في الرابع من شهر تموز 2010، رحل المرجع الديني السيِّد محمَّد حسين فضل الله، وهو يقول لمن يدعوه للرَّاحة في ظلِّ ما كان يعانيه من أوضاع صحيَّة حرجة: لن أرتاح حتى تحرير فلسطين من الاحتلال الصّهيونيّ.
وقبل تحرير الجنوب في أيَّار من العام 2000، عندما كنَّا نلتقي مع السيِّد فضل الله ونسأله متى ستزور الجنوب، كان يجيب: عندما يتحرَّر من الاحتلال الصّهيونيّ، وقد تحقَّقت أمنيته وزار بلدته عيناتا في قضاء بنت جبيل بعد التَّحرير.
وفي حرب تموز 2006، وعندما كانت الضَّاحية الجنوبيَّة تتعرَّض للقصف الإسرائيلي، أصرَّ السيِّد فضل الله على إقامة صلاة الجمعة في مسجد الحسنين في حارة حريك، وعلى البقاء في منزله وعدم المغادرة، لكنَّ المسؤولين في المقاومة أصرّوا عليه بالمغادرة، وقد تعرَّض منزله لاحقاً للقصف الإسرائيلي والتَّدمير الكامل.
واليوم، وبمناسبة الذكرى السنويَّة الرابعة عشرة لرحيله، نطلّ على رؤية السيِّد فضل الله للصِّراع مع العدوّ الصهيوني، وعلاقاته مع قوى المقاومة في لبنان وفلسطين، وكيف ينظر إلى مستقبل هذا الصِّراع.
المواقف المبدئيَّة من الصِّراع
بداية، كيف ينظر المرجع السيِّد محمَّد حسين فضل الله إلى الصِّراع مع العدوّ الصّهيوني والقضيَّة الفلسطينيَّة؟
منذ بداية اهتمامه بالشأن الديني والسياسي في النجف الأشرف (حيث ولد في ثلاثينيات القرن الماضي)، كانت القضيَّة الفلسطينيَّة إحدى أبرز القضايا الَّتي كان يتابعها السيِّد فضل الله، وتشير بعض المصادر المقرَّبة منه إلى أنّ أولى القصائد الشعريَّة التي كتبها كانت من أجل فلسطين، وشكّلت القضيَّة الفلسطينيَّة إحدى أبرز الاهتمامات لدى المرجعيَّات الدينيَّة في النجف الأشرف وقمّ وفي لبنان، وكانت المواقف حاسمة وواضحة على صعيد مواجهة المشروع الصّهيوني لاحتلال فلسطين، وتقديم أشكال الدَّعم كافّة إلى الشَّعب الفلسطيني وقوى المقاومة.
وقد أعدَّ رئيس مركز الزيتونة للدّراسات والتوثيق، الدكتور محسن صالح، دراسةً موسَّعة حول مواقف السيِّد فضل الله من القضيَّة الفلسطينيَّة، وتمَّ نشرها في الموسوعة الخاصَّة عن حياة وفكر السيِّد فضل الله.
ومن أبرز مواقف السيِّد فضل الله حول القضية الفلسطينيَّة: القضية الفلسطينيَّة هي قضيَّة إسلاميَّة وقضيّة مبدئيّة وقضيّة مركزيّة؛ وهو ما يعطيها أهميَّة وأولويَّة تتجاوز أيّ قضيَّة أخرى في عالمنا المعاصر. ويرى أنّ قضيّة فلسطين هي القضيّة الأساس، وأنّ كلّ القضايا المتصلة بهذا البلد العربي أو المسلم أو ذاك، هي فرع عن القضيَّة الفلسطينيَّة.
ولذلك يقول إنَّ "موقفنا من القضية الفلسطينية دين ندين به، وليس مجرَّد شعار سياسي نستهلكه اليوم لنتركه غداً". ويؤكّد أن فلسطين تختصر كل القرن الَّذي مضى، وتختصر كلَّ آلام الأمَّة، وكلَّ أحلام الأمَّة، "لا أحلم بدون فلسطين، وتسقط كلّ الأحلام عندما تسقط فلسطين… ليست معركة، وليست مفاوضات، وليست تفاصيل، ففلسطين قصَّة أن تكون الأمَّة أو لا تكون".
وقد دعا فضل الله إلى تبنّي الإسلام باعتباره المنهج الأصحّ والأسلم لتحقيق النَّصر على الصَّهاينة؛ وقال: "يوجد محور هو الإسلام في مواجهة إسرائيل… نحن أقوى من أيّ يوم، لأننا مع الإسلام. معركة الإسلام السياسيَّة هي الصِّراع مع إسرائيل، وليس هناك إسلام وحركة إسلاميَّة سياسيّة خارج الصِّراع مع إسرائيل".
ويؤكِّد فضل الله أنَّ إسرائيل وجودٌ غير شرعيّ، لأنَّ إسرائيل دولة غاصبة... والغصب حرام كما الخمر حرام، ولن يأتي زمان يكون الغصب فيه حلالاً"؛ وأن مرور الزمن - ولو بلغ مئات السنين- لا يعطي شرعيَّة للغصب. ويفتي ومعه إجماع علماء الأمَّة الثقات بحرمة التَّنازل عن أيّ جزء من فلسطين، ويبيّن أنَّه إذا كان من حقّ الإنسان أن يتنازل عن منزله، فليس من حقِّ الشَّعب أن يتنازل عن وطنه، لأنَّ الوطن ليس ملك النَّاس في هذه المرحلة الزمنيَّة أو تلك، بل هو ملك الأجيال كلّها. ولذلك أكَّد السيِّد أنَّ "من واجب علماء الأمَّة من السنَّة والشّيعة أن يعملوا على استعادة فلسطين بكاملها من النَّهر إلى البحر، وأن يعملوا على تعبئة الوجدان العربي والإسلامي في سبيل ذلك".
الجانب العمليّ والرّؤية المستقبليَّة
ولم يكتف السيِّد فضل الله في إطلاق المواقف الفكريَّة والسياسيَّة على صعيد القضيَّة الفلسطينيَّة، بل وقف إلى جانب المقاومة في فلسطين ولبنان، وقدَّم إليها أشكال الدَّعم السياسي والمادّي والإعلامي كافّةً، وكانت تربطه علاقات قويَّة مع كلِّ قيادات المقاومة الفلسطينيَّة واللّبنانيّة، ومع قيادات حركة فتح والجبهة الشعبيَّة لتحرير فلسطين، ومع حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وكان يشارك في المؤتمرات واللّقاءات الخاصَّة مع كوادر المقاومة، ويقدِّم إليهم أشكال النصح والرعاية كافّةً، وشارك في الاعتصام الَّذي أقامه تجمع العلماء المسلمين ضدّ اتفاق 17 أيَّار في العام 1984، وتعرَّض لمحاولة اغتيال في العام 1985 بسبب دوره في دعم المقاومة.. وفي كلِّ محطَّات المواجهة مع الكيان الصهيوني، كان يدعم قوى المقاومة، ويطلق المواقف الدَّاعمة لها، وفي المعارك الَّتي خاضتها قوى المقاومة في غزَّة ضدّ العدوّ الصّهيوني، كان يعتبر تضحيات الشَّعب الفلسطيني امتداداً لتضحيات الإمام الحسين في كربلاء، كذلك وقف إلى جانب المقاومين في لبنان في كلِّ المراحل الصَّعبة .
وكان السيِّد فضل الله يؤكِّد أن لا حلَّ مع العدوّ الصهيوني إلا المواجهة وقيام دولة فلسطين، وأنَّه ينبغي تقديم أشكال الدَّعم كافَّة إلى الشعب الفلسطيني والمقاومة .
ولذلك، من المهم في الذكرى السنويَّة الرابعة عشرة لرحيله، وفي ظلِّ معركة طوفان الأقصى والحرب على غزَّة، استعادة مواقف السيِّد فضل الله ودوره في الصِّراع مع العدوّ الصهيوني، لأنها تشكِّل منهجاً عمليّاً في هذه المواجهة الكبرى، حتَّى تحرير فلسطين، كلِّ فلسطين.
* جريدة الأمان الإلكترونيّة، بتاريخ: 3/7/2024م.
في الرابع من شهر تموز 2010، رحل المرجع الديني السيِّد محمَّد حسين فضل الله، وهو يقول لمن يدعوه للرَّاحة في ظلِّ ما كان يعانيه من أوضاع صحيَّة حرجة: لن أرتاح حتى تحرير فلسطين من الاحتلال الصّهيونيّ.
وقبل تحرير الجنوب في أيَّار من العام 2000، عندما كنَّا نلتقي مع السيِّد فضل الله ونسأله متى ستزور الجنوب، كان يجيب: عندما يتحرَّر من الاحتلال الصّهيونيّ، وقد تحقَّقت أمنيته وزار بلدته عيناتا في قضاء بنت جبيل بعد التَّحرير.
وفي حرب تموز 2006، وعندما كانت الضَّاحية الجنوبيَّة تتعرَّض للقصف الإسرائيلي، أصرَّ السيِّد فضل الله على إقامة صلاة الجمعة في مسجد الحسنين في حارة حريك، وعلى البقاء في منزله وعدم المغادرة، لكنَّ المسؤولين في المقاومة أصرّوا عليه بالمغادرة، وقد تعرَّض منزله لاحقاً للقصف الإسرائيلي والتَّدمير الكامل.
واليوم، وبمناسبة الذكرى السنويَّة الرابعة عشرة لرحيله، نطلّ على رؤية السيِّد فضل الله للصِّراع مع العدوّ الصهيوني، وعلاقاته مع قوى المقاومة في لبنان وفلسطين، وكيف ينظر إلى مستقبل هذا الصِّراع.
المواقف المبدئيَّة من الصِّراع
بداية، كيف ينظر المرجع السيِّد محمَّد حسين فضل الله إلى الصِّراع مع العدوّ الصّهيوني والقضيَّة الفلسطينيَّة؟
منذ بداية اهتمامه بالشأن الديني والسياسي في النجف الأشرف (حيث ولد في ثلاثينيات القرن الماضي)، كانت القضيَّة الفلسطينيَّة إحدى أبرز القضايا الَّتي كان يتابعها السيِّد فضل الله، وتشير بعض المصادر المقرَّبة منه إلى أنّ أولى القصائد الشعريَّة التي كتبها كانت من أجل فلسطين، وشكّلت القضيَّة الفلسطينيَّة إحدى أبرز الاهتمامات لدى المرجعيَّات الدينيَّة في النجف الأشرف وقمّ وفي لبنان، وكانت المواقف حاسمة وواضحة على صعيد مواجهة المشروع الصّهيوني لاحتلال فلسطين، وتقديم أشكال الدَّعم كافّة إلى الشَّعب الفلسطيني وقوى المقاومة.
وقد أعدَّ رئيس مركز الزيتونة للدّراسات والتوثيق، الدكتور محسن صالح، دراسةً موسَّعة حول مواقف السيِّد فضل الله من القضيَّة الفلسطينيَّة، وتمَّ نشرها في الموسوعة الخاصَّة عن حياة وفكر السيِّد فضل الله.
ومن أبرز مواقف السيِّد فضل الله حول القضية الفلسطينيَّة: القضية الفلسطينيَّة هي قضيَّة إسلاميَّة وقضيّة مبدئيّة وقضيّة مركزيّة؛ وهو ما يعطيها أهميَّة وأولويَّة تتجاوز أيّ قضيَّة أخرى في عالمنا المعاصر. ويرى أنّ قضيّة فلسطين هي القضيّة الأساس، وأنّ كلّ القضايا المتصلة بهذا البلد العربي أو المسلم أو ذاك، هي فرع عن القضيَّة الفلسطينيَّة.
ولذلك يقول إنَّ "موقفنا من القضية الفلسطينية دين ندين به، وليس مجرَّد شعار سياسي نستهلكه اليوم لنتركه غداً". ويؤكّد أن فلسطين تختصر كل القرن الَّذي مضى، وتختصر كلَّ آلام الأمَّة، وكلَّ أحلام الأمَّة، "لا أحلم بدون فلسطين، وتسقط كلّ الأحلام عندما تسقط فلسطين… ليست معركة، وليست مفاوضات، وليست تفاصيل، ففلسطين قصَّة أن تكون الأمَّة أو لا تكون".
وقد دعا فضل الله إلى تبنّي الإسلام باعتباره المنهج الأصحّ والأسلم لتحقيق النَّصر على الصَّهاينة؛ وقال: "يوجد محور هو الإسلام في مواجهة إسرائيل… نحن أقوى من أيّ يوم، لأننا مع الإسلام. معركة الإسلام السياسيَّة هي الصِّراع مع إسرائيل، وليس هناك إسلام وحركة إسلاميَّة سياسيّة خارج الصِّراع مع إسرائيل".
ويؤكِّد فضل الله أنَّ إسرائيل وجودٌ غير شرعيّ، لأنَّ إسرائيل دولة غاصبة... والغصب حرام كما الخمر حرام، ولن يأتي زمان يكون الغصب فيه حلالاً"؛ وأن مرور الزمن - ولو بلغ مئات السنين- لا يعطي شرعيَّة للغصب. ويفتي ومعه إجماع علماء الأمَّة الثقات بحرمة التَّنازل عن أيّ جزء من فلسطين، ويبيّن أنَّه إذا كان من حقّ الإنسان أن يتنازل عن منزله، فليس من حقِّ الشَّعب أن يتنازل عن وطنه، لأنَّ الوطن ليس ملك النَّاس في هذه المرحلة الزمنيَّة أو تلك، بل هو ملك الأجيال كلّها. ولذلك أكَّد السيِّد أنَّ "من واجب علماء الأمَّة من السنَّة والشّيعة أن يعملوا على استعادة فلسطين بكاملها من النَّهر إلى البحر، وأن يعملوا على تعبئة الوجدان العربي والإسلامي في سبيل ذلك".
الجانب العمليّ والرّؤية المستقبليَّة
ولم يكتف السيِّد فضل الله في إطلاق المواقف الفكريَّة والسياسيَّة على صعيد القضيَّة الفلسطينيَّة، بل وقف إلى جانب المقاومة في فلسطين ولبنان، وقدَّم إليها أشكال الدَّعم السياسي والمادّي والإعلامي كافّةً، وكانت تربطه علاقات قويَّة مع كلِّ قيادات المقاومة الفلسطينيَّة واللّبنانيّة، ومع قيادات حركة فتح والجبهة الشعبيَّة لتحرير فلسطين، ومع حركتي حماس والجهاد الإسلامي، وكان يشارك في المؤتمرات واللّقاءات الخاصَّة مع كوادر المقاومة، ويقدِّم إليهم أشكال النصح والرعاية كافّةً، وشارك في الاعتصام الَّذي أقامه تجمع العلماء المسلمين ضدّ اتفاق 17 أيَّار في العام 1984، وتعرَّض لمحاولة اغتيال في العام 1985 بسبب دوره في دعم المقاومة.. وفي كلِّ محطَّات المواجهة مع الكيان الصهيوني، كان يدعم قوى المقاومة، ويطلق المواقف الدَّاعمة لها، وفي المعارك الَّتي خاضتها قوى المقاومة في غزَّة ضدّ العدوّ الصّهيوني، كان يعتبر تضحيات الشَّعب الفلسطيني امتداداً لتضحيات الإمام الحسين في كربلاء، كذلك وقف إلى جانب المقاومين في لبنان في كلِّ المراحل الصَّعبة .
وكان السيِّد فضل الله يؤكِّد أن لا حلَّ مع العدوّ الصهيوني إلا المواجهة وقيام دولة فلسطين، وأنَّه ينبغي تقديم أشكال الدَّعم كافَّة إلى الشعب الفلسطيني والمقاومة .
ولذلك، من المهم في الذكرى السنويَّة الرابعة عشرة لرحيله، وفي ظلِّ معركة طوفان الأقصى والحرب على غزَّة، استعادة مواقف السيِّد فضل الله ودوره في الصِّراع مع العدوّ الصهيوني، لأنها تشكِّل منهجاً عمليّاً في هذه المواجهة الكبرى، حتَّى تحرير فلسطين، كلِّ فلسطين.
* جريدة الأمان الإلكترونيّة، بتاريخ: 3/7/2024م.