في أكثر من آية في القرآن الكريم، يحدِّثنا الله عن العاقبة، وهي عاقبة الإنسان في نهاية عمره، سواء في ذلك العاقبة في الدّنيا، أو العاقبة في الآخرة.
العبرةُ بالنِّهايات
ويحدِّثنا الله سبحانه وتعالى عن كثيرٍ من الَّذين عاثوا في الأرض فساداً، وكذَّبوا الأنبياء، وتحرّكوا في خطِّ الإجرام، وانطلقوا في أجواء الظّلم، بأنَّه سبحانه وتعالى عاقبهم في الدنيا قبل الآخرة ودمَّرهم، مما يريد الله أن يبيِّن للإنسان دائماً أن لا تفرح ببدايات الأمور، فقد تسرّك هذه البدايات؛ قد تُفسد، وقد تعيث في الأرض فساداً والنَّاس يصفِّقون لك، ولكنَّ الله يجعل لك النَّتائج في النِّهايات على خلاف البدايات، فتنتهي والنَّاس يرجمونك بالحجارة.
كم من الظَّالمين الَّذين عايشناهم، وكم من المفسدين الَّذين كنَّا معهم، كم من هؤلاء من كان يستعرض عضلات قوَّته أمام النَّاس، وكان النَّاس يخضعون له، ولكن: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 140]، كم رأينا من هؤلاء مَن كان في القمَّة وإذا هو في الحضيض، ومن كان يعيش حرَّيته في ظلم النَّاس وإفسادهم وإذا هو في داخل السّجون، كم من هؤلاء ممن كان يسجن النَّاس فإذا هو سجين، ومن كان يشنق النّاس فإذا به على أعواد المشانق!
لذلك، إنَّ الله يريد للإنسان في كلِّ أعماله، أن يدرس النّهايات عندما يريد أن يبدأ البدايات، انظر ما هي عاقبة عملك إذا بدأت عملاً، وما هي عاقبة علاقتك بهذا وذاك عندما تنشئ علاقة، وما هي عاقبة كلامك عندما تريد أن تتكلَّم بكلمة.
لذلك، إنَّ الله يريد للإنسان أن يحكِّم عقله في الأمور، وأن يعتبر أنَّ كلمته قد تشارك في نهايته، وأنَّ عمله قد يسقط مصيره.
فلنقرأ بعض الآيات الَّتي يحدِّثنا الله فيها عن عاقبة بعض هؤلاء الَّذين كنَّا نحني رؤوسنا لهم، لأنَّ هذا يملك مالاً، ولأنَّ ذاك يملك سلطة. يقول تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ}[الأنعام: 11] الّذين كذَّبوا الأنبياء؛ أين صاروا؟ وما مصيرهم؟ هل خُلِّدوا كما كان يهيَّأ لهم أنَّ لهم الخلود، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ}[الأنعام: 135]، هل العاقبة للمتّقين أو العاقبة للفاسقين؟ {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}[الأعراف: 84]، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[النّمل: 14]، وفي الجانب الآخر: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الأعراف: 128].
اصبرْ، وإن تحمَّلت الكثير من المشاكل؛ اصبر على طاعة الله، واصبر عن معصية الله. قد تتعب في طاعة الله، قد تشعر بالحرمان إذا أبعدْت نفسك عن معصية الله، ولكن عندما يصبح الصّباح، ويقف المتَّقون أمام الله، ويقف العاصون أمام الله، عند ذلك تعرف لمن عاقبة الأمر.
وهكذا يقول تعالى: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ}[القصص: 37]، {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}[لقمان: 22].
من خلال ذلك، أيُّها الأحبَّة، نعرف أنَّ علينا، ونحن في فسحةٍ من العمر، فلا يدري أحدنا كم بقي له من هذا العمر، وربما كانت بدايات بعضنا بدايات سيِّئة، لأنَّه عاش في بيئة فاسقة أو منحرفة أو ظالمة بعيدة عن الله، علينا عندما نفكِّر في العاقبة بين يدي الله غداً، أن نرتِّب أمورنا {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ}[إبراهيم: 31].
العملُ لحسنِ الخاتمة
وقد حدَّثنا الأئمَّة من أهل البيت (ع) عن الخاتمة الطيِّبة، وحدَّثونا عن طبيعة هذه الخاتمة.
في الحديث عن الإمام عليّ (ع): "إنْ خُتِمَ لكَ بالسَّعادةِ صرْتَ إلى الحُبورِ- إلى اللّذَّة والفرح - وأنت ملكٌ مطاعٌ، وآمِنٌ لا تُراع، يطوفُ عليكم ولدانٌ كأنَّهم الجمانُ بكأسٍ منْ معين، بيضاءَ لذَّةٍ للشَّاربين".
وعن رسول الله (ص): "لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة، لا يتيقَّن الوصول إلى رضوان الله، حتَّى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له"، فعندما تُنزَعُ روحُهُ، يعرف ما مصيره، لأنَّه يُكشَف له عن مصيره آنذاك.
وفي الحديث عن النَّبيِّ عيسى (ع): "إنَّ النَّاسَ يقولونَ إنَّ البناءَ بأساسِهِ – فالنَّاس، عادةً، عندما يتحدَّثون عن قوَّة البناء، يقولون المهمّ هو الأساس، فإذا كان الأساس قويّاً يكون البناء قويّاً - وأنا لا أقولُ لكم كذلك. قالوا: فماذا تقولُ يا روحَ الله؟ قالَ: بحقٍّ أقولُ لكم، إنَّ آخرَ حجرٍ يضعُهُ العاملُ هو الأساس"، كناية عن آخر عمل تعمله، فقد تكون في أساسك مؤمناً، ولكن قد يكون هناك أشياء تخلخل هذا الأساس، وذلك عندما لا تدرس البيئة الَّتي تعيش فيها، عندما لا تدرس الأصدقاء الَّذين تختارهم لأسرارك ولجلساتك، عندما لا تدرس الثَّقافة الَّتي تتثقَّف بها... قد يكون أساسك جيِّداً، لكنَّ النَّتائج بعد ذلك قد تخلخل هذا الأساس.
إنَّ الله يحدِّثنا عن بعض النَّاس: {وَیَوْمَ یَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ یَدَیهِ یَقُولُ یَـٰلَیتَنِی ٱتَّخَذتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِیلاً * یَـٰوَیلَتَىٰ لَیتَنِي لَم أَتَّخِذ فُلَانًا خَلِیلاً * لَّقَد أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكرِ بَعدَ إِذ جَاۤءَنِي وَكَانَ ٱلشَّیطَانُ لِلإِنسَـانِ خَذُولاً}[الفرقان: 27 – 29].
لذلك، أنت الآن عندما تختار بيئة معيَّنة، أو أصدقاء معيَّنين، فربَّما يقلبونك رأساً على عقب. الآن هناك الكثير من النَّاس يستسهلون البقاء في بلاد الكفر. فمثلاً، قد يكون هناك من لا يجد عملاً في بلده، أو تكون الأوضاع صعبةً عليه، فيسافر إلى أوروبَّا أو أمريكا أو غيرهما. ويقيناً أنَّ الحياة هناك أكثر رخاءً ورحابةً، ولكنَّه يفقد عاقبته، لأنَّه عندما تنفصل عن أجواء الإيمان، هذه الأجواء الَّتي تغذِّي عقلك وقلبك وسلوكك، فقد تضيع، والأكثر من ذلك، أنَّك تضيِّع أولادك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التَّحريم: 6].
ونحن نعرف أنَّ الكثيرين من الَّذين هاجروا في بدايات القرن، وخصوصاً في بدايات الحرب، إلى الأرجنتين وغيرها، أصبح أولادهم كافرين، ليس لهم علاقة بالإسلام. هناك مَنْ إذا دارَ الأمرُ بين المال والإسلام، يقدِّم المال على الإسلام. ونحن لا نقول إنَّ الهجرة حرام، لكن إذا أردنا الهجرة إلى بلد، فعلينا أن نعمل على أن نهيِّئ هناك المساجد والنَّوادي والمدارس الّتي يمكن أن تحفظنا وتحفظ أولادنا.
هناك من يسافر ولا يهتمّ إلَّا بالجانب السياسي، السّياسة الّتي خرَّبت حياتنا هنا، نأخذها معنا لنخرّب حياتنا هناك.. أمَّا كيف نصلِّي، كيف نصوم، كيف نحفظ أولادنا ونحفظ لغتهم وما إلى ذلك، فلا يهتمّ، وهذا من الأشياء الَّتي توجب سوء العاقبة.
وإنَّ علينا، كما نهرب من العدوى عندما يقال إنَّ فلاناً عنده مرض معد، ونستعمل عند زيارته كلَّ طرق الوقاية، أن نقي أنفسنا في البلاد الَّتي نسافر إليها، هناك مرضٌ قد يميتك جسديّاً، ولكنَّ مرض الرّوح يميتك روحيّاً ومصيريّاً في الدّنيا والآخرة.
لذلك يقول عيسى (ع): "بحقٍّ أقول لكم، إنَّ آخرَ حجرٍ يضعُهُ العاملُ هو الأساس"، لأنَّ المسألة هي بالنَّتائج وليست بالبدايات.
ووردت أيضاً كلمات: "خيرُ الأمورِ خيرُها عاقبةً"، "الأمور بتمامها، والأعمال بخواتمها".
ويقول الإمام عليّ (ع): "إنَّ حقيقةَ السَّعادةِ أنْ يُختَمَ للمرءِ عملُهُ بالسَّعادةِ، وإنَّ حقيقةَ الشَّقاءِ أنْ يُختَمَ للمرءِ عملُهُ بالشَّقاءِ".
لضمانِ حسنِ العاقبةِ
ويقول رسول الله (ص): "إنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ الجَنَّةِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ، وهو مِن أهلِ النَّارِ - فهو يصلّي ويصوم ويحجّ، ثمَّ بعد ذلك تصيبه فتنة. ألا نقرأ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الحجّ: 11]؟! - وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يُخْتَمُ له عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ"، فقد يكون هناك من ارتكب في حياته الكثير من الذّنوب والمعاصي، ولكنَّه في آخر الأمر يتوب ويصلح ويصبح من أهل الجنَّة.
وعندنا في الواقع أمثال في حسن العاقبة وسوء العاقبة، فهناك الحرُّ بن يزيد الرّياحي وكيف كانت عاقبته، وعمر بن سعد وكيف كان عاقبته.
لذلك، على الإنسان أن لا يطمئنَّ إلى نفسه بأنَّه مؤمن، فقد تأتيه صدمة تقلب حياته، وقد يصبح مؤمناً ويمسي كافراً.
وهكذا يقول رسول الله (ص): "لَا عَلَيْكُمْ أنَ تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ حتَّى تنظرُوا بما يُخْتَمُ لهُ، فإنَّ العاملَ يعملُ زماناً من دهرِهِ - أو بُرهةً من دهرهِ - بعملٍ صالحٍ لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ لَدَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا سَيِّئًا، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ سَيِّئٍ، لو مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحاً".
جاء عمرو بن جرموز إلى عليّ بن أبي طالب (ع) بسيف الزُّبير، فأخذه عليّ (ع)، فنظر إليه ثمَّ قال: "أما والله! لربَّ كربةٍ وكربةٍ قدْ فرَّجَها صاحبُ هذا السَّيفِ عن وجهِ رسولِ الله (ص)"، أي أنَّ هذا الشَّخص كان مجاهداً، وكان يدفع الكرب عن رسول الله، ولكنَّ نهايته هو أنَّه ثار على عليٍّ (ع) وقتل في المعركة.
وعن الإمام الصَّادق (ع) قال: "يسلك بالسَّعيد في طريق الأشقياء حتَّى يقول النَّاس: ما أشبهه بهم، بل هو منهم، ثمَّ يتداركه السَّعادة، وقد يسلك بالشَّقيّ طريق السّعداء حتَّى يقول النَّاس ما أشبهه بهم، بل هو منهم، ثم يتداركه الشَّقاء...".
وقد وردَ عن الإمامِ الصَّادقِ (ع) أيضاً: "إنْ أردْتَ أن يُختمَ بِخيْرٍ عَمَلُكَ حتَّى تقبضَ – أي حتّى يأتيك الموت - وأنتَ في أفضلِ الأعمالِ، فعظِّمْ للهِ حقَّهُ، أنْ لا تبذلَ نَعْمَاءَهُ في مَعَاصيهِ -.
فإذا أردت أن يُختَم لك بخير، فعظِّمْ حقَّ الله، فالله أعطاك نعماً؛ أعطاك عينيك اللَّتين تبصر بهما، وأعطاك أذنيك اللَّتين تسمع بهما، وأعطاك لسانك الَّذي تنطق به، ويديك اللَّتين تمسك بهما الأشياء، وأعطاك المال... أنت فكِّر أنَّ هذه الأشياء هي نعم الله الَّتي أنعم بها عليَّ، فهل من المعقول أو من الإنسانيَّة أن أحارب الله بها؟ فكِّر هكذا كلَّما دعاك الشَّيطان إلى معصية؛ عندما تريد أن تغتاب، أو أن تكذب، أو أن تشتم، أو تؤيِّد ظالماً... فكِّر قبل أن تنطق الكلمة، أنَّ هذا اللِّسان نعمة من الله عليَّ، وقد نهاني أن أستعمله في هذه المعصية أو تلك، فعليَّ أن لا أستعين بنعمِ اللهِ على معاصيه. كما لو أعطاك أحدهم مسدَّساً فتقتله به أو تحاربه به، كما عبَّر ذاك الشَّاعر:
أَعَلِّمُهُ الرِّمايَةَ كُلَّ يَومٍ فَلَمَّا اشتَدَّ ساعِدُهُ رَماني
وكَم عَلَّمْتُهُ نَظْمَ القَوافي فَلَمَّا قالَ قافِيَةً هَجاني
يقول الإمام عليّ (ع): "أقلُّ ما يلزمُكُم للهِ، ألّا تستعينوا بنعمِهِ على معاصيهِ".
وفي هذا الجوّ، تأتي كلمة الإمام عليّ (ع): "اتَّقِ شَرَّ مَنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ". بعض النَّاس الَّذين تحسن إليهم يتعقَّدون من الإحسان، وليس معنى ذلك أنَّ كلَّ النَّاس هكذا، لكن البعض هو هكذا، وعلينا أن نكون على حذر منهم.
ويكمل حديث الصّادق (ع): - وَأَنْ تَغْترَّ بِحلْمِهِ عَنْكَ". إنَّ الله قد يعطيك الصحَّة والجاه والمال والأولاد، لكنَّه سبحانه قد يمهلك ليختبرك، فلا تعتبر أنَّ الله عندما يسكت عنك، معنى ذلك أنَّك قريب منه وأنَّك صالح، بل إنَّ عليك أن تدرس عملك لتعرف ما إذا كان اختباراً من الله: {أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ}[العنكبوت: 2 - 3].
ويقول الإمام الكاظم (ع): "إنَّ خواتيمَ أعمالِكِمْ قضاءُ حوائجِ إخوانِكُمْ، والإحسانُ إليْهِم مَا قدرْتُمْ، وإلَّا لَمْ يُقبلَ مِنْكُم عملٌ. حنُّوا على إخوانِكم وارْحَمُوهم تَلحُقُوا بنا".
ويقول الإمام عليّ (ع): "إنْ أردْتَ أن يُؤمِنكَ الله سُوءَ العاقبة، فاعلمْ أنَّ ما تأتيهِ منْ خيرٍ فبفضلِ اللهِ وتوفيقِهِ، وما تأتيهِ منْ سُوءٍ، فبإمهالِ اللهِ وإنظارهِ إيَّاكَ، وحِلمِهِ وعفوِهِ عنْكَ".
وعن الصّادق (ع): "مَنْ كانَ عاقلاً، خُتِمَ له بالجنَّةِ إنْ شاءَ الله".
خطُّ التَّقوى والطَّاعة
هذه أحاديث أهل البيت (ع) في هذا الجانب، وما يريدونه منَّا، هو أن نظلَّ في خطِّ التقوى في كلِّ أمورنا، وأن لا نغفل عن تقوى الله، وأن لا نسمح لأنفسنا بالانحراف عن الخطِّ بالوقوع فيما يقع فيه النَّاس، فإنَّ الله قال عن بعض أهل النَّار: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}[38 – 45].
وأخيراً، يقول الإمام عليّ (ع): "أوصيكم عبادَ الله بتقوى الله، فإنَّها خيرُ ما تواصى العبادُ بهِ، وخيرُ عواقب الأمور عندَ الله". {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: 197].
أيُّها الأحبَّة، كما قلْناها في بداية الحديث، نقولها في نهاية الحديث: افتحوا عقولكم لله، وافتحوا قلوبكم لله، وخطِّطوا لعمركم أن لا يكون عمراً في معصية الله، بل أن يكون عمراً في طاعة الله؛ فيما تقولون، وفيما تعملون، وفيما تنشئون من علاقات، لأنَّ على كلِّ إنسان أن يعرف نفسه غداً، عندما يقدَّم إليه كتابه، أن يعرف كلّ ما في كتابه: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: 14]، {فَبَشِّرْ عِبادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ}[الزّمر: 17 – 18].
لا تجعلوا هذا الكلام، وهو كلام الله ورسوله وأوليائه، مجرَّد كلام سمعتموه، ولكن اجعلوه شيئاً تتعقَّلونه، فإنَّ هذا الكلام هو حجّة الله عليكم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك: 10].
الخطبةُ الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا الله ودقِّقوا في كلِّ ما تفكِّرون فيه حتَّى تزيلوا الباطل من أفكاركم، وفي كلِّ ما تتعاطفون فيه حتَّى تبعدوا الباطل عن عواطفكم، وحدِّقوا فيما تعملونَهُ حتَّى تبعدوا الشَّرَّ عن أعمالِكم، وفيما تقفونَهُ من مواقف حتَّى تبعدوا الظُّلمَ والانحرافَ عن مواقفِكِم، فإنَّ اللهَ يريدُ للإنسانِ أن يحاسبَ نفسَهُ أشدَّ من محاسبةِ الشَّريكِ لشريكِهِ، ويريدُ له أن يجاهدَ نفسَهُ أشدَّ من مجاهدة الإنسان لعدوِّه، ويريدُ له أن يكون واعياً لنفسه، لأنَّ الخاسرين هم الَّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.. قد تخسر مالاً فتعوّضه، وقد تخسر فرصةً فتأتي فرصة أخرى لتعوِّض تلك الفرصة، ولكن ماذا إذا خسرت عمرك ومصيرك، وخسرت جنَّتك؟! لذلك "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم"، حتَّى يدخل الإنسان إلى قبره وهو مطمئنّ، ليسمع النّداء: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}[الفجر: 27 – 30].
أيُّها الأحبَّة، إنَّ مما يريده الله سبحانه وتعالى لنا، أن نفكِّر في عاقبة أمورنا في الدّنيا، وفي عاقبة أمورنا في الآخرة، فإنَّ عاقبة الآخرة قد ترتبط بعاقبة الدنيا، وعاقبة الدّنيا تعني أن تتحمَّل مسؤوليَّة ما أنت فيه؛ أن تتحمَّل مسؤوليّة نفسك، لتكون الرَّابح فيما تأخذ به نفسك، وأن تتحمَّل مسؤوليَّة أمَّتك، وأن تواجه كلَّ مواقع الكفر الَّذي يريدك أن تبتعد عن الحقّ، ومواقع الاستكبار الَّذي يريدك أن تبتعد عن خطِّ الاستقامة، أن تواجهه بكلِّ قوَّة، وبكلِّ وعي، وبكلِّ يقظة.
كونوا الواعين الَّذين لا يستطيع أحد أن يخدعهم عن أنفسهم، أو أن يغشَّهم في مصيرهم.. افتحوا عقولكم على كلِّ ما يحيط بكم، وافتحوا قلوبكم لكلِّ ما يطرأ عليكم.
ونحن، أيُّها الأحبَّة، في هذا الموقف، نريد أن نلمَّ ببعض ما نعيشه في واقعنا الإسلاميّ في كلِّ العالم الإسلاميّ، فماذا نرى؟
أمريكا ضدَّ حقوقِ الإنسان
قبل أيَّام، أصدرَتِ الولايات المتحدة الأمريكيَّة تقريرها السنويّ عن مسألة حقوق الإنسان، لأنَّها جعلت نفسها في موقع الَّذي يحاكم العالم من خلال تسجيل النّقاط على هذا البلد أو ذاك أنَّه انتهك حقوق الإنسان. ولكنَّنا عندما ندرس أمريكا هذه الّتي تعظنا دائماً بحقوق الإنسان، كما لو كانت واعظاً ينذر النَّاس بعذاب أليم، عندما ندرسها وندرس سياستها في العالم، نجد أنَّ أوَّل بلد يسقط حقوق الإنسان هو أمريكا، لأنَّها عندما تتحرَّك في العالم، تثير الحروب في بلاد المستضعفين، وباسم حقوق الإنسان. فنحن عندما ندرس السياسة الأمريكيَّة في صراعها مع السّياسة الأوروبيَّة في أفريقيا، نجد أنَّ أفريقيا، هذه القارَّة الفقيرة الضَّعيفة، والَّتي تختزن في داخل أرضها أغنى ثروات العالم، يستهلك النَّاس فيها أنفسهم بالحروب الَّتي تحصد مئات الألوف، بل الملايين، فلا تهدأ حرب في أيِّ منطقة في أفريقيا إلَّا وتنطلق حرب أخرى، وهذا ما لاحظناه في أكثر من حربٍ أفريقيَّة لا تزال تشتعل، وكما في الحرب الجديدة الآن بين أريتريا وأثيوبيا، وهي حروب الفقراء؛ الفقراء فيما عندهم من إمكانات، والأغنياء فيما تختزنه بلادهم من إمكانات، لأنَّ أمريكا لا تريد لهذه الشّعوب الأفريقيَّة أن تغتني بثرواتها، بل تريد للأمريكيّين أن يغتنوا بهذه الثّروات.
وهكذا عندما نجد الدّول المتحالفة مع أمريكا، فإنَّ أغلب الدّول المتحالفة في العالم العربي أو العالم الإسلاميّ، تضطهد حقوق الإنسان، فلا حريَّة للإنسان، ولا عدالة في أكثر هذه الدّول، وأمريكا لا تسجِّلها في خانة الدّول الَّتي تنتهك حقوق الإنسان، بل تسجِّل إيران في هذه الخانة، إيران الَّتي تمثِّل أفضل دولة تستفتي شعبها في المنطقة، فليس هناك دولة تستفتي شعبها في رئاسة الجمهوريَّة أو في الانتخابات البلديّة أو في الانتخابات النّيابيّة مثل إيران، وفي كلِّ شي، ومع ذلك، تسجَّل إيران دولةً تنتهكُ حقوق الإنسان، لأنَّها تشجِّع الإرهاب، كما تدَّعي أمريكا، ونحن نعرف أنَّها تشجِّع الباحثين عن الحريَّة.
وهكذا بالنِّسبة إلى السودان وليبيا، وكذلك أكثر من بلدٍ من بلاد المسلمين أو بلاد المستضعفين. إنَّ أمريكا تحاول أن ترجم البلدان الَّتي تعارض سياستها باسم أنَّها تنتهك حقوق الإنسان، أمَّا البلدان الَّتي تنسجم مع سياستها، فإنَّها لا تقوم بأيِّ عمل ضدَّها، وهذا ما نلاحظه بالنِّسبة إلى السياسة الأمريكيَّة في إسرائيل؛ إنَّ إسرائيل تحتلُّ قسماً من لبنان، في الجنوب والبقاع الغربي، وتدمِّر الحجر والبشر، وتقتل الأطفال، ومع ذلك، فإنَّ أمريكا لا تسمح حتَّى لمجلس الأمن بأن يدين هذه الأعمال ضدَّ إسرائيل، مع أنَّ الاحتلال أعلى درجات الانتهاك لحقوق الإنسان.
كذلك تركيا، تعمل الآن على ما يشبه إبادة الأكراد، وعلى خنق حرّيّة الشَّعب التركي من الإسلاميّين، وهي بين وقتٍ وآخر تخترق حدود العراق لتقتل من تقتل، ولا تحرِّك أمريكا ساكناً.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، علينا أن نفهم هذا الذّئب الَّذي يلبس ثياب الحمل الوديع، أن لا نغترَّ بثيابه الحملانيَّة، لأنَّه كما قال ذلك الشَّاعر:
إِذَا رَأَيْتَ نُيُوْبَ اللَّيْثِ بَارِزَةً فَلَا تَظُنَّنَ أَنَّ اللَّيْثَ يَبْتَسِمُ
هذا جانبٌ لا بدَّ لنا أن نواجهه.
إيرانُ بلدُ الحريّات
وعندما نتحدَّث عن إيران الإسلام، فإنَّنا تابعنا الانتخابات البلديَّة فيها، ورأينا حجم الحريَّة السياسيَّة والمسؤوليَّة الشَّعبيَّة في الحيويَّة الانتخابيَّة، ونرى أنّها تدلّ على انفتاح النّظام الإسلامي في إيران على الإرادة الشعبيَّة في الخطِّ الإسلامي الأصيل. وأيضاً، فإنَّنا نستكشف من ذلك أنَّ إيران ليست في حالة اهتزاز، بل هي في حالة قوَّة وثبات، لأنَّ النظام الّذي يعطي للشَّعب حرَّيته في أن يقول كلمته من دون أن يفرض عليه شيء، هو نظام واثق بنفسه.
إنَّ الأنظمة الَّتي لا تثق بنفسها، هي الّتي لا تسمح للشَّعب بالحريَّة، وهي الَّتي تتدخَّل في عمليَّة الإرادة الشَّعبيَّة بمختلف الضّغوط.
ونحن نريد للنظام الإسلامي الاستمرار في هذا النَّهج، فلا يُسمَح للتَّجاذب السياسي الَّذي يحصل بين التيارات السياسيَّة هنا وهناك؛ بين تيار يسمَّى التّيار الإصلاحي المعتدل، وتيَّار يسمَّى التيَّار المتشدِّد، أن يعمل على تعقيد الواقع السياسي، بحيث يصل إلى مستوى العنف، لأنَّ المرحلة الآن تفرض على الجميع التَّكامل من أجل مواجهة الحصار الاقتصادي والإعلامي والسياسي من قبل أمريكا، والتَّعامل بحكمة وحذر في العلاقات الخليجيَّة الإيرانيَّة، لأنَّ هناك عملاً يرادُ له تعقيد العلاقات بين إيران وبين دول الخليج، ولا سيَّما في أجواء ما أثارته دولة الإمارات في مجلس التَّعاون الخليجي، من رفض قيام إيران بالمناورات العسكريَّة قرب جزر أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصّغرى، بحجَّة أنَّها للإمارات وليست لإيران، إنَّه يرادُ إيجادِ نوعٍ من التَّعقيد في العلاقات بين دول الخليج وبين إيران.
ونحن نعتقد أنَّ من الضّروريّ حلّ هذه المشكلة الَّتي ورثها النظام الإسلامي من خلال الشَّاه، أن تُحَلَّ بالحوار المباشر، لا بهذه الوسائل الّتي لا تخلو من الإثارة، لأنَّ مصلحة إيران، كما هي مصلحة دول الخليج، في استقرار العلاقات بينهما، لأنَّ هذا هو الَّذي يؤدِّي إلى استقرار الحياة السياسيَّة هناك.
تهديداتُ إسرائيلَ للبنان
والنقطة الثَّالثة الَّتي نريد أن نشير إليها هي الكيان الصّهيوني، فنحن نسمع في اللّعبة الانتخابيَّة عندهم كلَّ يوم، مزيداً من التَّهديد من خلال وزير حربهم، أو من خلال مسؤوليهم العسكريّين. ونحن نعرف أنَّ مسألة الاحتلال الإسرائيلي لجزء من لبنان، ومسألة المقاومة البطلة في مواجهة هذا الاحتلال، أصبحت تسيطر على كلِّ عناوين الجوِّ الانتخابي هناك.
ولذلك، فإنَّ علينا أن لا نهتزَّ ولا نرتجف أمام التَّهديدات التي يستهلكونها في الواقع الداخلي، كما أنَّ علينا أيضاً أن لا نثق بكلمات الانسحاب الَّتي يطلقونها هنا وهناك، في الوقت الَّذي لا بدَّ أن نعيش الحذر من العدوّ الَّذي لا يمكن الثّقة به من قريب أو بعيد. إنَّنا نعرف أنَّ العدوَّ لا يملك حريَّة الحركة في أيِّ عدوانٍ يُخاف منه، لأنَّ هناك ضوابط في الواقع الدَّاخلي عنده، وفي الواقع الإقليمي في المنطقة، وفي الواقع الدّولي في العالم... نحن نعتقد أنّه لا يملك هذه الحريّة. ولذلك، أتصوَّر أنَّه ليس هناك أيّ أساسٍ للخوف بشكلٍ كبيرٍ، كما عاشه النَّاس أمام العمليَّة النوعيَّة التي أعقبها تهديد العدوّ.
ولكن لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، من أن نقول للشَّعب اللبناني كلّه، أن يبقى في وحدته الوطنيَّة، استكمالاً للموقف الرائع الَّذي وقفه في أرنون، ولا سيَّما أنَّ أمريكا وإسرائيل صرَّحتا بأنَّ قضيَّة أرنون لم تحلَّ بعد، وأنَّ إسرائيل يمكن أن تعود إليها إذا لم تمتنع المقاومة من التحرك فيها ضدّ العدوّ.
إنَّ علينا أن لا ننسى ذلك، ونعتقد أنَّ بقاء الشَّعب في وحدته الَّتي هي أقوى سلاح، إضافةً إلى المقاومة، سوف يبطل كلَّ مخطَّطات العدوّ. ونريد للجيش والدَّولة أن يبقيا في عملية تنسيق مع المقاومة في حركتها في تحرير الأرض والإنسان.
كما نريدُ للجميع أن يكونوا على حذرٍ شديدٍ من العمليَّات الأمنيَّة، فقد يحاول العدوُّ القيامَ باغتيالاتٍ لقياداتٍ، وقد يحاولُ أن يقومَ بعمليَّات تفجير هنا وهناك، مما يمكن أن يتحرَّك به، وقد صرَّح مسؤول أمريكي أنَّ عمليَّات المجاهدين إذا استمرَّت في داخل الأرض المحتلَّة، فإنَّ من الممكن أن تتحرَّك إسرائيل بردِّ فعل قويّ.
ونلاحظ أنَّ أمريكا هي الَّتي تتولَّى نقل التَّهديد الإسرائيلي للبنان والتَّصاريح بالنيابة عن إسرائيل، من أجل إثارة الخوف في الواقع اللبناني الرّسمي.
كما نشدِّد على العمل لاكتشاف شبكات العدوّ المخابراتيَّة، وقد يكون هذا الجاسوس للعدوّ قريباً لكم عائليّاً، أو قريباً لكم على مستوى الصَّداقة، قد يكون قريباً لكم على أيِّ مستوى من المستويات. لذلك، اطردوا هؤلاء من بينكم، واكشفوهم للجهات الأمنيَّة المسؤولة، لأنهم يريدون إسقاط البلد كلِّه، يريدون أن يتدفَّأوا على النّار التي يحرقونكم بها ويحرقون أطفالكم بها.
لا بدَّ من الانتباه إلى كلِّ هؤلاء، حتَّى نستطيع أن نفشل خطط العدوّ. ونحن نقدِّر كلام رئيس الجمهوريَّة الذي قال إنَّ إسرائيل لن تستطيع أن تلعب بنا طائفيّاً بعد الآن، ونؤكِّد أهميّة تحويل ذلك إلى ممارسة عمليّة، فلا يكفي الكلام، لأنَّ البلد لا يزال يعيش في داخله الكثير من المطبَّات الطائفيَّة.
لذلك، لا بدَّ أن نعمل على الاستمرار في حماية البلد من كلِّ هذه الحساسيات الطائفيّة، كما هي المسألة في مواجهة إسرائيل، حتَّى يعرف العدوّ أنَّ هناك شعباً واحداً يواجهه. وإذا كان العدوّ يهدِّد، كما هدَّد، بأنَّه لا قيود أمام جيشه في الهجوم على أيّ موقع في لبنان، فإنَّنا نقول له إنّه لا قيود أيضاً أمام المقاومة في مهاجمة أيِّ موقع عندهم، لأنَّه قد لا يعرف أنَّ المقاومة تملك من الوسائل ما لم يعرفه قبل ذلك.
لقد مضى الوقت الَّذي كان العدوّ يهدِّد فيه وحده، فإنَّ هناك واقعاً قد لا يسلَم به الَّذي يهدِّد، لأنَّ لدى المجاهدين من الإمكانات ما يستطيعون بها إسقاط خطط العدوّ، سواء من خلال خططه الأمنيَّة، أو من خلال وسائلهم الدفاعيَّة.
إنَّ هناك صوتاً واحداً موجَّهاً إلى العدوّ، هو انسحابه من لبنان والجولان، لأنَّ الموقف واحد بين سوريا ولبنان اللَّذين يعيشان وحدة المصير في الحرب والسِّلم.
إصلاح إداريّ وسياسيّ
وفي الختام، نريد للدَّولة أن تتابع الخطوات العمليَّة في حلِّ المشاكل المعيشيَّة للمواطنين، وفي التَّخطيط لمواجهة التحدّيات الكبرى في الداخل والخارج، وسدّ الثَّغرات التي يمكن للعدوّ أن ينفذ منها لإرباك الواقع السياسي والأمني في البلد.
ولا بدَّ لنا أن نعرف أنَّ عمليَّة الإصلاح الإداريّ، لا يمكن أن تتحرَّك في خطِّ الواقعيَّة والتَّوازن، إلَّا بعمليَّة مماثلة للإصلاح السياسي في البلد، لأنَّ الفسادَ السياسيَّ، ولا سيَّما في المراكز العليا، هو الَّذي ساهم مساهمة كبيرة في أكثر من موقع من مواقع الفساد الإداريّ، وإنَّنا نرحِّب بتحرك الدولة في هذا الاتجاه، ونريد لها الاستمرار، ولكن من موقع العدالة للجميع.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 05/03/ 1999م.
في أكثر من آية في القرآن الكريم، يحدِّثنا الله عن العاقبة، وهي عاقبة الإنسان في نهاية عمره، سواء في ذلك العاقبة في الدّنيا، أو العاقبة في الآخرة.
العبرةُ بالنِّهايات
ويحدِّثنا الله سبحانه وتعالى عن كثيرٍ من الَّذين عاثوا في الأرض فساداً، وكذَّبوا الأنبياء، وتحرّكوا في خطِّ الإجرام، وانطلقوا في أجواء الظّلم، بأنَّه سبحانه وتعالى عاقبهم في الدنيا قبل الآخرة ودمَّرهم، مما يريد الله أن يبيِّن للإنسان دائماً أن لا تفرح ببدايات الأمور، فقد تسرّك هذه البدايات؛ قد تُفسد، وقد تعيث في الأرض فساداً والنَّاس يصفِّقون لك، ولكنَّ الله يجعل لك النَّتائج في النِّهايات على خلاف البدايات، فتنتهي والنَّاس يرجمونك بالحجارة.
كم من الظَّالمين الَّذين عايشناهم، وكم من المفسدين الَّذين كنَّا معهم، كم من هؤلاء من كان يستعرض عضلات قوَّته أمام النَّاس، وكان النَّاس يخضعون له، ولكن: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 140]، كم رأينا من هؤلاء مَن كان في القمَّة وإذا هو في الحضيض، ومن كان يعيش حرَّيته في ظلم النَّاس وإفسادهم وإذا هو في داخل السّجون، كم من هؤلاء ممن كان يسجن النَّاس فإذا هو سجين، ومن كان يشنق النّاس فإذا به على أعواد المشانق!
لذلك، إنَّ الله يريد للإنسان في كلِّ أعماله، أن يدرس النّهايات عندما يريد أن يبدأ البدايات، انظر ما هي عاقبة عملك إذا بدأت عملاً، وما هي عاقبة علاقتك بهذا وذاك عندما تنشئ علاقة، وما هي عاقبة كلامك عندما تريد أن تتكلَّم بكلمة.
لذلك، إنَّ الله يريد للإنسان أن يحكِّم عقله في الأمور، وأن يعتبر أنَّ كلمته قد تشارك في نهايته، وأنَّ عمله قد يسقط مصيره.
فلنقرأ بعض الآيات الَّتي يحدِّثنا الله فيها عن عاقبة بعض هؤلاء الَّذين كنَّا نحني رؤوسنا لهم، لأنَّ هذا يملك مالاً، ولأنَّ ذاك يملك سلطة. يقول تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِى ٱلْأَرْضِ ثُمَّ ٱنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ}[الأنعام: 11] الّذين كذَّبوا الأنبياء؛ أين صاروا؟ وما مصيرهم؟ هل خُلِّدوا كما كان يهيَّأ لهم أنَّ لهم الخلود، {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ}[الأنعام: 135]، هل العاقبة للمتّقين أو العاقبة للفاسقين؟ {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}[الأعراف: 84]، {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[النّمل: 14]، وفي الجانب الآخر: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الأعراف: 128].
اصبرْ، وإن تحمَّلت الكثير من المشاكل؛ اصبر على طاعة الله، واصبر عن معصية الله. قد تتعب في طاعة الله، قد تشعر بالحرمان إذا أبعدْت نفسك عن معصية الله، ولكن عندما يصبح الصّباح، ويقف المتَّقون أمام الله، ويقف العاصون أمام الله، عند ذلك تعرف لمن عاقبة الأمر.
وهكذا يقول تعالى: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ}[القصص: 37]، {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}[لقمان: 22].
من خلال ذلك، أيُّها الأحبَّة، نعرف أنَّ علينا، ونحن في فسحةٍ من العمر، فلا يدري أحدنا كم بقي له من هذا العمر، وربما كانت بدايات بعضنا بدايات سيِّئة، لأنَّه عاش في بيئة فاسقة أو منحرفة أو ظالمة بعيدة عن الله، علينا عندما نفكِّر في العاقبة بين يدي الله غداً، أن نرتِّب أمورنا {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ}[إبراهيم: 31].
العملُ لحسنِ الخاتمة
وقد حدَّثنا الأئمَّة من أهل البيت (ع) عن الخاتمة الطيِّبة، وحدَّثونا عن طبيعة هذه الخاتمة.
في الحديث عن الإمام عليّ (ع): "إنْ خُتِمَ لكَ بالسَّعادةِ صرْتَ إلى الحُبورِ- إلى اللّذَّة والفرح - وأنت ملكٌ مطاعٌ، وآمِنٌ لا تُراع، يطوفُ عليكم ولدانٌ كأنَّهم الجمانُ بكأسٍ منْ معين، بيضاءَ لذَّةٍ للشَّاربين".
وعن رسول الله (ص): "لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة، لا يتيقَّن الوصول إلى رضوان الله، حتَّى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له"، فعندما تُنزَعُ روحُهُ، يعرف ما مصيره، لأنَّه يُكشَف له عن مصيره آنذاك.
وفي الحديث عن النَّبيِّ عيسى (ع): "إنَّ النَّاسَ يقولونَ إنَّ البناءَ بأساسِهِ – فالنَّاس، عادةً، عندما يتحدَّثون عن قوَّة البناء، يقولون المهمّ هو الأساس، فإذا كان الأساس قويّاً يكون البناء قويّاً - وأنا لا أقولُ لكم كذلك. قالوا: فماذا تقولُ يا روحَ الله؟ قالَ: بحقٍّ أقولُ لكم، إنَّ آخرَ حجرٍ يضعُهُ العاملُ هو الأساس"، كناية عن آخر عمل تعمله، فقد تكون في أساسك مؤمناً، ولكن قد يكون هناك أشياء تخلخل هذا الأساس، وذلك عندما لا تدرس البيئة الَّتي تعيش فيها، عندما لا تدرس الأصدقاء الَّذين تختارهم لأسرارك ولجلساتك، عندما لا تدرس الثَّقافة الَّتي تتثقَّف بها... قد يكون أساسك جيِّداً، لكنَّ النَّتائج بعد ذلك قد تخلخل هذا الأساس.
إنَّ الله يحدِّثنا عن بعض النَّاس: {وَیَوْمَ یَعَضُّ ٱلظَّالِمُ عَلَىٰ یَدَیهِ یَقُولُ یَـٰلَیتَنِی ٱتَّخَذتُ مَعَ ٱلرَّسُولِ سَبِیلاً * یَـٰوَیلَتَىٰ لَیتَنِي لَم أَتَّخِذ فُلَانًا خَلِیلاً * لَّقَد أَضَلَّنِي عَنِ ٱلذِّكرِ بَعدَ إِذ جَاۤءَنِي وَكَانَ ٱلشَّیطَانُ لِلإِنسَـانِ خَذُولاً}[الفرقان: 27 – 29].
لذلك، أنت الآن عندما تختار بيئة معيَّنة، أو أصدقاء معيَّنين، فربَّما يقلبونك رأساً على عقب. الآن هناك الكثير من النَّاس يستسهلون البقاء في بلاد الكفر. فمثلاً، قد يكون هناك من لا يجد عملاً في بلده، أو تكون الأوضاع صعبةً عليه، فيسافر إلى أوروبَّا أو أمريكا أو غيرهما. ويقيناً أنَّ الحياة هناك أكثر رخاءً ورحابةً، ولكنَّه يفقد عاقبته، لأنَّه عندما تنفصل عن أجواء الإيمان، هذه الأجواء الَّتي تغذِّي عقلك وقلبك وسلوكك، فقد تضيع، والأكثر من ذلك، أنَّك تضيِّع أولادك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التَّحريم: 6].
ونحن نعرف أنَّ الكثيرين من الَّذين هاجروا في بدايات القرن، وخصوصاً في بدايات الحرب، إلى الأرجنتين وغيرها، أصبح أولادهم كافرين، ليس لهم علاقة بالإسلام. هناك مَنْ إذا دارَ الأمرُ بين المال والإسلام، يقدِّم المال على الإسلام. ونحن لا نقول إنَّ الهجرة حرام، لكن إذا أردنا الهجرة إلى بلد، فعلينا أن نعمل على أن نهيِّئ هناك المساجد والنَّوادي والمدارس الّتي يمكن أن تحفظنا وتحفظ أولادنا.
هناك من يسافر ولا يهتمّ إلَّا بالجانب السياسي، السّياسة الّتي خرَّبت حياتنا هنا، نأخذها معنا لنخرّب حياتنا هناك.. أمَّا كيف نصلِّي، كيف نصوم، كيف نحفظ أولادنا ونحفظ لغتهم وما إلى ذلك، فلا يهتمّ، وهذا من الأشياء الَّتي توجب سوء العاقبة.
وإنَّ علينا، كما نهرب من العدوى عندما يقال إنَّ فلاناً عنده مرض معد، ونستعمل عند زيارته كلَّ طرق الوقاية، أن نقي أنفسنا في البلاد الَّتي نسافر إليها، هناك مرضٌ قد يميتك جسديّاً، ولكنَّ مرض الرّوح يميتك روحيّاً ومصيريّاً في الدّنيا والآخرة.
لذلك يقول عيسى (ع): "بحقٍّ أقول لكم، إنَّ آخرَ حجرٍ يضعُهُ العاملُ هو الأساس"، لأنَّ المسألة هي بالنَّتائج وليست بالبدايات.
ووردت أيضاً كلمات: "خيرُ الأمورِ خيرُها عاقبةً"، "الأمور بتمامها، والأعمال بخواتمها".
ويقول الإمام عليّ (ع): "إنَّ حقيقةَ السَّعادةِ أنْ يُختَمَ للمرءِ عملُهُ بالسَّعادةِ، وإنَّ حقيقةَ الشَّقاءِ أنْ يُختَمَ للمرءِ عملُهُ بالشَّقاءِ".
لضمانِ حسنِ العاقبةِ
ويقول رسول الله (ص): "إنَّ الرَّجُلَ لَيَعمَلُ عَمَلَ أهلِ الجَنَّةِ فيما يَبْدو لِلنَّاسِ، وهو مِن أهلِ النَّارِ - فهو يصلّي ويصوم ويحجّ، ثمَّ بعد ذلك تصيبه فتنة. ألا نقرأ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الحجّ: 11]؟! - وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ يُخْتَمُ له عَمَلُهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجَنَّةِ"، فقد يكون هناك من ارتكب في حياته الكثير من الذّنوب والمعاصي، ولكنَّه في آخر الأمر يتوب ويصلح ويصبح من أهل الجنَّة.
وعندنا في الواقع أمثال في حسن العاقبة وسوء العاقبة، فهناك الحرُّ بن يزيد الرّياحي وكيف كانت عاقبته، وعمر بن سعد وكيف كان عاقبته.
لذلك، على الإنسان أن لا يطمئنَّ إلى نفسه بأنَّه مؤمن، فقد تأتيه صدمة تقلب حياته، وقد يصبح مؤمناً ويمسي كافراً.
وهكذا يقول رسول الله (ص): "لَا عَلَيْكُمْ أنَ تَعْجَبُوا بِأَحَدٍ حتَّى تنظرُوا بما يُخْتَمُ لهُ، فإنَّ العاملَ يعملُ زماناً من دهرِهِ - أو بُرهةً من دهرهِ - بعملٍ صالحٍ لَوْ مَاتَ عَلَيْهِ لَدَخَلَ الْجَنَّةَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا سَيِّئًا، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَعْمَلُ الْبُرْهَةَ مِنْ دَهْرِهِ بِعَمَلٍ سَيِّئٍ، لو مَاتَ عَلَيْهِ دَخَلَ النَّارَ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ فَيَعْمَلُ عَمَلًا صَالِحاً".
جاء عمرو بن جرموز إلى عليّ بن أبي طالب (ع) بسيف الزُّبير، فأخذه عليّ (ع)، فنظر إليه ثمَّ قال: "أما والله! لربَّ كربةٍ وكربةٍ قدْ فرَّجَها صاحبُ هذا السَّيفِ عن وجهِ رسولِ الله (ص)"، أي أنَّ هذا الشَّخص كان مجاهداً، وكان يدفع الكرب عن رسول الله، ولكنَّ نهايته هو أنَّه ثار على عليٍّ (ع) وقتل في المعركة.
وعن الإمام الصَّادق (ع) قال: "يسلك بالسَّعيد في طريق الأشقياء حتَّى يقول النَّاس: ما أشبهه بهم، بل هو منهم، ثمَّ يتداركه السَّعادة، وقد يسلك بالشَّقيّ طريق السّعداء حتَّى يقول النَّاس ما أشبهه بهم، بل هو منهم، ثم يتداركه الشَّقاء...".
وقد وردَ عن الإمامِ الصَّادقِ (ع) أيضاً: "إنْ أردْتَ أن يُختمَ بِخيْرٍ عَمَلُكَ حتَّى تقبضَ – أي حتّى يأتيك الموت - وأنتَ في أفضلِ الأعمالِ، فعظِّمْ للهِ حقَّهُ، أنْ لا تبذلَ نَعْمَاءَهُ في مَعَاصيهِ -.
فإذا أردت أن يُختَم لك بخير، فعظِّمْ حقَّ الله، فالله أعطاك نعماً؛ أعطاك عينيك اللَّتين تبصر بهما، وأعطاك أذنيك اللَّتين تسمع بهما، وأعطاك لسانك الَّذي تنطق به، ويديك اللَّتين تمسك بهما الأشياء، وأعطاك المال... أنت فكِّر أنَّ هذه الأشياء هي نعم الله الَّتي أنعم بها عليَّ، فهل من المعقول أو من الإنسانيَّة أن أحارب الله بها؟ فكِّر هكذا كلَّما دعاك الشَّيطان إلى معصية؛ عندما تريد أن تغتاب، أو أن تكذب، أو أن تشتم، أو تؤيِّد ظالماً... فكِّر قبل أن تنطق الكلمة، أنَّ هذا اللِّسان نعمة من الله عليَّ، وقد نهاني أن أستعمله في هذه المعصية أو تلك، فعليَّ أن لا أستعين بنعمِ اللهِ على معاصيه. كما لو أعطاك أحدهم مسدَّساً فتقتله به أو تحاربه به، كما عبَّر ذاك الشَّاعر:
أَعَلِّمُهُ الرِّمايَةَ كُلَّ يَومٍ فَلَمَّا اشتَدَّ ساعِدُهُ رَماني
وكَم عَلَّمْتُهُ نَظْمَ القَوافي فَلَمَّا قالَ قافِيَةً هَجاني
يقول الإمام عليّ (ع): "أقلُّ ما يلزمُكُم للهِ، ألّا تستعينوا بنعمِهِ على معاصيهِ".
وفي هذا الجوّ، تأتي كلمة الإمام عليّ (ع): "اتَّقِ شَرَّ مَنْ أَحْسَنْتَ إِلَيْهِ". بعض النَّاس الَّذين تحسن إليهم يتعقَّدون من الإحسان، وليس معنى ذلك أنَّ كلَّ النَّاس هكذا، لكن البعض هو هكذا، وعلينا أن نكون على حذر منهم.
ويكمل حديث الصّادق (ع): - وَأَنْ تَغْترَّ بِحلْمِهِ عَنْكَ". إنَّ الله قد يعطيك الصحَّة والجاه والمال والأولاد، لكنَّه سبحانه قد يمهلك ليختبرك، فلا تعتبر أنَّ الله عندما يسكت عنك، معنى ذلك أنَّك قريب منه وأنَّك صالح، بل إنَّ عليك أن تدرس عملك لتعرف ما إذا كان اختباراً من الله: {أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ}[العنكبوت: 2 - 3].
ويقول الإمام الكاظم (ع): "إنَّ خواتيمَ أعمالِكِمْ قضاءُ حوائجِ إخوانِكُمْ، والإحسانُ إليْهِم مَا قدرْتُمْ، وإلَّا لَمْ يُقبلَ مِنْكُم عملٌ. حنُّوا على إخوانِكم وارْحَمُوهم تَلحُقُوا بنا".
ويقول الإمام عليّ (ع): "إنْ أردْتَ أن يُؤمِنكَ الله سُوءَ العاقبة، فاعلمْ أنَّ ما تأتيهِ منْ خيرٍ فبفضلِ اللهِ وتوفيقِهِ، وما تأتيهِ منْ سُوءٍ، فبإمهالِ اللهِ وإنظارهِ إيَّاكَ، وحِلمِهِ وعفوِهِ عنْكَ".
وعن الصّادق (ع): "مَنْ كانَ عاقلاً، خُتِمَ له بالجنَّةِ إنْ شاءَ الله".
خطُّ التَّقوى والطَّاعة
هذه أحاديث أهل البيت (ع) في هذا الجانب، وما يريدونه منَّا، هو أن نظلَّ في خطِّ التقوى في كلِّ أمورنا، وأن لا نغفل عن تقوى الله، وأن لا نسمح لأنفسنا بالانحراف عن الخطِّ بالوقوع فيما يقع فيه النَّاس، فإنَّ الله قال عن بعض أهل النَّار: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ}[38 – 45].
وأخيراً، يقول الإمام عليّ (ع): "أوصيكم عبادَ الله بتقوى الله، فإنَّها خيرُ ما تواصى العبادُ بهِ، وخيرُ عواقب الأمور عندَ الله". {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: 197].
أيُّها الأحبَّة، كما قلْناها في بداية الحديث، نقولها في نهاية الحديث: افتحوا عقولكم لله، وافتحوا قلوبكم لله، وخطِّطوا لعمركم أن لا يكون عمراً في معصية الله، بل أن يكون عمراً في طاعة الله؛ فيما تقولون، وفيما تعملون، وفيما تنشئون من علاقات، لأنَّ على كلِّ إنسان أن يعرف نفسه غداً، عندما يقدَّم إليه كتابه، أن يعرف كلّ ما في كتابه: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: 14]، {فَبَشِّرْ عِبادِي * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ}[الزّمر: 17 – 18].
لا تجعلوا هذا الكلام، وهو كلام الله ورسوله وأوليائه، مجرَّد كلام سمعتموه، ولكن اجعلوه شيئاً تتعقَّلونه، فإنَّ هذا الكلام هو حجّة الله عليكم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك: 10].
الخطبةُ الثَّانية
عباد الله، اتَّقوا الله ودقِّقوا في كلِّ ما تفكِّرون فيه حتَّى تزيلوا الباطل من أفكاركم، وفي كلِّ ما تتعاطفون فيه حتَّى تبعدوا الباطل عن عواطفكم، وحدِّقوا فيما تعملونَهُ حتَّى تبعدوا الشَّرَّ عن أعمالِكم، وفيما تقفونَهُ من مواقف حتَّى تبعدوا الظُّلمَ والانحرافَ عن مواقفِكِم، فإنَّ اللهَ يريدُ للإنسانِ أن يحاسبَ نفسَهُ أشدَّ من محاسبةِ الشَّريكِ لشريكِهِ، ويريدُ له أن يجاهدَ نفسَهُ أشدَّ من مجاهدة الإنسان لعدوِّه، ويريدُ له أن يكون واعياً لنفسه، لأنَّ الخاسرين هم الَّذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة.. قد تخسر مالاً فتعوّضه، وقد تخسر فرصةً فتأتي فرصة أخرى لتعوِّض تلك الفرصة، ولكن ماذا إذا خسرت عمرك ومصيرك، وخسرت جنَّتك؟! لذلك "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزَن عليكم"، حتَّى يدخل الإنسان إلى قبره وهو مطمئنّ، ليسمع النّداء: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}[الفجر: 27 – 30].
أيُّها الأحبَّة، إنَّ مما يريده الله سبحانه وتعالى لنا، أن نفكِّر في عاقبة أمورنا في الدّنيا، وفي عاقبة أمورنا في الآخرة، فإنَّ عاقبة الآخرة قد ترتبط بعاقبة الدنيا، وعاقبة الدّنيا تعني أن تتحمَّل مسؤوليَّة ما أنت فيه؛ أن تتحمَّل مسؤوليّة نفسك، لتكون الرَّابح فيما تأخذ به نفسك، وأن تتحمَّل مسؤوليَّة أمَّتك، وأن تواجه كلَّ مواقع الكفر الَّذي يريدك أن تبتعد عن الحقّ، ومواقع الاستكبار الَّذي يريدك أن تبتعد عن خطِّ الاستقامة، أن تواجهه بكلِّ قوَّة، وبكلِّ وعي، وبكلِّ يقظة.
كونوا الواعين الَّذين لا يستطيع أحد أن يخدعهم عن أنفسهم، أو أن يغشَّهم في مصيرهم.. افتحوا عقولكم على كلِّ ما يحيط بكم، وافتحوا قلوبكم لكلِّ ما يطرأ عليكم.
ونحن، أيُّها الأحبَّة، في هذا الموقف، نريد أن نلمَّ ببعض ما نعيشه في واقعنا الإسلاميّ في كلِّ العالم الإسلاميّ، فماذا نرى؟
أمريكا ضدَّ حقوقِ الإنسان
قبل أيَّام، أصدرَتِ الولايات المتحدة الأمريكيَّة تقريرها السنويّ عن مسألة حقوق الإنسان، لأنَّها جعلت نفسها في موقع الَّذي يحاكم العالم من خلال تسجيل النّقاط على هذا البلد أو ذاك أنَّه انتهك حقوق الإنسان. ولكنَّنا عندما ندرس أمريكا هذه الّتي تعظنا دائماً بحقوق الإنسان، كما لو كانت واعظاً ينذر النَّاس بعذاب أليم، عندما ندرسها وندرس سياستها في العالم، نجد أنَّ أوَّل بلد يسقط حقوق الإنسان هو أمريكا، لأنَّها عندما تتحرَّك في العالم، تثير الحروب في بلاد المستضعفين، وباسم حقوق الإنسان. فنحن عندما ندرس السياسة الأمريكيَّة في صراعها مع السّياسة الأوروبيَّة في أفريقيا، نجد أنَّ أفريقيا، هذه القارَّة الفقيرة الضَّعيفة، والَّتي تختزن في داخل أرضها أغنى ثروات العالم، يستهلك النَّاس فيها أنفسهم بالحروب الَّتي تحصد مئات الألوف، بل الملايين، فلا تهدأ حرب في أيِّ منطقة في أفريقيا إلَّا وتنطلق حرب أخرى، وهذا ما لاحظناه في أكثر من حربٍ أفريقيَّة لا تزال تشتعل، وكما في الحرب الجديدة الآن بين أريتريا وأثيوبيا، وهي حروب الفقراء؛ الفقراء فيما عندهم من إمكانات، والأغنياء فيما تختزنه بلادهم من إمكانات، لأنَّ أمريكا لا تريد لهذه الشّعوب الأفريقيَّة أن تغتني بثرواتها، بل تريد للأمريكيّين أن يغتنوا بهذه الثّروات.
وهكذا عندما نجد الدّول المتحالفة مع أمريكا، فإنَّ أغلب الدّول المتحالفة في العالم العربي أو العالم الإسلاميّ، تضطهد حقوق الإنسان، فلا حريَّة للإنسان، ولا عدالة في أكثر هذه الدّول، وأمريكا لا تسجِّلها في خانة الدّول الَّتي تنتهك حقوق الإنسان، بل تسجِّل إيران في هذه الخانة، إيران الَّتي تمثِّل أفضل دولة تستفتي شعبها في المنطقة، فليس هناك دولة تستفتي شعبها في رئاسة الجمهوريَّة أو في الانتخابات البلديّة أو في الانتخابات النّيابيّة مثل إيران، وفي كلِّ شي، ومع ذلك، تسجَّل إيران دولةً تنتهكُ حقوق الإنسان، لأنَّها تشجِّع الإرهاب، كما تدَّعي أمريكا، ونحن نعرف أنَّها تشجِّع الباحثين عن الحريَّة.
وهكذا بالنِّسبة إلى السودان وليبيا، وكذلك أكثر من بلدٍ من بلاد المسلمين أو بلاد المستضعفين. إنَّ أمريكا تحاول أن ترجم البلدان الَّتي تعارض سياستها باسم أنَّها تنتهك حقوق الإنسان، أمَّا البلدان الَّتي تنسجم مع سياستها، فإنَّها لا تقوم بأيِّ عمل ضدَّها، وهذا ما نلاحظه بالنِّسبة إلى السياسة الأمريكيَّة في إسرائيل؛ إنَّ إسرائيل تحتلُّ قسماً من لبنان، في الجنوب والبقاع الغربي، وتدمِّر الحجر والبشر، وتقتل الأطفال، ومع ذلك، فإنَّ أمريكا لا تسمح حتَّى لمجلس الأمن بأن يدين هذه الأعمال ضدَّ إسرائيل، مع أنَّ الاحتلال أعلى درجات الانتهاك لحقوق الإنسان.
كذلك تركيا، تعمل الآن على ما يشبه إبادة الأكراد، وعلى خنق حرّيّة الشَّعب التركي من الإسلاميّين، وهي بين وقتٍ وآخر تخترق حدود العراق لتقتل من تقتل، ولا تحرِّك أمريكا ساكناً.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، علينا أن نفهم هذا الذّئب الَّذي يلبس ثياب الحمل الوديع، أن لا نغترَّ بثيابه الحملانيَّة، لأنَّه كما قال ذلك الشَّاعر:
إِذَا رَأَيْتَ نُيُوْبَ اللَّيْثِ بَارِزَةً فَلَا تَظُنَّنَ أَنَّ اللَّيْثَ يَبْتَسِمُ
هذا جانبٌ لا بدَّ لنا أن نواجهه.
إيرانُ بلدُ الحريّات
وعندما نتحدَّث عن إيران الإسلام، فإنَّنا تابعنا الانتخابات البلديَّة فيها، ورأينا حجم الحريَّة السياسيَّة والمسؤوليَّة الشَّعبيَّة في الحيويَّة الانتخابيَّة، ونرى أنّها تدلّ على انفتاح النّظام الإسلامي في إيران على الإرادة الشعبيَّة في الخطِّ الإسلامي الأصيل. وأيضاً، فإنَّنا نستكشف من ذلك أنَّ إيران ليست في حالة اهتزاز، بل هي في حالة قوَّة وثبات، لأنَّ النظام الّذي يعطي للشَّعب حرَّيته في أن يقول كلمته من دون أن يفرض عليه شيء، هو نظام واثق بنفسه.
إنَّ الأنظمة الَّتي لا تثق بنفسها، هي الّتي لا تسمح للشَّعب بالحريَّة، وهي الَّتي تتدخَّل في عمليَّة الإرادة الشَّعبيَّة بمختلف الضّغوط.
ونحن نريد للنظام الإسلامي الاستمرار في هذا النَّهج، فلا يُسمَح للتَّجاذب السياسي الَّذي يحصل بين التيارات السياسيَّة هنا وهناك؛ بين تيار يسمَّى التّيار الإصلاحي المعتدل، وتيَّار يسمَّى التيَّار المتشدِّد، أن يعمل على تعقيد الواقع السياسي، بحيث يصل إلى مستوى العنف، لأنَّ المرحلة الآن تفرض على الجميع التَّكامل من أجل مواجهة الحصار الاقتصادي والإعلامي والسياسي من قبل أمريكا، والتَّعامل بحكمة وحذر في العلاقات الخليجيَّة الإيرانيَّة، لأنَّ هناك عملاً يرادُ له تعقيد العلاقات بين إيران وبين دول الخليج، ولا سيَّما في أجواء ما أثارته دولة الإمارات في مجلس التَّعاون الخليجي، من رفض قيام إيران بالمناورات العسكريَّة قرب جزر أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصّغرى، بحجَّة أنَّها للإمارات وليست لإيران، إنَّه يرادُ إيجادِ نوعٍ من التَّعقيد في العلاقات بين دول الخليج وبين إيران.
ونحن نعتقد أنَّ من الضّروريّ حلّ هذه المشكلة الَّتي ورثها النظام الإسلامي من خلال الشَّاه، أن تُحَلَّ بالحوار المباشر، لا بهذه الوسائل الّتي لا تخلو من الإثارة، لأنَّ مصلحة إيران، كما هي مصلحة دول الخليج، في استقرار العلاقات بينهما، لأنَّ هذا هو الَّذي يؤدِّي إلى استقرار الحياة السياسيَّة هناك.
تهديداتُ إسرائيلَ للبنان
والنقطة الثَّالثة الَّتي نريد أن نشير إليها هي الكيان الصّهيوني، فنحن نسمع في اللّعبة الانتخابيَّة عندهم كلَّ يوم، مزيداً من التَّهديد من خلال وزير حربهم، أو من خلال مسؤوليهم العسكريّين. ونحن نعرف أنَّ مسألة الاحتلال الإسرائيلي لجزء من لبنان، ومسألة المقاومة البطلة في مواجهة هذا الاحتلال، أصبحت تسيطر على كلِّ عناوين الجوِّ الانتخابي هناك.
ولذلك، فإنَّ علينا أن لا نهتزَّ ولا نرتجف أمام التَّهديدات التي يستهلكونها في الواقع الداخلي، كما أنَّ علينا أيضاً أن لا نثق بكلمات الانسحاب الَّتي يطلقونها هنا وهناك، في الوقت الَّذي لا بدَّ أن نعيش الحذر من العدوّ الَّذي لا يمكن الثّقة به من قريب أو بعيد. إنَّنا نعرف أنَّ العدوَّ لا يملك حريَّة الحركة في أيِّ عدوانٍ يُخاف منه، لأنَّ هناك ضوابط في الواقع الدَّاخلي عنده، وفي الواقع الإقليمي في المنطقة، وفي الواقع الدّولي في العالم... نحن نعتقد أنّه لا يملك هذه الحريّة. ولذلك، أتصوَّر أنَّه ليس هناك أيّ أساسٍ للخوف بشكلٍ كبيرٍ، كما عاشه النَّاس أمام العمليَّة النوعيَّة التي أعقبها تهديد العدوّ.
ولكن لا بدَّ لنا، أيُّها الأحبَّة، من أن نقول للشَّعب اللبناني كلّه، أن يبقى في وحدته الوطنيَّة، استكمالاً للموقف الرائع الَّذي وقفه في أرنون، ولا سيَّما أنَّ أمريكا وإسرائيل صرَّحتا بأنَّ قضيَّة أرنون لم تحلَّ بعد، وأنَّ إسرائيل يمكن أن تعود إليها إذا لم تمتنع المقاومة من التحرك فيها ضدّ العدوّ.
إنَّ علينا أن لا ننسى ذلك، ونعتقد أنَّ بقاء الشَّعب في وحدته الَّتي هي أقوى سلاح، إضافةً إلى المقاومة، سوف يبطل كلَّ مخطَّطات العدوّ. ونريد للجيش والدَّولة أن يبقيا في عملية تنسيق مع المقاومة في حركتها في تحرير الأرض والإنسان.
كما نريدُ للجميع أن يكونوا على حذرٍ شديدٍ من العمليَّات الأمنيَّة، فقد يحاول العدوُّ القيامَ باغتيالاتٍ لقياداتٍ، وقد يحاولُ أن يقومَ بعمليَّات تفجير هنا وهناك، مما يمكن أن يتحرَّك به، وقد صرَّح مسؤول أمريكي أنَّ عمليَّات المجاهدين إذا استمرَّت في داخل الأرض المحتلَّة، فإنَّ من الممكن أن تتحرَّك إسرائيل بردِّ فعل قويّ.
ونلاحظ أنَّ أمريكا هي الَّتي تتولَّى نقل التَّهديد الإسرائيلي للبنان والتَّصاريح بالنيابة عن إسرائيل، من أجل إثارة الخوف في الواقع اللبناني الرّسمي.
كما نشدِّد على العمل لاكتشاف شبكات العدوّ المخابراتيَّة، وقد يكون هذا الجاسوس للعدوّ قريباً لكم عائليّاً، أو قريباً لكم على مستوى الصَّداقة، قد يكون قريباً لكم على أيِّ مستوى من المستويات. لذلك، اطردوا هؤلاء من بينكم، واكشفوهم للجهات الأمنيَّة المسؤولة، لأنهم يريدون إسقاط البلد كلِّه، يريدون أن يتدفَّأوا على النّار التي يحرقونكم بها ويحرقون أطفالكم بها.
لا بدَّ من الانتباه إلى كلِّ هؤلاء، حتَّى نستطيع أن نفشل خطط العدوّ. ونحن نقدِّر كلام رئيس الجمهوريَّة الذي قال إنَّ إسرائيل لن تستطيع أن تلعب بنا طائفيّاً بعد الآن، ونؤكِّد أهميّة تحويل ذلك إلى ممارسة عمليّة، فلا يكفي الكلام، لأنَّ البلد لا يزال يعيش في داخله الكثير من المطبَّات الطائفيَّة.
لذلك، لا بدَّ أن نعمل على الاستمرار في حماية البلد من كلِّ هذه الحساسيات الطائفيّة، كما هي المسألة في مواجهة إسرائيل، حتَّى يعرف العدوّ أنَّ هناك شعباً واحداً يواجهه. وإذا كان العدوّ يهدِّد، كما هدَّد، بأنَّه لا قيود أمام جيشه في الهجوم على أيّ موقع في لبنان، فإنَّنا نقول له إنّه لا قيود أيضاً أمام المقاومة في مهاجمة أيِّ موقع عندهم، لأنَّه قد لا يعرف أنَّ المقاومة تملك من الوسائل ما لم يعرفه قبل ذلك.
لقد مضى الوقت الَّذي كان العدوّ يهدِّد فيه وحده، فإنَّ هناك واقعاً قد لا يسلَم به الَّذي يهدِّد، لأنَّ لدى المجاهدين من الإمكانات ما يستطيعون بها إسقاط خطط العدوّ، سواء من خلال خططه الأمنيَّة، أو من خلال وسائلهم الدفاعيَّة.
إنَّ هناك صوتاً واحداً موجَّهاً إلى العدوّ، هو انسحابه من لبنان والجولان، لأنَّ الموقف واحد بين سوريا ولبنان اللَّذين يعيشان وحدة المصير في الحرب والسِّلم.
إصلاح إداريّ وسياسيّ
وفي الختام، نريد للدَّولة أن تتابع الخطوات العمليَّة في حلِّ المشاكل المعيشيَّة للمواطنين، وفي التَّخطيط لمواجهة التحدّيات الكبرى في الداخل والخارج، وسدّ الثَّغرات التي يمكن للعدوّ أن ينفذ منها لإرباك الواقع السياسي والأمني في البلد.
ولا بدَّ لنا أن نعرف أنَّ عمليَّة الإصلاح الإداريّ، لا يمكن أن تتحرَّك في خطِّ الواقعيَّة والتَّوازن، إلَّا بعمليَّة مماثلة للإصلاح السياسي في البلد، لأنَّ الفسادَ السياسيَّ، ولا سيَّما في المراكز العليا، هو الَّذي ساهم مساهمة كبيرة في أكثر من موقع من مواقع الفساد الإداريّ، وإنَّنا نرحِّب بتحرك الدولة في هذا الاتجاه، ونريد لها الاستمرار، ولكن من موقع العدالة للجميع.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 05/03/ 1999م.