواقع العام، لا نرى أن هناك عالماً شيعياً موحّداً، بل هناك مزق متناثرة قد يلتقي بعضها مع بعض في الجانب الوجداني، وتعيش في داخلها حساسيات معيّنة بفعل بعض الاتهامات أو بعض الحملات التي تمسّ الجانب الثقافي تجاه ما يطرحه بعض رجالات الشيعة، وخصوصاً بعض رجال الدين، حين يناقشون المفردات الثقافية والفكرية للعقيدة الشيعية، ليتمّ اعتبار أيّ مناقشة في مفرداتها كفراً وضلالاً وما إلى ذلك.
وربما تجد كثيراً من المسلّمات بالمعنى الثقافي تنطلق من معاني شعبية في هذا المجال، أما عندما ندرس المسألة الشيعية في إطارها السياسي، فإننا لا نرى أن هناك وحدة شيعية، إلا أنه يمكننا أن نرصد مواقع شيعية متعددة، فمثلاً قد نرى موقعاً شيعياً كبيراً في العراق، ونرى أيضاً موقعاً في إيران التي تمثل الدولة الشيعية الوحيدة في العالم كله، إضافةً إلى وجود موقع من مواقع التشيّع استطاع أن يتبلور ويتأهل في المدّة الأخيرة بفعل المقاومة في لبنان، كما أنّ هناك بعض المواقع الشيعية الصغيرة في الخليج وفي باكستان وأفغانستان وفي سوريا أيضاً، ولكنها لا تمثل شيئاً كبيراً يمكن أن يتحرّك باتجاه المستقبل.
لذلك، فقد أصبحت المسألة الشيعية تمثّل المشكلة للواقع الإسلامي السني، الذي اعتاد على أن يكون دائماً المرجع الوحيد للعالم الإسلامي، حتى إنّ الثقافة التي يتحرّك فيها السّنة من خلال أغلب مشايخهم، ومن خلال ما يرد في بعض كتب الشيعة، أو في خطابات بعض خطباء الشيعة أو ما شابه ذلك، يعتبرون أن الشيعة خارجون عن الإسلام، من خلال اعتبارهم أن بعض الأفكار الشيعية تمثل الغلو أو تمثل الشرك على حسب المفاهيم التي يحاولون من خلالها أن يقسّموا الإنسان بين موحّد أو مشرك، ومؤمن أو كافر، لأن هناك جدلاً حول مسألة الإيمان والكفر، والشرك والتوحيد وما إلى ذلك.
لذلك، فإن النظرة العامة حتى الآن، لدى الكثير من مشايخ السّنة في العالم، والتي انعكست على الواقع الشعبي، هي أن الشيعة ليسوا مسلمين، ويؤكد ذلك ما أفتى به عالم سني في كندا من حرمة ذبائح الشيعة، لأنهم يذكرون عليها اسم الحسن والحسين(ع)، وهذا أمر كاذب لا نعرف له أساس عند أيّ فرد شيعي، كلّ هذا ترك تأثيره على الواقع الشعبي، وخصوصاً عندما دخلت إيران في الجوّ السياسي من خلال العنوان الشيعي الكبير الذي تتميّز به.
وقد لاحظنا في البداية، أن ثورة الإمام الخميني «رحمه الله» استطاعت أن تكسر هذا الحاجز في العالم الإسلامي، باعتبار أنها الثورة التي هزّت قواعد الاستكبار الأميركي، الذي كانت تعاني منه المنطقة معاناةً كبيرةً جداً، ولكن المخابرات الدولية من جهة والمخابرات المحلية، وخصوصاً العربية، والجهات الطائفية المذهبية التي تعيش المشكلة في مسألة الشيعة، حاولت أن تحاصر هذه الثورة بالطريقة التي تجعلها ثورةً شيعيةً، بدلاً من أن تكون ثورة إسلامية، وبهذا استطاعت أن تعبّىء العالم العربي في الحرب الإيرانية ـ العراقية على أساس أنها حرب عربية ـ فارسية، بحيث أدخلت الجانب القومي في حساباتها السياسية، حيث برزت المشكلة بين إيران والعالم العربي، كما إن بعض الشيعة دخلوا في هذه المسألة، باعتبار أن الذين لجأوا إلى إيران من الشيعة، وخصوصاً من الشيعة العراقيين، لم يجدوا ما كانوا يأملون فيه من الرعاية الكاملة في إيران، حيث كانت الدولة الإسلامية الفتية تعيش ظروفاً صعبةً، وخصوصاً عندما قدم إليها اللاجئون من أفغانستان بنسبة أكثر من 2 مليون، ومن العراق بنسبة أكثر من نصف مليون وما إلى ذلك، وعدم محاسبتها للمسؤولين الصغار الذين أخطأوا مع اللاجئين، ما تسبّب في خلق مشكلة داخل العالم الشيعي، فأصبح الكثيرون من العراقيين ضد الجمهورية الإسلامية، وأصبحوا يعتبرونها كأنها تنطلق من الجانب القومي.
ثورة الإمام الخميني(ره) استطاعت أن تكسر الحاجز في العالم الإسلامي
باعتبار أنها الثورة التي هزّت قواعد الاستكبار الأمريكي
لذلك تحوّلت المشكلة الشيعية إلى مشكلة مذهبية في العالم الإسلامي، وخصوصاً عندما أثيرت المسألة بأنّ الشيعة يعملون على تشييع السّنة، في كلام قد يكون له واقعية في بعض المناطق، ولكن بشكل جزئي، وليس له واقعية في أكثر المناطق.
والقضية المطروحة الآن في المسألة الشيعية، هي أن العالم الإسلامي السني، سواء على المستوى الديني أو السياسي، أصبح يخشى من هذه الانطلاقة الشيعية التي تمثلت بالمقاومة الإسلامية في لبنان، والتي تركت تأثيرها من الناحية الشعورية في العالم الإسلامي، بحيث إنها اجتاحت الجوّ السني، حتى إن بعض السّنة انتقلوا إلى التشيع من خلال الانتصار الذي حققته المقاومة الإسلامية في لبنان، كما أن الواقع السني الذي سيطر على العالم العربي من الناحية السياسية، أصبح يخاف من سيطرة الشيعة على العراق، ومن تقدم الشيعة فيه، ومن حركة الجمهورية الإسلامية الإيرانية في مواقفها الصلبة، وخصوصاً من خلال الحركة الأمريكية السياسية الإعلامية والمخابراتية التي حاولت الإيحاء إلى العالم العربي، والعالم الإسلامي، كباكستان وغيرها، بأن إيران أصبحت تمثل خطراً في شيعيتها.
من هنا انطلقت الحملة على الشيعة من خلال الحملة على إيران وعلى المقاومة الإسلامية فيما تتحرّك به أميركا في لبنان من خلال رعايتها والتزامها بأمن إسرائيل، وهذا هو الذي يفسّر ما انطلق به الملك عبدالله الأردني الذي تحدّث عن الهلال الشيعي، في الوقت الذي لا يمثل هذا العنوان أيّ واقعية في العالم، لأنه ليست هناك أيّ فرصة لإيجاد اتحاد بين الشيعة في لبنان وسوريا والعراق وإيران، بل إننا نرى أنّ هناك مزقاً متناثرةً هنا وهناك.
أما من الناحية السياسية، فهناك خوف من سيطرة الشيعة بفعل بعض المواقع السياسية التي استطاعت إشاعة هذا الجو المشحون بالخوف، خصوصاً تجاه الموقف الإيراني من خلال الملف النووي، الذي تحاول أميركا وأوروبا أن تثير الخطر منه، باعتبار أن إيران تحاول صنع السلاح النووي الذي يشكل خطراً على العالم، كما هي النكتة السياسية التي أثاروها لاحتلال العراق الذي كان لا يملك أيّ قوة عسكرية.
أما موقفنا تجاه هذا الوضع الذي نعيش فيه، وهذا الإرباك المنطلق من التراكم التاريخي من جهة، ومن خلال المشاكل الحاضرة من جهة أخرى، فهو أنّ علينا أن لا ندخل في حركية الفتنة، لأنه ليس لنا أيّ مصلحة في فتنة سنية ـ شيعية، ولذلك فإنّ علينا أن نصرّ على مسألة الوحدة مع إصرارنا على مواقعنا السياسية القويّة، وعلى شعاراتنا السياسية التي تنفتح على العالم الذي يقف ضد أميركا، وضدّ الاستكبار العالمي، وعلينا أن نبقى في مواقعنا الإسلامية، فلا نقدّم التنازلات من مبادئنا، بل نؤصّلها، ولا نفسح المجال للخرافة والغلو والتخلف أن يعطي العنوان الكبير للتشيع، بمعنى أنّ علينا أن نقوم بحركة داخلية في تأهيل المذهب الشيعي ليكون منفتحاً على تراث أهل البيت الذين يمثلون التراث الحضاري الذي يمكن أن نقدّمه إلى العالم كله.
وفي الوقت نفسه، فإننا ندعو إلى الحوار الإسلامي ـ الإسلامي حتى مع السلفيين، وعلينا أيضاً أن نندمج، وأن نقيم تحالفات سياسية مع الحركات الإسلامية السّنية، بغض النظر عن طبيعة العلاقة بها، كالجماعة الإسلامية، والإخوان المسلمين، والجبهة الإسلامية... وأن ننفتح على الواقع السّني من خلال الشعارات الإسلامية والسياسية الكبرى، خصوصاً مسألة التزامنا بالقضية الفلسطينية، ومواجهة الاحتلال في العراق وفي أفغانستان، من خلال مواقفنا المعارضة لسياسة الإدارة الأمريكية وحلفائها في لبنان والمنطقة، وهذا لا يعني أن نقوم بعملية ردّ فعل انفعالي، بحيث نتحرّك على أساس أن نعيش الفتنة، بل أن نهرب من الفتنة إلى العقلانية وإلى الموضوعية وإلى الصبر على هذه المسألة.
في العالم الإسلامي هناك خوف من سيطرة الشيعة
خصوصاً تجاه الموقف الإيراني من خلال الملف النووي
نحن لا نشعر بأنَّ هناك عالماً شيعياً موحّداً يملك سياسةً واحدةً وخطاً ثقافياً واحداً، ولكننا نحاول أن نجمع الطلائع المثقفة الواعية المنفتحة الحضارية التي تنطلق من خلال أصالة تراث أهل البيت(ع) وأصالة الإسلام في الكتاب والسّنة، لتكون في موقع قيادي مؤثِّر، لا على الهامش، وخصوصاً الهامش الثقافي، وعلينا أن نصرّ على أن نقود الحركة الإسلامية، من الناحية الثقافية والسياسية، وخصوصاً داخل البيت الشيعي، بحيث نعمل على التخطيط لمحاربة كلّ الخرافيين والمتخلفين، وكل الغلاة في هذا المجال، حتى نستطيع أن نصنع جيلاً شيعياً إسلامياً منفتحاً في خط الحضارة الإسلامية.
س: سيدنا، العراق اليوم قضية القضايا في المنطقة، والمسألة الشيعية هي الأساس، ونحن نسمع توجّهات ممن يقولون إن علينا أن نتحرك كشيعة، بمعزل عن الأبعاد الإيديولوجية، وعلينا أن نستفيد من خطأ ثورة العشرين التي حصلت، والتي ضيّع الشيعة فيها الكثير، فهم الذين ثاروا، وهم الذين سلَّموا الحكم، وهناك من يدعون الآن إلى فيدراليات على أساس مذهبي سني وشيعي وقومي، ما وجهة نظركم في هذا الشأن؟
نحن ندعو إلى الحوار الإسلامي ـ الإسلامي حتى مع السلفيين، وأن ننفتح على الواقع السني من خلال الشعارات الإسلامية والسياسية الكبرى، وخصوصاً مسألة التزامنا بالقضية الفلسطينية
ج: أنا أتصور أن مشكلة الشيعة في العراق هي أنهم عاشوا ردّ فعل، لأن الشيعة عزلوا عن المسؤوليات الحكومية في العراق بشكل عام، وكانوا يعيشون تحت تأثير هذا النوع من العزلة في حالة نفسية خانقة قد لا تتحرّك من خلال التعبير عن نفسها بشكل قوي أو بشكل ثائر وما إلى ذلك، حتى إنه عندما وصل بعض سياسيي الشيعة إلى مستوى أعلى، مثل «صالح جبر»، حاولوا إسقاط وزارته، باعتبار معاهدة «بورتوسموث» الذي كان نوري السعيد والسنّة وراءها، ولكن كانت الخلفيات شيعية ـ سنية، ولذلك بقي الشيعة يخلصون للجو العام في العراق، بالرغم من أنهم كانوا مضطهدين ومظلومين.
وبعد ذلك سقط الحكم الملكي الذي جاء به الشيعة، علماً أنّ علماء الشيعة هم الذين ذهبوا إلى مكة وجاؤوا بالملك فيصل الذي انطلق سنياً، مع أنه من العائلة الهاشمية، ثم تطورت الأمور في انقلاب عبد الكريم قاسم، والسيد عبد السلام عارف، والمدّ الشيعي الأحمر، إلى أن تسلم حزب البعث في الستينات الحكم، مستفيداً من العمليات الشيعية المعارضة في هذا المجال، وخصوصاً الحالة الإسلامية التي كان يقودها حزب الدعوة الاسلامية بقيادة السيد محمد باقر الصدر، وسرعان ما عمل الحكم البعثي الجديد على اضطهاد الشيعة بكلّ وحشية، كما عمل أيضاً على اضطهاد الأكراد. هذه المسألة استطاعت أن تفسح المجال لتحالف كردي ـ شيعي، حاول الأكراد من خلاله الضغط على المعارضة الشيعية للاعتراف بالحكم الفيدرالي، ومن المعلوم أن الفيدرالية كانت واضحة بالنسبة إلى الإقليم الكردي، ولم تكن واضحة بالنسبة إلى الواقع الشيعي، وعلى ما يبدو، فإن هناك انفتاحاً بزر أخيراً إزاء إنشاء فيدرالية في المناطق الجنوبية، والمنطقة الوسطى للسنة، ومنطقة إقليم كردستان، والواقع أن الشيعة انطلقوا من خلال ذلك، فهم يخافون الآن من الحكم المركزي، لأن الحكم المركزي الذي عانوا منه كثيراً في الماضي وفي التاريخ، ربما يتحوّل إلى واقع اضطهاد للشيعة بحسب التطوّرات السياسية التي قد تفسح المجال للسنة.
كما نلاحظ ذلك الآن في الخطوات الأميركية الأخيرة في هذا المجال، ولذلك كانت المسألة في نظر الذين أثاروا المسألة الفيدرالية من هذا الجانب، لا من خلال مواجهة الوحدة الإسلامية بمعناها الثقافي ومعناها السياسي العام، ولكنها كانت ردّ فعل على الأحداث الأخيرة التي حدثت في العراق، سواء من خلال دخول القاعدة التي هي واجهة سنية، وانخراط الكثيرين من جيش صدام ومن السنة معهم، والإفتاء بقتل الشيعة، وهذا ما نلاحظه في عملية القتل المنظّم التي يواجهها الشيعة بشكل يومي في هذا المقام، وأما ما يُثار حول أن الشيعة يقتلون السنة، فهذا ليس واقعياً، بل هو عملية ردّة فعل جزئية تخرج من هنا وهناك، ونجد أن الاحتلال الأميركي يحاول أن يشجع بعض هذه الأوضاع.
إننا على هذا الصعيد، نشير إلى أنّ المثقفين الشيعة لا يعيشون الحالة الطائفية المنخنقة، بل نجد أن هناك الكثير من المرجعيات الشيعية ممّن يدعون إلى الوحدة الإسلامية في العراق، وكذلك بالنسبة إلى بعض الحركات الشيعية كـ«حزب الدعوة» مثلاً، وحتى المجلس الإسلامي الأعلى، وحتى حركة مقتدى الصدر، يحاولون أن يخاطبوا السنة ويحاوروهم، وأن ينطلقوا من خلال الوحدة الإسلامية في العراق، لكن حال الفوضى الثقافية والسياسية التي يعيشها العراق، وخصوصاً دخول إيران على خطّ الأحداث، أوجب نوعاً من أنواع الفوضى في التصوّر للدور الإيراني في العراق، الذي ربما انطلق بعض الشيعة ضده، كما ينطلق السنة أيضاً ضده. ومن الطبيعي أن لأميركا دوراً في هذا المجال، لذلك نحن لا نستطيع أن نقول إن هناك خطاً شيعياً في العراق في مواجهة الحالة الإسلامية أو القومية أو ما إلى ذلك، بل هناك فوضى، وهناك حلقة مفرغة ونوع من الدوامة التي تلف الجميع، ما يجعل من الصعب جداً أن يُعطي الإنسان الواقع في العراق، صورةً واضحة في هذا المجال.
س: إلى أي مدى ترون أنّ مشروع العالم الشيعي الموحّد يمكن أن يحقِّق نجاحاً؟
ج: بالنسبة إلى تعدّد الخطوط السياسية الشيعية فإني لا أرى المسألة واقعية، أما إيران فربما تتداخل فيها مسألة الدولة مع المسألة الشيعية، لأن إيران تتحرك كدولة تريد أن تحمي نفسها بقطع النظر عن المسألة الشيعية، ولكنها تستفيد من الجانب الشيعي وتشجّعه، لذلك من الصعب جداً أن تكون هناك وحدة شيعية مرجعية على المستوى الديني أو السياسي.
من الصعب جداً أن تكون هناك وحدة شيعية مرجعية على المستوى الديني أو السياسي
س: ما هو تأثير الحوزات الشيعية في قُم والنجف على سياسة الشيعة في العالم العربي؟
ج: أنا لا أعتقد أن هناك صراعاً ومشاكل جوهرية بين حوزتي النجف وقم، فالنجف كانت هي الحوزة الوحيدة والكبرى التي مضى عليها أكثر من ألف سنة، والتي تخرّج منها أكثر علماء الشيعة في العالم الذين كانوا يهاجرون إلى النجف، ولكن المشاكل التي أحاطت بحوزة النجف، والتهجير الذي حصل من قبل صدام حسين وما إلى ذلك، أضعفها، وبذلك استطاعت حوزة «قُم» التي كانت محدودة أمام حوزة النجف، أن تتوسّع، خصوصاً مع رعاية الدولة لها، وأصبحت هي الحوزة الأولى الكبرى في العالم، بينما حوزة النجف لا تزال محدودة لا تملك الكثير من عناصر القوة.
س: هل تمثّل الحكومة العراقية، ذات الغالبية الشيعية، المشروع الأميركي في العراق؟
ج: لا أتصور أنّ القضية كذلك، فالحكومة العراقية التي تضمّ جماعةً من الشيعة، تضمّ جماعة من السنة أيضاً، ولذلك فإنه من الطبيعي جداً أن أي حكومة داخل منطقة محتلة، لا يمكن أن تحصل على أيّ حرية في عملها. وهذا ما نعرفه في الحكومة العراقية، فإنهم لا يملكون الكثير من الحرية في إدارة الواقع فيه، سواء من الناحية القانونية أو الإدارية.
س: ثمة أكثر من مشكلة تواجه الواقع الشيعي، فهناك من يقول إن الشيعة غير مخلصين لكياناتهم الذاتية، وإنهم أصبحوا مستغرقين في مشاكلهم الذاتية على حساب الفهم الإسلامي العام، كما يجري في العراق، فهل الشيعة مخلصون لأوطانهم؟ وإلى أيّ مدى هم كذلك؟
ج: أنا لا أعتقد أن الشيعة غير مخلصين لأوطانهم، فالشيعة مشكلتهم أنهم مخلصون لأوطانهم أكثر من إخلاصهم لخصوصياتهم الذاتية، ولكن مسألة الفوضى في العراق لا تسمح للمراقب بأن يميّز بين موقع وموقع آخر، لأن المشاكل الأمنية المطبقة على الواقع الشيعي من جهة، وعلى الواقع العراقي بشكل عام، وفقدان الخدمات الضرورية أو ما إلى ذلك، أوجد حالاً من الفوضى التي لا تستطيع معها أن تحدد الخطوط الواضحة المستقيمة، فالشيعة هم أكثر الناس إخلاصاً لوطنهم، والدليل على ذلك ثورة العشرين، والمقاومة الإسلامية في لبنان.
الشيعة هم أكثر الناس إخلاصاً لوطنهم
والدليل على ذلك ثورة العشرين والمقاومة الإسلامية في لبنان
س: سماحة السيد، حضرتك تحدثت عن تكفير الشيعة من قبل السنة واستباحة قتلهم، وخصوصاً ما نراه في العراق من انتهاك للأماكن المقدسة، اليوم، أين دور تجمع علماء المسلمين والأحزاب في ردّ هذه النقمة؟ أما على مستوى لبنان، وفي ظل الأجواء السياسية المشحونة، هل يعتبر دور الشيعة اليوم في مرحلة ذهبية؟
ج: أما بالنسبة إلى قضية الفتاوى التي تكفِّر الشيعة، فإنها لا تزال موجودةً، رغم النفي السني لها، وقد يستعمل العلماء السنة التَّقية تجاه الشيعة في هذا المقام، أما بالنسبة إلى تجمع العلماء، فيوجد مناخ نفسي قد يُوحي ببعض الجوّ الإسلامي الوحدوي، ولكن تجمع العلماء المسلمين لا قوة له. أما أن يُقال إنّ الشيعة يعيشون في فترة ذهبية في لبنان، فأظنّ أن هذه الفترة فيها شيء من النحاس والفضة والذهب والألماس، ليس هناك ذهب خالص في هذا المجال.
س: البعض يقول إن موقف الشيعة في العراق واستلامهم السلطة عن طريق الاحتلال الأميركي، أساء إلى الموقف الشيعي العام؟
الشيعة لم يدخلوا السلطة في العراق من جهة الاحتلال الأمريكي، بل لأنهم الأكثرية
ج: أظن أن الشيعة لم يدخلوا السلطة من جهة الاحتلال الأميركي، بل لأنهم الأكثرية، فمثلاً رئاسة الوزراء أصبحت للشيعة، حيث كانت من قبل لأياد علاوي، ومن بعده أصبحت بيد الجعفري، ثم بيد المالكي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن كتلة الائتلاف هي أقوى الكتل في المجلس النيابي، لذلك انطلقت بطريقة ديمقراطية، كما أن الحكومة التي تتألف من وزراء، فيها سنة وشيعة وأكراد، ولذلك فإننا نلاحظ أن رئيس الجمهورية كردي، ووزير الخارجية كردي، ونائب رئيس الوزراء سني، فليس هناك حكومة شيعية، إلا إذا اعتبرنا العراق مثل لبنان، بطريقة طائفية، لأن المعارضة مثلاً تتكلم عن السنيورة مع أن الحكومة اللبنانية حكومة ائتلافية، والمعارضة أيضاً ائتلافية، ولذلك ليس الشيعة هم الذين يحكمون العراق بشكل أساسي، بل إن هناك الكثير من المواقع الكبرى في العراق أصبحت بيد السنة.
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 21-12-1428 هـ الموافق: 30/12/2007 م