يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً رسولَه: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران: 121 – 122].
في هاتين الآيتين، إشارةٌ إلى معركة أُحُد الَّتي جاءت السِّيرة على أنَّها حدثَتْ في شهرِ شوَّال، إمَّا في الثَّالثِ منه، أو السَّابعِ منه، أو النِّصفِ منه. وهذه المعركة كانت ردَّ فعلٍ من المشركين على النَّتائج الَّتي واجهتهم في بدر، عندما انهزموا في بدر أمام المسلمين، بالرّغم مما كانوا يملكونه من قوَّة، وتنادوا فيما بينهم أن يثأروا لهزيمتهم ولقتلاهم، وبذلك جمعوا المال الَّذي ربحوه في القافلة الَّتي كانت قد جاءت من الشَّام، وعرض لها المسلمون ولكنَّها نجت، وخرجوا في ثلاثة آلاف رجلٍ، ومعهم النِّساء ليشجِّعن الجنود على القتال. وهكذا ساروا حتَّى وصلوا إلى مشارف المدينة، إلى منطقة مسجد الشَّجرة الَّتي هي ميقات أهل المدينة، أو مَنْ مرَّ على المدينة.
منَ النَّصرِ إلى الهزيمة
وهكذا، جمع الرَّسول (ص) المسلمين لاستشارتهم في الرَّأي؛ هل نبقى في المدينة لنقاتلهم منها، وكان هذا رأي الكثيرين من المسلمين، أو نخرج إلى خارج المدينة، حتَّى لا يفرضوا علينا الحصار؟ وانتصر الرَّأي الآخر، وخرج النَّبيُّ (ص) بمن معه من المهاجرين والأنصار.
ودارت المعركة كأقسى ما يكونُ، وانتصرَ المسلمون على المشركين في الجولة الأولى، وكاد النَّصر يحصل للمسلمين بشكل حاسم، لولا بعض جيش المسلمين ممن وضعهم النّبيّ (ص) في موقعٍ يمثِّل ثغرةً يمكن أن ينفذ العدوّ منها، وقال لهم ابقوا في هذه الثَّغرة، سواء رأيتمونا قد انتصرنا أو انهزمنا. ولكنَّ هؤلاء المسلمين الَّذين كانوا في الثَّغرة، عندما رأوا المسلمين ينتصرون، وأنَّ إخوانهم بدأوا يحصلون على الغنائم الَّتي غنموها من المشركين، تنازعوا فيما بينهم، فقال بعضهم، فلننزل لنشارك إخواننا في الحصول على الغنائم، وقال بعض آخر إنَّ رسول الله أمرنا أن نبقى، وأجابهم ذلك البعض بأنَّ رسول الله لم يأمرنا بالبقاء في مثل هذه الحالة.. وتنازعوا، وترك بعضهم الموقع، وثبت بعض آخر. ولاحظ من بقي من فلول المشركين أنَّ هذه الثَّغرة ضعفت، ولذلك هجموا على مَنْ في هذه الثَّغرة، وهم أقليَّة، واستطاعوا أن يقتلوهم، وبذلك نفذوا على المسلمين من خلفهم. وعندما رأى المشركون الفارّون أنَّ أصحابهم بدأوا القتال مع المسلمين، بدأوا أيضاً الهجوم عليهم.
وهكذا انكسر المسلمون بعد انتصار، حتى إنَّ رسول الله (ص) جرح في جبهته، وكسرت رباعيَّة أسنانه، وسقط جريحاً، وصاح بعض المشركين: لقد قتل رسول الله.
المعركةُ في القرآنِ
وقد حدَّثنا الله سبحانه وتعالى عن بعض هذه المواقع في تجربتي المسلمين الأولى والثَّانية في يوم أحد. يقول تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ - عندما وعدكم بالنَّصر - إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ - تقتلونهم بإذنه - حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ – في وحدة الموقف، وفي العزيمة القويَّة في إطاعة أوامر رسول الله (ص) - وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ – وهم الَّذين ثبتوا - ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ - لينزل بكم هذا البلاء، وهو بلاء الهزيمة بعد النَّصر، لتأخذوا منه درساً للمستقبل، وهو درس الانضباط أمام أوامر القيادة، ودرس الوعي لطبيعة المعركة - وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ - وأنتم فارّون - وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[آل عمران: 152 – 153]، حيث عشتم مرارة المشكلة ومرارة الهزيمة الَّتي نشأت بواسطة الاختلاف والتَّنازع الَّذي أدَّى إلى الفشل الَّذي أنتج الهزيمة.
وهكذا، يحدِّثنا الله سبحانه وتعالى عن هذه التَّجربة بعد ذلك، في مقام تهوين الأمر على المسلمين، حيث قال لهم: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: 139]، لا تضعفوا أمام بعض الهزائم، أو أمام حالات الفشل، ولا تسقطوا، ولكن خذوا القوَّة من الله، {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[آل عمران: 140].
وفي هذه الواقعة أيضاً، نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: 173 – 175].
الارتباطُ بالخطِّ
وفي هذه الواقعة أيضاً، نزلت هذه الآية لتتحدَّث عمَّا حصل للمسلمين، عندما نادى المنادي: لقد قُتل رسول الله! وقال بعض المسلمين: اذهبوا بنا إلى أبي سفيان حتَّى نبايعه، لأنَّه إذا ذهب رسول الله، فعلينا أن ننفتح على الَّذين انتصروا... ككثيرٍ من النَّاس الّذين لا يملكون قاعدةً يقفون فيها مع مبادئهم وقيادتهم، فإذا انتصر الحقّ، كانوا مع الحقّ لأنَّه المنتصر، وإذا انتصر الباطل، كانوا مع الباطل لأنَّه هو المنتصر، كما يقول المثل الشَّعبي: "مع الواقف"، لأنَّ هؤلاء النَّاس يكونون مع أطماعهم.
قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ - هو رسول يؤدِّي الرِّسالة، وعليكم أن تسيروا مع الرَّسول بوجوده، وعليكم أن تسيروا مع الرِّسالة بعدَه - أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ - الرَّسول لا يخلد في الدّنيا، ولكنَّ له عمراً كبقيَّة النَّاس {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزّمر: 30]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[الأنبياء: 34] - وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144].
لذلك، يموت الرَّسول وتبقى الرّسالة، ويموت القائد وتبقى القضيّة، وعلى النَّاس أن يكونوا في خطِّ القضيَّة، وفي خطِّ الرَّسول، مع الرسالة ومع الرسول وبعد الرسول، ومع القيادة وبعد القائد.
هذا ما يجب أن نتعلَّمه، أيُّها الإخوة، أنَّ علينا أن لا نرتبط بالشَّخص، وإنما علينا أن نرتبط بالخطّ. نحن نرتبط بالأشخاص من خلال ما يمثّلونه من الإخلاص للرّسالة ومن الإخلاص للخطّ، ومن الإخلاص للقضيَّة، فما داموا يسيرون في ذلك فنحن معهم. هكذا يجب أن نتعلَّم من هذه الآية، وإذا انحرفوا عن الخطِّ، فعلينا أن نبتعد عنهم. ليس في الإسلام عبادة الأشخاص، ولكنَّ في الإسلام عبادةَ الله؛ أن نعبد الله وحده، وأن نتَّبع رسالته، وأن نعظِّم الرَّسول بما عظَّمه الله به، وأفضل تعظيمٍ للرَّسول أن نعظِّم رسالته، وأن نخلص لرسالته.
الدَّرسُ الكبيرُ
أيُّها الأحبَّة، هذه معركة أحد الَّتي نثيرها بعد مئاتٍ من السّنين، من أجل أن نأخذ منها الدَّرس الكبير جدّاً، وهو أنَّ على المؤمنين أن لا يتنازعوا عندما يخوضون معركة الحقّ في مواجهة الباطل، ومعركة الجهاد في مواجهة المستكبرين والظَّالمين.
إنَّ على المؤمنين، إذا أرادوا الانتصار، أن يكونوا صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، صفّاً واحداً في الإخلاص للقضيَّة، وصفّاً واحداً في الإخلاص للأمَّة، وصفّاً واحد في الانسجام مع الخطَّة الحكيمة الّتي تخطِّط للانتصار {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46].
عندما نعيش، أيُّها الأحبَّة، مع القضيَّة، فسوف ننتصر، لأنَّ الصَّوت يكون صوتاً واحداً هو صوت القضيَّة، ولكن عندما يعيش كلُّ إنسانٍ منَّا مع خصوصيَّاته، ومع أطماعه، ومع ذاته، عندما نعيش ليفكِّر كلّ واحد منا أنَّه لا بدَّ أن يكون الأعلى والأعظم والأكبر، وعندما نعيش على أساس أن نكون جميعاً رؤوساً كمزرعة البصل، فلن نستطيع أن نتحرَّك في خطِّ النَّصر، لأنَّ ذلك يجعل كلَّ إنسان منَّا يفكِّر في نفسه ولا يفكِّر في القضيَّة، ولا يفكِّر في الوطن ولا في الرِّسالة، ولا في الأمَّة. عندما يفكِّر كلُّ إنسان أنَّه مؤتمن على رسالة الله، وعندما يفكّر كلُّ إنسان أنَّه جزء من أمَّة، وأنَّه مسؤول عن وطنه ومجتمعه، عند ذلك سوف نتخلَّى عن كلِّ الجزئيات، وعن كلِّ الأمور الصَّغيرة، لتكون القضيَّة كبيرة.
الوحدةُ ورصُّ الصّفوف
أيُّها الأحبَّة، لا يعبد كلّ واحد منَّا ذاته، ولا يعبد كلّ واحد منَّا عائلته، ولا يعبد حزبه أو حركته أو طائفته، لتكن العبادة لله وحده، وليكن الإخلاص للرّسالة، لنلتقي على الله في كلِّ ما أمر به، وفي كلّ ما نهى عنه، ولنقف مع الرِّسالة في كلِّ معاركها، وفي كلِّ انتصاراتها، عند ذلك، سوف نكون أمّةً تستطيع أن تؤكِّد وجودها، ولن تكون أمَّةً ينطلق المستكبرون ليأخذ كلّ واحد منهم قطعة منها، وليهدِّدها هذا بكلِّ قوَّته، وليعمل ذاك على تمزيق صفوفها.
أيُّها الأحبَّة، لن ينتصرَ الفردُ إلَّا في داخل الأمَّة، ولن ينتصر الإنسان إلَّا من خلال رسالته {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}[آل عمران: 173].
والنَّاس الآن يجمعون لنا.. إنَّهم عندما يستهدفون العراق وفلسطين، لا يستهدفون حاكماً هنا وحاكماً هناك؛ إنَّهم يستهدفوننا جميعاً، لأنَّ العراق بلدنا، ولأنَّ فلسطين بلدنا، ولأنَّ قوَّتهما قوَّة لنا، ولأنَّ ضعفهما ضعفٌ لنا.
لذلك، لا يستغرق المسلمون في شرقِ الأرض وغربِها، في أنَّ علينا أن نكون مع المستكبرين في كلِّ ما يهدِّدوننا به، إنَّهم صرَّحوا أنَّهم لا يهدِّدون الشَّخص ولا يسقطونه، إنَّهم يهدِّدون البلد، ويهدِّدون قوَّة البلد ومناعته، ونحن نعرف أنَّهم حاصروا الشَّعب العراقيّ، حاصروه في منع الدَّواء عنه، وفي منع الغذاء عنه، وفي منعه من كلِّ حاجاته... حاصروه باسم محاصرة النّظام، ولكنَّ النِّظام يحصل على كلّ ما يريد، والشَّعب هو الَّذي سقط في الحصار.. وتلك هي قصَّة المستكبرين، عندما يروننا ونحن نتمزَّق، يحاربُ بعضنا بعضاً، ويكيد بعضنا لبعض، فأيُّ أمَّةٍ هي هذه الأمَّة؟!
لذلك، من أُحُد نأخذ الدَّرس كيف تنهزم الأمَّة بعد انتصار، لأنَّها تنازعت وعصت، ونأخذ الدَّرس من بدر كيف يكون الانتصار، لأنَّها اتَّحدت ووعت وأطاعت.
الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله في كلِّ أموركم، وفي كلِّ مرحلة من المراحل الَّتي تعيشُ الأمَّة فيها الخطر على وحدتها ومقدّراتها، وعلى حاضرها ومستقبلها.
اتَّقوا الله، لتكونوا من خلال تقوى الله النَّاسَ الَّذين يفكِّرون في الكلمات قبل أن يقولوها، ويفكِّرون في المواقف قبل أن يقفوها، ويفكِّرون في الأمَّة قبل أن يفكِّروا في الذَّات.
اتَّقوا الله في هذه المرحلة الصَّعبة الَّتي انطلق فيها الاستكبار العالميّ، ولا سيَّما الاستكبار الأمريكيّ، الّذي يستعرض عضلاته بكلِّ أجهزة القوَّة لديه، من أجل أن يضرب موقعاً في الأمَّة. وإنَّ علينا إذا لم نستطع أن نقف في مواجهته بالطَّريقة الَّتي يمكن أن نهزمه فيها عسكريّاً، أن نعمل بكلِّ ما عندنا من طاقة، في أن نحرِّك الرَّفض بالكلمة، والرَّفض بالقلب، والرَّفض بمقاطعة بضائعه بما يمكننا من ذلك. وعلينا أن نرصد الأمور في هذه المرحلة.
أمريكا تهدِّدُ المنطقة
لا تزال المنطقة تعيش تحت أجواء الحرب الَّتي تثيرها أمريكا، بالتَّهديد بضرب العراق، لتأديبه، كما تقول، من أجل إجباره على تنفيذ قرارات الأمم المتَّحدة، لتأكيد السَّيطرة الأمريكيَّة على المنطقة، بقيامها – أي أمريكا - بدور الشّرطيّ العالميّ الَّذي يملك الحريَّة في الحركة، لإعادة النّظام - كما تقول - في أيّ موقع في العالم.
ولكنَّنا نعرف أنَّ أمريكا لا تتحرّك من أجل إعادة النظام العالمي إلى نصابه، بل تعمل على حماية مصالحها، وفرض السَّيطرة الكاملة على بحر الخليج كمقدِّمةٍ للسَّيطرة على نفط المنطقة، بما في ذلك نقط العراق، وتضييق الخناق على إيران وسوريا ولبنان لمصلحة إسرائيل الَّتي بلغَتِ الذّروة في تجميد كلِّ الواقعِ السياسيّ، فيما يتَّصل باحتلالها داخل فلسطين ولبنان وسوريا، وفي التنكّر لقرارات الأمم المتَّحدة، من دون أن تقف أمريكا في وجهها أمام ذلك، لا سياسيّاً ولا عسكريّاً، بل إنَّها تحميها من إدانة الأمم المتَّحدة لسلوكها السياسيّ ضدَّ قرارات الأمم المتَّحدة.
إنَّ أمريكا تعمل الآن على إيجاد وضعٍ جديدٍ ضاغطٍ على العالم العربيّ، للقبول بالشّروط الإسرائيليّة للتَّسوية، تماماً كما هو الوضع الَّذي صنعته في حرب الكويت، لفرض الشروط الأمريكيَّة الإسرائيليَّة في مشروع التَّسوية.
إنَّ المطلوب أمريكيّاً الآن، هو إنقاذ إسرائيل من أيّ إدانة دوليَّة، وفرض الأمر الواقع الأمريكيّ على المنطقة، وابتزازها اقتصاديّاً وأمنيّاً، وإبعاد أيِّ محورٍ عن التدخّل في شؤون المنطقة، بما في ذلك أوروبَّا، من خلال اللّعبة العسكريّة الَّتي تلعبها أمريكا في الأزمة الجديدة في العراق.
إنَّ المسألة عند أمريكا ليست دفع الخطر العراقيّ عن العالم، فهذه نكتة إعلاميَّة سخيفة، بل المسألة هي إيجاد واقع أمنيّ جديد، تقوده أمريكا، وتنفِّذ بعض خططه تركيا وإسرائيل في أكثر من موقع.
وعلى العالم العربي والإسلاميِّ أن يواجه هذا الخطر الأمريكيَّ القادم، الَّذي يريد أن يركِّز قواعده العسكريَّة في البرِّ والبحر والجوِّ، من أجل رفع العصا في وجه كلِّ المعارضين للسياسة الأمريكيَّة. وعلى الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة وكلّ شعوب العالم الثَّالث، أن ترفض ذلك، وأن تقف في وجه الهيمنة الاستكباريَّة على مقدّراتها، فإنَّ الشّعوب المستضعفة قادرة على إرباك كلّ خطط الاستكبار في سياسته العدوانيَّة ومصالحه الاحتكاريّة.
قولوا بصوت عال: لا للعدوان الأمريكيّ على العراق، وعلى كلِّ مواقع الشعوب في المنطقة وخارجها.
وفي موازاة ذلك، فإنَّ أمريكا، بالتَّعاون مع إسرائيل، تدفع المنطقة كلّها نحو اللا استقرار، وهذا ما نلاحظه في العودة مجدَّداً للعدوان على السّودان من قبل أريتريا الّتي تزوِّدها إسرائيل بالسِّلاح، وتقوم بتدريب ضبَّاطها للسَّيطرة على بعض المناطق السودانيَّة، وذلك بتشجيع أمريكيّ لإرباك السّودان من خلال الدّول المحيطة به، مستغلّةً حالة التمرّد في الجنوب، لتصوير المسألة كما لو كانت استمراراً للقتال الدَّاخليّ لا عدواناً من الخارج.
لقد أصبحت إسرائيل في المنطقة الأداةَ الفعَّالة لتقويض الاستقرار في أفريقيا والشَّرق الأوسط، ما يفرض المزيد من الوعي، ولا سيَّما في الدّول الأفريقيَّة العربيَّة والإسلاميَّة الّتي تواجه الكثير من الأخطار في المستقبل على أمنها وواقعها السياسيّ والاقتصاديّ.
ذكرى انتصارِ الثَّورة
وعلى صعيدٍ آخر، نلتقي في هذه الأيَّام، بالذّكرى التَّاسعة عشرة لانتصار الثَّورة الإسلاميَّة في إيران، وولادة الجمهوريَّة الإسلاميَّة فيها، هذه الجمهوريَّة الَّتي نجدها في حالة تجدّد واستمرار وثبات أمام كلِّ أشكال الضَّغط والحصار الَّتي تقودها أمريكا.
إنَّنا نقدِّر للشَّعب الإيرانيّ المسلم حيويَّته السياسيَّة في حماية الثَّورة والدَّولة، ومواجهته لكلِّ خطط الاستكبار الَّتي تريد أن تسقط المنهج الَّذي رسمه الإمام الخميني الرَّاحل (قده) في ثورته، كما أنَّنا نقدِّر للجمهوريَّة الإسلاميَّة احتضانها لحركات التحرّر وقضايا المستضعفين، ولا سيَّما قضيَّة فلسطين، والقدس بالذَّات، والمقاومة في لبنان، والانتفاضة في فلسطين.
إنَّنا نريد للشّعوب الإسلاميَّة والعربيَّة أن تتكامل مع الشَّعب الإيراني المسلم وحكومته، في الوقوف أمام كلِّ خطط الاستكبار الأمريكيّ لإضعاف أوضاعها السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة لحساب مصالحه.
المقاومةُ تصوِّبُ المسارَ
وبالانتقال إلى لبنان، فإنَّنا نقدِّر للمجاهدين عمليَّاتهم الموفَّقة في مواجهة العدوّ الإسرائيليّ، في الخطِّ المستقيم في تصويب المسار الدَّاخليّ، باتجاه الانتقال من المشاكل الصَّغيرة، إلى فضاء المواجهة مع العدوّ، وهذا ما نريد للجميع أن يتمثَّلوه في المرحلة الحاضرة في حركة المستقبل أمام الأخطار المحدقة بالوطن والمنطقة كلِّها، الأمر الَّذي يفرض علينا جميعاً أن نرتفع إلى مستوى القضايا الكبرى.
فتوى حولَ الفتنةِ
وبهذه المناسبة، فإنَّ من المسؤوليَّة الشرعيَّة الَّتي أؤكّدها من خلال الصّفة الشرعيَّة، أن نرفض كلَّ أساليب الفتنة الَّتي تتحرَّك في صورة بيانات مشبوهة، لإثارة المشاعر الحاقدة، ولإرباك خطِّ المقاومة الأصيل، ولإيجادِ حالةٍ من الفوضى الإعلاميَّة الَّتي تضرّ بالواقع كلِّه.
إنَّ الوحدة الدَّاخليَّة، ولا سيَّما بين المؤمنين، هي ضرورة شرعيّة وسياسيَّة على جميع المستويات، وعلينا، أيُّها الأحبَّة، في أسبوع المقاومة الَّذي نتذكَّر فيه شخصين مجاهدين عزيزين علينا وعلى الأمَّة، هما الشَّيخ راغب حرب، والسيِّد عبَّاس الموسوي، اللّذين نذكرهما في ذكراهما في هذه الأيَّام، إنَّ علينا في أسبوع المقاومة، أن يقف الجميع مع المقاومة في مواجهتها للعدوّ الإسرائيليّ بكلِّ ما لدينا من طاقة في هذا الاتجاه، لأنَّ المسألة تمثِّل دعم الضَّوء الوحيد الَّذي ينتشر في هذا الظَّلام الكبير في المنطقة، ولأنَّها التحدّي الوحيد الَّذي يقف في مواجهة الصّهيونيَّة والاستكبار العالميّ.
تحذيرٌ إلى الدَّولة
وأخيراً، إنَّنا نوجَّه خطابنا إلى الدَّولة، لنحذِّرها من تمييع المطالب الحقَّة للمناطق المحرومة، ولا سيَّما منطقة بعلبكّ الهرمل، أمام الجدل القائم في مسألة توزيع حصَّة المئة والخمسين مليار؛ ما هي الحصّة الَّتي نعطيها لبعلبكّ، وما هي الحصَّة الَّتي نعطيها في المنطقة الثانية؟! أو في الطّروحات الجديدة الَّتي تدخل المسألة في المتاهات، مثل طروحات التسعمائة مليار وما إلى ذلك، مما لا نعرف كيف تموَّل وكيف تنفَّذ.
وإنَّنا نكرر تأكيدنا أنَّ حلَّ مشكلة البقاع، ليس بتحويله إلى منطقة عسكريَّة، لأنَّ البقاعيّين ليسوا شعباً بعيداً من النِّظام العامّ وخارجاً عن القانون، ولكنَّ حلَّ مشكلة البقاع كبقيَّة المناطق المحرومة، بتحويله إلى منطقة اقتصاديَّة خدماتيَّة متوازنة، يشعر فيها النَّاس بأنَّهم جزء من الدَّولة، وليسوا منطقة مفصولة عنها.
ونقول للمسؤولين: لا تخدِّروا النَّاس بالوعود المعسولة، كونوا الصَّادقين في وعودكم، حتى يعرف الشّعب أنَّه يعيش في دولة الصِّدق لا في دولة الكذب، وفي وطن المسؤوليَّة لا في وطن اللَّا مبالاة.
إنَّنا ندعو أهلنا جميعاً في السَّاحة الإسلاميَّة العامَّة، وفي ساحة الوطن كلِّه، وفي ساحة البقاع بصورة خاصَّة، هذه السَّاحة الَّتي كانت دائماً عصيّةً على محاولات إثارة الفتنة، أو التّفتيت والتَّجزئة في واقع المؤمنين، إنَّنا ندعوهم أن يتحصَّنوا من أيِّ جهة تريد العبث بوحدة المؤمنين، كما أنّنا ندعو أبناءنا في هذه المنطقة المحرومة الأصيلة، أن يرتفعوا فوق الجراح، ولا يفتحوا المجال لأيِّ جهة مخابراتيَّة أن تضعفَ موقفهم في الإصرارِ على المطالبة بحقوقهم ووحدتهم في كلِّ الأمور، وأن لا يسمحوا لأحدٍ بالمتاجرةِ بهذه الحقوق لحساب اللّعبة السياسيَّة في الدَّاخل.
إنَّ البقاع هو الساحة الأصيلة للمقاومة وللوطن وللأمَّة، وعلى الجميع أن يعملوا بكلِّ مسؤوليَّة لدعم هذه السَّاحة، تربويّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً...
وعلينا أن نعرف أنَّه ليس بالكلمات الاستهلاكيَّة يشبع الجياع، وتتثبَّت الأرض، ويعيش الإنسان بكرامته.
بدءُ الصَّومِ المسيحيّ
وأخيراً، إنَّنا نغتنم هذه الفرصة الَّتي يدخل فيها مواطنونا من المسيحيِّين الصَّومَ الكبيرَ، لنباركَ لهم هذا الصَّوم، وندعو الله سبحانه وتعالى أن يوفِّق جميعَ المؤمنين المسلمين في شهر رمضان، كلّ المؤمنين بالله؛ المسلمين في شهر رمضان، والمسيحيّين في هذا الصَّوم الكبير، أن يوفِّقهم للصَّوم عن كلِّ النّزاعات والخلافات والأحقاد الَّتي تسقط روح الإيمان في نفوسهم، وعمق المحبَّة في إنسانيَّتهم، والصّوم عن كلّ تأييد للظّلم في الدّاخل والخارج، ولا سيَّما ظلم المستكبرين للمستضعفين، فإنَّ للصَّوم روحانيَّته الَّتي تجعل الإنسان يعود إلى إنسانيَّته من خلال عودته إلى الإيمان بالله، في تجربة المعاناة الروحيَّة والجسديَّة.
إنَّ الصَّوم عن الطَّعام والشَّراب من أسهل الأمور، ولكن أن تصوم عمَّا حرَّم الله؛ أن تصوم عن الظّلم، أن تصوم عن الباطل، أن تصوم عن الفتنة، وأن تصوم عن كلِّ ما لا يريده الله، ذلك هو الصَّوم الكبير، عندَ المسلمين وعند المسيحيِّين، في جميع الشّهور، وفي جميع أيّام السَّنة.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 13/2/1998
يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً رسولَه: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران: 121 – 122].
في هاتين الآيتين، إشارةٌ إلى معركة أُحُد الَّتي جاءت السِّيرة على أنَّها حدثَتْ في شهرِ شوَّال، إمَّا في الثَّالثِ منه، أو السَّابعِ منه، أو النِّصفِ منه. وهذه المعركة كانت ردَّ فعلٍ من المشركين على النَّتائج الَّتي واجهتهم في بدر، عندما انهزموا في بدر أمام المسلمين، بالرّغم مما كانوا يملكونه من قوَّة، وتنادوا فيما بينهم أن يثأروا لهزيمتهم ولقتلاهم، وبذلك جمعوا المال الَّذي ربحوه في القافلة الَّتي كانت قد جاءت من الشَّام، وعرض لها المسلمون ولكنَّها نجت، وخرجوا في ثلاثة آلاف رجلٍ، ومعهم النِّساء ليشجِّعن الجنود على القتال. وهكذا ساروا حتَّى وصلوا إلى مشارف المدينة، إلى منطقة مسجد الشَّجرة الَّتي هي ميقات أهل المدينة، أو مَنْ مرَّ على المدينة.
منَ النَّصرِ إلى الهزيمة
وهكذا، جمع الرَّسول (ص) المسلمين لاستشارتهم في الرَّأي؛ هل نبقى في المدينة لنقاتلهم منها، وكان هذا رأي الكثيرين من المسلمين، أو نخرج إلى خارج المدينة، حتَّى لا يفرضوا علينا الحصار؟ وانتصر الرَّأي الآخر، وخرج النَّبيُّ (ص) بمن معه من المهاجرين والأنصار.
ودارت المعركة كأقسى ما يكونُ، وانتصرَ المسلمون على المشركين في الجولة الأولى، وكاد النَّصر يحصل للمسلمين بشكل حاسم، لولا بعض جيش المسلمين ممن وضعهم النّبيّ (ص) في موقعٍ يمثِّل ثغرةً يمكن أن ينفذ العدوّ منها، وقال لهم ابقوا في هذه الثَّغرة، سواء رأيتمونا قد انتصرنا أو انهزمنا. ولكنَّ هؤلاء المسلمين الَّذين كانوا في الثَّغرة، عندما رأوا المسلمين ينتصرون، وأنَّ إخوانهم بدأوا يحصلون على الغنائم الَّتي غنموها من المشركين، تنازعوا فيما بينهم، فقال بعضهم، فلننزل لنشارك إخواننا في الحصول على الغنائم، وقال بعض آخر إنَّ رسول الله أمرنا أن نبقى، وأجابهم ذلك البعض بأنَّ رسول الله لم يأمرنا بالبقاء في مثل هذه الحالة.. وتنازعوا، وترك بعضهم الموقع، وثبت بعض آخر. ولاحظ من بقي من فلول المشركين أنَّ هذه الثَّغرة ضعفت، ولذلك هجموا على مَنْ في هذه الثَّغرة، وهم أقليَّة، واستطاعوا أن يقتلوهم، وبذلك نفذوا على المسلمين من خلفهم. وعندما رأى المشركون الفارّون أنَّ أصحابهم بدأوا القتال مع المسلمين، بدأوا أيضاً الهجوم عليهم.
وهكذا انكسر المسلمون بعد انتصار، حتى إنَّ رسول الله (ص) جرح في جبهته، وكسرت رباعيَّة أسنانه، وسقط جريحاً، وصاح بعض المشركين: لقد قتل رسول الله.
المعركةُ في القرآنِ
وقد حدَّثنا الله سبحانه وتعالى عن بعض هذه المواقع في تجربتي المسلمين الأولى والثَّانية في يوم أحد. يقول تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ - عندما وعدكم بالنَّصر - إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ - تقتلونهم بإذنه - حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ – في وحدة الموقف، وفي العزيمة القويَّة في إطاعة أوامر رسول الله (ص) - وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ – وهم الَّذين ثبتوا - ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ - لينزل بكم هذا البلاء، وهو بلاء الهزيمة بعد النَّصر، لتأخذوا منه درساً للمستقبل، وهو درس الانضباط أمام أوامر القيادة، ودرس الوعي لطبيعة المعركة - وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ - وأنتم فارّون - وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}[آل عمران: 152 – 153]، حيث عشتم مرارة المشكلة ومرارة الهزيمة الَّتي نشأت بواسطة الاختلاف والتَّنازع الَّذي أدَّى إلى الفشل الَّذي أنتج الهزيمة.
وهكذا، يحدِّثنا الله سبحانه وتعالى عن هذه التَّجربة بعد ذلك، في مقام تهوين الأمر على المسلمين، حيث قال لهم: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: 139]، لا تضعفوا أمام بعض الهزائم، أو أمام حالات الفشل، ولا تسقطوا، ولكن خذوا القوَّة من الله، {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[آل عمران: 140].
وفي هذه الواقعة أيضاً، نزلت هذه الآية: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: 173 – 175].
الارتباطُ بالخطِّ
وفي هذه الواقعة أيضاً، نزلت هذه الآية لتتحدَّث عمَّا حصل للمسلمين، عندما نادى المنادي: لقد قُتل رسول الله! وقال بعض المسلمين: اذهبوا بنا إلى أبي سفيان حتَّى نبايعه، لأنَّه إذا ذهب رسول الله، فعلينا أن ننفتح على الَّذين انتصروا... ككثيرٍ من النَّاس الّذين لا يملكون قاعدةً يقفون فيها مع مبادئهم وقيادتهم، فإذا انتصر الحقّ، كانوا مع الحقّ لأنَّه المنتصر، وإذا انتصر الباطل، كانوا مع الباطل لأنَّه هو المنتصر، كما يقول المثل الشَّعبي: "مع الواقف"، لأنَّ هؤلاء النَّاس يكونون مع أطماعهم.
قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ - هو رسول يؤدِّي الرِّسالة، وعليكم أن تسيروا مع الرَّسول بوجوده، وعليكم أن تسيروا مع الرِّسالة بعدَه - أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ - الرَّسول لا يخلد في الدّنيا، ولكنَّ له عمراً كبقيَّة النَّاس {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[الزّمر: 30]، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[الأنبياء: 34] - وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران: 144].
لذلك، يموت الرَّسول وتبقى الرّسالة، ويموت القائد وتبقى القضيّة، وعلى النَّاس أن يكونوا في خطِّ القضيَّة، وفي خطِّ الرَّسول، مع الرسالة ومع الرسول وبعد الرسول، ومع القيادة وبعد القائد.
هذا ما يجب أن نتعلَّمه، أيُّها الإخوة، أنَّ علينا أن لا نرتبط بالشَّخص، وإنما علينا أن نرتبط بالخطّ. نحن نرتبط بالأشخاص من خلال ما يمثّلونه من الإخلاص للرّسالة ومن الإخلاص للخطّ، ومن الإخلاص للقضيَّة، فما داموا يسيرون في ذلك فنحن معهم. هكذا يجب أن نتعلَّم من هذه الآية، وإذا انحرفوا عن الخطِّ، فعلينا أن نبتعد عنهم. ليس في الإسلام عبادة الأشخاص، ولكنَّ في الإسلام عبادةَ الله؛ أن نعبد الله وحده، وأن نتَّبع رسالته، وأن نعظِّم الرَّسول بما عظَّمه الله به، وأفضل تعظيمٍ للرَّسول أن نعظِّم رسالته، وأن نخلص لرسالته.
الدَّرسُ الكبيرُ
أيُّها الأحبَّة، هذه معركة أحد الَّتي نثيرها بعد مئاتٍ من السّنين، من أجل أن نأخذ منها الدَّرس الكبير جدّاً، وهو أنَّ على المؤمنين أن لا يتنازعوا عندما يخوضون معركة الحقّ في مواجهة الباطل، ومعركة الجهاد في مواجهة المستكبرين والظَّالمين.
إنَّ على المؤمنين، إذا أرادوا الانتصار، أن يكونوا صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، صفّاً واحداً في الإخلاص للقضيَّة، وصفّاً واحداً في الإخلاص للأمَّة، وصفّاً واحد في الانسجام مع الخطَّة الحكيمة الّتي تخطِّط للانتصار {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46].
عندما نعيش، أيُّها الأحبَّة، مع القضيَّة، فسوف ننتصر، لأنَّ الصَّوت يكون صوتاً واحداً هو صوت القضيَّة، ولكن عندما يعيش كلُّ إنسانٍ منَّا مع خصوصيَّاته، ومع أطماعه، ومع ذاته، عندما نعيش ليفكِّر كلّ واحد منا أنَّه لا بدَّ أن يكون الأعلى والأعظم والأكبر، وعندما نعيش على أساس أن نكون جميعاً رؤوساً كمزرعة البصل، فلن نستطيع أن نتحرَّك في خطِّ النَّصر، لأنَّ ذلك يجعل كلَّ إنسان منَّا يفكِّر في نفسه ولا يفكِّر في القضيَّة، ولا يفكِّر في الوطن ولا في الرِّسالة، ولا في الأمَّة. عندما يفكِّر كلُّ إنسان أنَّه مؤتمن على رسالة الله، وعندما يفكّر كلُّ إنسان أنَّه جزء من أمَّة، وأنَّه مسؤول عن وطنه ومجتمعه، عند ذلك سوف نتخلَّى عن كلِّ الجزئيات، وعن كلِّ الأمور الصَّغيرة، لتكون القضيَّة كبيرة.
الوحدةُ ورصُّ الصّفوف
أيُّها الأحبَّة، لا يعبد كلّ واحد منَّا ذاته، ولا يعبد كلّ واحد منَّا عائلته، ولا يعبد حزبه أو حركته أو طائفته، لتكن العبادة لله وحده، وليكن الإخلاص للرّسالة، لنلتقي على الله في كلِّ ما أمر به، وفي كلّ ما نهى عنه، ولنقف مع الرِّسالة في كلِّ معاركها، وفي كلِّ انتصاراتها، عند ذلك، سوف نكون أمّةً تستطيع أن تؤكِّد وجودها، ولن تكون أمَّةً ينطلق المستكبرون ليأخذ كلّ واحد منهم قطعة منها، وليهدِّدها هذا بكلِّ قوَّته، وليعمل ذاك على تمزيق صفوفها.
أيُّها الأحبَّة، لن ينتصرَ الفردُ إلَّا في داخل الأمَّة، ولن ينتصر الإنسان إلَّا من خلال رسالته {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا}[آل عمران: 173].
والنَّاس الآن يجمعون لنا.. إنَّهم عندما يستهدفون العراق وفلسطين، لا يستهدفون حاكماً هنا وحاكماً هناك؛ إنَّهم يستهدفوننا جميعاً، لأنَّ العراق بلدنا، ولأنَّ فلسطين بلدنا، ولأنَّ قوَّتهما قوَّة لنا، ولأنَّ ضعفهما ضعفٌ لنا.
لذلك، لا يستغرق المسلمون في شرقِ الأرض وغربِها، في أنَّ علينا أن نكون مع المستكبرين في كلِّ ما يهدِّدوننا به، إنَّهم صرَّحوا أنَّهم لا يهدِّدون الشَّخص ولا يسقطونه، إنَّهم يهدِّدون البلد، ويهدِّدون قوَّة البلد ومناعته، ونحن نعرف أنَّهم حاصروا الشَّعب العراقيّ، حاصروه في منع الدَّواء عنه، وفي منع الغذاء عنه، وفي منعه من كلِّ حاجاته... حاصروه باسم محاصرة النّظام، ولكنَّ النِّظام يحصل على كلّ ما يريد، والشَّعب هو الَّذي سقط في الحصار.. وتلك هي قصَّة المستكبرين، عندما يروننا ونحن نتمزَّق، يحاربُ بعضنا بعضاً، ويكيد بعضنا لبعض، فأيُّ أمَّةٍ هي هذه الأمَّة؟!
لذلك، من أُحُد نأخذ الدَّرس كيف تنهزم الأمَّة بعد انتصار، لأنَّها تنازعت وعصت، ونأخذ الدَّرس من بدر كيف يكون الانتصار، لأنَّها اتَّحدت ووعت وأطاعت.
الخطبة الثَّانية
عبادَ الله، اتَّقوا الله في كلِّ أموركم، وفي كلِّ مرحلة من المراحل الَّتي تعيشُ الأمَّة فيها الخطر على وحدتها ومقدّراتها، وعلى حاضرها ومستقبلها.
اتَّقوا الله، لتكونوا من خلال تقوى الله النَّاسَ الَّذين يفكِّرون في الكلمات قبل أن يقولوها، ويفكِّرون في المواقف قبل أن يقفوها، ويفكِّرون في الأمَّة قبل أن يفكِّروا في الذَّات.
اتَّقوا الله في هذه المرحلة الصَّعبة الَّتي انطلق فيها الاستكبار العالميّ، ولا سيَّما الاستكبار الأمريكيّ، الّذي يستعرض عضلاته بكلِّ أجهزة القوَّة لديه، من أجل أن يضرب موقعاً في الأمَّة. وإنَّ علينا إذا لم نستطع أن نقف في مواجهته بالطَّريقة الَّتي يمكن أن نهزمه فيها عسكريّاً، أن نعمل بكلِّ ما عندنا من طاقة، في أن نحرِّك الرَّفض بالكلمة، والرَّفض بالقلب، والرَّفض بمقاطعة بضائعه بما يمكننا من ذلك. وعلينا أن نرصد الأمور في هذه المرحلة.
أمريكا تهدِّدُ المنطقة
لا تزال المنطقة تعيش تحت أجواء الحرب الَّتي تثيرها أمريكا، بالتَّهديد بضرب العراق، لتأديبه، كما تقول، من أجل إجباره على تنفيذ قرارات الأمم المتَّحدة، لتأكيد السَّيطرة الأمريكيَّة على المنطقة، بقيامها – أي أمريكا - بدور الشّرطيّ العالميّ الَّذي يملك الحريَّة في الحركة، لإعادة النّظام - كما تقول - في أيّ موقع في العالم.
ولكنَّنا نعرف أنَّ أمريكا لا تتحرّك من أجل إعادة النظام العالمي إلى نصابه، بل تعمل على حماية مصالحها، وفرض السَّيطرة الكاملة على بحر الخليج كمقدِّمةٍ للسَّيطرة على نفط المنطقة، بما في ذلك نقط العراق، وتضييق الخناق على إيران وسوريا ولبنان لمصلحة إسرائيل الَّتي بلغَتِ الذّروة في تجميد كلِّ الواقعِ السياسيّ، فيما يتَّصل باحتلالها داخل فلسطين ولبنان وسوريا، وفي التنكّر لقرارات الأمم المتَّحدة، من دون أن تقف أمريكا في وجهها أمام ذلك، لا سياسيّاً ولا عسكريّاً، بل إنَّها تحميها من إدانة الأمم المتَّحدة لسلوكها السياسيّ ضدَّ قرارات الأمم المتَّحدة.
إنَّ أمريكا تعمل الآن على إيجاد وضعٍ جديدٍ ضاغطٍ على العالم العربيّ، للقبول بالشّروط الإسرائيليّة للتَّسوية، تماماً كما هو الوضع الَّذي صنعته في حرب الكويت، لفرض الشروط الأمريكيَّة الإسرائيليَّة في مشروع التَّسوية.
إنَّ المطلوب أمريكيّاً الآن، هو إنقاذ إسرائيل من أيّ إدانة دوليَّة، وفرض الأمر الواقع الأمريكيّ على المنطقة، وابتزازها اقتصاديّاً وأمنيّاً، وإبعاد أيِّ محورٍ عن التدخّل في شؤون المنطقة، بما في ذلك أوروبَّا، من خلال اللّعبة العسكريّة الَّتي تلعبها أمريكا في الأزمة الجديدة في العراق.
إنَّ المسألة عند أمريكا ليست دفع الخطر العراقيّ عن العالم، فهذه نكتة إعلاميَّة سخيفة، بل المسألة هي إيجاد واقع أمنيّ جديد، تقوده أمريكا، وتنفِّذ بعض خططه تركيا وإسرائيل في أكثر من موقع.
وعلى العالم العربي والإسلاميِّ أن يواجه هذا الخطر الأمريكيَّ القادم، الَّذي يريد أن يركِّز قواعده العسكريَّة في البرِّ والبحر والجوِّ، من أجل رفع العصا في وجه كلِّ المعارضين للسياسة الأمريكيَّة. وعلى الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة وكلّ شعوب العالم الثَّالث، أن ترفض ذلك، وأن تقف في وجه الهيمنة الاستكباريَّة على مقدّراتها، فإنَّ الشّعوب المستضعفة قادرة على إرباك كلّ خطط الاستكبار في سياسته العدوانيَّة ومصالحه الاحتكاريّة.
قولوا بصوت عال: لا للعدوان الأمريكيّ على العراق، وعلى كلِّ مواقع الشعوب في المنطقة وخارجها.
وفي موازاة ذلك، فإنَّ أمريكا، بالتَّعاون مع إسرائيل، تدفع المنطقة كلّها نحو اللا استقرار، وهذا ما نلاحظه في العودة مجدَّداً للعدوان على السّودان من قبل أريتريا الّتي تزوِّدها إسرائيل بالسِّلاح، وتقوم بتدريب ضبَّاطها للسَّيطرة على بعض المناطق السودانيَّة، وذلك بتشجيع أمريكيّ لإرباك السّودان من خلال الدّول المحيطة به، مستغلّةً حالة التمرّد في الجنوب، لتصوير المسألة كما لو كانت استمراراً للقتال الدَّاخليّ لا عدواناً من الخارج.
لقد أصبحت إسرائيل في المنطقة الأداةَ الفعَّالة لتقويض الاستقرار في أفريقيا والشَّرق الأوسط، ما يفرض المزيد من الوعي، ولا سيَّما في الدّول الأفريقيَّة العربيَّة والإسلاميَّة الّتي تواجه الكثير من الأخطار في المستقبل على أمنها وواقعها السياسيّ والاقتصاديّ.
ذكرى انتصارِ الثَّورة
وعلى صعيدٍ آخر، نلتقي في هذه الأيَّام، بالذّكرى التَّاسعة عشرة لانتصار الثَّورة الإسلاميَّة في إيران، وولادة الجمهوريَّة الإسلاميَّة فيها، هذه الجمهوريَّة الَّتي نجدها في حالة تجدّد واستمرار وثبات أمام كلِّ أشكال الضَّغط والحصار الَّتي تقودها أمريكا.
إنَّنا نقدِّر للشَّعب الإيرانيّ المسلم حيويَّته السياسيَّة في حماية الثَّورة والدَّولة، ومواجهته لكلِّ خطط الاستكبار الَّتي تريد أن تسقط المنهج الَّذي رسمه الإمام الخميني الرَّاحل (قده) في ثورته، كما أنَّنا نقدِّر للجمهوريَّة الإسلاميَّة احتضانها لحركات التحرّر وقضايا المستضعفين، ولا سيَّما قضيَّة فلسطين، والقدس بالذَّات، والمقاومة في لبنان، والانتفاضة في فلسطين.
إنَّنا نريد للشّعوب الإسلاميَّة والعربيَّة أن تتكامل مع الشَّعب الإيراني المسلم وحكومته، في الوقوف أمام كلِّ خطط الاستكبار الأمريكيّ لإضعاف أوضاعها السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة لحساب مصالحه.
المقاومةُ تصوِّبُ المسارَ
وبالانتقال إلى لبنان، فإنَّنا نقدِّر للمجاهدين عمليَّاتهم الموفَّقة في مواجهة العدوّ الإسرائيليّ، في الخطِّ المستقيم في تصويب المسار الدَّاخليّ، باتجاه الانتقال من المشاكل الصَّغيرة، إلى فضاء المواجهة مع العدوّ، وهذا ما نريد للجميع أن يتمثَّلوه في المرحلة الحاضرة في حركة المستقبل أمام الأخطار المحدقة بالوطن والمنطقة كلِّها، الأمر الَّذي يفرض علينا جميعاً أن نرتفع إلى مستوى القضايا الكبرى.
فتوى حولَ الفتنةِ
وبهذه المناسبة، فإنَّ من المسؤوليَّة الشرعيَّة الَّتي أؤكّدها من خلال الصّفة الشرعيَّة، أن نرفض كلَّ أساليب الفتنة الَّتي تتحرَّك في صورة بيانات مشبوهة، لإثارة المشاعر الحاقدة، ولإرباك خطِّ المقاومة الأصيل، ولإيجادِ حالةٍ من الفوضى الإعلاميَّة الَّتي تضرّ بالواقع كلِّه.
إنَّ الوحدة الدَّاخليَّة، ولا سيَّما بين المؤمنين، هي ضرورة شرعيّة وسياسيَّة على جميع المستويات، وعلينا، أيُّها الأحبَّة، في أسبوع المقاومة الَّذي نتذكَّر فيه شخصين مجاهدين عزيزين علينا وعلى الأمَّة، هما الشَّيخ راغب حرب، والسيِّد عبَّاس الموسوي، اللّذين نذكرهما في ذكراهما في هذه الأيَّام، إنَّ علينا في أسبوع المقاومة، أن يقف الجميع مع المقاومة في مواجهتها للعدوّ الإسرائيليّ بكلِّ ما لدينا من طاقة في هذا الاتجاه، لأنَّ المسألة تمثِّل دعم الضَّوء الوحيد الَّذي ينتشر في هذا الظَّلام الكبير في المنطقة، ولأنَّها التحدّي الوحيد الَّذي يقف في مواجهة الصّهيونيَّة والاستكبار العالميّ.
تحذيرٌ إلى الدَّولة
وأخيراً، إنَّنا نوجَّه خطابنا إلى الدَّولة، لنحذِّرها من تمييع المطالب الحقَّة للمناطق المحرومة، ولا سيَّما منطقة بعلبكّ الهرمل، أمام الجدل القائم في مسألة توزيع حصَّة المئة والخمسين مليار؛ ما هي الحصّة الَّتي نعطيها لبعلبكّ، وما هي الحصَّة الَّتي نعطيها في المنطقة الثانية؟! أو في الطّروحات الجديدة الَّتي تدخل المسألة في المتاهات، مثل طروحات التسعمائة مليار وما إلى ذلك، مما لا نعرف كيف تموَّل وكيف تنفَّذ.
وإنَّنا نكرر تأكيدنا أنَّ حلَّ مشكلة البقاع، ليس بتحويله إلى منطقة عسكريَّة، لأنَّ البقاعيّين ليسوا شعباً بعيداً من النِّظام العامّ وخارجاً عن القانون، ولكنَّ حلَّ مشكلة البقاع كبقيَّة المناطق المحرومة، بتحويله إلى منطقة اقتصاديَّة خدماتيَّة متوازنة، يشعر فيها النَّاس بأنَّهم جزء من الدَّولة، وليسوا منطقة مفصولة عنها.
ونقول للمسؤولين: لا تخدِّروا النَّاس بالوعود المعسولة، كونوا الصَّادقين في وعودكم، حتى يعرف الشّعب أنَّه يعيش في دولة الصِّدق لا في دولة الكذب، وفي وطن المسؤوليَّة لا في وطن اللَّا مبالاة.
إنَّنا ندعو أهلنا جميعاً في السَّاحة الإسلاميَّة العامَّة، وفي ساحة الوطن كلِّه، وفي ساحة البقاع بصورة خاصَّة، هذه السَّاحة الَّتي كانت دائماً عصيّةً على محاولات إثارة الفتنة، أو التّفتيت والتَّجزئة في واقع المؤمنين، إنَّنا ندعوهم أن يتحصَّنوا من أيِّ جهة تريد العبث بوحدة المؤمنين، كما أنّنا ندعو أبناءنا في هذه المنطقة المحرومة الأصيلة، أن يرتفعوا فوق الجراح، ولا يفتحوا المجال لأيِّ جهة مخابراتيَّة أن تضعفَ موقفهم في الإصرارِ على المطالبة بحقوقهم ووحدتهم في كلِّ الأمور، وأن لا يسمحوا لأحدٍ بالمتاجرةِ بهذه الحقوق لحساب اللّعبة السياسيَّة في الدَّاخل.
إنَّ البقاع هو الساحة الأصيلة للمقاومة وللوطن وللأمَّة، وعلى الجميع أن يعملوا بكلِّ مسؤوليَّة لدعم هذه السَّاحة، تربويّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً...
وعلينا أن نعرف أنَّه ليس بالكلمات الاستهلاكيَّة يشبع الجياع، وتتثبَّت الأرض، ويعيش الإنسان بكرامته.
بدءُ الصَّومِ المسيحيّ
وأخيراً، إنَّنا نغتنم هذه الفرصة الَّتي يدخل فيها مواطنونا من المسيحيِّين الصَّومَ الكبيرَ، لنباركَ لهم هذا الصَّوم، وندعو الله سبحانه وتعالى أن يوفِّق جميعَ المؤمنين المسلمين في شهر رمضان، كلّ المؤمنين بالله؛ المسلمين في شهر رمضان، والمسيحيّين في هذا الصَّوم الكبير، أن يوفِّقهم للصَّوم عن كلِّ النّزاعات والخلافات والأحقاد الَّتي تسقط روح الإيمان في نفوسهم، وعمق المحبَّة في إنسانيَّتهم، والصّوم عن كلّ تأييد للظّلم في الدّاخل والخارج، ولا سيَّما ظلم المستكبرين للمستضعفين، فإنَّ للصَّوم روحانيَّته الَّتي تجعل الإنسان يعود إلى إنسانيَّته من خلال عودته إلى الإيمان بالله، في تجربة المعاناة الروحيَّة والجسديَّة.
إنَّ الصَّوم عن الطَّعام والشَّراب من أسهل الأمور، ولكن أن تصوم عمَّا حرَّم الله؛ أن تصوم عن الظّلم، أن تصوم عن الباطل، أن تصوم عن الفتنة، وأن تصوم عن كلِّ ما لا يريده الله، ذلك هو الصَّوم الكبير، عندَ المسلمين وعند المسيحيِّين، في جميع الشّهور، وفي جميع أيّام السَّنة.
والحمد لله ربِّ العالمين.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 13/2/1998