الإمام الذي ما عرفَ الخوف

الإمام الذي ما عرفَ الخوف
عقد بكامله مضى والسيّد محمد حسين فضل الله يغيب جسداً.. الشخصيّة التي "ملأت الدّنيا وشغلت النّاس"، ترتاح في سكونها الأبدي بعدما هزّت عروشاً من الخرافة، وقاومت قروناً من الظلام، ورفضت إلا أن تسير في ركب الثّائرين المصلحين الذين يتعرّض لهم هذا الورى رمياً بالاتهامات، ولهجاً بالمناكفات والمطاردات في حياتهم، ولكنه ما يلبث أن "يخرج من تعقيداته" بعد وفاتهم، فيعضّ على يديه قائلاً: يا ليتني اتخذت معه إلى الإصلاح سبيلاً!
عشر من السنوات مضت وبدت حذّاء، تراكمت فيها الفتن كقطع اللّيل المظلم، وتداخل فيها السياسي بالمذهبي والطائفي بالعنصري، وتمزّقت الدول باقتصادياتها وجغرافياتها، ولم تعد كلمة "لاجئ" أو نازح تقتصر على من أُخرج من فلسطين، بل صارت مزية العرب وصُنعة الأحداث فيهم، وبصمة الظروف في واقعهم المأزوم قبلاً، والآيل نحو التجزئة بعداً..
 الشخصية المطمئنة
كان السيّد (رض) في حياته لا يخاف من شيء، ولا يتملّكه التّشاؤم في أيّ لحظة وعند أيّ طارئ، مهما كان جسيماً وثقيلاً، لأنه كان شخصية مطمئنة إلى أبعد الحدود، وكانت ثقته بالله كبيرة جداً، إلى المستوى الذي كنت تشعر وأنت تجاوره حسّاً ووجداناً، أنه يُحقق ما يريد، ويصل إلى كلّ ما يصبو إليه. وكم مرّة ردّد أمامي عندما تُحلّ مشكلة كبيرة، أو نخرج من نفق معيّن لم أكن أتوقّع الخروج منه: "ألم أقل لك إنّ الله لا يخذلني؟!".
كان السيّد (رض) لا يخاف شيئاً.. يشهد بذلك الذين عاشوا معه، فهو رفض أن يترك النّاس في كلّ الحروب والحصارات؛ من حصار النبعة، إلى حصار الضاحية الجنوبيّة، إلى حروب إسرائيل، وآخرها عدوان تموز 2006.. وأذكر أنّني في اليوم الثاني للحرب، وكان في بيت العائلة، واتصلت به من مكتبي وطلبت رؤيته، وفتح لي نجله إبراهيم الباب، وجلست إلى جانبه في صالون بيته.. سألني: هل عندك من شيء جديد؟ قلت نعم. تلوت له شريط الأحداث وتطوّرات الحرب، ولكنني أتبعتها بنصيحة أثارت غضبه.. قلت: الأمور ذاهبة إلى أبعد الحدود من الخطورة، قال: نعم، الوضع سيزداد سوءاً .. قلت: أرى أن تذهب إلى الشّام، فعندك منزل وحوزة دينية ومكتب، ويمكن إدارة كلّ الأمور من هناك.. نظر إليّ نظرة رأيت فيها شيئاً من الانفعال والشّفقة عليّ في آن، وقال: حاج هاني، أنا لا أترك النّاس.. هل حدّثك أحد أنّني تركت النّاس في حرب من الحروب أو فتنة من الفتن؟ قلت لا، ولكنّ هذه الحرب تختلف وتبدو أهدافها خطيرة وبعيدة المدى.. قال: وإن يكن.. أنا في الأصل لا يمكن حتى أن أفكّر بأن أكون بعيداً عن النّاس.. عندها فهمت أنّني طرقت باباً كان عليّ ألّا أطرقه، وأن أعرف أو أتعرّف أكثر على هذه الشخصية التي كانت تردّد أمامي كثيراً: حاج هاني أنا أحبّ الناس.. ولكنّه الموقف الذي كان غاية في الحبّ وفي الفهم وفي الوعي للّحظة الاستراتيجيّة وأبعادها.
 حوار في قلب الحصار
ليس هذا بغريب على السيّد فضل الله، وهو الذي بقي مع الناس في حصار النّبعة، وكتب كتابه: "الحوار في القرآن" على ضوء الشّمعة وسط هذا الحصار.. وللمتأمّل أن يتوقف طويلاً، كيف لإنسان يعيش تحت ضغط الحصار والجوع والقلق، وكانت جثث الضّحايا أمامه في مقرّ جمعيّة التآخي، فيشرف على تغسيلها وتكفينها ويُصلّي عليها.. ثم يجلس بطمأنينة نفس "عجيبة" ليكتب عن الحوار، وكيف أنّ الله أراد لهذا الدين أن يكون دين حوار وانفتاح على النّاس كلّهم.. صرخة حوار تواجه مدفعاً وصاروخاً وأزيز رصاص حرب ضروس.
كان السيّد يعتبر نفسه أنه "يؤسّس" تحت كلّ هذا الضغط لبناء "مجتمع منفتح لا يتغذّى على العصبيّة، ولا يتأذّى مع الحوار".
ومع انطلاقة المقاومة في لبنان، في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي العام 1982، يشهد الذين كانوا لصيقين به كيف "جرّأهم" على المقاومة، وقال لهم "إنّ العين تقاوم المخرز أحياناً".. وتنتصر.. وسننتصر". وكانت طلائع الذين واجهوا العدوّ الصهيوني عند مثلّت خلدة وفي الأوزاعي وفي كلية العلوم ـ الحدث، من الشباب الذين تربّوا في مدرسته، ونهلوا من فكره، ورأوا في نهجه تجسيداً للفكر الواعي سياسةً وديناً.
وعندما اشتدّ أوار الأزمة، وذهب النظام اللبناني لتوقيع اتفاق السابع عشر من أيار، كانت دعوته (مع تجمّع العلماء المسلمين)، للاعتصام في مسجده (مسجد الإمام الرّضا في بئر العبد)، هي التي استقطبت الشباب الواعي الثائر والنساء الثائرات، ومن هناك، حيث سقط الشهيد محمد نجدي مضرَّجاً بدماء الرفض، انطلقت الشرارة العمليّة الأولى - ميدانيّاً لإسقاط هذا الاتفاق. وكان السيّد يقول يومها: كم كانت السّلطة اللّبنانيّة غبّية، لقد أعانتنا في هذه الإغارة علينا، لتصل شرارة المقاومة إلى أبعد الحدود.
 في مرمى العدوّ
واكب السيّد فضل الله المقاومة بكلّ تفاصيلها، وكان له شرف أوّل كتاب يصدر عن المقاومة تحت عنوان: "المقاومة الإسلاميّة آفاق وتطلّعات". وكان الشّباب الذين نهلوا  من مدرسته وتربّوا تحت منبره، المبادرين الأوائل في مقارعة الاحتلال الإسرائيلي، وكان يرعاهم بمحاضراته وتوجيهاته ومواقفه الحماسيّة اللاهبة: "ثم يُصّلي عليهم شهداء، ويطلق "المواقف الحاسمة" في مناسبات تأبينهم. وأذكر أنني في العام 1985، حضّرت له كلمة في تأبين شهيدين سقطا بوجه العدوّ، وكانا من لاعبي كرة القدم المميّزين في الضاحية الجنوبية، فقال في تأبينهما: "إنّ هؤلاء الشباب الذين يجيدون لعب الكرة، يجيدون ركنها في المرمى الإسرائيلي".
" ثورة الكاسيت" هي الكلمة التي قيلت بحقّه مواكبةً لمحاضراته التي ما كانت تنتهي في بئر العبد، حتى يتجمّع الشباب أمام زاوية المسجد التي كانت تُستنسخ فيها الأشرطة في "زحمة وعي" خانقة، كانت تؤشّر إلى لهفة هذا الجيل لسماع الجديد عن الدين والحياة ومقاومة الاحتلال، حيث استطاع اجتذاب ألوان مختلفة من الشباب إليه، لطريقته الفذّة والسّهلة في تقديم الدين بروح العصر وثقافته ونبضه.
وعندما دوّى ذلك الانفجار الرهيب عصر الثامن من آذار العام 1985 في بئر العبد، لم يكن سامعه ليشكّ في أن المستهدف هو السيّد فضل الله، قبل أن يكتب الصحافي الأميركي الشهير بوب وودورد في كتابه " الحجاب"، نقلاً عن مدير المخابرات المركزية الأميركيّة يومها "ويليام كايسي"، بأنه قال أثناء تدبير الخطة لاغتيال فضل الله: "لقد أصبح فضل الله مزعجاً للسياسة الأميركيّة وعليه أن يرحل."
 اصلبوني على خشبة الإسلام
رفض هذا الإمام الرّحيل، ليعيش بعدها ما يزيد على ربع قرن من الزّمن ملأها ثورة في الفكر بعد ثورة الميدان، وحمل لواء الإصلاح الديني بكلّ أثقاله وألوانه.. وقال بعدها للذين حملوا عليه وشهّروا به: "منذ أكثر من أربعين سنة وأنا أحمل خشبة الإسلام على ظهري لأجد من يصلبني عليها".
لم يكن الخوف ليجد إلى ذلك العقل "مسرباً"، فدعا جهاراً نهاراً إلى إعادة النظر في الكثير من العقائد، وعندما عيّره البعض بمن سلف قال: "كم ترك الأوّل للآخر!". وأذكر أن الكثيرين ممن لم يستسيغوا لغته التي كان يتحدث فيها "بطلاقة" عن مفردة لا تعجبهم هي مفردة "التخلّف" أو "الخرافة"، كانوا يرمونه بسيل من الاتهامات، ويلحقونه "بالثلّة المعاصرة"، سلخاً له عن الأصالة في "القديم".
وكان يعتبر أنّ تلك هي "الضريبة" التي لا بدّ أن ندفعها، حتى تعرف الأجيال الحاضرة وتلك اللاحقة أين هي الأصالة في الدين، وماذا يبقى للمستقبل. وكان يردّد الآية الكريمة: {أَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}.
وأذكر في بداية التسعينات، كانت إحدى الصحف اللّبنانيّة عنونت كلمته في العاشر من محرَّم، حيث كان يُفتي بحرمة ضرب الرؤوس وجلد الظّهور والإدماء: "هذه المظاهر هي تخلّف في إثارة الذّكرى".. أذكر أنّ الرئيس سليم الحصّ اتصل به قائلاً: "كنت أحسب أنّ هذه من شعائر الشيعة"، فقال له السيد: "لا، هذه من مظاهر التخلّف في الواقع الإسلامي الشيعي."
عاش السيد متمرّداً على كثير من "مظاهر المتدينين"، وكان هاجسه أن يُقدّم إسلاماً حضاريّاً واعياً ينفتح على ثقافة العصر و"يُجيب على أسئلة الشباب"، حتى لو تعرّض "للرّجم بالحجارة"، لا بل كانت الكثير من "الهجمات" تزيده لمعاناً وعطاءً، وكم كان يستشهد بما يُنسب إلى الكاتب الإنكليزي جورج برناردشو، بأنّ "الضربة التي لا تقتلني جديرة بي".. وكان يردّد أمامي في أكثر من تجربة من هذا النوع، بأنّ "الإنسان ليس صنيعة نفسه فقط، بل يُضاف إليه ما يواجهه من تحدّيات."
 عاشق الوقت.. والعصر
كان السيد عاشقاً للوقت، وكان يحثّنا دائماً على أن نحتفظ بما أسماه "عصير العمر"، وهو كناية عن هذه العصارة التي نملأها جهداً وعملاً ودراسة وقراءة وخدمة للنّاس، ويذكرنا بمقولة الإمام عليّ (ع): "ما أسرع الأيام في الشهور، والشهور في السنين، والسنين في العمر!". وأذكر أن إحدى الزميلات سألته: "هل تخاف من الموت؟" قال: "لا، ولكنني أحبّ الحياة، وأحبّ أن أملأها في خدمة الناس، وأخشى أن أرحل قبل أن أكمل رسالتي في خدمة الإنسان".
خاض السيّد غمار القرن العشرين، وأطلّ على ما بعده وبقي ثائراً.. ففي منتصف عمره، دعا المرأة لكي تتعلّم فنون القتال، حتى لا تكون فريسة للرّجل الظالم، وفي سنيّه الأخيرة، أطلق الفتوى للمرأة بأنّه يجوز لها أن تردّ عنف زوجها، وأن تبادله "ضربة بضربة"، ودافع عن حقّها بردّ الاعتداء عليها، إلى أن زاره عدد من الرجال في بيته قائلين: "جرّأت علينا زوجاتنا"، وكان يؤكّد لهم أنّه بيّن فقط حقوق المرأة، وأنها ليست أمتعة، ولا هي أثاث المنزل الذي يتصّرف به الرّجل كيفما شاء.
وكانت الجرأة ديدنه في فتاوى الاستنساخ، والأخذ بعلم الفلك في تحديد بدايات الشهور القمريّة، وفي "صيد البحر" و "الحجاب اللاصق" في الوضوء، وفي الفتاوى ذات الطابع الثوري في السياسة وغيرها.
عاش السيد عصره حتى "الثمالة"، وشرب بكأس التّجديد أصالةً متناهية، وكان جريئاً في خوض غمار لم يخضها مرجع قبله، وقد امتلك الإجابة عن كل سؤال، ولكنه كان يُحبّ الخوض فيما ينفع الناس.. وعندما كنذا نهمّ بالردّ على الّذين عملوا على تشويه صورته وسمعته، حتى باللّعب على كلامه وتحريفه، كان يقول: "لا تعطوهم الكثير من الوقت، لدينا شغل نريد أن نكمله".
أخذته الجرأة إلى البعيد، فكان موكلاً بالإسلام يتبعه، وبالحقّ يقصده، ومات بعد أن ختم بالمحبّة والرّحمة، قائلاً: "الحياة لا تحتمل الحقد.. الحقد موت، والمحبّة حياة".

عقد بكامله مضى والسيّد محمد حسين فضل الله يغيب جسداً.. الشخصيّة التي "ملأت الدّنيا وشغلت النّاس"، ترتاح في سكونها الأبدي بعدما هزّت عروشاً من الخرافة، وقاومت قروناً من الظلام، ورفضت إلا أن تسير في ركب الثّائرين المصلحين الذين يتعرّض لهم هذا الورى رمياً بالاتهامات، ولهجاً بالمناكفات والمطاردات في حياتهم، ولكنه ما يلبث أن "يخرج من تعقيداته" بعد وفاتهم، فيعضّ على يديه قائلاً: يا ليتني اتخذت معه إلى الإصلاح سبيلاً!
عشر من السنوات مضت وبدت حذّاء، تراكمت فيها الفتن كقطع اللّيل المظلم، وتداخل فيها السياسي بالمذهبي والطائفي بالعنصري، وتمزّقت الدول باقتصادياتها وجغرافياتها، ولم تعد كلمة "لاجئ" أو نازح تقتصر على من أُخرج من فلسطين، بل صارت مزية العرب وصُنعة الأحداث فيهم، وبصمة الظروف في واقعهم المأزوم قبلاً، والآيل نحو التجزئة بعداً..
 الشخصية المطمئنة
كان السيّد (رض) في حياته لا يخاف من شيء، ولا يتملّكه التّشاؤم في أيّ لحظة وعند أيّ طارئ، مهما كان جسيماً وثقيلاً، لأنه كان شخصية مطمئنة إلى أبعد الحدود، وكانت ثقته بالله كبيرة جداً، إلى المستوى الذي كنت تشعر وأنت تجاوره حسّاً ووجداناً، أنه يُحقق ما يريد، ويصل إلى كلّ ما يصبو إليه. وكم مرّة ردّد أمامي عندما تُحلّ مشكلة كبيرة، أو نخرج من نفق معيّن لم أكن أتوقّع الخروج منه: "ألم أقل لك إنّ الله لا يخذلني؟!".
كان السيّد (رض) لا يخاف شيئاً.. يشهد بذلك الذين عاشوا معه، فهو رفض أن يترك النّاس في كلّ الحروب والحصارات؛ من حصار النبعة، إلى حصار الضاحية الجنوبيّة، إلى حروب إسرائيل، وآخرها عدوان تموز 2006.. وأذكر أنّني في اليوم الثاني للحرب، وكان في بيت العائلة، واتصلت به من مكتبي وطلبت رؤيته، وفتح لي نجله إبراهيم الباب، وجلست إلى جانبه في صالون بيته.. سألني: هل عندك من شيء جديد؟ قلت نعم. تلوت له شريط الأحداث وتطوّرات الحرب، ولكنني أتبعتها بنصيحة أثارت غضبه.. قلت: الأمور ذاهبة إلى أبعد الحدود من الخطورة، قال: نعم، الوضع سيزداد سوءاً .. قلت: أرى أن تذهب إلى الشّام، فعندك منزل وحوزة دينية ومكتب، ويمكن إدارة كلّ الأمور من هناك.. نظر إليّ نظرة رأيت فيها شيئاً من الانفعال والشّفقة عليّ في آن، وقال: حاج هاني، أنا لا أترك النّاس.. هل حدّثك أحد أنّني تركت النّاس في حرب من الحروب أو فتنة من الفتن؟ قلت لا، ولكنّ هذه الحرب تختلف وتبدو أهدافها خطيرة وبعيدة المدى.. قال: وإن يكن.. أنا في الأصل لا يمكن حتى أن أفكّر بأن أكون بعيداً عن النّاس.. عندها فهمت أنّني طرقت باباً كان عليّ ألّا أطرقه، وأن أعرف أو أتعرّف أكثر على هذه الشخصية التي كانت تردّد أمامي كثيراً: حاج هاني أنا أحبّ الناس.. ولكنّه الموقف الذي كان غاية في الحبّ وفي الفهم وفي الوعي للّحظة الاستراتيجيّة وأبعادها.
 حوار في قلب الحصار
ليس هذا بغريب على السيّد فضل الله، وهو الذي بقي مع الناس في حصار النّبعة، وكتب كتابه: "الحوار في القرآن" على ضوء الشّمعة وسط هذا الحصار.. وللمتأمّل أن يتوقف طويلاً، كيف لإنسان يعيش تحت ضغط الحصار والجوع والقلق، وكانت جثث الضّحايا أمامه في مقرّ جمعيّة التآخي، فيشرف على تغسيلها وتكفينها ويُصلّي عليها.. ثم يجلس بطمأنينة نفس "عجيبة" ليكتب عن الحوار، وكيف أنّ الله أراد لهذا الدين أن يكون دين حوار وانفتاح على النّاس كلّهم.. صرخة حوار تواجه مدفعاً وصاروخاً وأزيز رصاص حرب ضروس.
كان السيّد يعتبر نفسه أنه "يؤسّس" تحت كلّ هذا الضغط لبناء "مجتمع منفتح لا يتغذّى على العصبيّة، ولا يتأذّى مع الحوار".
ومع انطلاقة المقاومة في لبنان، في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي العام 1982، يشهد الذين كانوا لصيقين به كيف "جرّأهم" على المقاومة، وقال لهم "إنّ العين تقاوم المخرز أحياناً".. وتنتصر.. وسننتصر". وكانت طلائع الذين واجهوا العدوّ الصهيوني عند مثلّت خلدة وفي الأوزاعي وفي كلية العلوم ـ الحدث، من الشباب الذين تربّوا في مدرسته، ونهلوا من فكره، ورأوا في نهجه تجسيداً للفكر الواعي سياسةً وديناً.
وعندما اشتدّ أوار الأزمة، وذهب النظام اللبناني لتوقيع اتفاق السابع عشر من أيار، كانت دعوته (مع تجمّع العلماء المسلمين)، للاعتصام في مسجده (مسجد الإمام الرّضا في بئر العبد)، هي التي استقطبت الشباب الواعي الثائر والنساء الثائرات، ومن هناك، حيث سقط الشهيد محمد نجدي مضرَّجاً بدماء الرفض، انطلقت الشرارة العمليّة الأولى - ميدانيّاً لإسقاط هذا الاتفاق. وكان السيّد يقول يومها: كم كانت السّلطة اللّبنانيّة غبّية، لقد أعانتنا في هذه الإغارة علينا، لتصل شرارة المقاومة إلى أبعد الحدود.
 في مرمى العدوّ
واكب السيّد فضل الله المقاومة بكلّ تفاصيلها، وكان له شرف أوّل كتاب يصدر عن المقاومة تحت عنوان: "المقاومة الإسلاميّة آفاق وتطلّعات". وكان الشّباب الذين نهلوا  من مدرسته وتربّوا تحت منبره، المبادرين الأوائل في مقارعة الاحتلال الإسرائيلي، وكان يرعاهم بمحاضراته وتوجيهاته ومواقفه الحماسيّة اللاهبة: "ثم يُصّلي عليهم شهداء، ويطلق "المواقف الحاسمة" في مناسبات تأبينهم. وأذكر أنني في العام 1985، حضّرت له كلمة في تأبين شهيدين سقطا بوجه العدوّ، وكانا من لاعبي كرة القدم المميّزين في الضاحية الجنوبية، فقال في تأبينهما: "إنّ هؤلاء الشباب الذين يجيدون لعب الكرة، يجيدون ركنها في المرمى الإسرائيلي".
" ثورة الكاسيت" هي الكلمة التي قيلت بحقّه مواكبةً لمحاضراته التي ما كانت تنتهي في بئر العبد، حتى يتجمّع الشباب أمام زاوية المسجد التي كانت تُستنسخ فيها الأشرطة في "زحمة وعي" خانقة، كانت تؤشّر إلى لهفة هذا الجيل لسماع الجديد عن الدين والحياة ومقاومة الاحتلال، حيث استطاع اجتذاب ألوان مختلفة من الشباب إليه، لطريقته الفذّة والسّهلة في تقديم الدين بروح العصر وثقافته ونبضه.
وعندما دوّى ذلك الانفجار الرهيب عصر الثامن من آذار العام 1985 في بئر العبد، لم يكن سامعه ليشكّ في أن المستهدف هو السيّد فضل الله، قبل أن يكتب الصحافي الأميركي الشهير بوب وودورد في كتابه " الحجاب"، نقلاً عن مدير المخابرات المركزية الأميركيّة يومها "ويليام كايسي"، بأنه قال أثناء تدبير الخطة لاغتيال فضل الله: "لقد أصبح فضل الله مزعجاً للسياسة الأميركيّة وعليه أن يرحل."
 اصلبوني على خشبة الإسلام
رفض هذا الإمام الرّحيل، ليعيش بعدها ما يزيد على ربع قرن من الزّمن ملأها ثورة في الفكر بعد ثورة الميدان، وحمل لواء الإصلاح الديني بكلّ أثقاله وألوانه.. وقال بعدها للذين حملوا عليه وشهّروا به: "منذ أكثر من أربعين سنة وأنا أحمل خشبة الإسلام على ظهري لأجد من يصلبني عليها".
لم يكن الخوف ليجد إلى ذلك العقل "مسرباً"، فدعا جهاراً نهاراً إلى إعادة النظر في الكثير من العقائد، وعندما عيّره البعض بمن سلف قال: "كم ترك الأوّل للآخر!". وأذكر أن الكثيرين ممن لم يستسيغوا لغته التي كان يتحدث فيها "بطلاقة" عن مفردة لا تعجبهم هي مفردة "التخلّف" أو "الخرافة"، كانوا يرمونه بسيل من الاتهامات، ويلحقونه "بالثلّة المعاصرة"، سلخاً له عن الأصالة في "القديم".
وكان يعتبر أنّ تلك هي "الضريبة" التي لا بدّ أن ندفعها، حتى تعرف الأجيال الحاضرة وتلك اللاحقة أين هي الأصالة في الدين، وماذا يبقى للمستقبل. وكان يردّد الآية الكريمة: {أَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ}.
وأذكر في بداية التسعينات، كانت إحدى الصحف اللّبنانيّة عنونت كلمته في العاشر من محرَّم، حيث كان يُفتي بحرمة ضرب الرؤوس وجلد الظّهور والإدماء: "هذه المظاهر هي تخلّف في إثارة الذّكرى".. أذكر أنّ الرئيس سليم الحصّ اتصل به قائلاً: "كنت أحسب أنّ هذه من شعائر الشيعة"، فقال له السيد: "لا، هذه من مظاهر التخلّف في الواقع الإسلامي الشيعي."
عاش السيد متمرّداً على كثير من "مظاهر المتدينين"، وكان هاجسه أن يُقدّم إسلاماً حضاريّاً واعياً ينفتح على ثقافة العصر و"يُجيب على أسئلة الشباب"، حتى لو تعرّض "للرّجم بالحجارة"، لا بل كانت الكثير من "الهجمات" تزيده لمعاناً وعطاءً، وكم كان يستشهد بما يُنسب إلى الكاتب الإنكليزي جورج برناردشو، بأنّ "الضربة التي لا تقتلني جديرة بي".. وكان يردّد أمامي في أكثر من تجربة من هذا النوع، بأنّ "الإنسان ليس صنيعة نفسه فقط، بل يُضاف إليه ما يواجهه من تحدّيات."
 عاشق الوقت.. والعصر
كان السيد عاشقاً للوقت، وكان يحثّنا دائماً على أن نحتفظ بما أسماه "عصير العمر"، وهو كناية عن هذه العصارة التي نملأها جهداً وعملاً ودراسة وقراءة وخدمة للنّاس، ويذكرنا بمقولة الإمام عليّ (ع): "ما أسرع الأيام في الشهور، والشهور في السنين، والسنين في العمر!". وأذكر أن إحدى الزميلات سألته: "هل تخاف من الموت؟" قال: "لا، ولكنني أحبّ الحياة، وأحبّ أن أملأها في خدمة الناس، وأخشى أن أرحل قبل أن أكمل رسالتي في خدمة الإنسان".
خاض السيّد غمار القرن العشرين، وأطلّ على ما بعده وبقي ثائراً.. ففي منتصف عمره، دعا المرأة لكي تتعلّم فنون القتال، حتى لا تكون فريسة للرّجل الظالم، وفي سنيّه الأخيرة، أطلق الفتوى للمرأة بأنّه يجوز لها أن تردّ عنف زوجها، وأن تبادله "ضربة بضربة"، ودافع عن حقّها بردّ الاعتداء عليها، إلى أن زاره عدد من الرجال في بيته قائلين: "جرّأت علينا زوجاتنا"، وكان يؤكّد لهم أنّه بيّن فقط حقوق المرأة، وأنها ليست أمتعة، ولا هي أثاث المنزل الذي يتصّرف به الرّجل كيفما شاء.
وكانت الجرأة ديدنه في فتاوى الاستنساخ، والأخذ بعلم الفلك في تحديد بدايات الشهور القمريّة، وفي "صيد البحر" و "الحجاب اللاصق" في الوضوء، وفي الفتاوى ذات الطابع الثوري في السياسة وغيرها.
عاش السيد عصره حتى "الثمالة"، وشرب بكأس التّجديد أصالةً متناهية، وكان جريئاً في خوض غمار لم يخضها مرجع قبله، وقد امتلك الإجابة عن كل سؤال، ولكنه كان يُحبّ الخوض فيما ينفع الناس.. وعندما كنذا نهمّ بالردّ على الّذين عملوا على تشويه صورته وسمعته، حتى باللّعب على كلامه وتحريفه، كان يقول: "لا تعطوهم الكثير من الوقت، لدينا شغل نريد أن نكمله".
أخذته الجرأة إلى البعيد، فكان موكلاً بالإسلام يتبعه، وبالحقّ يقصده، ومات بعد أن ختم بالمحبّة والرّحمة، قائلاً: "الحياة لا تحتمل الحقد.. الحقد موت، والمحبّة حياة".

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية