في الرابع من تموز/ يوليو 2010، رحل عن هذه الدّنيا محمد حسين فضل الله. بعده، انفجرت المنطقة على صراعاتٍ لم تضع أوزارها حتّى لحظة كتابة هذه السّطور؛ هذه المرحلة التي ستشكّل بالنّسبة إلى هذه المقالة نقطة البداية، رجوعاً إلى الوراء لتلمّس القضايا التي شكّلت جدلًا في حركة «السيّد».
ليس الغرض من ذلك هو إثبات استشرافيّة «السيّد» للمرحلة كلونٍ من التبجيل، ولكن لاعتقادنا أنّ الوقوف على طبيعة النتاج ـ بقراءة مستجدّة ـ يمكن أن يحدّد الثوابت الأساسيّة، في الوقت الذي يمكن أن يشكّل جسر عبورٍ لتجاوز أزمات المرحلة إذا ما خلصت النيّات.
لم يكد يمضي على الرحيل عامٌ، حتّى تحرّك ما سمّي بـ«الربيع العربي»، والذي شكّل نقطة خلاف محوريّة، لكن ما يعنينا فيه، هو دخول حركاتٍ ودولٍ إسلاميّة في المواجهة، هذه المواجهة التي أعطيت عنواناً مذهبيّاً، وكأنّه صراعٌ سُنّي شيعي، وحاول كثيرون من المتطرّفين إقحام بعض الأدبيات والمفردات التاريخية، فبات لدى هؤلاء أنّ الشيعة «رافضة»، والسنّة «نواصب»، وربّما استعاد المخيال شيئاً من الصّراع الصفوي العثماني، مع دخول الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتركيا على خطّ الصراع؛ وبدأت ترتفع الأصوات المنادية بالخلافة الإسلاميّة، وبعضهم جعلها خلافة راشدة سادسة.
في مصر، دخل الإخوان المسلمون في واجهة الحكم ليخسروها بعد ذلك، بما أوحى بفشل «الإسلاميّين» في مسألة الحكم، ولتبرِز في هذه التجربة مشكلة الاعتراف بالعدوّ الصهيوني ومراسلته وحصار غزّة كواحد من الاختبارات القاسية تجاه القضايا الكبرى.
برز في «الربيع» أيضاً اختلاف المعايير؛ فكان مسموحاً عربياً ودولياً في دولٍ، وممنوعاً في دولٍ أخرى، حتّى أُخرجت سوريا من جامعة الدول العربيّة، وشُنّت حروبٌ عربيّة على دولٍ عربيّة، كاليمن، ودخلت كثير من الدول في التطبيع مع العدوّ، في ظلّ استفحال العداوة مع إيران، ليُعلن في نهاية العام 2017 ما سمّي بـ«صفقة القرن»، التي تنهي قضيّة فلسطين تماماً، وتنفتح معها قضايا التوطين في أكثر من بلدٍ عربي، والتي شكّلت مشكلة وجوديّة وإشكاليّة كيانية للكثير منها، فضلاً عن القضية المركزيّة نفسها.
بمعزلٍ عن أيّ جدلٍ حول ما جرى، ولكنّنا نستطيع أن نستدعي في حركة «السيد» عدّة قضايا شكّلت هواجس ومشاريع في آنٍ معاً، كان يرى أنّه يجب العمل عليها قبل وقوع الواقعة، مع تصريحه بالتّشاؤم من المستقبل في آخر أيّام حياته.
1 ـ القضيّة المذهبيّة
الذي يراقب خطاب «السيّد»، منذ نعومة أظفاره في النّجف، يرى بوضوح كم كان مسكوناً بالمشروع الإسلامي الحضاري، والذي هو حكماً مسكونٌ بالوحدة الإسلاميّة، التي لا تعني تنازل أيّ فريق عن قناعاته، ولكن تعني الانطلاق من القواعد الإسلاميّة المشتركة، والهويّة الجامعة، وتأكيد القضايا التي يلتقي عليها المسلمون، وإدارة الاختلاف عبر الحوار على قاعدة الأخوّة الإسلامية.
بقيت قضية الوحدة الإسلامية قضية مركزيّة، على طول حركته، حتّى قال وهو على فراش المرض الأخير: «لقد كنت رائداً أو داعياً للوحدة الإسلامية منذ خمسين عاماً ولا أزال».
حدّد «السيد» كثيراً من القضايا التي عملت عليها أجهزة الفتنة، وشكّلت في العقل السنّي أو الشيعي العام نقاطاً حسّاسة، ولذلك عمل باكراً على عدّة صُعُد:
الأوّل: تصحيح علاقة المسلمين مع التاريخ الإسلامي؛ إذ التّاريخ، بكلّ ما يحمله من صراعات، هو مسؤوليّة الذين صنعوه، وليس مسؤوليّتنا، فلا ينبغي أن يشكّل قاعدة للصّراع المعاصر؛ بل إنّ هذا لونٌ من ألوان التخلّف.
ومن جملة ذلك، أنّه جعل البحث التاريخي تجاه بعض الأحداث الإشكاليّة بين السنّة والشيعة، أمراً مفصولاً عن البحث العقدي؛ فمن الممكن للبحث التاريخي أن يصل إلى قناعة بعدم الاعتداء على السيّدة الزّهراء أثناء قمع المعارضة في بيت الإمام عليّ، من دون أن يتنازل قيد أنملة عن القضية العقدية في أحقّية الإمام عليّ بالخلافة ممّن تقدّموه، وذلك بالنصوص التي يحاجج فيها. كما لا مانع من الحديث عن معركة الجمل، بقيادة طلحة والزبير ومعهما السيدة عائشة، ضدّ الإمام علي، الخليفة المبايَع آنذاك، في الوقت الذي يحرم التعرّض لها بسوءٍ، حيث لكل قضيّة حسابها، ولا ينبغي الخلط بين القضايا على نحو ما تصنع الفئات المغالية.
ولكنَّ هذا الأمر، قد يكون موقعه البحث العلمي وحركة النخب الفكرية، وليس الأمر كذلك في ذهنية الجماهير التي تنشأ عادةً على ثقافة أكثر خلطاً بين الأمور، نتيجة ظروف تشكّل الجماعات، أو نتيجة ما تفرضه سياقات الصراعات التي تستغلّ فيها القضايا المذهبية لشدّ العصب وتسعير الأحقاد ضدّ الخصوم بكلّ ما يمكن. ولذلك كان العمل على الصعيد الثاني التالي.
الثاني: نزع الفتائل من الثقافة الشعبيَّة، والتي منها ثقافة السبّ واللّعن، التي لم تكن ثقافة إسلاميّة، بل ثقافة كرّسها حكّام الجور على امتداد التّاريخ الإسلامي، ولعلّ أوّل هؤلاء كان السياسة الأمويّة التي اتّبعها معاوية في تكريسه سبَّ الإمام عليّ على المنابر. لم يقتصر «السيد» على الفتاوى فقط، وإنّما عمل على إحاطة الفتوى بعناصرها الثقافيّة التي تغيّر ذهنيَّة الجماهير، وتطبع أخلاقيّتهم الإسلاميّة انطلاقاً من أصالة الأدبيات الشيعيّة، والتي لم ترضَ بأن تكون في أيّ موقع تفرقة بين المسلمين.
من الممكن للفتوى بتحريم سبّ الصحابة وأمّهات المؤمنين هنا أن تكون إعلاناً عن الموقف المبدئي، ولكنَّ الأهمّ في نزع الفتائل هو عمليّة تربية جديدة للجماهير، تعيد ربط الفتوى بالأدبيات الإسلامية القرآنية والنبوية والإمامية؛ لأنّ المطلوب هو إعادة تشكيل الذهنيّة، وتغيير أدبيات التعاطي، وهذه لا تتمّ بإعلان موقفٍ فقط.
الثالث: إعادة إنتاج العقل الإسلامي، واعتبار التسنّن والتشيّع ـ في المجال الإسلامي العام ـ وجهتَي نظر في فهم الإسلام، وأنّ قناعة أيّ طرفٍ بالإسلام ضمن وجهة معيَّنة لا تُلغي انتماء الآخر، وهذا ما يفتح على رؤية التسنّن والتشيّع ضمن المجال الإسلامي الذي لا بدّ أن يبقى متحرّكاً على أساس العقل المتحرّك، والذي يسمح بإعادة تشكيل القناعات لدى أيّ فريقٍ من خلال ما يطرحه الآخر، على قاعدة الحوار والبحث العلمي والموضوعي، وانطلاقاً من الأسس الاجتهادية التي يحتكم إليها الطرفان.
ولكنَّ هذا كلّه لا يمكن أن يتمّ إلّا على قاعدة فتح باب الاجتهاد وتطوير العلوم الإسلامية لدى الفريقين، السنّة والشيعة؛ لأنّ السنّة إذا كانوا قد ساروا عملياً على غلق باب الاجتهاد نظرياً وعملياً، فإنّ الجمود الذي قد يعانيه الفكر في المجال الشيعي، قد ينعكس غلقاً لباب الاجتهاد عملياً، وإن كان مفتوحاً نظرياً؛ ما يجعل الحاجة إلى التجديد حاجة ملحّة، وإن كانت في أحدهما أكثر تعقيداً من الآخر.
وإذا كان كلُّ ذلك قد فتح أمام «السيّد» مشكلة مع المجال الشيعي نفسه، ولم يكن ذلك في الحقيقة مسألة فكريّة بحتة، بقدر ما كانت مسألة تعقيدات جعلت «السيد» نقطة التقاء مصالح في ضرورة حذفه من الساحة، بدءاً من الجهات المغالية شيعياً التي أغلقت الهويّة الشيعية على العداء للآخر المذهبي، وهي فئات لا تمثّل الأغلبية بالمناسبة، مروراً بقضايا المرجعيّة وتعقيدات المنافسة فيها، وصولاً إلى أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية التي كانت لا ترتاح إلى هذا اللّون من الفكر الذي يعمل على تصحيح مسار الحالة المذهبيّة في الأمّة الإسلامية.
المشكلة هنا، أنّ العقل الإسلامي لم يتنبّه إلى الحالة المأزومة التي هو فيها، فانشغل الكثيرون في التصويب على «السيد» في المجال الشيعي، ورآها كثيرون في المجال السنّي فرصةً لتسجيل نقطة على الشيعة، من دون وعي أنّ على الطرفين أن يعيدا إنتاج الثقافة وآليّات الفكر بما يسمح بإعادة رسم العلاقة التي تمثّل غنًى للطرفين، بدلاً من حالة الصّراع التي دائماً ما تخضع للاستغلال السياسي من القوى المستكبرة أو التابعة لها.
قد نكتب أطروحة هنا ولا ينتهي القلم، ولكن ما نريد أن نخلص إليه، أنّ القضية المذهبية الحارّة، كانت تفترض العمل باكراً على نزع فتائلها، ولا سيما أنّ الأمّة كانت تختبر في لحظة اندحار العدوّ الصهيوني عن جنوب لبنان العام 2000 مشاعر إسلامية عارمة، كانت تحتاج إلى مواكبة ثقافية من هذا النّوع؛ لأنّنا نعرف أنّ الظرف الشعوري الذي يتجاوز الحالة المذهبيّة، هو أهمّ ظرفٍ يمكن أن تنزع فيه الكثير من عوالق التّاريخ وتراكمات الثقافة، بما يؤسّس لتمتين الذهنيّة والروحيّة الإسلاميّة في الأمّة، وللأسف لم يحصل ذلك حينها.
سنوات من الضخّ المذهبي عبر الإعلام والسياسة خلال السنوات اللاحقة، كانت كفيلة بالتنبّه إلى خطورة هذه الفتائل المتغلغلة في الثقافة الشعبيّة، بحيث كانت استعادة مفردة «روافض» كفيلة باستدعاء مفاهيم التكفير، ما استدعى شعور الكثيرين لتأكيد مبدأ نزع الفتائل، ولكنَّ الظّرف كان أبعدَ من ذلك، وما زلنا إلى الآن نعيش هذا اللّون من الاستغلال للثقافة الشعبية لبثّ الفتنة بين المسلمين.
2 ـ الحركات الإسلاميّة
السنوات التي أعقبت وفاة «السيّد» شهدت انقساماً في الحركة الإسلامية، والتي امتدّت آثارها إلى حركات المقاومة نفسها، في المجالين السنّي والشيعي، وهو في حدّ ذاته ضربةٌ قاسية لقضيّة فلسطين برمّتها، لو استمرّ.
وبمعزلٍ عن كلّ التقويم للموقف، وطبيعة تأثير التباين الّذي برز من الأزمة السوريّة بين الحركات الإسلاميّة على مجريات الأحداث لاحقاً، فإنّ واحدة من المشاكل التي برزت هي في رؤية الحركة الإسلاميّة لنفسها، كما في طبيعة العلاقة التي تربطها بالأنظمة السياسية (المصنّفة جائرة في الأدبيات الإسلامية)، فضلاً عن طبيعة المشروع الذي تحمله للأمّة الإسلاميّة.
في الوقت الذي كان يدعو «السيد» «إلى حركة إسلاميّة واحدة، يملك فيها الإسلاميون الحركيّون حريّة الاجتهاد، بالمستوى الذي لا يصل إلى الفوضى، وحرية المعارضة بالمستوى الذي لا يصل إلى الإخلال بوحدة الحركة وبسلامتها»، ولكنّه كان يرى أنّ الحالة المذهبيّة المنغلقة تمثّل مشكلة جوهريّة للحركة الإسلاميّة، ولذا نجده يقول: «إنّني أتصوّر أنّه لو انطلقت حركة الإخوان المسلمين بشكل مدروس معمّق منفتح على متغيّرات الواقع، وبعيدة عن روح المغامرة، فإنها يمكن أن تكون تجربة لحركة إسلاميّة عالميّة»، ولا سيّما مع القاعدة التي أطلقها مؤسّسها الشهيد حسن البنّا، الذي انفتح على التنوّع الإسلامي المذهبي، فاعتبره أمراً لا يمثّل سلبيّة كبيرة.
ثمّة تعقيدات واجهتها الحركة الإسلاميّة نتيجة تقسيم المنطقة، «حتّى تحوَّلت الإقليميّة إلى حالة من الحساسيّات المعقّدة التي ربّما يشعر فيها المنتمي إلى الحركة الإسلاميّة، إذا كان من إقليم معيّن، ببعض المشاكل تجاه بعض المواقع أو الأدوار عندما تعطى لجماعة من إقليم آخر»، وقد تفرض خصوصيَّات البلدان مشكلة إضافيَّة، لتشعر القيادة الإسلاميَّة باستقلالها عن القيادة هناك، «فإذا امتدَّت إحدى القيادتين إلى مواقع الأخرى، اصطدمت الأوضاع بطريقة غير متوازنة، من أجل الوقوف ضدّ هذا الامتداد، بحجّة أنّه يمثّل تدخّلاً في القضايا الداخليّة. ونتيجة ذلك، تتحوّل الأعمال الإسلاميّة إلى مؤسّسات وصيغ محدودة تؤكّد الفواصل ولا تقترب من خطّ الوحدة». (صراع الإرادات/ 49).
في كلّ الأحوال، و«في ظلّ عدم واقعيّة الحركة الإسلاميّة الواحدة بالمعنى العملي، أو على الأقلّ بالمعنى المرحلي، لا بدَّ أن نقوم بعمليّة تنسيق بين الحركات الإسلامية، بحيث يكون لدينا ميثاق إسلاميّ واحد، يضع التنوّعات في دائرتها الواقعيّة، من دون أن يعطيها دور الحدود التي تفصل بين موقع إسلامي وآخر، وينفتح على القضايا الكبرى المشتركة، لتستطيع أن تدعم القضايا التفصيليّة الخاصّة في هذا البلد أو ذاك»، وذلك «حتّى لا تتحوّل الحركات الإسلامية إلى مذاهب إسلامية حركية، تعقّد حياة المسلمين في المذهبيّة الحركيّة، كما عقّدتهم المذهبيّات في المذهبية الفقهية أو الكلامية أو ما إلى ذلك». (خطاب الإسلاميّين والمستقبل/ 184-185).
لعلّ واحداً من الأمور التي كان يجب أن تسلك طريقها إلى تنسيق الحركات الإسلاميّة باكراً، هو هذا النّوع من الواقعيّة الذي يعي جيّداً متغيّرات الواقع، ويبتعد عن روح المغامرة، في عالمٍ لا يملك الإسلاميّون كلّ خيوط اللّعبة، ولا سيّما في مرحلة ما بعد 11 أيلول، ووجود الاحتلال الأميركي المقنّع للمنطقة برمّتها، إضافةً إلى استمرار حصار إيران، والتّضييق على حركات المقاومة جميعاً، وبذلك لا يتحوَّل حُلم «الخلافة الإسلاميّة» إلى حركة مذهبيّة تستعيد تعقيدات التاريخ في لحظة من أشدّ اللّحظات تأزيماً على مستوى المنطقة والعالم. بل قد نستطيع القول هنا، إنّ لهذا التنسيق المبكر أن يعيد إنتاج الفكرة من جديد، لتكون تجربة إسلاميّة مختلفة عن تجارب الانقسام المذهبي، يتلاقى فيها الجناحان الإسلاميّان على مشروع تحرير المنطقة كلّها من الاحتلال المباشر وغير المباشر، وبذلك تتهاوى كلّ الأنظمة المرتبطة بهذا الاحتلال، أو التي كان استمرارها لمنع الشعوب أن تتحرّك ضدّه.
ينتقد «السيد» بوضوح فكرة المرحليّة التي أسّست لها بعض الحركات الإسلاميّة، كـ«الإخوان»، (الدعوة والتّربية، إيجاد البدائل، التمكّن من السلطة)، والتي ألقت بظلالها على العقد الأخير من الأحداث، فيقول: «إنّني لا أتصوَّر أنَّ هناك خطوطاً هندسيّة مربوطة يمكن أن تفصل مرحلة عن مرحلة، ولا سيَّما أمام التحدّيات الكبرى التي يقوم بها الكفر العالميّ، ومعه الاستكبار العالميّ، ليرصد أيّ حركة إسلاميَّة رائدة تعمل على تجميع طاقات العالم الإسلامي في دولة واحدة، أو دول متّحدة، بما يعطّل فرص الاستكبار العالمي للوصول إلى ما يريد من أهداف. إنّني أعتقد أنَّ الاستكبار العالمي لا يسمح للإسلاميّين بأن يستكملوا مراحلهم بشكل هادئ وعقلاني، ولا سيّما عندما يطّلعون على مسألة المرحليّة في أدبيات الحركات الإسلامية». (خطاب الإسلاميّين والمستقبل/ 191).
ونختم هذه القضيّة بالدعوة التي يسجّلها (السيد) للحركات الإسلاميّة في ضرورة التكامل بين النموذج القيمي العامّ بطبيعته، وبين البرنامج العملي، ويحدّد أنَّ «مشكلة الكثيرين من الحركيّين الإسلاميّين، أنَّ بعضهم استغرق في المسألة القيميّة حتّى نسي الواقع، وبعضهم استغرق في المسألة الواقعيّة حتى نسي القيمة، وبذلك لم ينجح هؤلاء في الوصول إلى النّتائج الكبيرة»، وهذا ما يفرض ـ في نظر «السيِّد» ـ حاجة النموذج القيمي إلى «إعادة نظر في توثيق المفاهيم، حتى لا تختلط المفاهيم من خلال مصادرها أو الاجتهادات في فهمها وفي وعيها»، وهو ما يحتاج إلى «الكثير الكثير من الجهد العلمي والفكري، من أجل أن ننظّف الساحة الفكريّة والقيميّة الإسلاميّة من كثير ممّا فرضته علينا حركة الوضّاعين الكذّابين وحركة التخلّف في فهم المضمون الإسلامي» (خطاب الإسلاميّين/ 197).
هذا كلّه يشير إلى تشابك الحركة الثقافيّة للحركة الإسلاميّة مع الحركة السياسيّة والجهاديّة، بحيث لا يمكن التّركيز على جانبٍ دون آخر، بل إنَّ الجوانب جميعاً لا بدَّ أن تتحرَّك بالزّخم نفسه، والعزم ذاته، في سبيل سدّ الثّغرات التي يمكن أن يلتفّ من خلالها الأعداء على التجربة الإسلاميّة هنا وهناك.
يشير «السيّد» باكراً إلى التّعقيدات التي تحكم مستقبل الحركات الإسلاميَّة، والتي يرتبط بعضها بإشكاليَّة الصِّراع بين منطق الدولة ومنطق الثَّورة، لدى الحركات الإسلاميّة التي وصلت إلى الحكم، والتي يرتبط بعضها بالحرب التي تشنّها الأنظمة عليها، والتّعقيدات التي تحكمها مع الأحزاب والتيارات الأخرى، ويرى «السيد» أنَّ «هناك خطة دوليّة، أميركيّة بالذات، تعمل على أساس أن تضرب الحركات الإسلاميّة بيد مسلمة، من خلال توكيل هذه الأنظمة بإضعافها أو القضاء عليها، حتَّى لا تثير الحساسيّات الإسلاميَّة في العالم الإسلامي، عندما تبادر دولة كبرى بأجهزتها لضرب هذه الحركة أو تلك». (خطاب الإسلاميّين/ 208).
3 ـ إيران والدول العربيّة والإسلاميّة الأخرى
بالنسبة إلى السيّد، إيران هي حركة إسلاميّة تعبّر عن نفسها في أسلوب الدّولة، وعبر تسلّم الحكم، وبالتّالي، تشكّل طموحاً يسعى الإسلاميّون الحركيّون لإنجاحه وحمايته.
كان «السيد» يرى بوضوح أنَّ هذه التجربة من الممنوعات الاستكبارية، سواء في نجاحها الذاتي أو في تأثيرها في المحيط، في العدوى الحضارية التي يمكن أن تنقل التجربة إلى مجالٍ آخر.
وفي حين يتطرّق «السيد» إلى الظروف السياسية التي ساهمت في نجاح الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني، حيث بدأت أميركا «تعدّ العدّ العكسي للشاه؛ لأنّه راح ينتفخ أكثر ممّا كانت تريد له أميركا، حيث بدأ يفكّر في سوق اقتصاديّة آسيويّة، وفي بعض المشاريع التي لا تلتقي مع خطوط السياسة الأميركية في المنطقة»، وكذلك في الذهنيّة التي كانت تعيشها أميركا في نظرتها إلى حركة رجال الدّين (الملالي) الذين «لا يلبثون حتّى يُعطوا الحكم للعلمانيّين أو السياسيّين بالاشتراك مع المتديّنين، كما هي الحال في باكستان، وكانت تتصوّر أنّ بإمكانها احتواء الثّورة»، إضافةً إلى تفكيرها في «تجديد بعض الأنظمة عندما تستنفد مهمّاتها وأدوارها»، ولكنّها ـ كما يرى «السيد» ـ «أخطأت الحساب؛ لأنّها أخطأت فهم شخصية الإمام الخميني، وأخطأت فهم حركة الشعب الإيراني مع الإمام الخميني»، هذا كلّه إضافةً إلى «العناصر الغيبية» في نجاح الثّورة، وهي «كبيرة وكثيرة جداً»، كما يقول. (الفقيه والأمّة/ 185-186).
يقول (السيد): «يمكن القول باطمئنان، إنّ الإنجاز الكبير الذي حقّقه الإمام الخميني في مستوى الدعوة، هو أنّه استطاع أن يصدم العالم كلّه بالإسلام، وأن يُدخل الإسلام إلى كلّ عقلٍ وقلبٍ، وأن يجعله شيئاً علميّاً وعمليّاً، في الوقت الذي كان الإسلام يعيش الانكماش في الواقع السياسي والثقافي في العالم»، إضافةً إلى «نجاحه في تأسيس الدولة الإسلاميّة، وتحريك الواقع الإسلامي في خطّ الوعي والصحوة الإسلامية، بحيث إنَّ الحركة الإسلاميّة كانت مجرّد سَواقٍ هنا وهناك، نجح في أن يجعلها كالنهر الذي يمتدّ في أكثر من موقع إسلامي في العالم». (الفقيه والأمّة/ 187).
هذا ما كان يشغل بال «السيِّد» الإسلامي الحركي، وهو الّذي شارك في بناء الحركة الإسلاميّة وإعدادها في العراق منذ الخمسينات مع زميله الشّهيد السيّد محمد باقر الصدر، ولذلك التقى مع التجربة الإسلاميّة في إيران، انطلاقاً من مسؤوليّة الإسلام الحركي، حتّى إنّه كان يقول: «إني أدافع عن أخطاء إيران»، عندما تكون في مواجهة المؤامرات الخارجيّة، في الوقت الذي كان يشارك بقوّة في التنظير لها وحمايتها، من موقعه الذي يطلّ به على أكثر من موقع. وحتّى عندما صدرت بعض الأصوات، أو تماهت بعض الأجهزة مع الحركة التي طاولت موقعه المرجعي، فإنّه بقي يفصل بين هذا الجانب وبين مسؤوليّته عن حماية التجربة الإسلامية من داخلها وخارجها.
طبعاً، كان واضحاً لدى «السيّد» أنّ مشكلة الغرب المستكبر مع الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية لم تكن عسكرية، بل حضارية، ولذلك رأى ـ هذا الغرب ـ منذ البداية في المشروع النّووي مشكلة في الجانب العلمي لا العسكري، وكذلك في الجوانب الأخرى الّتي تدعم فيها إيران حركات المقاومة والتحرّر ضدّ الاحتلال في أكثر من موقع.
كان السيّد يؤكّد على المقاومة كمشروع عابر للمذاهب والطوائف، مع تأكيده الإمكانيّة الفكرية للتنظير له
وفي الوقت الذي كان «السيّد» داعماً لهذه التجربة الإسلاميّة التي يراها جزءاً من طموح مشروعه الحركي الإسلامي، كان معنيّاً بأيّ تجربة إسلاميّة أخرى، ولذلك تعاطف مع التجربة الإسلاميّة في السودان، التي كانت تجربة حكم، وإن لم تتحرّك على قاعدة الثّورة الشعبيّة، بل الانقلاب، وهو ما أكسبها تعقيدات اختلفت عن الثورة الإسلاميّة في إيران؛ وكذلك في الجزائر في البدايات، وأفغانستان وباكستان، وذلك بعيداً من الجانب المذهبي الذي يطبع انتماء هذه الحركة أو تلك.
في النهاية، من الواضح لديه أنّ مشكلة المنطقة لم تكن إيران، بقدر ما هي الغرب الاستبكاري، وفي مقدّمه الولايات المتحدة الأميركية، وكان يرى في الاحتلال المقنّع، عبر القواعد العسكرية المنتشرة فيها، جزءاً من خدمة المشروع الاستعماري المستمرّ في تفتيت المنطقة ومنع أيّ وحدة فيها، لا وحدة عربيّة ولا إسلاميّة، إضافةً إلى تكريس التفوّق الصهيوني واحتلاله لفلسطين.
بالنّسبة إلى «السيد»، فإنّ «العالم المستكبر يتحدّث باستمرار عن خطر الإسلام، لا خطره في الكتب، بل في وعي الأمّة المسلمة، وقد قام لأجل درء هذا الخطر بمحاصرة كلّ المواقع الاقتصاديّة للمسلمين، سواء كانت طرقاً بحريّة أو بريّة أو جويّة تؤدّي إلى زيادة ثروات المسلمين، إضافةً إلى العمل لاحتواء حريّة القرار عند المسلمين، بحيث تُفرض الضّغوط على هذا البلد أو ذاك، أو على هذا القائد الإسلامي أو ذاك، وما إلى ذلك». (إرادة القوّة/ 359).
4 ـ فلسطين القضيّة المركزيّة
أحاديث «السيّد» وخطبه ملأى بالحديث عن فلسطين، ومن الصعب أن تحتويها مقالة ولو اختصاراً، ولكنَّنا نشير إلى عدّة قواعد أساسيّة:
أوّلاً: «إنّ إسرائيل مشروع أميركي وأوروبي صنعته السياسيات الأميركية والأوروبية لتحقيق الأهداف الخاصّة بها، ولذلك فإنّهم غير مستعدّين أن يضعفوا مشروعهم، بل على العكس؛ فإنّ هذا المشروع لا يتحقّق إلا إذا أضعف العرب في الحاضر والمستقبل، ولا سيّما بعدما أمسك هؤلاء بأزمّة كلّ مواقع الاقتصاد العربي البترولي وغير البترولي...». (إرادة القوة/ 97-98).
ثانياً: ماهيّة القضيّة؛ يقول «السيد»: «إنّ رفضنا لهذا النوع من السلام والسياسة الأميركيّة، ينطلق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّه ليس هناك منكر أكبر من أن تسلَّم أرض العرب وأرض المسلمين إلى اليهود على أساس أنّهم أصحابها تحت ضغط القوَّة! ما الذي يؤمّننا غداً بأن يأتي شعبٌ آخر يدّعي أنّ لبنان له؟!... إذا كان الأمر الواقع هو الّذي يبرّر عناوين السياسة، فإنّ الذين يملكون قوّة الأمر الواقع سوف يلاحقون كلّ شعبٍ، وكلّ حرٍّ، ليفرضوا عليه هذا الأمر الواقع، وليقولوا له كن مع قضايا السّلام». (إرادة القوّة / 377).
إنّ هذا المنطق يُخرج قضيّة فلسطين من كونها قضية سياسية ويجعلها قضيّة مبدئيّة، مرتبطة بالقواعد الإيمانيّة للإنسان المسلم، الذي هو مسؤولٌ عن رفض المنكر، كما يصلّي ويمتنع عن شرب الخمر؛ بل ينقلها إلى قضيّة نظام عالمي، حيث هل سيبتني على أنّ القوّة تصنع الشرعيّة؛ أو أنّ هناك مضموناً للشرعيّة يحكم القوّة، وبالتالي، قد يكون إلى جانب الضعيف ضدّ القوي؛ لأنّ الشرعيّة في صفّ الأوّل دون الثاني؟!
على أساس ذلك، لا تعود قضيّة عودة المهجّرين الفلسطينيّين ورفض التوطين، قضيّة ديمغرافيا، بقدر ما هي قضيّة مبدأ ومنظومة قيم ونظام يحكم حركة السياسة والصّراع، ويرتبط بمصلحة كلّ بلدان المنطقة، مهما اختلفت مواقعها، وبكلّ الجماعات مهما تنوّعت أديانهم ومذاهبهم؛ لأنّ المنطق عندما يكرّس في موقع، فإنّه ينسحب على كلّ المواقع عندما تتبدّل الظروف والأوضاع.
ثالثاً: «إنّ حالة الإذلال والقهر والضّعف العربي منطلقة من الولايات المتحدة الأميركيّة، وقد بدأت بوادر الضعف هذه بتنازل السّادات، وهذا ما تمّ مع هنري كيسنجر الذي علّق على الاتفاق الفلسطيني ـ الإسرائيلي في آخر تصريحٍ له بالقول: إنّ السّبب في نجاح هذا الاتفاق، هو أنَّ منظَّمة التحرير وصلت إلى مرحلة من أدنى مراحل الضّعف. ومعنى ذلك، أنَّ التوصّل إلى اتفاق كان نتيجة الضّعف، واتفاق القويّ مع الضّعيف».
وعلى أساس ذلك، يجب العمل على تعزيز عناصر القوّة في المنطقة، والدعوة الدائمة إلى الوحدة والتكامل؛ ويبدو «السيد» هنا مراهناً على الشعوب بالدرجة الأولى. يقول «السيد»: «حافظوا على بذور الحرية وأبقوها في أعماق إنسانيّتكم وإيمانكم؛ لأنّ البذور تبقى في الأرض سنيناً {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}، فلماذا نقتل بذور الحريّة في عقولنا وقلوبنا؟! لماذا يفكر اليهود بحرّيتهم ولا نفكّر بحرّيتنا؟! لماذا يفكّر اليهود بيهوديّتهم ولا نفكّر بإسلامنا؟! لماذا يهرب الكثيرون من إسلامهم ويقف اليهودي أمام العالم ليعلن: أنا يهودي! ويحني العالم رأسه لليهودية! أمّا المسلمون، فقد أقنعوا الكثيرين منا بأنّ هناك إسلاماً أصولياً متطرّفاً ومتعصّباً، كلّ مسلم يرفع رأسه أو يقف في خطّ الحريّة فهو أصوليّ ومتطرّف! إذاً أيّ مسلم تريدون؟! المسلم الّذي يكون موظَّفاً في بلاطات أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة، ليصدر لهم في كلّ يومٍ فتوى تبرّر ظلمهم؟! الذي يقفُ أمام الاستكبار العالمي ليحني رأسه هو إسلام واقعيّ معتدل مهذّب؟!».
رابعاً: تتحوّل هنا مسألة المقاومة كقوّة للتحرير إلى قضيّة مبدئيّة تفرضها طبيعة القضية، وطبيعة المشروع الاستكباري؛ يقول «السيّد»: «قيمة المقاومة في لبنان والانتفاضة في فلسطين، أنّهما تجعلان الإنسان العربي المسلم يحترم نفسه، بحيث يشعر بأنّه لم يسقط أمام عنفوان الاستكبار الإسرائيلي، فلم يعطِ بيده إعطاء الذليل... يجب علينا أن نفكّر كأمّة لا كأفراد؛ لأنّ الفرد لا يستطيع أن يحقّق لنفسه الحماية والاكتفاء، إلّا من خلال ما تحقّقه الأمّة من أمن واكتفاء ذاتي على مستوى الاقتصاد.
لقد فكّر اليهود كأمّة، وعلينا أن نفكّر كأمّة إسلاميّة، وإذا أراد المسيحيون أن يشاركوا في مواجهة إسرائيل، فنقول: علينا أن نفكّر كأمّة إسلامية ـ مسيحية، كأمّة رسالية تنطلق من نقطتين أساسيّتين: ألّا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله... فلننطلق معاً في مواجهة الاستكبار والكفر والشرك».
«السيّد» هنا يؤكّد على المقاومة كمشروع عابر للمذاهب والطوائف، مع تأكيده الإمكانيّة الفكرية للتنظير له، وهذا هو الذي يثبّت قواعد المشروع في وجدان الأجيال، جيلاً بعد جيل.
خامساً: الرّهان في القضية عند «السيّد» على الشعوب. يقول: «يجب علينا أن نعيش كأمّة، حتى لو حدث صلح بين الحكومات العربيّة وإسرائيل، ولا نقول بين العرب وإسرائيل؛ لأنَّ الشعوب لا تعترف بهذا الصّلح، انطلاقاً من التزامها بدينها». ويرى «السيد» أنّ المشكلة هي «أنّ بعض العرب الذين صالحوا إسرائيل منذ زمنٍ يتبنّون المنطق الإسرائيلي، ويحاولون أن يضغطوا على الفلسطينيّين ليقدّموا التنازلات، بدلاً من العكس؛ وأنّ إسرائيل لا يمكن أن تعطي الفلسطينيين أيّ موقع، أو أن تقدّم لهم أيّ تنازلٍ يمكن أن يتنفّس من خلاله حلمهم بالدولة المستقلّة» (إرادة القوّة/ 459).
والأهمّ في ذلك، أن لا تموت القضيّة في ذهن الشعوب وذاكرتها وثقافتها ومشاعرها: «علينا أن نختزن من الآن كلّ رصاصة إسرائيليّة تقتل لنا طفلاً، وكلّ عدوانٍ إسرائيليّ يقتل لنا امرأة أو شيخاً...» (إرادة القوة/ 351).
كان الأهمّ عند السيّد، أن لا تموت القضيّة الفلسطينيّة في ذهن الشعوب وذاكرتها وثقافتها ومشاعرها
أخيراً، قد لا تكون هذه العناوين القليلة التي أثرناها كافية لما يجب أن نعالجه، فهناك الكثير الكثير من العناوين التي نحتاج إلى مقاربتها بعمقٍ أكثر، وبإحاطة أكبر بالنّتاج على امتداد تاريخ خطاب «السيّد»؛ ولكنّني حاولتُ على أعتاب الذّكرى، أن أفتح نافذة على نتاج أكثر الشخصيّات خطابةً وكتابةً ومواكبةً لأحداث المنطقة والعالم، في أكثر المراحل حساسيّة وتحوّلاً.
أختم بدعوةٍ صادقةٍ إلى الباحثين لقراءة فكر هذا الرّجل، بكلّ انفتاح ونقدٍ، وأزعم أنّ كثيراً من الأفكار قد تشكّل جسر عبورٍ لنا في العديد من مشاكلنا في أكثر من صعيد.
*المصدر: جريدة الأخبار، نشرت بتاريخ: 3 تموز 2020.
في الرابع من تموز/ يوليو 2010، رحل عن هذه الدّنيا محمد حسين فضل الله. بعده، انفجرت المنطقة على صراعاتٍ لم تضع أوزارها حتّى لحظة كتابة هذه السّطور؛ هذه المرحلة التي ستشكّل بالنّسبة إلى هذه المقالة نقطة البداية، رجوعاً إلى الوراء لتلمّس القضايا التي شكّلت جدلًا في حركة «السيّد».
ليس الغرض من ذلك هو إثبات استشرافيّة «السيّد» للمرحلة كلونٍ من التبجيل، ولكن لاعتقادنا أنّ الوقوف على طبيعة النتاج ـ بقراءة مستجدّة ـ يمكن أن يحدّد الثوابت الأساسيّة، في الوقت الذي يمكن أن يشكّل جسر عبورٍ لتجاوز أزمات المرحلة إذا ما خلصت النيّات.
لم يكد يمضي على الرحيل عامٌ، حتّى تحرّك ما سمّي بـ«الربيع العربي»، والذي شكّل نقطة خلاف محوريّة، لكن ما يعنينا فيه، هو دخول حركاتٍ ودولٍ إسلاميّة في المواجهة، هذه المواجهة التي أعطيت عنواناً مذهبيّاً، وكأنّه صراعٌ سُنّي شيعي، وحاول كثيرون من المتطرّفين إقحام بعض الأدبيات والمفردات التاريخية، فبات لدى هؤلاء أنّ الشيعة «رافضة»، والسنّة «نواصب»، وربّما استعاد المخيال شيئاً من الصّراع الصفوي العثماني، مع دخول الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتركيا على خطّ الصراع؛ وبدأت ترتفع الأصوات المنادية بالخلافة الإسلاميّة، وبعضهم جعلها خلافة راشدة سادسة.
في مصر، دخل الإخوان المسلمون في واجهة الحكم ليخسروها بعد ذلك، بما أوحى بفشل «الإسلاميّين» في مسألة الحكم، ولتبرِز في هذه التجربة مشكلة الاعتراف بالعدوّ الصهيوني ومراسلته وحصار غزّة كواحد من الاختبارات القاسية تجاه القضايا الكبرى.
برز في «الربيع» أيضاً اختلاف المعايير؛ فكان مسموحاً عربياً ودولياً في دولٍ، وممنوعاً في دولٍ أخرى، حتّى أُخرجت سوريا من جامعة الدول العربيّة، وشُنّت حروبٌ عربيّة على دولٍ عربيّة، كاليمن، ودخلت كثير من الدول في التطبيع مع العدوّ، في ظلّ استفحال العداوة مع إيران، ليُعلن في نهاية العام 2017 ما سمّي بـ«صفقة القرن»، التي تنهي قضيّة فلسطين تماماً، وتنفتح معها قضايا التوطين في أكثر من بلدٍ عربي، والتي شكّلت مشكلة وجوديّة وإشكاليّة كيانية للكثير منها، فضلاً عن القضية المركزيّة نفسها.
بمعزلٍ عن أيّ جدلٍ حول ما جرى، ولكنّنا نستطيع أن نستدعي في حركة «السيد» عدّة قضايا شكّلت هواجس ومشاريع في آنٍ معاً، كان يرى أنّه يجب العمل عليها قبل وقوع الواقعة، مع تصريحه بالتّشاؤم من المستقبل في آخر أيّام حياته.
1 ـ القضيّة المذهبيّة
الذي يراقب خطاب «السيّد»، منذ نعومة أظفاره في النّجف، يرى بوضوح كم كان مسكوناً بالمشروع الإسلامي الحضاري، والذي هو حكماً مسكونٌ بالوحدة الإسلاميّة، التي لا تعني تنازل أيّ فريق عن قناعاته، ولكن تعني الانطلاق من القواعد الإسلاميّة المشتركة، والهويّة الجامعة، وتأكيد القضايا التي يلتقي عليها المسلمون، وإدارة الاختلاف عبر الحوار على قاعدة الأخوّة الإسلامية.
بقيت قضية الوحدة الإسلامية قضية مركزيّة، على طول حركته، حتّى قال وهو على فراش المرض الأخير: «لقد كنت رائداً أو داعياً للوحدة الإسلامية منذ خمسين عاماً ولا أزال».
حدّد «السيد» كثيراً من القضايا التي عملت عليها أجهزة الفتنة، وشكّلت في العقل السنّي أو الشيعي العام نقاطاً حسّاسة، ولذلك عمل باكراً على عدّة صُعُد:
الأوّل: تصحيح علاقة المسلمين مع التاريخ الإسلامي؛ إذ التّاريخ، بكلّ ما يحمله من صراعات، هو مسؤوليّة الذين صنعوه، وليس مسؤوليّتنا، فلا ينبغي أن يشكّل قاعدة للصّراع المعاصر؛ بل إنّ هذا لونٌ من ألوان التخلّف.
ومن جملة ذلك، أنّه جعل البحث التاريخي تجاه بعض الأحداث الإشكاليّة بين السنّة والشيعة، أمراً مفصولاً عن البحث العقدي؛ فمن الممكن للبحث التاريخي أن يصل إلى قناعة بعدم الاعتداء على السيّدة الزّهراء أثناء قمع المعارضة في بيت الإمام عليّ، من دون أن يتنازل قيد أنملة عن القضية العقدية في أحقّية الإمام عليّ بالخلافة ممّن تقدّموه، وذلك بالنصوص التي يحاجج فيها. كما لا مانع من الحديث عن معركة الجمل، بقيادة طلحة والزبير ومعهما السيدة عائشة، ضدّ الإمام علي، الخليفة المبايَع آنذاك، في الوقت الذي يحرم التعرّض لها بسوءٍ، حيث لكل قضيّة حسابها، ولا ينبغي الخلط بين القضايا على نحو ما تصنع الفئات المغالية.
ولكنَّ هذا الأمر، قد يكون موقعه البحث العلمي وحركة النخب الفكرية، وليس الأمر كذلك في ذهنية الجماهير التي تنشأ عادةً على ثقافة أكثر خلطاً بين الأمور، نتيجة ظروف تشكّل الجماعات، أو نتيجة ما تفرضه سياقات الصراعات التي تستغلّ فيها القضايا المذهبية لشدّ العصب وتسعير الأحقاد ضدّ الخصوم بكلّ ما يمكن. ولذلك كان العمل على الصعيد الثاني التالي.
الثاني: نزع الفتائل من الثقافة الشعبيَّة، والتي منها ثقافة السبّ واللّعن، التي لم تكن ثقافة إسلاميّة، بل ثقافة كرّسها حكّام الجور على امتداد التّاريخ الإسلامي، ولعلّ أوّل هؤلاء كان السياسة الأمويّة التي اتّبعها معاوية في تكريسه سبَّ الإمام عليّ على المنابر. لم يقتصر «السيد» على الفتاوى فقط، وإنّما عمل على إحاطة الفتوى بعناصرها الثقافيّة التي تغيّر ذهنيَّة الجماهير، وتطبع أخلاقيّتهم الإسلاميّة انطلاقاً من أصالة الأدبيات الشيعيّة، والتي لم ترضَ بأن تكون في أيّ موقع تفرقة بين المسلمين.
من الممكن للفتوى بتحريم سبّ الصحابة وأمّهات المؤمنين هنا أن تكون إعلاناً عن الموقف المبدئي، ولكنَّ الأهمّ في نزع الفتائل هو عمليّة تربية جديدة للجماهير، تعيد ربط الفتوى بالأدبيات الإسلامية القرآنية والنبوية والإمامية؛ لأنّ المطلوب هو إعادة تشكيل الذهنيّة، وتغيير أدبيات التعاطي، وهذه لا تتمّ بإعلان موقفٍ فقط.
الثالث: إعادة إنتاج العقل الإسلامي، واعتبار التسنّن والتشيّع ـ في المجال الإسلامي العام ـ وجهتَي نظر في فهم الإسلام، وأنّ قناعة أيّ طرفٍ بالإسلام ضمن وجهة معيَّنة لا تُلغي انتماء الآخر، وهذا ما يفتح على رؤية التسنّن والتشيّع ضمن المجال الإسلامي الذي لا بدّ أن يبقى متحرّكاً على أساس العقل المتحرّك، والذي يسمح بإعادة تشكيل القناعات لدى أيّ فريقٍ من خلال ما يطرحه الآخر، على قاعدة الحوار والبحث العلمي والموضوعي، وانطلاقاً من الأسس الاجتهادية التي يحتكم إليها الطرفان.
ولكنَّ هذا كلّه لا يمكن أن يتمّ إلّا على قاعدة فتح باب الاجتهاد وتطوير العلوم الإسلامية لدى الفريقين، السنّة والشيعة؛ لأنّ السنّة إذا كانوا قد ساروا عملياً على غلق باب الاجتهاد نظرياً وعملياً، فإنّ الجمود الذي قد يعانيه الفكر في المجال الشيعي، قد ينعكس غلقاً لباب الاجتهاد عملياً، وإن كان مفتوحاً نظرياً؛ ما يجعل الحاجة إلى التجديد حاجة ملحّة، وإن كانت في أحدهما أكثر تعقيداً من الآخر.
وإذا كان كلُّ ذلك قد فتح أمام «السيّد» مشكلة مع المجال الشيعي نفسه، ولم يكن ذلك في الحقيقة مسألة فكريّة بحتة، بقدر ما كانت مسألة تعقيدات جعلت «السيد» نقطة التقاء مصالح في ضرورة حذفه من الساحة، بدءاً من الجهات المغالية شيعياً التي أغلقت الهويّة الشيعية على العداء للآخر المذهبي، وهي فئات لا تمثّل الأغلبية بالمناسبة، مروراً بقضايا المرجعيّة وتعقيدات المنافسة فيها، وصولاً إلى أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية التي كانت لا ترتاح إلى هذا اللّون من الفكر الذي يعمل على تصحيح مسار الحالة المذهبيّة في الأمّة الإسلامية.
المشكلة هنا، أنّ العقل الإسلامي لم يتنبّه إلى الحالة المأزومة التي هو فيها، فانشغل الكثيرون في التصويب على «السيد» في المجال الشيعي، ورآها كثيرون في المجال السنّي فرصةً لتسجيل نقطة على الشيعة، من دون وعي أنّ على الطرفين أن يعيدا إنتاج الثقافة وآليّات الفكر بما يسمح بإعادة رسم العلاقة التي تمثّل غنًى للطرفين، بدلاً من حالة الصّراع التي دائماً ما تخضع للاستغلال السياسي من القوى المستكبرة أو التابعة لها.
قد نكتب أطروحة هنا ولا ينتهي القلم، ولكن ما نريد أن نخلص إليه، أنّ القضية المذهبية الحارّة، كانت تفترض العمل باكراً على نزع فتائلها، ولا سيما أنّ الأمّة كانت تختبر في لحظة اندحار العدوّ الصهيوني عن جنوب لبنان العام 2000 مشاعر إسلامية عارمة، كانت تحتاج إلى مواكبة ثقافية من هذا النّوع؛ لأنّنا نعرف أنّ الظرف الشعوري الذي يتجاوز الحالة المذهبيّة، هو أهمّ ظرفٍ يمكن أن تنزع فيه الكثير من عوالق التّاريخ وتراكمات الثقافة، بما يؤسّس لتمتين الذهنيّة والروحيّة الإسلاميّة في الأمّة، وللأسف لم يحصل ذلك حينها.
سنوات من الضخّ المذهبي عبر الإعلام والسياسة خلال السنوات اللاحقة، كانت كفيلة بالتنبّه إلى خطورة هذه الفتائل المتغلغلة في الثقافة الشعبيّة، بحيث كانت استعادة مفردة «روافض» كفيلة باستدعاء مفاهيم التكفير، ما استدعى شعور الكثيرين لتأكيد مبدأ نزع الفتائل، ولكنَّ الظّرف كان أبعدَ من ذلك، وما زلنا إلى الآن نعيش هذا اللّون من الاستغلال للثقافة الشعبية لبثّ الفتنة بين المسلمين.
2 ـ الحركات الإسلاميّة
السنوات التي أعقبت وفاة «السيّد» شهدت انقساماً في الحركة الإسلامية، والتي امتدّت آثارها إلى حركات المقاومة نفسها، في المجالين السنّي والشيعي، وهو في حدّ ذاته ضربةٌ قاسية لقضيّة فلسطين برمّتها، لو استمرّ.
وبمعزلٍ عن كلّ التقويم للموقف، وطبيعة تأثير التباين الّذي برز من الأزمة السوريّة بين الحركات الإسلاميّة على مجريات الأحداث لاحقاً، فإنّ واحدة من المشاكل التي برزت هي في رؤية الحركة الإسلاميّة لنفسها، كما في طبيعة العلاقة التي تربطها بالأنظمة السياسية (المصنّفة جائرة في الأدبيات الإسلامية)، فضلاً عن طبيعة المشروع الذي تحمله للأمّة الإسلاميّة.
في الوقت الذي كان يدعو «السيد» «إلى حركة إسلاميّة واحدة، يملك فيها الإسلاميون الحركيّون حريّة الاجتهاد، بالمستوى الذي لا يصل إلى الفوضى، وحرية المعارضة بالمستوى الذي لا يصل إلى الإخلال بوحدة الحركة وبسلامتها»، ولكنّه كان يرى أنّ الحالة المذهبيّة المنغلقة تمثّل مشكلة جوهريّة للحركة الإسلاميّة، ولذا نجده يقول: «إنّني أتصوّر أنّه لو انطلقت حركة الإخوان المسلمين بشكل مدروس معمّق منفتح على متغيّرات الواقع، وبعيدة عن روح المغامرة، فإنها يمكن أن تكون تجربة لحركة إسلاميّة عالميّة»، ولا سيّما مع القاعدة التي أطلقها مؤسّسها الشهيد حسن البنّا، الذي انفتح على التنوّع الإسلامي المذهبي، فاعتبره أمراً لا يمثّل سلبيّة كبيرة.
ثمّة تعقيدات واجهتها الحركة الإسلاميّة نتيجة تقسيم المنطقة، «حتّى تحوَّلت الإقليميّة إلى حالة من الحساسيّات المعقّدة التي ربّما يشعر فيها المنتمي إلى الحركة الإسلاميّة، إذا كان من إقليم معيّن، ببعض المشاكل تجاه بعض المواقع أو الأدوار عندما تعطى لجماعة من إقليم آخر»، وقد تفرض خصوصيَّات البلدان مشكلة إضافيَّة، لتشعر القيادة الإسلاميَّة باستقلالها عن القيادة هناك، «فإذا امتدَّت إحدى القيادتين إلى مواقع الأخرى، اصطدمت الأوضاع بطريقة غير متوازنة، من أجل الوقوف ضدّ هذا الامتداد، بحجّة أنّه يمثّل تدخّلاً في القضايا الداخليّة. ونتيجة ذلك، تتحوّل الأعمال الإسلاميّة إلى مؤسّسات وصيغ محدودة تؤكّد الفواصل ولا تقترب من خطّ الوحدة». (صراع الإرادات/ 49).
في كلّ الأحوال، و«في ظلّ عدم واقعيّة الحركة الإسلاميّة الواحدة بالمعنى العملي، أو على الأقلّ بالمعنى المرحلي، لا بدَّ أن نقوم بعمليّة تنسيق بين الحركات الإسلامية، بحيث يكون لدينا ميثاق إسلاميّ واحد، يضع التنوّعات في دائرتها الواقعيّة، من دون أن يعطيها دور الحدود التي تفصل بين موقع إسلامي وآخر، وينفتح على القضايا الكبرى المشتركة، لتستطيع أن تدعم القضايا التفصيليّة الخاصّة في هذا البلد أو ذاك»، وذلك «حتّى لا تتحوّل الحركات الإسلامية إلى مذاهب إسلامية حركية، تعقّد حياة المسلمين في المذهبيّة الحركيّة، كما عقّدتهم المذهبيّات في المذهبية الفقهية أو الكلامية أو ما إلى ذلك». (خطاب الإسلاميّين والمستقبل/ 184-185).
لعلّ واحداً من الأمور التي كان يجب أن تسلك طريقها إلى تنسيق الحركات الإسلاميّة باكراً، هو هذا النّوع من الواقعيّة الذي يعي جيّداً متغيّرات الواقع، ويبتعد عن روح المغامرة، في عالمٍ لا يملك الإسلاميّون كلّ خيوط اللّعبة، ولا سيّما في مرحلة ما بعد 11 أيلول، ووجود الاحتلال الأميركي المقنّع للمنطقة برمّتها، إضافةً إلى استمرار حصار إيران، والتّضييق على حركات المقاومة جميعاً، وبذلك لا يتحوَّل حُلم «الخلافة الإسلاميّة» إلى حركة مذهبيّة تستعيد تعقيدات التاريخ في لحظة من أشدّ اللّحظات تأزيماً على مستوى المنطقة والعالم. بل قد نستطيع القول هنا، إنّ لهذا التنسيق المبكر أن يعيد إنتاج الفكرة من جديد، لتكون تجربة إسلاميّة مختلفة عن تجارب الانقسام المذهبي، يتلاقى فيها الجناحان الإسلاميّان على مشروع تحرير المنطقة كلّها من الاحتلال المباشر وغير المباشر، وبذلك تتهاوى كلّ الأنظمة المرتبطة بهذا الاحتلال، أو التي كان استمرارها لمنع الشعوب أن تتحرّك ضدّه.
ينتقد «السيد» بوضوح فكرة المرحليّة التي أسّست لها بعض الحركات الإسلاميّة، كـ«الإخوان»، (الدعوة والتّربية، إيجاد البدائل، التمكّن من السلطة)، والتي ألقت بظلالها على العقد الأخير من الأحداث، فيقول: «إنّني لا أتصوَّر أنَّ هناك خطوطاً هندسيّة مربوطة يمكن أن تفصل مرحلة عن مرحلة، ولا سيَّما أمام التحدّيات الكبرى التي يقوم بها الكفر العالميّ، ومعه الاستكبار العالميّ، ليرصد أيّ حركة إسلاميَّة رائدة تعمل على تجميع طاقات العالم الإسلامي في دولة واحدة، أو دول متّحدة، بما يعطّل فرص الاستكبار العالمي للوصول إلى ما يريد من أهداف. إنّني أعتقد أنَّ الاستكبار العالمي لا يسمح للإسلاميّين بأن يستكملوا مراحلهم بشكل هادئ وعقلاني، ولا سيّما عندما يطّلعون على مسألة المرحليّة في أدبيات الحركات الإسلامية». (خطاب الإسلاميّين والمستقبل/ 191).
ونختم هذه القضيّة بالدعوة التي يسجّلها (السيد) للحركات الإسلاميّة في ضرورة التكامل بين النموذج القيمي العامّ بطبيعته، وبين البرنامج العملي، ويحدّد أنَّ «مشكلة الكثيرين من الحركيّين الإسلاميّين، أنَّ بعضهم استغرق في المسألة القيميّة حتّى نسي الواقع، وبعضهم استغرق في المسألة الواقعيّة حتى نسي القيمة، وبذلك لم ينجح هؤلاء في الوصول إلى النّتائج الكبيرة»، وهذا ما يفرض ـ في نظر «السيِّد» ـ حاجة النموذج القيمي إلى «إعادة نظر في توثيق المفاهيم، حتى لا تختلط المفاهيم من خلال مصادرها أو الاجتهادات في فهمها وفي وعيها»، وهو ما يحتاج إلى «الكثير الكثير من الجهد العلمي والفكري، من أجل أن ننظّف الساحة الفكريّة والقيميّة الإسلاميّة من كثير ممّا فرضته علينا حركة الوضّاعين الكذّابين وحركة التخلّف في فهم المضمون الإسلامي» (خطاب الإسلاميّين/ 197).
هذا كلّه يشير إلى تشابك الحركة الثقافيّة للحركة الإسلاميّة مع الحركة السياسيّة والجهاديّة، بحيث لا يمكن التّركيز على جانبٍ دون آخر، بل إنَّ الجوانب جميعاً لا بدَّ أن تتحرَّك بالزّخم نفسه، والعزم ذاته، في سبيل سدّ الثّغرات التي يمكن أن يلتفّ من خلالها الأعداء على التجربة الإسلاميّة هنا وهناك.
يشير «السيّد» باكراً إلى التّعقيدات التي تحكم مستقبل الحركات الإسلاميَّة، والتي يرتبط بعضها بإشكاليَّة الصِّراع بين منطق الدولة ومنطق الثَّورة، لدى الحركات الإسلاميّة التي وصلت إلى الحكم، والتي يرتبط بعضها بالحرب التي تشنّها الأنظمة عليها، والتّعقيدات التي تحكمها مع الأحزاب والتيارات الأخرى، ويرى «السيد» أنَّ «هناك خطة دوليّة، أميركيّة بالذات، تعمل على أساس أن تضرب الحركات الإسلاميّة بيد مسلمة، من خلال توكيل هذه الأنظمة بإضعافها أو القضاء عليها، حتَّى لا تثير الحساسيّات الإسلاميَّة في العالم الإسلامي، عندما تبادر دولة كبرى بأجهزتها لضرب هذه الحركة أو تلك». (خطاب الإسلاميّين/ 208).
3 ـ إيران والدول العربيّة والإسلاميّة الأخرى
بالنسبة إلى السيّد، إيران هي حركة إسلاميّة تعبّر عن نفسها في أسلوب الدّولة، وعبر تسلّم الحكم، وبالتّالي، تشكّل طموحاً يسعى الإسلاميّون الحركيّون لإنجاحه وحمايته.
كان «السيد» يرى بوضوح أنَّ هذه التجربة من الممنوعات الاستكبارية، سواء في نجاحها الذاتي أو في تأثيرها في المحيط، في العدوى الحضارية التي يمكن أن تنقل التجربة إلى مجالٍ آخر.
وفي حين يتطرّق «السيد» إلى الظروف السياسية التي ساهمت في نجاح الثورة الإسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني، حيث بدأت أميركا «تعدّ العدّ العكسي للشاه؛ لأنّه راح ينتفخ أكثر ممّا كانت تريد له أميركا، حيث بدأ يفكّر في سوق اقتصاديّة آسيويّة، وفي بعض المشاريع التي لا تلتقي مع خطوط السياسة الأميركية في المنطقة»، وكذلك في الذهنيّة التي كانت تعيشها أميركا في نظرتها إلى حركة رجال الدّين (الملالي) الذين «لا يلبثون حتّى يُعطوا الحكم للعلمانيّين أو السياسيّين بالاشتراك مع المتديّنين، كما هي الحال في باكستان، وكانت تتصوّر أنّ بإمكانها احتواء الثّورة»، إضافةً إلى تفكيرها في «تجديد بعض الأنظمة عندما تستنفد مهمّاتها وأدوارها»، ولكنّها ـ كما يرى «السيد» ـ «أخطأت الحساب؛ لأنّها أخطأت فهم شخصية الإمام الخميني، وأخطأت فهم حركة الشعب الإيراني مع الإمام الخميني»، هذا كلّه إضافةً إلى «العناصر الغيبية» في نجاح الثّورة، وهي «كبيرة وكثيرة جداً»، كما يقول. (الفقيه والأمّة/ 185-186).
يقول (السيد): «يمكن القول باطمئنان، إنّ الإنجاز الكبير الذي حقّقه الإمام الخميني في مستوى الدعوة، هو أنّه استطاع أن يصدم العالم كلّه بالإسلام، وأن يُدخل الإسلام إلى كلّ عقلٍ وقلبٍ، وأن يجعله شيئاً علميّاً وعمليّاً، في الوقت الذي كان الإسلام يعيش الانكماش في الواقع السياسي والثقافي في العالم»، إضافةً إلى «نجاحه في تأسيس الدولة الإسلاميّة، وتحريك الواقع الإسلامي في خطّ الوعي والصحوة الإسلامية، بحيث إنَّ الحركة الإسلاميّة كانت مجرّد سَواقٍ هنا وهناك، نجح في أن يجعلها كالنهر الذي يمتدّ في أكثر من موقع إسلامي في العالم». (الفقيه والأمّة/ 187).
هذا ما كان يشغل بال «السيِّد» الإسلامي الحركي، وهو الّذي شارك في بناء الحركة الإسلاميّة وإعدادها في العراق منذ الخمسينات مع زميله الشّهيد السيّد محمد باقر الصدر، ولذلك التقى مع التجربة الإسلاميّة في إيران، انطلاقاً من مسؤوليّة الإسلام الحركي، حتّى إنّه كان يقول: «إني أدافع عن أخطاء إيران»، عندما تكون في مواجهة المؤامرات الخارجيّة، في الوقت الذي كان يشارك بقوّة في التنظير لها وحمايتها، من موقعه الذي يطلّ به على أكثر من موقع. وحتّى عندما صدرت بعض الأصوات، أو تماهت بعض الأجهزة مع الحركة التي طاولت موقعه المرجعي، فإنّه بقي يفصل بين هذا الجانب وبين مسؤوليّته عن حماية التجربة الإسلامية من داخلها وخارجها.
طبعاً، كان واضحاً لدى «السيّد» أنّ مشكلة الغرب المستكبر مع الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية لم تكن عسكرية، بل حضارية، ولذلك رأى ـ هذا الغرب ـ منذ البداية في المشروع النّووي مشكلة في الجانب العلمي لا العسكري، وكذلك في الجوانب الأخرى الّتي تدعم فيها إيران حركات المقاومة والتحرّر ضدّ الاحتلال في أكثر من موقع.
كان السيّد يؤكّد على المقاومة كمشروع عابر للمذاهب والطوائف، مع تأكيده الإمكانيّة الفكرية للتنظير له
وفي الوقت الذي كان «السيّد» داعماً لهذه التجربة الإسلاميّة التي يراها جزءاً من طموح مشروعه الحركي الإسلامي، كان معنيّاً بأيّ تجربة إسلاميّة أخرى، ولذلك تعاطف مع التجربة الإسلاميّة في السودان، التي كانت تجربة حكم، وإن لم تتحرّك على قاعدة الثّورة الشعبيّة، بل الانقلاب، وهو ما أكسبها تعقيدات اختلفت عن الثورة الإسلاميّة في إيران؛ وكذلك في الجزائر في البدايات، وأفغانستان وباكستان، وذلك بعيداً من الجانب المذهبي الذي يطبع انتماء هذه الحركة أو تلك.
في النهاية، من الواضح لديه أنّ مشكلة المنطقة لم تكن إيران، بقدر ما هي الغرب الاستبكاري، وفي مقدّمه الولايات المتحدة الأميركية، وكان يرى في الاحتلال المقنّع، عبر القواعد العسكرية المنتشرة فيها، جزءاً من خدمة المشروع الاستعماري المستمرّ في تفتيت المنطقة ومنع أيّ وحدة فيها، لا وحدة عربيّة ولا إسلاميّة، إضافةً إلى تكريس التفوّق الصهيوني واحتلاله لفلسطين.
بالنّسبة إلى «السيد»، فإنّ «العالم المستكبر يتحدّث باستمرار عن خطر الإسلام، لا خطره في الكتب، بل في وعي الأمّة المسلمة، وقد قام لأجل درء هذا الخطر بمحاصرة كلّ المواقع الاقتصاديّة للمسلمين، سواء كانت طرقاً بحريّة أو بريّة أو جويّة تؤدّي إلى زيادة ثروات المسلمين، إضافةً إلى العمل لاحتواء حريّة القرار عند المسلمين، بحيث تُفرض الضّغوط على هذا البلد أو ذاك، أو على هذا القائد الإسلامي أو ذاك، وما إلى ذلك». (إرادة القوّة/ 359).
4 ـ فلسطين القضيّة المركزيّة
أحاديث «السيّد» وخطبه ملأى بالحديث عن فلسطين، ومن الصعب أن تحتويها مقالة ولو اختصاراً، ولكنَّنا نشير إلى عدّة قواعد أساسيّة:
أوّلاً: «إنّ إسرائيل مشروع أميركي وأوروبي صنعته السياسيات الأميركية والأوروبية لتحقيق الأهداف الخاصّة بها، ولذلك فإنّهم غير مستعدّين أن يضعفوا مشروعهم، بل على العكس؛ فإنّ هذا المشروع لا يتحقّق إلا إذا أضعف العرب في الحاضر والمستقبل، ولا سيّما بعدما أمسك هؤلاء بأزمّة كلّ مواقع الاقتصاد العربي البترولي وغير البترولي...». (إرادة القوة/ 97-98).
ثانياً: ماهيّة القضيّة؛ يقول «السيد»: «إنّ رفضنا لهذا النوع من السلام والسياسة الأميركيّة، ينطلق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّه ليس هناك منكر أكبر من أن تسلَّم أرض العرب وأرض المسلمين إلى اليهود على أساس أنّهم أصحابها تحت ضغط القوَّة! ما الذي يؤمّننا غداً بأن يأتي شعبٌ آخر يدّعي أنّ لبنان له؟!... إذا كان الأمر الواقع هو الّذي يبرّر عناوين السياسة، فإنّ الذين يملكون قوّة الأمر الواقع سوف يلاحقون كلّ شعبٍ، وكلّ حرٍّ، ليفرضوا عليه هذا الأمر الواقع، وليقولوا له كن مع قضايا السّلام». (إرادة القوّة / 377).
إنّ هذا المنطق يُخرج قضيّة فلسطين من كونها قضية سياسية ويجعلها قضيّة مبدئيّة، مرتبطة بالقواعد الإيمانيّة للإنسان المسلم، الذي هو مسؤولٌ عن رفض المنكر، كما يصلّي ويمتنع عن شرب الخمر؛ بل ينقلها إلى قضيّة نظام عالمي، حيث هل سيبتني على أنّ القوّة تصنع الشرعيّة؛ أو أنّ هناك مضموناً للشرعيّة يحكم القوّة، وبالتالي، قد يكون إلى جانب الضعيف ضدّ القوي؛ لأنّ الشرعيّة في صفّ الأوّل دون الثاني؟!
على أساس ذلك، لا تعود قضيّة عودة المهجّرين الفلسطينيّين ورفض التوطين، قضيّة ديمغرافيا، بقدر ما هي قضيّة مبدأ ومنظومة قيم ونظام يحكم حركة السياسة والصّراع، ويرتبط بمصلحة كلّ بلدان المنطقة، مهما اختلفت مواقعها، وبكلّ الجماعات مهما تنوّعت أديانهم ومذاهبهم؛ لأنّ المنطق عندما يكرّس في موقع، فإنّه ينسحب على كلّ المواقع عندما تتبدّل الظروف والأوضاع.
ثالثاً: «إنّ حالة الإذلال والقهر والضّعف العربي منطلقة من الولايات المتحدة الأميركيّة، وقد بدأت بوادر الضعف هذه بتنازل السّادات، وهذا ما تمّ مع هنري كيسنجر الذي علّق على الاتفاق الفلسطيني ـ الإسرائيلي في آخر تصريحٍ له بالقول: إنّ السّبب في نجاح هذا الاتفاق، هو أنَّ منظَّمة التحرير وصلت إلى مرحلة من أدنى مراحل الضّعف. ومعنى ذلك، أنَّ التوصّل إلى اتفاق كان نتيجة الضّعف، واتفاق القويّ مع الضّعيف».
وعلى أساس ذلك، يجب العمل على تعزيز عناصر القوّة في المنطقة، والدعوة الدائمة إلى الوحدة والتكامل؛ ويبدو «السيد» هنا مراهناً على الشعوب بالدرجة الأولى. يقول «السيد»: «حافظوا على بذور الحرية وأبقوها في أعماق إنسانيّتكم وإيمانكم؛ لأنّ البذور تبقى في الأرض سنيناً {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}، فلماذا نقتل بذور الحريّة في عقولنا وقلوبنا؟! لماذا يفكر اليهود بحرّيتهم ولا نفكّر بحرّيتنا؟! لماذا يفكّر اليهود بيهوديّتهم ولا نفكّر بإسلامنا؟! لماذا يهرب الكثيرون من إسلامهم ويقف اليهودي أمام العالم ليعلن: أنا يهودي! ويحني العالم رأسه لليهودية! أمّا المسلمون، فقد أقنعوا الكثيرين منا بأنّ هناك إسلاماً أصولياً متطرّفاً ومتعصّباً، كلّ مسلم يرفع رأسه أو يقف في خطّ الحريّة فهو أصوليّ ومتطرّف! إذاً أيّ مسلم تريدون؟! المسلم الّذي يكون موظَّفاً في بلاطات أصحاب الجلالة والفخامة والسيادة، ليصدر لهم في كلّ يومٍ فتوى تبرّر ظلمهم؟! الذي يقفُ أمام الاستكبار العالمي ليحني رأسه هو إسلام واقعيّ معتدل مهذّب؟!».
رابعاً: تتحوّل هنا مسألة المقاومة كقوّة للتحرير إلى قضيّة مبدئيّة تفرضها طبيعة القضية، وطبيعة المشروع الاستكباري؛ يقول «السيّد»: «قيمة المقاومة في لبنان والانتفاضة في فلسطين، أنّهما تجعلان الإنسان العربي المسلم يحترم نفسه، بحيث يشعر بأنّه لم يسقط أمام عنفوان الاستكبار الإسرائيلي، فلم يعطِ بيده إعطاء الذليل... يجب علينا أن نفكّر كأمّة لا كأفراد؛ لأنّ الفرد لا يستطيع أن يحقّق لنفسه الحماية والاكتفاء، إلّا من خلال ما تحقّقه الأمّة من أمن واكتفاء ذاتي على مستوى الاقتصاد.
لقد فكّر اليهود كأمّة، وعلينا أن نفكّر كأمّة إسلاميّة، وإذا أراد المسيحيون أن يشاركوا في مواجهة إسرائيل، فنقول: علينا أن نفكّر كأمّة إسلامية ـ مسيحية، كأمّة رسالية تنطلق من نقطتين أساسيّتين: ألّا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضُنا بعضاً أرباباً من دون الله... فلننطلق معاً في مواجهة الاستكبار والكفر والشرك».
«السيّد» هنا يؤكّد على المقاومة كمشروع عابر للمذاهب والطوائف، مع تأكيده الإمكانيّة الفكرية للتنظير له، وهذا هو الذي يثبّت قواعد المشروع في وجدان الأجيال، جيلاً بعد جيل.
خامساً: الرّهان في القضية عند «السيّد» على الشعوب. يقول: «يجب علينا أن نعيش كأمّة، حتى لو حدث صلح بين الحكومات العربيّة وإسرائيل، ولا نقول بين العرب وإسرائيل؛ لأنَّ الشعوب لا تعترف بهذا الصّلح، انطلاقاً من التزامها بدينها». ويرى «السيد» أنّ المشكلة هي «أنّ بعض العرب الذين صالحوا إسرائيل منذ زمنٍ يتبنّون المنطق الإسرائيلي، ويحاولون أن يضغطوا على الفلسطينيّين ليقدّموا التنازلات، بدلاً من العكس؛ وأنّ إسرائيل لا يمكن أن تعطي الفلسطينيين أيّ موقع، أو أن تقدّم لهم أيّ تنازلٍ يمكن أن يتنفّس من خلاله حلمهم بالدولة المستقلّة» (إرادة القوّة/ 459).
والأهمّ في ذلك، أن لا تموت القضيّة في ذهن الشعوب وذاكرتها وثقافتها ومشاعرها: «علينا أن نختزن من الآن كلّ رصاصة إسرائيليّة تقتل لنا طفلاً، وكلّ عدوانٍ إسرائيليّ يقتل لنا امرأة أو شيخاً...» (إرادة القوة/ 351).
كان الأهمّ عند السيّد، أن لا تموت القضيّة الفلسطينيّة في ذهن الشعوب وذاكرتها وثقافتها ومشاعرها
أخيراً، قد لا تكون هذه العناوين القليلة التي أثرناها كافية لما يجب أن نعالجه، فهناك الكثير الكثير من العناوين التي نحتاج إلى مقاربتها بعمقٍ أكثر، وبإحاطة أكبر بالنّتاج على امتداد تاريخ خطاب «السيّد»؛ ولكنّني حاولتُ على أعتاب الذّكرى، أن أفتح نافذة على نتاج أكثر الشخصيّات خطابةً وكتابةً ومواكبةً لأحداث المنطقة والعالم، في أكثر المراحل حساسيّة وتحوّلاً.
أختم بدعوةٍ صادقةٍ إلى الباحثين لقراءة فكر هذا الرّجل، بكلّ انفتاح ونقدٍ، وأزعم أنّ كثيراً من الأفكار قد تشكّل جسر عبورٍ لنا في العديد من مشاكلنا في أكثر من صعيد.
*المصدر: جريدة الأخبار، نشرت بتاريخ: 3 تموز 2020.