المرجع السيد محمد حسين فضل الله (1935-2010) استطاع بشخصيته الفذة المستندة إلى توقّد ذهن وحضور قويّ ونشط في قلب التفاصيل الصَّغيرة والكبيرة، على مستوى المواقف والأحداث والأفكار، أن يؤنسن السياسة ويُروحنها، وأن يهدّئ من توترات الخطاب الدّيني، ويقارب أفكاره بروية وعقلنة وتأصيل وترشيد، خلق وصالاً نحو فضاءات أكثر انسجاماً بين المثقَّف السياسي والديني وبين العوام من الناس. هذا ما يلفتك في حركته في كلِّ دروسه ومحاضراته ونشاطاته ولقاءاته، يتوسَّل الأسلوب القريب في مفرداته من فهم النَّاس العاديّين، مؤمناً بأنَّ رسالة السَّماء ليست سراً أو شيئاً يحتكر معرفته رجال دين، ويعيشونه لأنفسهم كترف ذهني أو فكري وروحي.
في الأساس، هي وجدت من أجل خدمة النَّاس ورفع شأنهم، لذا ليست في عقيدتها وشريعتها عصيَّة على الفهم، بل هي ليّنة طيّعة منسابة انسياب الرّوح، فتسيل معانيها مسؤوليّة كبيرة على من ينطق باسمها.
منذ نعومة أظفاره، حمل هموم أمَّته وقضاياها المحقّة، وبخاصَّة قضيَّة فلسطين كرمز يختصر الحقّ. مَن يراجع خطبه ومواقفه، يجد حضور هذه القضيَّة ومقارباتها واحتضانها والدّفاع عنها وعن مظلوميَّة شعب لا يزال إلى اليوم يعاني وحشيَّة الاحتلال الصهيوني، حيث نبّه إلى ضرورة إبقاء قضيَّة فلسطين حاضرة بقوَّة في وجدان الأمَّة، وجعلها من الأولويات على مستوى الأنظمة والشعوب، وعدم التعامل معها على أنها عبء ثقيل لا بدَّ من التخلص منه، كما فعل ويفعل كثيرون.
نصير الجهاد والمقاومة تنظيراً وممارسة على مدى عقود، مواجهاً صلباً وعنيداً للرجعيَّة والاحتلال والاستعمار بكلّ أشكاله، آمن بأنَّ ذلك هو مشروع يؤسِّس للحقّ وبناء إنسان جدير بالحياة، فالمقاومة الشَّريفة برنامج عمل جهاديّ وثقافيّ يعكس فكراً حياً وممارسة أصيلة وحضاريَّة لضمير لا يعرف الخنوع، مدافع عن المحرومين والمظلومين، يحمي النسيج الاجتماعي والإنساني وينبذ الإقصاء والإلغاء. السياسة عنده هي وجه من وجوه تأكيد العدل في الحياة، وليست دكاكين وحسابات تبرز نهم الإنسان وسطوة أنانيَّاته في العدوانيَّة على الآخرين؛ إنها فنّ إدارة ردم الفجوات وتقريب الآراء، والذَّود عن الحقوق والكرامات، وخدمة العباد كمظهر بارز من مظاهر عبادة الله .
نعم، السياسة هي فنّ يفتح قلب الآخر وعقله في جوّ ينفتح على الفكرة والحقيقة بلا إملاء، ويعكس روح الأديان في تأكيدها قيم العدل والتّسامح والتلاقي ونبذ العصبيَّات التي تحرق الإنسان في سوْرة الماديات والأنانيات .
ساعده في كلِّ ذلك اعتماده طريقة القلب المفتوح للنَّاس جميعاً، والأبواب المفتوحة للكلّ، مؤمناً بأنَّ الحوار هو مسلك عيش، وهو وجه آخر من وجوه حسن تمثّل عبادة الله، فمن خلاله تحاول التَّعاون مع الآخر والتَّعارف وبناء جسور التّواصل عبر العالم ككل.
ليس من الهيّن في بلد كلبنان، مشرّع الهوى على كلّ التقاطعات والتناقضات، أن تنطلق بين حقول الألغام في خطاب جامع عابر للطَّوائف يدعو إلى الأنسنة وقيام دولة الإنسان على حدود الوطن والعالم .
أسَّس مداميك العمل الإسلامي والجهادي في مرحلة عصيبة من تاريخ لبنان المفتوح على تقلّبات المنطقة وطروحاتها السياسيَّة وتشابك مصالح دولها من يمينيّة ويساريّة، وعمل على تكريس مواطنة شريفة تحفظ كيان الإنسان وحقوقه.
آمن بأنَّ الاجتهاد الحركي يبعد الفقه عن أن يكون صنعة مكرّرة جامدة ومعلّبة، لذا عمل على تطويع الفقه والنصوص الدينيَّة، وإخراجهما من قمقم التأطير والاغتراب، إلى رحابة القراءة المنفتحة والمعاصرة بلا وجل، ساعياً إلى تبيان الروحية العامَّة التي تضبط إيقاع هذه النصوص ورسم معالمها وخيوطها الَّتي تحكم كلَّ مفاصلها وفاقاً لحاكميَّة القرآن وتجلّياتها.
بعد أربع عشرة سنة على رحيله، لا يزال الوطن الذي حلم به يعاني أزمة متعدّدة الوجوه، تتنازعه التحديات والمشكلات، في ظلِّ أمواج الطائفيَّة والمذهبيَّة والفئويَّة العاتية، وندرة وجود القيادات الرَّشيدة الحكيمة الَّتي تتجاوز بنظرتها الحدود الضيِّقة، وتفكِّر ما وراء حساباتها النَّفعيَّة، وتنبذ روحيَّة التعصّب والتنافر والإلغاء والانغلاق.
لعلّ أفضل تكريم لهؤلاء الكبار، هو في حفظ تجاربهم والإفادة منها، وتعلّم التفكير الذي يتجاوز المحدوديَّة والحدود، فنفكِّر كما فكِّروا في حدود العالم والأنسنة، في زمن صار الانغماس في المظاهر والتَّسطيح والتَّفاهة وإشباع الأنانيَّات بلا ضوابط، سياسة متعمّدة من ضمن أيديولوجية عالمية تحكم كرتنا الأرضيَّة اليوم.
*محمّد عبدالله فضل الله، كاتب وأكاديمي.
* جريدة الأخبار، الخميس: 4 تمّوز 2024م.
المرجع السيد محمد حسين فضل الله (1935-2010) استطاع بشخصيته الفذة المستندة إلى توقّد ذهن وحضور قويّ ونشط في قلب التفاصيل الصَّغيرة والكبيرة، على مستوى المواقف والأحداث والأفكار، أن يؤنسن السياسة ويُروحنها، وأن يهدّئ من توترات الخطاب الدّيني، ويقارب أفكاره بروية وعقلنة وتأصيل وترشيد، خلق وصالاً نحو فضاءات أكثر انسجاماً بين المثقَّف السياسي والديني وبين العوام من الناس. هذا ما يلفتك في حركته في كلِّ دروسه ومحاضراته ونشاطاته ولقاءاته، يتوسَّل الأسلوب القريب في مفرداته من فهم النَّاس العاديّين، مؤمناً بأنَّ رسالة السَّماء ليست سراً أو شيئاً يحتكر معرفته رجال دين، ويعيشونه لأنفسهم كترف ذهني أو فكري وروحي.
في الأساس، هي وجدت من أجل خدمة النَّاس ورفع شأنهم، لذا ليست في عقيدتها وشريعتها عصيَّة على الفهم، بل هي ليّنة طيّعة منسابة انسياب الرّوح، فتسيل معانيها مسؤوليّة كبيرة على من ينطق باسمها.
منذ نعومة أظفاره، حمل هموم أمَّته وقضاياها المحقّة، وبخاصَّة قضيَّة فلسطين كرمز يختصر الحقّ. مَن يراجع خطبه ومواقفه، يجد حضور هذه القضيَّة ومقارباتها واحتضانها والدّفاع عنها وعن مظلوميَّة شعب لا يزال إلى اليوم يعاني وحشيَّة الاحتلال الصهيوني، حيث نبّه إلى ضرورة إبقاء قضيَّة فلسطين حاضرة بقوَّة في وجدان الأمَّة، وجعلها من الأولويات على مستوى الأنظمة والشعوب، وعدم التعامل معها على أنها عبء ثقيل لا بدَّ من التخلص منه، كما فعل ويفعل كثيرون.
نصير الجهاد والمقاومة تنظيراً وممارسة على مدى عقود، مواجهاً صلباً وعنيداً للرجعيَّة والاحتلال والاستعمار بكلّ أشكاله، آمن بأنَّ ذلك هو مشروع يؤسِّس للحقّ وبناء إنسان جدير بالحياة، فالمقاومة الشَّريفة برنامج عمل جهاديّ وثقافيّ يعكس فكراً حياً وممارسة أصيلة وحضاريَّة لضمير لا يعرف الخنوع، مدافع عن المحرومين والمظلومين، يحمي النسيج الاجتماعي والإنساني وينبذ الإقصاء والإلغاء. السياسة عنده هي وجه من وجوه تأكيد العدل في الحياة، وليست دكاكين وحسابات تبرز نهم الإنسان وسطوة أنانيَّاته في العدوانيَّة على الآخرين؛ إنها فنّ إدارة ردم الفجوات وتقريب الآراء، والذَّود عن الحقوق والكرامات، وخدمة العباد كمظهر بارز من مظاهر عبادة الله .
نعم، السياسة هي فنّ يفتح قلب الآخر وعقله في جوّ ينفتح على الفكرة والحقيقة بلا إملاء، ويعكس روح الأديان في تأكيدها قيم العدل والتّسامح والتلاقي ونبذ العصبيَّات التي تحرق الإنسان في سوْرة الماديات والأنانيات .
ساعده في كلِّ ذلك اعتماده طريقة القلب المفتوح للنَّاس جميعاً، والأبواب المفتوحة للكلّ، مؤمناً بأنَّ الحوار هو مسلك عيش، وهو وجه آخر من وجوه حسن تمثّل عبادة الله، فمن خلاله تحاول التَّعاون مع الآخر والتَّعارف وبناء جسور التّواصل عبر العالم ككل.
ليس من الهيّن في بلد كلبنان، مشرّع الهوى على كلّ التقاطعات والتناقضات، أن تنطلق بين حقول الألغام في خطاب جامع عابر للطَّوائف يدعو إلى الأنسنة وقيام دولة الإنسان على حدود الوطن والعالم .
أسَّس مداميك العمل الإسلامي والجهادي في مرحلة عصيبة من تاريخ لبنان المفتوح على تقلّبات المنطقة وطروحاتها السياسيَّة وتشابك مصالح دولها من يمينيّة ويساريّة، وعمل على تكريس مواطنة شريفة تحفظ كيان الإنسان وحقوقه.
آمن بأنَّ الاجتهاد الحركي يبعد الفقه عن أن يكون صنعة مكرّرة جامدة ومعلّبة، لذا عمل على تطويع الفقه والنصوص الدينيَّة، وإخراجهما من قمقم التأطير والاغتراب، إلى رحابة القراءة المنفتحة والمعاصرة بلا وجل، ساعياً إلى تبيان الروحية العامَّة التي تضبط إيقاع هذه النصوص ورسم معالمها وخيوطها الَّتي تحكم كلَّ مفاصلها وفاقاً لحاكميَّة القرآن وتجلّياتها.
بعد أربع عشرة سنة على رحيله، لا يزال الوطن الذي حلم به يعاني أزمة متعدّدة الوجوه، تتنازعه التحديات والمشكلات، في ظلِّ أمواج الطائفيَّة والمذهبيَّة والفئويَّة العاتية، وندرة وجود القيادات الرَّشيدة الحكيمة الَّتي تتجاوز بنظرتها الحدود الضيِّقة، وتفكِّر ما وراء حساباتها النَّفعيَّة، وتنبذ روحيَّة التعصّب والتنافر والإلغاء والانغلاق.
لعلّ أفضل تكريم لهؤلاء الكبار، هو في حفظ تجاربهم والإفادة منها، وتعلّم التفكير الذي يتجاوز المحدوديَّة والحدود، فنفكِّر كما فكِّروا في حدود العالم والأنسنة، في زمن صار الانغماس في المظاهر والتَّسطيح والتَّفاهة وإشباع الأنانيَّات بلا ضوابط، سياسة متعمّدة من ضمن أيديولوجية عالمية تحكم كرتنا الأرضيَّة اليوم.
*محمّد عبدالله فضل الله، كاتب وأكاديمي.
* جريدة الأخبار، الخميس: 4 تمّوز 2024م.