إنّ الحديث عن تيّار متحجّر قد يصدم البعض حول هذا المصطلح الّذي ربما يعمل على إنعاش الحالة السلبيّة في النفس، ولكني لا أبالغ لو وصفت هذا التيار بذلك، فالسيّد الإمام الخميني (رض) قد تعرّض لكثير من الإساءة والإهانة من قبل طلبة علم ينتمون للحوزة العلميّة، وكذلك الشهيد مطهّري والشهيد الصدر، وقبلهم السيّد محسن الأمين الذي قيل عنه إنّه عدوّ الحسين، ولكن المستقبل كان له وليس لمن اتهمه ظلمًا وعدوانًا بالضّلال، فالرأي السائد بعد وفاته (رض) كان رأيه.
وهذا ما يذكّرني بما قاله المحقّق آية الله الشيخ حسين الراضي للسيّد فضل الله (رض) خلال تأبينه إيّاه: "إنّ المستقبل لك ولأفكارك". فبالرغم من اتهامه بالضلال، وما وجهت إليه من تهم وأباطيل، فهذا كلّه صار كالزّبد يذهب جفاء، وهذا ما لمسناه خلال عشر سنين تمامًا؛ أين السيّد فضل الله وأين من ضلّلوه؟ فالكثير من الأفكار التي كان البعض يستنكرها وأربكت الساحة لأجلها، نجد الكثير من العلماء قد تبنّاها، أو أقلّة تقبّلها، كما أنّ بعض هذه الأفكار قد اتّضح هزالتها عندما وضعت على مشرحة البحث العلمي.
هذا التيار - المتحجّر - له حجمه وله جمهوره وله قاعدته الّتي يتحرّك من خلالها، وهو يمثّل الجانب المتخلّف السلبي، بينما يمثّل التيار الآخر التيار الواعي الإيجابي، ولعلّ حركة التاريخ والفكر تقتضي وجود هذين التيارين، لتوليد الطاقة وإنعاش البصيرة وتحريك المياه الراكدة، فالنور والظلمة يمثّلان حركة تكامل في الحياة، ولا ننكر أنّ في التيار المتخلّف شيئًا من الوعي، كما أنّ في التيار الواعي شيئًا من التخلّف.
وعلى قاعدة أن لا شرّ مطلق في الوجود، ولا خير مطلق في الوجود، فطبيعة هذا العالم أن يتّسم بالتناقضات، لأنها هي التي تجعل من الإنسان يكتشف ويتعلم، وبذلك تظهر كنوز المعرفة، ونسعى للتّنقيب في عمق كلّ تيار وحركة، كما يجعلنا ذلك لا نأخذ الحقيقة من جهة دون أخرى.
فإن الناس عندما ترى كلّ ذلك، فهذا يدفعها إلى دراسة كلّ فكر بما يقابله من فكر نقيض، ومن ينطلق من قاعدة صحيحة، فهي كفيلة بأن توصله إلى الحقيقة ولو بعد حين، فهناك الكثير من الأفكار النيّرة والواعية قد لا تجد لها موقعًا تعيش فيه في حاضرها، ولكنّها بعد مضيّ سنوات، قد تجد لنفسها موقعًا مميّزاً تعيش فيه وتورق وتعطي الواقع من ثمرها.
فالغوغاء وما يثار معها من غبار فتنة عندما تقبل، تجعل من الناس تشبّه بين الحقّ والباطل، ولكنّها بعد أن تدبر، فالحقيقة تبدو واضحة، لذلك فالغوغائيّون لا يريدون للفتنة أن تدبر، لأنهم يعتاشون على نتائجها، بينما الواعون يسعون لدفع الفتنة والغوغاء بما استطاعوا، ولو كان على حساب مصلحتهم الشخصية، فيتنازلون ويسلّمون ما سلمت أمور المسلمين.
ومن طبيعة الأفكار أن تتنازع وتتصارع، وهذا نوع تصفية وغربلة، ليبقى منها ما ينفع ويصلح للبقاء، فالفكر الواعي هو الذي يمكث ويرسخ لدى الناس، أما الفكر المتخلّف، فسرعان ما يذهب ويضمحلّ ولا يبقى منه سوى الأطلال، فهذه سنّة من سنن التّاريخ لا يمكن أن تتخلّف.
ولعلّ هذا النوع هو ضمن السنّة التاريخيّة التي أكّدها القرآن الكريم، وهي "سُنّة التّدافع"، في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا}. فكما يرى السيّد فضل الله، أنها تؤكّد أصالة الحريّة، ومن لا حريّة له لا إنسانيّة له، وأنّ الضّغط على حريّة الآخر يمثّل إلغاءً لإنسانيّته، كما أنّ دلالة الدفع تعطي معنى إنسانيًّا، لأنّ الدفاع عن الحريّة له مشروعيّته، فهو لا يمثّل اعتداءً على الآخر.
فمن الطبيعي أن يكون للكذب مدة صلاحيّة، وسيأتي يوم انتهائها لا محال، فالمصلحون الذين يُكذَب عليهم، عليهم أن يجعلوا نظرتهم بعيدة المدى، فلا تؤثّر فيهم الضوضاء مهما علا صوتها، وعليهم أن يكملوا عملهم بهمة عالية، ولا يركّزوا إلا على حجم العطاء، وليس على حجم الضوضاء.
وهنا أشير إلى موقف صار يتكرّر كثيرًا لدى بعض الإخوة، فقد التقيت بكثير من الشباب الذين تأثروا في البداية بالصّفحات الصفراء، ولكنهم سرعان ما اكتشفوا الحقيقة، فقد أخبرني أحدهم أنّه لم يكن على اطّلاع على مؤلّفات السيّد فضل الله، ومن خلال متابعته لما يثار حوله من بعض الإشكاليّات، كان يدوّن لديه مصادر القصاصات المأخوذة من كلمات السيّد فضل الله، ومن ثم يذهب ليقتني هذه المصادر، حتى إنه وجد نفسه قد امتلك الكثير من مؤلّفات السيّد فضل الله دون أن يشعر، وبالرّجوع إلى المصادر، يجد أن الفكرة مختلفة تمامًا عمّا أريد إيصالها من خلال النصوص التي أريد لها أن تنال من السيّد فضل الله، ويقول إنه يشكر هؤلاء أنهم عرّفوه بالسيّد فضل الله ومؤلّفاته.
نعم، فنحن بعد عشر سنين من رحيله (رض)، كم وجدنا تلك اللّهفة والشّوق والحنين تزداد سنة بعد سنة في قلوب محبّيه، فلم تفتر أبدًا، وكذلك حجم من تعرّفوا عليه بعد وفاته وتأثّروا به، بل نجد حجمًا هائلاً من المكلَّفين ممن يسأل عن جواز الرّجوع إليه في التقليد بعد وفاته، وهي الصّورة التي كان يقابلها في يوم من الأيّام، خوف الكثيرين من أن يقولوا بأنهم يقلّدون السيّد فضل الله، لأنهم سوف يتعرَّضون للضّغوط والإقصاء والعنف الفكري من قبل ذلك التيّار المتخلّف فكريًّا.
ينقل لي أحد طلبة العلم في مدينة قمّ، أنّ مجموعة من المشايخ كانوا يدورون على بيوت الطّلبة ليفتّشوا عن كتب السيّد فضل الله بغرض مصادرتها منهم، وهذا ما جعل الكثير من الطلبة يضطرّ لإخفاء كتب السيّد فضل الله في مكان لا يراه أحد. فأين هؤلاء من انتعاش فكر السيّد فضل الله في حاضرنا الآن؟ فمشكلتهم أنّهم لم يواجهوا الفكرة بالفكرة، بل حاولوا رجم الفكرة بالتّسقيط والتضليل والإقصاء العنيف، وهذا لا يسقط فكرًا، بل يقوّيه أكثر ولو بعد حين.
وأقول لكلّ من لا تزال قلوبهم غير منفتحة على هذا الرّجل العظيم، بأن يفتحوا قلوبهم بكلّ محبّة، فربما كان وجوده يمثّل لهم حالة من الإرباك والتّعقيد، فها هو قد رحل إلى دار القرار، فلا تعيشوا عقدة حقبة من الزّمن، آن لنا أن نتجاوزها ونتخطّاها بوعينا وبصيرتنا.