ما يحدث في لبنان الآن «همروجة» سياسية لإثارة المسائل لا لحسمها
المرجع الشيعي العلاّمة السيد محمد حسين فضل الله لـ«المشاهد السياسي»:
شيعة لبنان لبنانيون أصيلون ربما أكثر من كثير من الطوائف الأخرى وأستغرب التركيز عليهم
في تناوله القضايا السياسية والعامّة، يعيد العلاّمة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله البحث إلى المنطلقات الفكرية والفقهيّة للقضايا المطروحة، ويبني تصوّراته البعيدة عن إرهاصات السياسة اليومية في لبنان والمنطقة.
في تحليله للواقع السياسي اللبناني، يعيد السيد فضل الله «البوصلة» إلى أصل الكيان اللبناني ووظيفته وظروف إنشائه، فيوجز تحليله بـ«القاعدة الثلاثية» التالية: لبنان (لا تقسيم، لا انهيار، ولا استقرار...).
هذه النظرة المتأرجحة بين التفاؤل والتشاؤم، إنما تنبع من حكمة العلاّمة الذي يُفتي في أمور الدين، ويفقه شجون الدنيا، فهو مرجع يُقلَّد ولا يقلِّد، رغم طغيان نظرية ولاية الفقيه على الساحة الشيعية اللبنانية، وهذا ربما ما يميّز فضل الله عن توجّه حزب الله الفقهي...
«المشاهد السياسي» في رحاب فكر السيد فضل الله، فماذا يقول؟:
س: سماحة السيد، دعنا نبدأ من المشهد البرلماني اللبناني... المجلس النيابي يشهد تحرّكاً غير اعتيادي، المعارضة أقفلته والموالاة تحاول تفعيله... وسط هذا الانقسام، كيف تقرأ ما يجري على مستوى المؤسّسات الدستورية؟
ج: لعلّ أصل المشكلة بين فريق السلطة وفريق المعارضة، أن هناك مسألة لا تزال غير محسومة في الدستور اللبناني، وهي مسألة حركة خطوط الشرعية، فهناك مسألة يلتقي عليها الجميع، وهي أن القوانين التي ترسل إلى مجلس النواب، لا بد من أن تكون موقّعة من رئيس الجمهورية الذي يملك هذا الحق في الدستور، لتكون لها شرعية قانونية تفرض على رئيس المجلس النيابي أن يستجيب لها. وعندما ندرس المسألة بحسب طبيعة الواقع، نرى أن هناك جدلاً آخر، وهو شرعية هذه الحكومة من الناحية الميثاقية أو الدستورية، على أساس أن العنصر الميثاقي يفرض أن تكون جميع الطوائف ممثّلة في مجلس الوزراء، بينما نلاحظ أن الطائفة الشيعية ليست موجودة الآن في الحكومة، ما يعني عدم تمثيل المجلس الوزاري للطوائف اللبنانية كافّة.
ولذلك، يعتبر فريق في البلاد أن الحكومة غير شرعية. وفي المقابل، يتحدّث رئيس مجلس الوزراء عن أن الحكومة تمثّل جميع الطوائف، وأن ممثّلي الطائفة الشيعية غائبون! وهذا الجدل أدّى إلى أن يتمسّك رئيس المجلس النيابي بهذه الرسالة، وهي أنه لا يستطيع أن يرسل قانوناً إلى المجلس ويعقد جلسة على أساسه، باعتباره ليس موقّعاً من رئيس الجمهورية.
من هنا، فإن المسألة أصبحت تتحرّك في إطار «الهمروجة» السياسية اللبنانية، ولا تتمدّد في الخطوط الدستورية والميثاقية التي يؤكّدها البعض ويرفضها البعض الآخر.
س: همروجة! بمعنى أنها لا تلامس حد الخطر؟
ج: نحن لا نعتقد حتى الآن أننا وصلنا حد الخطر، لأن الجميع يعتبرون أن هذه الاجتماعات تمثّل موقفاً يريد إثارة المسألة ولا يريد حسمها.
س: ما يضغط على الوضع الداخلي هو موضوع المحكمة الدولية، والحديث يدور حول أن مجلس الأمن الدولي سيفرض إقراراً للمحكمة في غضون نيسان (أبريل) الحالي. فيما هناك معارضة سورية للمحكمة وعرقلة داخلية، وتهديد بالفصل السابع، ما رأيكم في كلّ ذلك؟
ج: أنا لا أتصوّر أن المحكمة هي أصل المشكلة، بل المسألة هي أن الجهة التنفيذية لرئاسة مجلس الوزراء، هل تريد أن تحرّك مسألة المحكمة بالطريقة التي يُجمع عليها كل اللبنانيين، أو أنها تريد أن تتحرّك لخدمة فريق معيّن؟! نحن نتساءل هنا: لماذا هذه السرعة في اجتماع مجلس الوزراء أولاً، ومن ثم العمل على إقرار بنود المحكمة ثانياً، في الوقت الذي كان هناك فريق من السياسيين ومن أعضاء مجلس الوزراء، يطلبون مهلة أيام معدودة للاطّلاع على مشروع المحكمة ودراسته؟! إن هذه السرعة في إقرار قانون المحكمة، يدل على أن الفريق الآخر لا يريد لأي فريق لبناني، ولاسيما الفريق المعارض، أن يتدخّل في مفردات القانون لهذه المحكمة، ويريد له أن يوافق على ذلك دونما قيد أو شرط ودونما دراسة مسبقة، فهذا على الأقلّ ما حرّك المعركة الدبلوماسية في هذا المجال. وأعتقد أن طريقة إدارة مجلس الوزراء لموضوع المحكمة، هي التي عقّدت المسألة، لأنهم إذا قالوا إن هذا الفريق لا يريد المحكمة، فإنّ عليهم أولاً أن يقيموا الحجّة عليه، وأن يعطوه الفرصة لدراسة المشروع، فينكشف بعد ذلك من يريد التعطيل، وعندها يُتّخذ الموقف المناسب.
س: ألا تعتبر سماحتك أن ما أقرّه مؤتمر الحوار في بنده الأول، وهو إنشاء المحكمة، كافٍ للسير في هذا المشروع دونما تحفّظ؟
ج: هناك فرق بين الموافقة على المبدأ والموافقة على التفاصيل، فالجميع وافق على المبدأ، لأنهم يرون أن جريمة اغتيال (الحريري) تمثّل صدمة للواقع السياسي اللبناني بكل أطيافه، ولكن كيف يمكن تنظيم هذه المحكمة بالنسبة إلى دور القضاء اللبناني، أو بالنسبة إلى دور الأمم المتحدة؟ وهل تنطلق هذه المحكمة بحسب القانون الأمريكي أو بحسب القانون الأوروبي؟ فهذه كلها هواجس يطرحها الفريق المعارض!
س: هل تخشى من مشروعٍ يهدف إلى تدويل لبنان عبر إنشاء هذه المحكمة؟
ج: أنا أعتقد أن لبنان يعيش التدويل من الباب الواسع. لذلك عندما ندرس قضية القوّات الدولية، والقرارات التي تتدخّل في القضايا الداخلية اللبنانية من خلال مجلس الأمن، نرى أنه لا توجد أيّة دولة في المنطقة قدّمت قرارات للأمم المتحدة في قضاياها التفصيلية كما هي الحال في لبنان!!
س: في موضوع الحكومة التي قلت إنها غير تمثيلية، هناك من يطرح فكرة تعيين بدلاء عن الوزراء المستقيلين، ما رأيكم في ذلك؟
ج: لقد طُرِحَت هذه المسألة عند استقالة الوزراء الشيعة، ولكن الحكومة لم تبادر الى هذه الخطوة، لأن من شأن هذه المسألة أن تتسبّب بتعقيدات كبيرة جداً على مستوى الوضع السياسي المعروف في لبنان.
س: في أي حال، الاستقالة لم تُبتّ بعد حتى الآن؟
ج: القضية ليست مسألة استقالة قُبلت أو لا تُقبل، بل القضية هي أن الاستقالة عندما طرحت بشكل أساسي لا رجوع فيه في ظلّ الظروف السياسية، تعني أن التمثيل الفعلي ليس موجوداً، ولا أحد يستطيع الأخذ بالحديث عن أن هؤلاء هم غائبون فقط.
س: حتى لو أن بعض الوزراء ما زال يمارس صلاحياته ومهامّه في وزارته؟
ج: على كل حال، أنا لا أتدخّل في التفاصيل، لأني لست في مقام أخذ موقف مع فريق ضد فريق آخر، ولكني أتحدّث عن حركة اللعبة السياسية بين المعارضة والموالاة، ولا أدخل في التفاصيل.
س: لنعد إلى عنوان أساسي. طرحت سماحتك قبل فترة العودة إلى صياغة طائف جديد؟
ج: قلت إن اتفاق الطائف أساساً كان اتفاقاً يراد به وقْف الحرب، ولكن طبيعة الظروف التي أحاطت بالاجتماعات، لم تكن ظروفاً عادية تسمح بدراسة الأمور بشكل دقيق، بحيث تُدرس المشكلة اللبنانية في العمق، لأن هناك نقطة كنت أتابعها في النظام اللبناني، وهي ارتكازه على الأساس الطائفي، والذي كان عرفاً تحوّل إلى دستور! وأنا أعتقد أن كل الثغرات التي تعيش في داخل النظام اللبناني، تسمح للخارج بالنفاذ عبر هذه الثغرات للتدخّل في القضايا اللبنانية الداخلية، وتحريك مصالحه عبر دعم طائفة على حساب الطوائف الأخرى.
هذا الخارج وهذا النظام الطائفي، يجعلان اللبنانيين يواجهون حقوقهم وواجباتهم على أساس حصّة الطائفة، لا على أساس الحاجات الحيوية للبنان بشكل عام، لأننا لا نستطيع أن نقسّم الخدمات والقوانين لحساب طائفة هنا وطائفة هناك، فقضايا اللبنانيين هي قضايا مترابطة ومتداخلة، ولا يمكن أن تشرّع وفق حاجات هذه الطائفة أو تلك، فلا بد من أن يُدرس الواقع اللبناني من خلال المشاكل المشتركة بين المناطق والطوائف. لذلك أنا أعتقد أنّ مشكلة النظام اللبناني هي في النظام الطائفي. ونحن لسنا ضد تعدّد الطوائف، ولكننا ضد أن يكون النظام خاضعاً لهذه التعددية، بحيث يكون نظاماً مركّباً من أنظمة الطوائف، إذا صحّ التعبير. ونحن نلاحظ أن كل طائفة تعتبر أن منطقتها هي منطقة مستقلة عن الطائفة الأخرى، وأن التدخّل في شؤونها يعتبر تدخّلاً في الشؤون الداخلية، ولذلك كنت دائماً أقول إن لبنان يمثّل ولايات غير متحدة.
س: إذاً، هل تدعو إلى أن يكون النظام السياسي أكثر علمانية مما هو اليوم؟
ج: نحن نقول إن النظام اللبناني (السياسي) الآن هو نظام علماني، لأن القوانين اللبنانية ليست قوانين إسلامية ولا مسيحية، والطائفية ليست ديناً؛ هي حالة علمانية قبلية وعشائرية، ولذلك نقول إن هناك الكثير من زعماء الطوائف لا يؤمنون لا بالمسيح ولا بمحمد(ص)، ولا بالقرآن ولا بالإنجيل، وإنما يحاولون أن يجعلوا الطائفة لافتةً يحرّكون فيها مصالحهم الشخصانية أو مصالحهم الحزبية أو ما إلى ذلك، ونحن نعتقد أن النظام اللبناني، هو نظام علماني، فيما عدا الأحوال الشخصية، والتي تتحرّك في نطاق معيّن يلاحظ بعض الخصوصيات الشرعية لهذه الطائفة أو تلك، ولا أعتقد أن مشكلة لبنان هي مشكلة الأحوال الشخصية... ولقد كنت اقترحت أن يكون نظام المواطنة بديلاً من النظام الطائفي.
بيروت ـ أديب نجيب
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 26 ربيع الأول 1428 هـ الموافق: 14/04/2007 م