التبعية للشخص «استعباد» يرفضه الإسلام
المرجع فضل الله: لا إنسان فوق النقد، سواء كان شخصية سياسية أو دينية
يعتبر المرجع الشيعي اللبناني، السيد محمد حسين فضل الله، أن لبنان محكوم بـ«لاءات ثلاث» هي: لا تقسيم، لا انهيار ولا استقرار، ما يبقيه في صيغة «الولايات غير المتحدة»، ليستمر ساحةً للصراعات الدولية والإقليمية. وأضاف في حديث لـ«الشرق الأوسط»، أن التبعية التي يعيشها الشعب اللبناني لقادته تشكل حالاً من «الاستعباد» الذي يرفضه الإسلام. وانتقد فضل الله «الفتاوى السطحية الاستهلاكية التي يتم توظيفها انطلاقاً من مصالح هذا النهج السياسي أو ذاك».
وفي ما يأتي نص الحديث:
س: هل تعتقدون أن لبنان ذاهب إلى تسوية أم إلى فتنة؟
ج: أعتقد أننا ذاهبون إلى تسوية. ولكن ليس من الضروري أن تكون هذه التسوية في مصلحة اللبنانيين، لأن لبنان النظام الطائفي كما أريد له، لا يوحّد المواطنين، وإنما يحولهم إلى مزق متناثرة على أساس الموقع الطائفي. لذلك كنت أقول إن لبنان يمثل ولايات غير متحدة، لأنّ كل طائفة تشعر باستقلالها عن الطائفة الأخرى. وتأسيس لبنان على أساس النظام الطائفي، يراد من خلاله جعله ساحة للصراعات الدولية والإقليمية، واستغلال الحرية التي يملكها اللبنانيون، سواء حرية العقيدة أو السياسة أو الثقافة أو الفكر، وحتى حرية الفوضى. وكنت أقول عنه إنه الرئة التي تتنفس فيها مشاكل المنطقة، وإن هناك لاءات ثلاثاً تحكمه هي: لا تقسيم، لا انهيار ولا استقرار.
س: هل تعتبر أن القادة الحاليين هم سبب الخلل؟
ج: أعتقد أن الطوائف التي تستغرق في ذاتياتها وأمورها الخاصة بعيداً عن الطوائف الأخرى هي سر مشكلة لبنان، لذلك كنت ولا أزال أدعو إلى المواطنة كبديل عن النظام الطائفي. وصحيح أنّ المجتمع لا يخلو من الأمناء، ولكن كم لديهم من الإمكانات التي تستطيع أن تحقق الأهداف الكبرى لما يحاولون القيام به من خلال مواقعهم الحالية؟ نحن لا نريد أن ندين أحداً، ولكن العلة هي في الإطار الطائفي الذي يجعل الناس تعيش تجمعاتها على أسس لا تتمثل بالقيم الروحية، والأخلاقية والإنسانية.
س: انتقدتم في موقف سابق تبعية الشعب للشخص، إلى أين تؤدي هذه التبعية بلبنان؟
ج: نحن نعتقد أن الارتباط بأي شخص، لا بد من أن يكون من خلال الارتباط بالقضية التي يمثلها هذا الشخص، سواء كانت قضية إسلامية عامة أو قضية وطنية. لهذا نحن نعتقد أن الالتزام بالشخص لذاته، يرفضه الإسلام، باعتباره يمثل نوعاً من العبودية للشخص من خلال الخضوع له. إننا نعتقد أن على القاعدة الشعبية لا تتّبع قيادتها اتّباعاً أعمى، بل عليها أن تدرس هذه القيادة في خلفياتها والتزاماتها وحركيتها ومواقعها، بحيث إذا أخطأ القائد، يكون على القاعدة الشعبية أن ترصد هذا الخطأ وتحاسبه عليه، أو أن تبتعد عنه إذا أصرَّ على خطئه. إننا نعتقد أن الالتزام بالشخص الذي لا يملك المسؤولية القيادية للأمة هو خيانة للأمة.
س: إلى أي حد يؤثر الالتزام بالخط الديني في لبنان على المواطنة لدى الناس؟
ج: نحن نلاحظ أن المسيرة السياسية في لبنان تجاوزت الطوائف إلى الشخص، فالذين ينطلقون طائفياً يتحركون على قاعدة الارتباط برمز الطائفة، بحيث إنهم لا يرون مصالح الطائفة إلا من خلال مصالح هذا الرمز. لذلك نجد أن كثيرين من الناس ينطلقون على أساس تبعية الشخص بطريقة عاطفية غرائزية، والوضع السياسي في لبنان هو وضع استعباد الكثيرين من القيادات السياسية للناس الذين يتبعونهم، بحيث إنّ هؤلاء يصطفون وراء قياداتهم بطريقة غرائزية من دون عقلانية موضوعية ترفض المستوى الذي يتمثلون فيه.
وقد كنت أقول دائماً إنه لا يوجد إنسان فوق النقد، سواء أكان شخصية دينية أم سياسية. وأنا لا أتعاطف مع الذين يعارضون انتقاد موقع ديني هنا أو هناك، مسيحياً كان أو إسلامياً، لأن الشخص الذي يجلس في موقع ديني هو بشر كبقية البشر، يخطئ ويصيب، ويستقيم وينحرف. لذلك فإنّ الموقع الذي يجلس فيه، وإن كان يمثّل قداسةً ما، فإنّ قداسة الموقع لا تفرض قداسة الشخص الذي يجلس فيه، إلا إذا كان يملك القداسة الأخلاقية والروحية والعملانية. وعلى الإنسان أن يؤمن بالنقد الذاتي؛ أن ينقد نفسه في ما يصيب ويخطئ، وأن ينقد القيادات نقداً بنَّاءً موضوعياً، لأنّ تقديس الخطأ لمجرد أنّه صادر من هذا الموقع من المواقع الدينية، يجعلنا ننطلق في الطريق الخطأ، وفي الهدف الخطأ والوسيلة الخطأ، وهذا من شأنه أن يهدِّم الهيكل على رؤوس الجميع.
س: في غمرة التردي الأمني، شهد لبنان إصدار فتاوى تتعلق بضبط الناس، ما هي وظيفة هذه الفتاوى في العمل السياسي، وفي ظل الشحن الحاصل؟
ج: الفتوى، بحسب الإطار الذي تتحرك فيه، تمثل رأياً فقهياً في الحكم الشرعي الإسلامي من خلال اجتهاد المجتهد في فهمه للكتاب والسنة، ومن ثم دراسته للواقع، ليقارن بين مضمون النص وحركة الواقع. ومن الطبيعي جداً أن يمثل الواقع السياسي موقعاً يمكن للشرع الإسلامي أن يعطي رأيه فيه، إلا أننا نرفض أن تتحرك الفتوى بالطريقة الاستهلاكية السطحية التي يحاول بعض الناس أن يوظِّفها لصالح هذا النهج السياسي أو ذاك، ليخدموا بعض المشاريع التي تصبّ لمصلحة جهات معيّنة. إننا نعتقد أن الفتوى عندما تنطلق في الشأن السياسي أو الاقتصادي أو الأمني، لا بد من أن تنطلق من الأمانة الرسالية التي يلتزمها المفتي في دراسة ما يسهِّل أمور الناس، وينسجم مع الخط الإسلامي الأصيل.
س: هل تُقدَّم الفتاوى بطريقة تناسب مبدأ احترام الدولة والقانون في لبنان، أم أنها تستخدم في الصراع السياسي؟
ج: المسألة تتبع طبيعة الأمانة التي يحملها صاحب الفتوى؛ فقد يكون صاحب الفتوى موظفاً لدى أحد الخطوط السياسية، أو قد يكون ممن يطلبون المال من أجل أن يصدروا فتاوى لحساب مبالغ معينة؛ هؤلاء ليسوا مؤتمنين على الإسلام، لأنهم يحافظون على امتيازاتهم الوظيفية والسياسية أكثر مما يحافظون على التزامهم الإسلامي الذي يشعرون فيه بموقف الحساب أمام الله حين يصدرونه. ولذلك لا بد لصاحب الفتوى، إذا كان مؤتمناً على الإسلام والمسلمين، أن يدرس المسألة بعيداً عن كل الأوضاع القلقة التي تحيط بالواقع.
س: انطلاقاً من هذا التوصيف، كيف تقرأ استغلال بعض القادة للعصبيات في المخطط الذي يغرق فيه لبنان؟
ج: مشكلة القادة أنهم متعصبون لأنفسهم، وقد ورد عندنا أن العصبية في النار. فهؤلاء يعيشون ذهنية نرجسية، ولذلك فهم يستغلون الناس غرائزياً وعاطفياً لتضخيم شخصياتهم وقياداتهم ومكاسبهم.
س: عندما نرى أن «حزب الله» يلتزم خطّ ولاية الفقيه، وهو جزءٌ من التركيبة اللبنانية، ألا يشكل هذا الالتزام تناقضاً مع المواطنة اللبنانية؟
ج: إننا نعتقد أن الفقيه الذي يلتزم بعض الناس فتاواه أو آراءه أو قيادته، لا بد من أن يدرس المواقع التي تلتزم رأيه، فلا يعطي رأياً يضر بالناس الذين يتحركون في هذا الموقع أو ذاك، وإلا فقد الثقة به وفقد موقعه. فالفقيه، كأي قيادي مسؤول آخر، عليه أن يدرس آراءه وتعليماته بما يصلح أمور الناس، لا بما يفسدها. وفي ضوء هذا، فإنّ الذين يلتزمون ولاية الفقيه، لا بد لهم من أن يدرسوا الأمور على أساس التوفيق بين ما هي مصلحة البلد الذي يعيشون فيه، وما هو رأي الفقيه، وعليهم أن يناقشوا الفقيه، فهو ليس شخصاً معصوماً، بل هو يخطئ ويصيب، وعليه أن يستشير الناس في ما يصدر عنه من آراء وتعليمات ومواقف، وعليهم، في المقابل، أن لا يلتزموا بولايته التزاماً أعمى، وإنما يجب أن يدرسوا ما يصدر عنه، كي يعرفوا من خلال ذلك هل أخطأ أو أصاب، وهذا لا يقتصر على الذين يلتزمون ولاية الفقيه، وإنما يشمل أيضاً الناس الذين يلتزمون فتاوى المرجعيات الدينية.
س: هل يسمح الوضع اللبناني بارتباط الناس بالمرجع وتحويله إلى زعيم سياسي؟
ج: نحن لا نعتقد أن هناك قاعدة تقول إن علينا أن نمارس الحُرُم السياسي للمرجعيات الدينية، فالمرجع الديني هو إنسان كبقية الناس، ومواطن كبقية المواطنين، له أن يطلق رأيه في قضايا السياسة والاجتماع والأمن والاقتصاد. لذلك ليست هناك مشكلة في ممارسته العمل السياسي، ولاسيما إذا كان الهدف هو تحقيق العدالة، لأن مسؤولية المرجعيات الدينية هي العمل من أجل إقامة العدل بين الناس. لذلك نحن نقول إنّه ليست هناك مسافة بين الفقه والسياسة، وأن المسألة ليست في أن يكون المرجع قائداً سياسياً أو لا، وإنما في أن يكون الشخص الذي يتولّى العمل الديني أو السياسي، أميناً على القضية التي يلتزمها.
س: لكن ألا تجد أن التدخل السياسي لجميع أقطاب الطوائف في لبنان، يؤدي إلى التوتر الذي نشهده؟
ج: أنا لا أعتقد أن الواقع الذي يعيشه أقطاب الطوائف في لبنان، يمكن أن يحقق للشعب اللبناني الكثير من النتائج الإيجابية، لأننا نلاحظ أن أغلب الذين يملكون المواقع الطائفية تابعون لمواقع سياسية، وهذا ما نلاحظه في تصرفات الكثيرين منهم؛ الذين يتبعون السياسيين وأصحاب المال أكثر مما يتبعون التزاماتهم الإسلامية.
بيروت: سناء الجاك
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 25 صفر 1428 هـ الموافق: 15/03/2007 م