يعتمد العلّامة المفسّر السيّد محمّد حسين فضل الله في منهجه التفسيريّ على مجموعة أصول وخلفيّات معرفيّة، أشرنا هنا إلى بعضٍ قليل من عيّناتها، وذلك على الشّكل الآتي:
1 ـ اعتبار اللّغة القرآنية لغةً عقلائيّة، فهي ليست متعاليةً عن البناء اللّغوي العقلائي في التفهيم والتفاهم، ومن ثمّ، فهو يرفض البعد الباطني المتخطّي لقواعد الفهم العقلائي للنّصّ، بل هذا الأمر قد يترك تأثيراً في طريقة تعامله مع بعض الرّوايات التفسيريّة أيضاً، كما يتّخذ على هذا الأساس موقفاً من الكثير من التفاسير الصوفيّة والعرفانيّة والفلسفيّة التي لا تستنطق النصّ في قواعد الدّلالة والتبيين العقلائيّة العامّة عنده؛ لتفهيم مقصودها من خلاله. وهو بهذا يرفض النزعات التأويليّة التي تطوّع النصوص وتلوي عنقها، كما يبدو قريباً نسبيّاً من التفكير التفكيكي.
2 ـ اعتبار وعي اللّغة العربيّة مختزناً لوعي الحياة العربيّة وطرائق التفكير والبيان العربي، وليست قواعد ذهنيّة حسابيّة يتمّ إسقاطها على النصّ، وهو بهذا يعتقد أنَّ الفهم اللّغويّ هو فهم ينطلق من ممارسة اللّغة بوصفها نمط تفكير وحياة، لا من التّعامل مع قواعدها بوصفها معادلات تطبّق هنا وهنا، لهذا يهاجم التفسير الحرفي الحسابي الهندسي الدقّي (نظريّة تجسّم الأعمال أنموذجاً)، ويربط هذا الموضوع بالفهم التاريخي لحياة العرب.
3 ـ اعتبار النصّ القرآني وحدةً تفهيمية مستقلّة، بمعنى أنَّ القرآن غير محتاج إلى وسيلة تفهيم أخرى من حيث المبدأ، ومن ثمَّ، فهو يفسّر نفسه ضمن قواعد التفسير العقلائي للنصوص، وهذا لا يمنع من قيام السنّة الشّريفة بالإضاءة على جوانب في النصّ لم تظهر لنا، دون أن يعني ذلك أنّ إضاءة السنّة تخطّت قواعد الدّلالة اللغويّة العقلائيّة، بل هي إنّما كشفت عن عناصر في النصّ لم نكن ملتفتين إليها.
4 ـ الفهم الحركيّ للنصّ (النزعة الاجتماعيّة في التفسير بوصفها منهجاً في فهم اللّغة)، بمعنى:
1 ـ أنّ المفسّر لا يمكنه أن يفهم نصّاً مثل القرآن الكريم إذا لم يعش الأبعاد الحياتيّة لهذا النصّ، فلا يمكنه أن يفهم بوضوح توجيهاته السياسيّة والجهاديّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة،إذا لم يكن يعيش في داخل هذا النّمط من الحياة ويعرف قضاياه، وإلّا فسوف يصبح تفسيره لغويّاً حرفيّاً محضاً (التفسير الهندسي للنصّ). فالنصّ القرآني لا يُفهم ضمن سياق تجريديّ انتزاعيّ، بل ضمن سياق حياتيّ نهضويّ تغييري.
2 ـ إنّ اللّغة لا تؤخذ من الكتب اللغويّة فحسب، بل المعاجم والقواعد اللغويّة هي أحد أضلاع عمليّة الفهم اللغوي، والضّلع الآخر هو الاندماج مع الفهم الاجتماعي للنصّ بوصفه مشكّلاً لسياقات متّصلة ارتكازيّة لا يمكن فهم اللّغة صحيحاً من دونها، وهو ما يفرض وعياً تاريخيّاً بزمن النزول (ثنائيّة: العلامة محمد جواد مغنيّة وتعليق السيّد محمد باقر الصّدر عليه).
ويتبع هذا الأمرَ التخلّي عن الأسئلة العبثيّة التي توجّه للنصّ القرآني، وهذا إفراز لنزعته العملانيّة، وكأنّه يرى خطأ توجيه أيّ سؤال للنصّ متوقّعين إجابته عنه، بل علينا توجيه الأسئلة المفيدة لنا للنصّ كي نستطيع حلّ مشكلةٍ اليوم. ولهذا، فهو يتجاهل المئات من التفاصيل التفسيرية العبثيّة بنظره؛ كونها تمثّل ترفاً فكريّاً (تفاصيل القصص القرآني أنموذجاً)، كما يتجاهل العشرات من النزاعات التفسيريّة القديمة واستقصاء الأقوال؛ كونها تمثّل،في نظره، ضرورات فكريّة لمرحلة زمنيّة ذهبت وانقضت، ولهذا لا يُشبه تفسيرُه نَمَطَ تفسير الإمامَين: الطبري والرّازي.
5 ـ الانفتاح على الاجتهاد في اللّغة العربيّة، فقواعد اللّغة لم تظهر لنا بطريقة حسيّة، بل ظهرت بطريقة اجتهاديّة، عبَّرت عنها جهود البلاغيّين واللّغويّين والمعجميّين (مشكلة لغة قريش ولغة البادية) خلال القرون الخمسة الهجريّة الأولى، خصوصاً ضمن سياق النّزاع الأشعري ـ المعتزلي الذي ساهم تدريجيّاً في بناء منظومة لغويّة بطريقة متراكمة، ومن ثم، فبإمكاننا إعادة الاجتهاد مجدّداً في اللّغة بهدف إنتاج فهوم قد تكون مختلفة عمّا ألفناه.
وبهذا، يدعو فضل الله ـ يعارضه في ذلك العلامة شمس الدّين ـ إلى الانفتاح على الدراسات اللّسانيّة واللغويّة الحديثة.
6 ـ هيمنة القرآن على نصّ السنّة الشّريفة، عبر مرجعيّة الكتاب واعتباره:
أ ـ حَكَماً في فهم نصوص السنّة (مصطلح الحكومة القرآنيّة عند فضل الله في مثال الشّطرنج والغناء).
ب ـ وحَكَماً في تصديقها، عبر عرض الحديث على الكتاب عرضاً روحيّاً، فالكتاب قاضٍ على السنّة، والسنّة ليست قاضيةً على الكتاب بالمعنى السّائد.
إلى غير ذلك من معالم تفسيريّة عنده ـ رحمه الله ـ.
اضغط هنا لتحميل الدراسة كاملة (لينك)
**ألقيت هذه المحاضرة في مؤسّسة الإمام الرّضا للمعارف الإسلاميّة في إيران، ضمن سلسلة محاضرات مجمع المباحثات القرآنيّة، وذلك بتاريخ21ربيع2 1441هـ/ 18 ـ 12 ـ 2019م.