هل تنطلق معركة تحرير الاقتصاد من الارتهان للخارج؟!

هل تنطلق معركة تحرير الاقتصاد من الارتهان للخارج؟!

مع العلامة السيّد محمد حسين فضل الله، يتشعَّب الحديث الاقتصادي لتتداخل فيه الأمور الدينيَّة والاجتماعيَّة وحتى السياسية، باعتبار أنَّ الاقتصاد ملتصق التصاقاً بتلك القضايا جميعاً.

ومع العلامة السيِّد، وفي حضوره، تشعر بأنَّك بحاجة إلى مزيد من المعلومات والتحليلات والمتوقّعات، وتحسّ بأنّ الوقت يمرّ مسرعاً.

"مال وأعمال" كان لها مع العلامة السيّد حوار ومداخلات في أوّل حديث اقتصادي يدلي به لمطبوعة، ويعلّق فيه على شؤون الساعة وشجونها وقضايا الشّرق والغرب...

عندما تلتقي العلامة السيّد محمد حسين فضل الله، تشعر بأنّ الوقت يمرّ بسرعة، وتحسّ بأنّك أصبحت آذاناً مصغية أو كتلة سمعية مهمّتها التقاط الكلمات والحروف، وحتى الفواصل والنقط.

بل عندما تحاوره في شؤون الساعة وشجونها، سرعان ما تقول في سرّك: "ليتني أحصل بعد على المزيد"، ذلك أنّ العلامة السيّد قادر على استقراء المستقبل، بقدر استخلاصه العبر من أحداث ولّت، بقدر تمكّنه من قراءة التطورات اليومية، وهو يتعاطى مع الأحداث.

وكما يشدّك إليه عندما يتحدّث في الدين أو في الفلسفة أو في الفكر أو في السياسة، كذلك هو يشدّك إليه عندما يتحدث في الاقتصاد، فإذا أنت أمام موسوعة في المعرفة والعلوم، كلّما انتهيت من قراءة صفحة، اجتذبتك إليها صفحات وصفحات.

وليس في الأمر ما يدعو إلى العجب، ذلك أنّ الاقتصاد في صميم عمله اليومي، فإذا ألقى خطبة في الدّين، ما استطاع تجاهل الاقتصاد، وإذا تحدث في السياسة، وجد الاقتصاد ملتصقاً بها، وإذا تكلم على القضايا الاجتماعية المعيوشة، انقاد طوعاً لا اختياراً إلى الاقتصاد.

من هذا المنطلق، كان لي مع العلامة السيّد لقاء، هو أشبه بجولة أفق عامّة منه بحديث، عرضنا عليه أفكاراً فردّ علينا بمثلها، استوضحته في نقاط معيّنة، فما تأخر عن الإجابة، وفي مطلق الأحوال، كان دائماً كما عهدناه في كلّ مواقفه السابقة، رجل دين يرفع بالاقتصاد إلى مستواه العلميّ، ولا ينزل به إلى درك السياسة، كما يمارسها السياسيّون عندنا.

طرحت عليه أسئلة عامّة أحياناً، وساخنة أخرى، وكان في الحالتين يردّ فلسفياً على الأسئلة، سواء تطرق إلى السياسة أو الاجتماع أو الدين، وهو يتحدّث في الاقتصاد.

لقد رسم لنا خطوطاً عامّة في كلّ ما يقول وما يريد أن يقول...خطوطاً هي أشبه بالقواعد الحسابيّة التي لا مجال للخطأ فيها. أما التفاصيل، فتركها لغيره، للبارعين في التقاط الأفكار وتوسيعها وتوضيحها.

الارتهان للدّولار؟!

سألته عن الاقتصاد اللّبناني الذي بات الدولار يتحكم به، حدثته عن خطورة اعتماد الدولرة في العمل التجاري المحلي، وفي كل القطاعات، قلت له: إن العلة الأساسية في اقتصادنا تتمثل بأوجه عديدة، أبرزها اثنان: الأول عدم قدرة المراجع النقدية في لبنان على المحافظة على ما هو ضروري من نقد أجنبي لتمويل حاجة لبنان من الواردات. والثاني حمى تقلبات قيمة العملة المحلية، وما ينتج من ذلك من تبخر لمدّخرات المواطن، تقلّبات يمسك بها عادة المقتدرون مالياً وأصحاب المؤسسات المصرفية وغيرهم، ثم لفته من ناحية، وهي إخراج التجارة الداخلية في لبنان من قبضة الدولار، لأننا بذلك نخرج ما لا يقلّ عن 95% من المتعاملين في سوق القطع، وخاصّة صغار المودعين منهم من هذه الدوّامة، لأنه بتجاهلنا هذا الحلّ، نكون قد ساهمنا في زيادة الضغط المعيشي على المواطن، ونقلنا القرار الاقتصادي في لبنان العالمي بواسطة الإخوة العرب، في كلّ مشروع تنوي الدولة إنجازه، كإعادة تعمير الوسط التجاري والدامور والقليعات، وتأهيل كهرباء لبنان.

من هنا ـ قلت للعلامة السيّد ـ يجب أن نخوض معركة إخراج الاقتصاد اللبناني من دائرة الارتهان للدولار، وهي معركة يجب أن تخاض بقرار قومي يساهم في اتخاذه أصحاب الشّأن، ولا سيّما منهم رجال الدين، وذلك بمنع التداول بالدولار، بل وبتحريم الدولرة، فهل مثل هذا التوجه الاقتصادي يلقى القبول لديكم؟

كان جواب العلامة السيد على مداخلتي هذه عامّاً، ولكنه كان جواباً واضح المعاني، قال لنا: إنّ لبنان عندما أسِّس أعطي له دور للتحرّك ضمن دوائر اقتصادية، ولمهمات معيّنة: اجتذاب الآخرين سياحياً وخدماتياً، واجتذاب الكثير من الأجهزة على مستوى أمني، لغايات سياسيّة بالدرجة الأولى مرتبطة بجغرافية لبنان وبعلاقات هذا البلد مع محيطه، وربما أبعد من هذا المحيط.

لهذا، يقول العلامة السيّد، اتّسم لبنان ببعض العناوين المميزة، كحرية الصحافة وحرية العمل السياسي، ومن هذه الحريّة، انبثقت الحالة الاقتصادية بوجهها الحالي المعروف.

إذاً، الاقتصاد، ولا سيما في العالم الثالث، ينطلق من السياسة وليس العكس، هو مرآتها، فبقدر ما يكون العمل السياسي عميقاً، بقدر ما يأتي الاقتصاد صورة عنه. وهذه بعض الأمثلة:

في بداية الثورة المصرية، انطلقت السياسة بشكل ارتجالي حماسي، فلم تلتفت إلى الزراعة التي هي العصب الحساب، وفي الجزائر كما في العراق، بقي الإصلاح الزّراعي هامشياً، ولذلك لم نجد فيهما، كما في دول عربيّة أخرى، نمواً اقتصادياً يمكن أن يحرّك السياسة باتجاهه، حتى النفط، فإننا نلاحظ أنه تحرّك اقتصادياً في سياسة الاستهلاك لا في سياسة الإنتاج، وهذا طبيعي وبديهي، لأن السياسة عندنا وفي الدول العربيّة لا تنطلق من قاعدة شعبيّة، وإنما تتحرّك برجال سياسة تقليديّين أو ناشئين بفعل عوامل وظروف معيّنة، وبذلك يفرغون العمل السياسيّ من محتواه.

قد تندفع انتفاضة شعبيّة هنا وأخرى هناك - يقول العلامة السيّد - وتكون عفوية، ولكن يأتي من يركب الموجة ويوجّهها بمسار آخر، كما حدث في انتفاضة 6 أيار الماضية، تماماً كما يحصل في الانقلابات العسكرية أو ما يسمّى بالثّورة في علم السياسة.

صحيح أن الدولرة تعني إسقاط العملة الوطنية من ذهن الناس، وربط الاقتصاد كلّه بالذين يتحكمون بالدولار في الخارج، إلا أنّ قضية تحريم هذه الدولرة ليست فتوى نطلقها وكفى، لا بدّ لك أن تكون واقعياً وأنت تخاطب الناس، ومنطقياً مع نفسك ومعهم، فإذا عرفنا أن طبيعة السياسة تحشر الواقع الشعبي في الزاوية لتقول له: "إنك بمقدار ما تملك من دولارات تملك استقرارك الاقتصادي، لأنّك عندها لن تعود تعيش تحت هزات المتعاملين الذين يتحركون في لعبة الدولار ولعبة اللّيرة"...

عندها لن تستطيع أن تقول فتوى أو أن تحرّم عملاً من هذا النوع، وخصوصاً في غياب الاستقرار السياسي والأمني، وبطبيعة الحال الاقتصادي، بمعنى أن مسألة التوعية يجب أن ترتبط بمفردات الواقع، أي أن الاتجاه الثوري والإصلاحي لا بدّ أن يتحرّك واقعياً.

فإذا قلت للمواطن إن الدولرة تأكل اقتصادك، وهو ما يؤدي إلى الكثير من المآسي، فإنه سرعان ما يطالبك بالوسائل التي يستطيع من خلالها أن يتجاوز هذه المسألة، وماذا تقول له والدّولة عاجزة عن فعل شيء على هذا الصعيد؟!

ثم إن الدولة عندما تستسلم لحركة الدولار، فتزيد الرواتب عشوائياً، وتزيد الصرف عشوائياً، فإنما توحي للمواطن بأنّ الدولار هو الذي يتحكّم بكلّ القرارات الاقتصادية، لأنك عندما تزيد راتب الموظّف على أساس حركة الدولار، فمعنى ذلك أنّ هناك إيحاءً بأنّ الدولار هو الأصل، وهو الذي يتحكم في علاقة الدولة بموظفيها ومشاريعها.

خذ مثلاً على ذلك: عندما تتعاقد الدّولة مع أي مقاول من أجل فتح طريق أو القيام بمشروع معيّن على أساس اللّيرة، ثم يتجاوز الدّولار السقف الذي كان موجوداً عند التعاقد، فإن الدولة تدفع الفروق بطريقة أو بأخرى على أساس الخطوط الاقتصاديّة في هذا المجال للمقاول، باعتبار أن حركة الدولار جعلت الأرقام المطروحة غير واقعية وغير عملية.

إنّ معنى ذلك أن الدولة تتحرّك دولارياً حتى وهي تشرع اللّيرة في رواتب الموظفين أو في المشاريع أو ما إلى ذلك... فكيف لك في هذا الجوّ وهذا الواقع أن تقود المواطن إلى زاوية معيّنة وتقول له: "إن مكانك هنا"؟!

عندما تريد من المواطن أن يعيش في مكان معيّن، فلا بدّ لك من أن تفتح له أكثر من نافذة ليتنفّس الهواء، ويعيش مع الضّوء، كي يستطيع أن يستمرّ.

لذلك، فإن النصائح والوصايا التي تقدَّم إلى المواطن، سواء بلغة دينيّة أو ثقافيّة أو اجتماعيّة، لا بد أن تركّز على أساس المفردات الواقعية التي تمكنه من احتواء هذه الوصايا وتطبيقها.

مساعدات الخارج ليست حلّاً

إذاً ما الحلّ؟ أيكون في خفض عدد موظّفي الدّولة؟ في الأداء الاقتصادي للحكومة؟ في وضع برامج معيّنة للتعامل بالدولار؟ أم ماذا؟

يستمع العلامة السيّد محمد حسين فضل الله للسّؤال، ولا ينتظر طويلاً للإجابة، فيسارع إلى القول:

قد لا أكون من الناس الذي يملكون خبرة اقتصادية على الطريقة العلمية، لكنني أفهم أنّ الاقتصاد لا بدّ أن يرتكز على قاعدة؛ قاعدة البنية الاقتصادية التحتية التي تمثّل المشاريع الصناعية والزراعية في حقل الإنتاج، بالإضافة إلى المشاريع السياحية وما إلى ذلك، كما تنطلق هذه القاعدة من خلال طبيعة حركة الرأسمال اللبناني الذي يمكن أن يغذي هذه المشاريع ويتغذّى بها، لأننا نعرف أن لبنان غني بالإمكانات التي يملكها اللّبنانيون في بلاد الاغتراب، وحتى اللبنانيون في الداخل. ولكن المشكلة أنّ رأس المال اللّبناني يهرَّب إلى الخارج أو يتجمد بلحظة خطر، خوفاً من الاهتزازات الأمنية والسياسية.

ولهذا، فإن مجرد الأداء الاقتصادي الجيد للحكومة لا يمكن أن يحلّ المشكلة الاقتصادية بشكل كبير؛ إنه قد يخدّر المشكلة، فعندما تعزل عشرين ألف موظّف، تستطيع أن تحقق من خلال ذلك توفيراً في الميزانيّة، ولكنك لا تستطيع أن تحلّ المشكلة الاقتصادية إذا كانت المعامل معطّلة، والزراعة لا تتحرك ضمن خطة علميّة منتجة، أو إذا كان الجانب الأمني يتحرّك في وضع اهتزازي قد لا يكون حاراً، ولكنّه يثير القلق والحيرة.

المشكلة التي نواجهها الآن هي أنّ الحكومة اللّبنانيّة ركّزت كلّ حركة الحلّ للمشكلة الاقتصاديّة بالمساعدات الخارجيّة

ومن هنا، فإنك لا تستطيع أن تجتذب أصحاب الرّساميل الكبار من اللّبنانيين ولا من غيرهم إلى أن يعملوا في لبنان، فإذا لم ينطلق اللبنانيون من أصحاب الرساميل لتوظيف رساميلهم في لبنان، فكيف يمكن أن تغري أصحاب الرّساميل الأخرى لأن يأتوا ويوظفوا أموالهم في لبنان؟!

إنّ المشكلة التي نواجهها الآن، هي أن الحكومة اللّبنانيّة ركزت كل حركة الحلّ للمشكلة الاقتصادية بالمساعدات الخارجيّة.

في الوقت الذي لا نهوّن قيمة المساعدات، ولكن المسألة إنما هي في القاعدة الاقتصاديّة التي يملك البلد الكثير من ركائزها.

لهذا، أنا أتصوّر أنّ المسألة بحاجة إلى خطّة اقتصاديّة ينطلق فيها البلد من فكرة اللامساعدات الخارجيّة، بحيث إنّنا نعتمد على أنفسنا في ذلك، ولا أقول هذه الكلمة كشعار، ولكن كواقع، لأنّك عندما تظلّ في عمليّة تحديق بالمساعدات الخارجيَّة، فمعنى ذلك أنَّك سوف تكون خاضعاً لكلِّ ما يفرضه الخارج عليك إزاء هذه المساعدات، من قرارات سياسيّة وشروط أمنيّة لا تستطيع الوفاء بها.

المياه في دائرة الضّغط

ومن موضع الدّولرة، انتقلت مع العلامة السيّد إلى قضيّة مياه لبنان، وكيفيّة إبعادها عن طاولة المفاوضات مع إسرائيل، سألته عن تصوّراته بالنّسبة إلى هذا الموضوع وتوقّعاته، فقال:

في تصوّري أنَّ مسألة المياه في لبنان والمنطقة تعيش في دائرة المشكلة الإسرائيليّة فقط، لقد أدخلت الولايات المتّحدة موضوع الماء في صلب المفاوضات من خلال تحريك تركيا مائياً للضغط على سوريا والعراق من جهة، وليقال إن هناك مشكلة مياه في المنطقة، وعندها تدخل إسرائيل على الخطّ كدولة من دول المنطقة لتفاوض على هذا الموضوع.

لهذا، أنا أقول إنّ مشكلة المياه صنعت أميركيّاً لحساب إسرائيل في المنطقة، لأنّه في السابق لم تكن هناك مشكلة حية، بل كان هناك واقع تتغذّى منه المشكلة، ولكنّ هذا الواقع لم يصل إلى مرحلة يهدّد الأمن السياسي في المنطقة.

إنّ تركيا لم تفكّر في أيّ وقت من الأوقات بأن تحرّك ثروتها المائية في اتجاه الضغط السياسي أو الاقتصادي على العراق وسوريا، ولكنّ الإيحاءات الأميركية أو الغربية بشكل عامّ هي التي انطلقت في ذلك، إننا عندما نريد أن نواجه مسألة مياه لبنان، فإننا نعتقد أنّ لبنان لا يستغني عن أيّ قطرة من مياهه، لأن لبنان الغنيّ بمصادر المياه، يحتاج إلى قطرة من هذه المياه، وإذا كانت إسرائيل تتحدّث عن أنّ مياه لبنان تذهب هدراً في البحر، فإنها تعرف، كما يعرف العالم، أنّ لبنان حاول أن يخطّط لاستثمار مياهه في مشروع الليطاني المعروف، ولكن إسرائيل تدخّلت لمنع اللّبنانيّين من ذلك بالقوة، كما أنّ العرب عملوا على أساس استثمار هذه المياه، وتحويل روافد نهر الأردن من أجل تغذية المناطق المحتاجة للرّيّ، وقد تدخلت إسرائيل وقصفت هذه المنطقة.

إن المسألة عندما تطرح في ساحة الحديث السياسي، فإنّ من الممكن أن يقول اللّبنانيّون بأنّ لدينا مشاريع لاستثمار مياه اللّيطاني واستثمار المياه الأخرى، بالمستوى الذي نحتاج فيه إلى مياهنا.

إنّ الحجة الإسرائيليّة لا قيمة لها إلا عندما تكون المسألة مسألة حجّة القويّ على الضّعيف الذي يريد أن يوحي إليك بأنّ الحجّة معه وإن كانت الحجّة عليه.

إنّنا نتصوّر أنّ الواقع الذي نعيشه قد ينطلق من مسألة الحقّ، وقد ينطلق من مسألة القوّة.. عندما ينطلق من مسألة القوّة، فإن من الطبيعي أن يقبل الناس بالاستعمار، إن كانوا يفكّرون بطريقة القوّة كمقياس لحركة الواقع، أمّا إذا كانت المسألة مسألة الحقّ، فعليك أن ترتّب أمورك حتى على مستوى حالة الطّوارئ ما دمت تملك إمكانيّة البقاء.

هنا فرق بين أن تساق إلى المقصلة باختيارك، وبين أن تساق إليها بدون اختيارك وأنت تجرّب أن تتجاوزها بمختلف الوسائل التي تريدها.

إنّ القضيّة في عمق معنى مستقبل الأمم والشّعوب.

الحوار يزيل الأوهام!

ومن الدّولرة والمياه، انتقلت مع العلامة السيّد إلى موضوع الحوار الفكري بينه وبين روما والكنائس الغربيّة.. قلت له: إنّ هذا الحوار يعني الكثير للمواطن اللّبنانيّ، لأنه مرتبط، ولو بشكل غير مباشر، بالوضع السياسي في لبنان والمحيط العربي، ولما كان القرار الاقتصادي في هذا البلد مرتبط بالقرار السياسي، فمعنى ذلك أنّ أيّ عنصر إيجابي يطرأ على هذا الحوار، ينعكس إيجاباً أيضاً على الاقتصاد. من هنا، كان سؤالي للعلّامة: ما النتائج التي ستترتّب على استمرارية هذا الحوار؟ أجاب:

من الطبيعي أنّ مسألة الحوار عندما تتاح له الظروف النفسيّة والسياسيّة أن يكون جديّاً، فإنه يستطيع أن ينزع الكثير من الأوهام المتبادلة لدى اللّبنانيين في نظرة كلّ فريق إلى الآخر، مما يفصل اللّبنانيّين عن بعضهم البعض، بحيث يخيّل إليهم أن هناك اقتصاداً مسيحياً في مقابل اقتصاد إسلامي، وليتفرّع منه أن هناك اقتصاداً شيعياً يقابله اقتصاد سني، واقتصاداً مارونياً يقابله اقتصاد أرثوذكسي.

إن طبيعة التشنّج الشعبي الناتج من الأوهام التاريخيّة، زادها الواقع نموّاً في وعي هذا الإنسان، بحيث خيِّل إليه أنه يعيش في تعددية حقيقية على جميع المستويات، ويبحث عن طبيعة الصيغة التي تنظّم هذه التعدديّة.

إنّ قيمة الحوار هي أن يجمع اللّبنانيّين على صعيد واحد في قضاياهم الحياتيّة، على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني، ليتعاونوا في هذا المجال، وليوظّف كلّ منهم طاقاته في علاقاته الخارجيّة وفي نشاطاته الداخليّة في سبيل أن يتكامل الجميع لرعاية القاعدة اللّبنانيّة التي ينطلق منها كلّ اللّبنانيّين.

لذلك، يجب أن يكون الحوار جدّياً، ولا يكون مجرّد تخاطب يقوم على التّكاذب وعلى المجاملات، بحيث نتحدّث عن الوحدة في أجوائنا العامّة، وعندما نرجع إلى قواعدنا، يهمس كلّ واحد لفريقه بأنه كان يتحدث سياسة.

إنني أتصوّر أن من الممكن جداً للحوار الذي يؤدّي إلى التفاهم، إذا لم يؤدّ إلى القناعة المشتركة، أن يحقّق الكثير في إنتاج الشخصيّة اللّبنانيّة، وبدلاً من أن يكون لبنان ولايات متّحدة، باعتبار أنّ كلّ مجلس طائفي يشكّل ولاية مستقلّة، فإنّه يكون بلداً واحداً. هذا من جهة.

ومن جهة ثانية، فإنّ الحوار الإسلامي المسيحي من خلال لبنان على مستوى الفاتيكان، أو على مستوى كلّ الواقع المسيحي في العالم، يمكن أن ينزع من ذهنيّة المسيحيّين كلّ الركام التاريخي الذي أنتجه أو شارك في تجميعه التخلّف والتعصّب والتعقيد الأمني والسياسي في الماضي... إنّ الحوار يستطيع أن يعطي الصّورة صفاءً ونقاءً، وأن يعزل الكثير من الحالات النفسيّة عن التحرّك في العلاقات الإنسانيّة بين الشّرق والغرب، وبين المسلمين والمسيحيّين.

وأتصوّر أنّ ذلك لا بدّ أن ينعكس إيجاباً على مستوى علاقات الخارج بالدّاخل اللّبناني. وعند ذلك، لا يجد المسيحيّون في الخارج إزاء ما يحدث في لبنان من فتن، أنّ عليهم أن يقفوا مع مسيحيّي الداخل، باعتبار أنها حرب إسلامية - مسيحية، أو أن يشعر المسلمون خارج لبنان بأنّ عليهم أن يقفوا مع مسلمي الداخل، باعتبار أنها حرب دينية.. ليفهم الجميع أنها مجرّد حرب سياسيّة تحدث فيما بين فريقين في أيّ دولة من الدول، ولكن قد يصادف أن يكون الفريقان واحداً مسلماً والآخر مسيحياً أو واحداً كاثوليكياً والآخر بروتستنتينياً أو شيعياً وسيناً وما إلى ذلك.

إنني أتصوّر أنّ الحوار يمكن أن يقرّب الكثير من المواقف، ويمكن أن ينتج الكثير من المبادرات، لأنّ الإنسان يبقى إنساناً، باعتبار أنّ الواقع الموضوعيّ ليس هو كلّ شيء، بل إننا نتصوّر أنّ الواقع الذّاتي في حركة الإنسان قد يصنع واقعاً موضوعيّاً جديداً على أنقاض الواقع الحالي.

ملفّ عودة المهجّرين

وأعود أسأل العلامة السيّد:

إنّ الواقع الحياتي الحالي اقتصاديّاً ومعيشيّاً يمنع عودة المهجَّرين إلى بيوتهم وأراضيهم وأرزاقهم...

وفي مقابل هذا، لا يمكن تصوّر إمكانيّة إجراء انتخابات نيابيّة خارج حلّ مرحلي على الأقلّ يكمن بعودة المهجرين، كما يقول بعض الأطراف، فهل يعقل أن تمضي الدولة في تهيئة الأجواء لإجراء انتخابات في الصّيف المقبل، ووضع المهجَّرين على ما هو عليه؟

إنّني أتصوّر أن مسألة عودة المهجَّرين هي من المسائل المتّصلة بعمق الأزمة اللبنانيّة، بحيث إننا إذا بدأنا بحلّ هذه المشكلة بطريقة واقعيّة، فإن من الممكن جداً أن نتفاءل بأنّ القطار قد وضع على السكّة في حلّ الأزمة اللّبنانيّة داخلياً. وبذلك، فإنّني أتصوّر أنّ التعقيدات التي واجهت مشكلة المهجّرين، هي التعقيدات التي تواجه الحلّ العميق للأزمة اللّبنانيّة، لأنها متصلة بمسألة التعايش.

إنّني أخشى إذا حلَّت مسألة المهجَّرين تحت ضرورات المسألة الانتخابيَّة، فإنها بذلك قد تمثّل الحلّ التّخديري. إنني أتصوّر أنّ مسألة المهجَّرين هي مسألة إنسانية يراد من خلالها تغذية المسألة السياسيّة، عن طريق عملية الضغط والضغط المضادّ، ليستفيد كل فريق منها بالطريقة التي تخدم أهدافه السياسيّة في البلاد.

من الممكن جداً أن يبحث العاملون على إجراء الانتخابات على حلّ مشكلة المهجَّرين، تماماً كما يبحثون عن حلّ لمشكلة الانتخابات في الجنوب في هذا المجال.

لا أتصوّر أنّ هناك علاقة عضوية بين عودة المهجَّرين وبين الانتخابات في اللّعبة السياسيّة، لأن الذين يضعون قواعد اللّعبة، قد يجدون حلولاً بطريقة وبأخرى للتّعقيدات.

مواطنٌ لا يُحترَم؟!

الإعلام الخاصّ المكتوب والمرئي والمسموع، يتحدّث في هذه الفترة بإسهاب عن وزير الاقتصاد الدكتور سمير مقدسي، الّذي جيء به لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في وضعنا المالي والاقتصادي، والدّكتور مقدسي البروتستنتي المذهب والتربية، أميركي العلم والمعلومات، شخصيّة اقتصادية أكاديميّة.. هل لديكم تعليق على خطوة من هذا النّوع أقدمت عليها حكومة راعت في تركيبتها مبدأ 6 و 6 مكرَّر؟

إنّ الكثيرين ممن يصنعون القرار في هذا البلد، أو يصنع لهم القرار فيه، لا يحترمون المواطن، لأنهم يتحرّكون من موقع أنّه ساذج وانفعاليّ...

لا أتصوّر أن المشكلة في لبنان هي مشكلة نقصان الخبرة الاقتصاديّة، أو نقصان العلاقات الشخصية لبعض رجال الاقتصاد والسياسة بمواقع القرار الدّولي، لكنّ هذه الأمور قد تكون عنصراً تخديرياً يعطى المواطن ثقة فيما تعارف عليه المواطن من ربط المشكلة بالشّخص، بدلاً من ربط المشكلة بالمؤسّسة.

إنّني أتصوّر أنّ الكثيرين ممن يصنعون القرار في هذا البلد، أو يصنع لهم القرار فيه، لا يحترمون المواطن، لأنهم يتحرّكون من موقع أنّه ساذج وبسيط وعبيط وانفعاليّ واستعراضيّ، وأن من الممكن أن يضحك عليه حتى لو أدّى ذلك إلى أن يبكي.

لذلك، نجد في الانتخابات أنّ الذي يحكم علاقة المواطن بالمرشَّح، هو علاقة المرشَّح بالمواطن في أفراحه وأحزانه وخدماته الصّغيرة، لا علاقة المرشَّح بالوطن في حقوقه السياسية والاقتصادية وما إلى ذلك.. هذه المساحة بين الدّولة وبين المواطن قد تكون مسؤولة عن كثير من مشاكل المواطن ومشاكل الدّولة.

* مقابلة أجرتها مجلّة "مال وأعمال" مع سماحة العلّامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله (رض)، بتاريخ 15 حزيران 1992م، العدد 27.

مع العلامة السيّد محمد حسين فضل الله، يتشعَّب الحديث الاقتصادي لتتداخل فيه الأمور الدينيَّة والاجتماعيَّة وحتى السياسية، باعتبار أنَّ الاقتصاد ملتصق التصاقاً بتلك القضايا جميعاً.

ومع العلامة السيِّد، وفي حضوره، تشعر بأنَّك بحاجة إلى مزيد من المعلومات والتحليلات والمتوقّعات، وتحسّ بأنّ الوقت يمرّ مسرعاً.

"مال وأعمال" كان لها مع العلامة السيّد حوار ومداخلات في أوّل حديث اقتصادي يدلي به لمطبوعة، ويعلّق فيه على شؤون الساعة وشجونها وقضايا الشّرق والغرب...

عندما تلتقي العلامة السيّد محمد حسين فضل الله، تشعر بأنّ الوقت يمرّ بسرعة، وتحسّ بأنّك أصبحت آذاناً مصغية أو كتلة سمعية مهمّتها التقاط الكلمات والحروف، وحتى الفواصل والنقط.

بل عندما تحاوره في شؤون الساعة وشجونها، سرعان ما تقول في سرّك: "ليتني أحصل بعد على المزيد"، ذلك أنّ العلامة السيّد قادر على استقراء المستقبل، بقدر استخلاصه العبر من أحداث ولّت، بقدر تمكّنه من قراءة التطورات اليومية، وهو يتعاطى مع الأحداث.

وكما يشدّك إليه عندما يتحدّث في الدين أو في الفلسفة أو في الفكر أو في السياسة، كذلك هو يشدّك إليه عندما يتحدث في الاقتصاد، فإذا أنت أمام موسوعة في المعرفة والعلوم، كلّما انتهيت من قراءة صفحة، اجتذبتك إليها صفحات وصفحات.

وليس في الأمر ما يدعو إلى العجب، ذلك أنّ الاقتصاد في صميم عمله اليومي، فإذا ألقى خطبة في الدّين، ما استطاع تجاهل الاقتصاد، وإذا تحدث في السياسة، وجد الاقتصاد ملتصقاً بها، وإذا تكلم على القضايا الاجتماعية المعيوشة، انقاد طوعاً لا اختياراً إلى الاقتصاد.

من هذا المنطلق، كان لي مع العلامة السيّد لقاء، هو أشبه بجولة أفق عامّة منه بحديث، عرضنا عليه أفكاراً فردّ علينا بمثلها، استوضحته في نقاط معيّنة، فما تأخر عن الإجابة، وفي مطلق الأحوال، كان دائماً كما عهدناه في كلّ مواقفه السابقة، رجل دين يرفع بالاقتصاد إلى مستواه العلميّ، ولا ينزل به إلى درك السياسة، كما يمارسها السياسيّون عندنا.

طرحت عليه أسئلة عامّة أحياناً، وساخنة أخرى، وكان في الحالتين يردّ فلسفياً على الأسئلة، سواء تطرق إلى السياسة أو الاجتماع أو الدين، وهو يتحدّث في الاقتصاد.

لقد رسم لنا خطوطاً عامّة في كلّ ما يقول وما يريد أن يقول...خطوطاً هي أشبه بالقواعد الحسابيّة التي لا مجال للخطأ فيها. أما التفاصيل، فتركها لغيره، للبارعين في التقاط الأفكار وتوسيعها وتوضيحها.

الارتهان للدّولار؟!

سألته عن الاقتصاد اللّبناني الذي بات الدولار يتحكم به، حدثته عن خطورة اعتماد الدولرة في العمل التجاري المحلي، وفي كل القطاعات، قلت له: إن العلة الأساسية في اقتصادنا تتمثل بأوجه عديدة، أبرزها اثنان: الأول عدم قدرة المراجع النقدية في لبنان على المحافظة على ما هو ضروري من نقد أجنبي لتمويل حاجة لبنان من الواردات. والثاني حمى تقلبات قيمة العملة المحلية، وما ينتج من ذلك من تبخر لمدّخرات المواطن، تقلّبات يمسك بها عادة المقتدرون مالياً وأصحاب المؤسسات المصرفية وغيرهم، ثم لفته من ناحية، وهي إخراج التجارة الداخلية في لبنان من قبضة الدولار، لأننا بذلك نخرج ما لا يقلّ عن 95% من المتعاملين في سوق القطع، وخاصّة صغار المودعين منهم من هذه الدوّامة، لأنه بتجاهلنا هذا الحلّ، نكون قد ساهمنا في زيادة الضغط المعيشي على المواطن، ونقلنا القرار الاقتصادي في لبنان العالمي بواسطة الإخوة العرب، في كلّ مشروع تنوي الدولة إنجازه، كإعادة تعمير الوسط التجاري والدامور والقليعات، وتأهيل كهرباء لبنان.

من هنا ـ قلت للعلامة السيّد ـ يجب أن نخوض معركة إخراج الاقتصاد اللبناني من دائرة الارتهان للدولار، وهي معركة يجب أن تخاض بقرار قومي يساهم في اتخاذه أصحاب الشّأن، ولا سيّما منهم رجال الدين، وذلك بمنع التداول بالدولار، بل وبتحريم الدولرة، فهل مثل هذا التوجه الاقتصادي يلقى القبول لديكم؟

كان جواب العلامة السيد على مداخلتي هذه عامّاً، ولكنه كان جواباً واضح المعاني، قال لنا: إنّ لبنان عندما أسِّس أعطي له دور للتحرّك ضمن دوائر اقتصادية، ولمهمات معيّنة: اجتذاب الآخرين سياحياً وخدماتياً، واجتذاب الكثير من الأجهزة على مستوى أمني، لغايات سياسيّة بالدرجة الأولى مرتبطة بجغرافية لبنان وبعلاقات هذا البلد مع محيطه، وربما أبعد من هذا المحيط.

لهذا، يقول العلامة السيّد، اتّسم لبنان ببعض العناوين المميزة، كحرية الصحافة وحرية العمل السياسي، ومن هذه الحريّة، انبثقت الحالة الاقتصادية بوجهها الحالي المعروف.

إذاً، الاقتصاد، ولا سيما في العالم الثالث، ينطلق من السياسة وليس العكس، هو مرآتها، فبقدر ما يكون العمل السياسي عميقاً، بقدر ما يأتي الاقتصاد صورة عنه. وهذه بعض الأمثلة:

في بداية الثورة المصرية، انطلقت السياسة بشكل ارتجالي حماسي، فلم تلتفت إلى الزراعة التي هي العصب الحساب، وفي الجزائر كما في العراق، بقي الإصلاح الزّراعي هامشياً، ولذلك لم نجد فيهما، كما في دول عربيّة أخرى، نمواً اقتصادياً يمكن أن يحرّك السياسة باتجاهه، حتى النفط، فإننا نلاحظ أنه تحرّك اقتصادياً في سياسة الاستهلاك لا في سياسة الإنتاج، وهذا طبيعي وبديهي، لأن السياسة عندنا وفي الدول العربيّة لا تنطلق من قاعدة شعبيّة، وإنما تتحرّك برجال سياسة تقليديّين أو ناشئين بفعل عوامل وظروف معيّنة، وبذلك يفرغون العمل السياسيّ من محتواه.

قد تندفع انتفاضة شعبيّة هنا وأخرى هناك - يقول العلامة السيّد - وتكون عفوية، ولكن يأتي من يركب الموجة ويوجّهها بمسار آخر، كما حدث في انتفاضة 6 أيار الماضية، تماماً كما يحصل في الانقلابات العسكرية أو ما يسمّى بالثّورة في علم السياسة.

صحيح أن الدولرة تعني إسقاط العملة الوطنية من ذهن الناس، وربط الاقتصاد كلّه بالذين يتحكمون بالدولار في الخارج، إلا أنّ قضية تحريم هذه الدولرة ليست فتوى نطلقها وكفى، لا بدّ لك أن تكون واقعياً وأنت تخاطب الناس، ومنطقياً مع نفسك ومعهم، فإذا عرفنا أن طبيعة السياسة تحشر الواقع الشعبي في الزاوية لتقول له: "إنك بمقدار ما تملك من دولارات تملك استقرارك الاقتصادي، لأنّك عندها لن تعود تعيش تحت هزات المتعاملين الذين يتحركون في لعبة الدولار ولعبة اللّيرة"...

عندها لن تستطيع أن تقول فتوى أو أن تحرّم عملاً من هذا النوع، وخصوصاً في غياب الاستقرار السياسي والأمني، وبطبيعة الحال الاقتصادي، بمعنى أن مسألة التوعية يجب أن ترتبط بمفردات الواقع، أي أن الاتجاه الثوري والإصلاحي لا بدّ أن يتحرّك واقعياً.

فإذا قلت للمواطن إن الدولرة تأكل اقتصادك، وهو ما يؤدي إلى الكثير من المآسي، فإنه سرعان ما يطالبك بالوسائل التي يستطيع من خلالها أن يتجاوز هذه المسألة، وماذا تقول له والدّولة عاجزة عن فعل شيء على هذا الصعيد؟!

ثم إن الدولة عندما تستسلم لحركة الدولار، فتزيد الرواتب عشوائياً، وتزيد الصرف عشوائياً، فإنما توحي للمواطن بأنّ الدولار هو الذي يتحكّم بكلّ القرارات الاقتصادية، لأنك عندما تزيد راتب الموظّف على أساس حركة الدولار، فمعنى ذلك أنّ هناك إيحاءً بأنّ الدولار هو الأصل، وهو الذي يتحكم في علاقة الدولة بموظفيها ومشاريعها.

خذ مثلاً على ذلك: عندما تتعاقد الدّولة مع أي مقاول من أجل فتح طريق أو القيام بمشروع معيّن على أساس اللّيرة، ثم يتجاوز الدّولار السقف الذي كان موجوداً عند التعاقد، فإن الدولة تدفع الفروق بطريقة أو بأخرى على أساس الخطوط الاقتصاديّة في هذا المجال للمقاول، باعتبار أن حركة الدولار جعلت الأرقام المطروحة غير واقعية وغير عملية.

إنّ معنى ذلك أن الدولة تتحرّك دولارياً حتى وهي تشرع اللّيرة في رواتب الموظفين أو في المشاريع أو ما إلى ذلك... فكيف لك في هذا الجوّ وهذا الواقع أن تقود المواطن إلى زاوية معيّنة وتقول له: "إن مكانك هنا"؟!

عندما تريد من المواطن أن يعيش في مكان معيّن، فلا بدّ لك من أن تفتح له أكثر من نافذة ليتنفّس الهواء، ويعيش مع الضّوء، كي يستطيع أن يستمرّ.

لذلك، فإن النصائح والوصايا التي تقدَّم إلى المواطن، سواء بلغة دينيّة أو ثقافيّة أو اجتماعيّة، لا بد أن تركّز على أساس المفردات الواقعية التي تمكنه من احتواء هذه الوصايا وتطبيقها.

مساعدات الخارج ليست حلّاً

إذاً ما الحلّ؟ أيكون في خفض عدد موظّفي الدّولة؟ في الأداء الاقتصادي للحكومة؟ في وضع برامج معيّنة للتعامل بالدولار؟ أم ماذا؟

يستمع العلامة السيّد محمد حسين فضل الله للسّؤال، ولا ينتظر طويلاً للإجابة، فيسارع إلى القول:

قد لا أكون من الناس الذي يملكون خبرة اقتصادية على الطريقة العلمية، لكنني أفهم أنّ الاقتصاد لا بدّ أن يرتكز على قاعدة؛ قاعدة البنية الاقتصادية التحتية التي تمثّل المشاريع الصناعية والزراعية في حقل الإنتاج، بالإضافة إلى المشاريع السياحية وما إلى ذلك، كما تنطلق هذه القاعدة من خلال طبيعة حركة الرأسمال اللبناني الذي يمكن أن يغذي هذه المشاريع ويتغذّى بها، لأننا نعرف أن لبنان غني بالإمكانات التي يملكها اللّبنانيون في بلاد الاغتراب، وحتى اللبنانيون في الداخل. ولكن المشكلة أنّ رأس المال اللّبناني يهرَّب إلى الخارج أو يتجمد بلحظة خطر، خوفاً من الاهتزازات الأمنية والسياسية.

ولهذا، فإن مجرد الأداء الاقتصادي الجيد للحكومة لا يمكن أن يحلّ المشكلة الاقتصادية بشكل كبير؛ إنه قد يخدّر المشكلة، فعندما تعزل عشرين ألف موظّف، تستطيع أن تحقق من خلال ذلك توفيراً في الميزانيّة، ولكنك لا تستطيع أن تحلّ المشكلة الاقتصادية إذا كانت المعامل معطّلة، والزراعة لا تتحرك ضمن خطة علميّة منتجة، أو إذا كان الجانب الأمني يتحرّك في وضع اهتزازي قد لا يكون حاراً، ولكنّه يثير القلق والحيرة.

المشكلة التي نواجهها الآن هي أنّ الحكومة اللّبنانيّة ركّزت كلّ حركة الحلّ للمشكلة الاقتصاديّة بالمساعدات الخارجيّة

ومن هنا، فإنك لا تستطيع أن تجتذب أصحاب الرّساميل الكبار من اللّبنانيين ولا من غيرهم إلى أن يعملوا في لبنان، فإذا لم ينطلق اللبنانيون من أصحاب الرساميل لتوظيف رساميلهم في لبنان، فكيف يمكن أن تغري أصحاب الرّساميل الأخرى لأن يأتوا ويوظفوا أموالهم في لبنان؟!

إنّ المشكلة التي نواجهها الآن، هي أن الحكومة اللّبنانيّة ركزت كل حركة الحلّ للمشكلة الاقتصادية بالمساعدات الخارجيّة.

في الوقت الذي لا نهوّن قيمة المساعدات، ولكن المسألة إنما هي في القاعدة الاقتصاديّة التي يملك البلد الكثير من ركائزها.

لهذا، أنا أتصوّر أنّ المسألة بحاجة إلى خطّة اقتصاديّة ينطلق فيها البلد من فكرة اللامساعدات الخارجيّة، بحيث إنّنا نعتمد على أنفسنا في ذلك، ولا أقول هذه الكلمة كشعار، ولكن كواقع، لأنّك عندما تظلّ في عمليّة تحديق بالمساعدات الخارجيَّة، فمعنى ذلك أنَّك سوف تكون خاضعاً لكلِّ ما يفرضه الخارج عليك إزاء هذه المساعدات، من قرارات سياسيّة وشروط أمنيّة لا تستطيع الوفاء بها.

المياه في دائرة الضّغط

ومن موضع الدّولرة، انتقلت مع العلامة السيّد إلى قضيّة مياه لبنان، وكيفيّة إبعادها عن طاولة المفاوضات مع إسرائيل، سألته عن تصوّراته بالنّسبة إلى هذا الموضوع وتوقّعاته، فقال:

في تصوّري أنَّ مسألة المياه في لبنان والمنطقة تعيش في دائرة المشكلة الإسرائيليّة فقط، لقد أدخلت الولايات المتّحدة موضوع الماء في صلب المفاوضات من خلال تحريك تركيا مائياً للضغط على سوريا والعراق من جهة، وليقال إن هناك مشكلة مياه في المنطقة، وعندها تدخل إسرائيل على الخطّ كدولة من دول المنطقة لتفاوض على هذا الموضوع.

لهذا، أنا أقول إنّ مشكلة المياه صنعت أميركيّاً لحساب إسرائيل في المنطقة، لأنّه في السابق لم تكن هناك مشكلة حية، بل كان هناك واقع تتغذّى منه المشكلة، ولكنّ هذا الواقع لم يصل إلى مرحلة يهدّد الأمن السياسي في المنطقة.

إنّ تركيا لم تفكّر في أيّ وقت من الأوقات بأن تحرّك ثروتها المائية في اتجاه الضغط السياسي أو الاقتصادي على العراق وسوريا، ولكنّ الإيحاءات الأميركية أو الغربية بشكل عامّ هي التي انطلقت في ذلك، إننا عندما نريد أن نواجه مسألة مياه لبنان، فإننا نعتقد أنّ لبنان لا يستغني عن أيّ قطرة من مياهه، لأن لبنان الغنيّ بمصادر المياه، يحتاج إلى قطرة من هذه المياه، وإذا كانت إسرائيل تتحدّث عن أنّ مياه لبنان تذهب هدراً في البحر، فإنها تعرف، كما يعرف العالم، أنّ لبنان حاول أن يخطّط لاستثمار مياهه في مشروع الليطاني المعروف، ولكن إسرائيل تدخّلت لمنع اللّبنانيّين من ذلك بالقوة، كما أنّ العرب عملوا على أساس استثمار هذه المياه، وتحويل روافد نهر الأردن من أجل تغذية المناطق المحتاجة للرّيّ، وقد تدخلت إسرائيل وقصفت هذه المنطقة.

إن المسألة عندما تطرح في ساحة الحديث السياسي، فإنّ من الممكن أن يقول اللّبنانيّون بأنّ لدينا مشاريع لاستثمار مياه اللّيطاني واستثمار المياه الأخرى، بالمستوى الذي نحتاج فيه إلى مياهنا.

إنّ الحجة الإسرائيليّة لا قيمة لها إلا عندما تكون المسألة مسألة حجّة القويّ على الضّعيف الذي يريد أن يوحي إليك بأنّ الحجّة معه وإن كانت الحجّة عليه.

إنّنا نتصوّر أنّ الواقع الذي نعيشه قد ينطلق من مسألة الحقّ، وقد ينطلق من مسألة القوّة.. عندما ينطلق من مسألة القوّة، فإن من الطبيعي أن يقبل الناس بالاستعمار، إن كانوا يفكّرون بطريقة القوّة كمقياس لحركة الواقع، أمّا إذا كانت المسألة مسألة الحقّ، فعليك أن ترتّب أمورك حتى على مستوى حالة الطّوارئ ما دمت تملك إمكانيّة البقاء.

هنا فرق بين أن تساق إلى المقصلة باختيارك، وبين أن تساق إليها بدون اختيارك وأنت تجرّب أن تتجاوزها بمختلف الوسائل التي تريدها.

إنّ القضيّة في عمق معنى مستقبل الأمم والشّعوب.

الحوار يزيل الأوهام!

ومن الدّولرة والمياه، انتقلت مع العلامة السيّد إلى موضوع الحوار الفكري بينه وبين روما والكنائس الغربيّة.. قلت له: إنّ هذا الحوار يعني الكثير للمواطن اللّبنانيّ، لأنه مرتبط، ولو بشكل غير مباشر، بالوضع السياسي في لبنان والمحيط العربي، ولما كان القرار الاقتصادي في هذا البلد مرتبط بالقرار السياسي، فمعنى ذلك أنّ أيّ عنصر إيجابي يطرأ على هذا الحوار، ينعكس إيجاباً أيضاً على الاقتصاد. من هنا، كان سؤالي للعلّامة: ما النتائج التي ستترتّب على استمرارية هذا الحوار؟ أجاب:

من الطبيعي أنّ مسألة الحوار عندما تتاح له الظروف النفسيّة والسياسيّة أن يكون جديّاً، فإنه يستطيع أن ينزع الكثير من الأوهام المتبادلة لدى اللّبنانيين في نظرة كلّ فريق إلى الآخر، مما يفصل اللّبنانيّين عن بعضهم البعض، بحيث يخيّل إليهم أن هناك اقتصاداً مسيحياً في مقابل اقتصاد إسلامي، وليتفرّع منه أن هناك اقتصاداً شيعياً يقابله اقتصاد سني، واقتصاداً مارونياً يقابله اقتصاد أرثوذكسي.

إن طبيعة التشنّج الشعبي الناتج من الأوهام التاريخيّة، زادها الواقع نموّاً في وعي هذا الإنسان، بحيث خيِّل إليه أنه يعيش في تعددية حقيقية على جميع المستويات، ويبحث عن طبيعة الصيغة التي تنظّم هذه التعدديّة.

إنّ قيمة الحوار هي أن يجمع اللّبنانيّين على صعيد واحد في قضاياهم الحياتيّة، على المستوى السياسي والاقتصادي والأمني، ليتعاونوا في هذا المجال، وليوظّف كلّ منهم طاقاته في علاقاته الخارجيّة وفي نشاطاته الداخليّة في سبيل أن يتكامل الجميع لرعاية القاعدة اللّبنانيّة التي ينطلق منها كلّ اللّبنانيّين.

لذلك، يجب أن يكون الحوار جدّياً، ولا يكون مجرّد تخاطب يقوم على التّكاذب وعلى المجاملات، بحيث نتحدّث عن الوحدة في أجوائنا العامّة، وعندما نرجع إلى قواعدنا، يهمس كلّ واحد لفريقه بأنه كان يتحدث سياسة.

إنني أتصوّر أن من الممكن جداً للحوار الذي يؤدّي إلى التفاهم، إذا لم يؤدّ إلى القناعة المشتركة، أن يحقّق الكثير في إنتاج الشخصيّة اللّبنانيّة، وبدلاً من أن يكون لبنان ولايات متّحدة، باعتبار أنّ كلّ مجلس طائفي يشكّل ولاية مستقلّة، فإنّه يكون بلداً واحداً. هذا من جهة.

ومن جهة ثانية، فإنّ الحوار الإسلامي المسيحي من خلال لبنان على مستوى الفاتيكان، أو على مستوى كلّ الواقع المسيحي في العالم، يمكن أن ينزع من ذهنيّة المسيحيّين كلّ الركام التاريخي الذي أنتجه أو شارك في تجميعه التخلّف والتعصّب والتعقيد الأمني والسياسي في الماضي... إنّ الحوار يستطيع أن يعطي الصّورة صفاءً ونقاءً، وأن يعزل الكثير من الحالات النفسيّة عن التحرّك في العلاقات الإنسانيّة بين الشّرق والغرب، وبين المسلمين والمسيحيّين.

وأتصوّر أنّ ذلك لا بدّ أن ينعكس إيجاباً على مستوى علاقات الخارج بالدّاخل اللّبناني. وعند ذلك، لا يجد المسيحيّون في الخارج إزاء ما يحدث في لبنان من فتن، أنّ عليهم أن يقفوا مع مسيحيّي الداخل، باعتبار أنها حرب إسلامية - مسيحية، أو أن يشعر المسلمون خارج لبنان بأنّ عليهم أن يقفوا مع مسلمي الداخل، باعتبار أنها حرب دينية.. ليفهم الجميع أنها مجرّد حرب سياسيّة تحدث فيما بين فريقين في أيّ دولة من الدول، ولكن قد يصادف أن يكون الفريقان واحداً مسلماً والآخر مسيحياً أو واحداً كاثوليكياً والآخر بروتستنتينياً أو شيعياً وسيناً وما إلى ذلك.

إنني أتصوّر أنّ الحوار يمكن أن يقرّب الكثير من المواقف، ويمكن أن ينتج الكثير من المبادرات، لأنّ الإنسان يبقى إنساناً، باعتبار أنّ الواقع الموضوعيّ ليس هو كلّ شيء، بل إننا نتصوّر أنّ الواقع الذّاتي في حركة الإنسان قد يصنع واقعاً موضوعيّاً جديداً على أنقاض الواقع الحالي.

ملفّ عودة المهجّرين

وأعود أسأل العلامة السيّد:

إنّ الواقع الحياتي الحالي اقتصاديّاً ومعيشيّاً يمنع عودة المهجَّرين إلى بيوتهم وأراضيهم وأرزاقهم...

وفي مقابل هذا، لا يمكن تصوّر إمكانيّة إجراء انتخابات نيابيّة خارج حلّ مرحلي على الأقلّ يكمن بعودة المهجرين، كما يقول بعض الأطراف، فهل يعقل أن تمضي الدولة في تهيئة الأجواء لإجراء انتخابات في الصّيف المقبل، ووضع المهجَّرين على ما هو عليه؟

إنّني أتصوّر أن مسألة عودة المهجَّرين هي من المسائل المتّصلة بعمق الأزمة اللبنانيّة، بحيث إننا إذا بدأنا بحلّ هذه المشكلة بطريقة واقعيّة، فإن من الممكن جداً أن نتفاءل بأنّ القطار قد وضع على السكّة في حلّ الأزمة اللّبنانيّة داخلياً. وبذلك، فإنّني أتصوّر أنّ التعقيدات التي واجهت مشكلة المهجّرين، هي التعقيدات التي تواجه الحلّ العميق للأزمة اللّبنانيّة، لأنها متصلة بمسألة التعايش.

إنّني أخشى إذا حلَّت مسألة المهجَّرين تحت ضرورات المسألة الانتخابيَّة، فإنها بذلك قد تمثّل الحلّ التّخديري. إنني أتصوّر أنّ مسألة المهجَّرين هي مسألة إنسانية يراد من خلالها تغذية المسألة السياسيّة، عن طريق عملية الضغط والضغط المضادّ، ليستفيد كل فريق منها بالطريقة التي تخدم أهدافه السياسيّة في البلاد.

من الممكن جداً أن يبحث العاملون على إجراء الانتخابات على حلّ مشكلة المهجَّرين، تماماً كما يبحثون عن حلّ لمشكلة الانتخابات في الجنوب في هذا المجال.

لا أتصوّر أنّ هناك علاقة عضوية بين عودة المهجَّرين وبين الانتخابات في اللّعبة السياسيّة، لأن الذين يضعون قواعد اللّعبة، قد يجدون حلولاً بطريقة وبأخرى للتّعقيدات.

مواطنٌ لا يُحترَم؟!

الإعلام الخاصّ المكتوب والمرئي والمسموع، يتحدّث في هذه الفترة بإسهاب عن وزير الاقتصاد الدكتور سمير مقدسي، الّذي جيء به لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في وضعنا المالي والاقتصادي، والدّكتور مقدسي البروتستنتي المذهب والتربية، أميركي العلم والمعلومات، شخصيّة اقتصادية أكاديميّة.. هل لديكم تعليق على خطوة من هذا النّوع أقدمت عليها حكومة راعت في تركيبتها مبدأ 6 و 6 مكرَّر؟

إنّ الكثيرين ممن يصنعون القرار في هذا البلد، أو يصنع لهم القرار فيه، لا يحترمون المواطن، لأنهم يتحرّكون من موقع أنّه ساذج وانفعاليّ...

لا أتصوّر أن المشكلة في لبنان هي مشكلة نقصان الخبرة الاقتصاديّة، أو نقصان العلاقات الشخصية لبعض رجال الاقتصاد والسياسة بمواقع القرار الدّولي، لكنّ هذه الأمور قد تكون عنصراً تخديرياً يعطى المواطن ثقة فيما تعارف عليه المواطن من ربط المشكلة بالشّخص، بدلاً من ربط المشكلة بالمؤسّسة.

إنّني أتصوّر أنّ الكثيرين ممن يصنعون القرار في هذا البلد، أو يصنع لهم القرار فيه، لا يحترمون المواطن، لأنهم يتحرّكون من موقع أنّه ساذج وبسيط وعبيط وانفعاليّ واستعراضيّ، وأن من الممكن أن يضحك عليه حتى لو أدّى ذلك إلى أن يبكي.

لذلك، نجد في الانتخابات أنّ الذي يحكم علاقة المواطن بالمرشَّح، هو علاقة المرشَّح بالمواطن في أفراحه وأحزانه وخدماته الصّغيرة، لا علاقة المرشَّح بالوطن في حقوقه السياسية والاقتصادية وما إلى ذلك.. هذه المساحة بين الدّولة وبين المواطن قد تكون مسؤولة عن كثير من مشاكل المواطن ومشاكل الدّولة.

* مقابلة أجرتها مجلّة "مال وأعمال" مع سماحة العلّامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله (رض)، بتاريخ 15 حزيران 1992م، العدد 27.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية