السيّد فضل الله.. التّكوين والمشروع

السيّد فضل الله.. التّكوين والمشروع

بسم الله الرّحمن الرّحيم، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطّاهرين.

السّلام عليكم أيّها الأخوة والأخوات الأعزّاء، في أيّ موقع من مواقع الخدمة كنتم، ورحمة الله وبركاته.

إنّه يوم اللّقاء مع السيّد. إنّه اليوم الذي ينبغي أن نكون فيه مع السيّد. عفواً، وهل هناك يوم واحد نكون فيه مع السيّد، أم ينبغي أن تكون كلّ أيامنا معه؟!

الجواب واضح؛ أنّنا مع شخص مثل سماحة السيّد، لا يمكن أن نكون معه يوماً دون يوم، لأنَّ السيّد منهاجٌ نسير عليه في هذه الحياة، لنبني به العزّة والكرامة في الدنيا، ولنكتسب به الجنان والرّضوان في الآخرة. ولأنَّ المحضر محضر أهل علمٍ ومنهجيّةٍ وبحثٍ، أحببت أن تكون هذه الإطلالة في خدمتكم، مرتّبةً ضمن ثلاث نقاط، لكي نستفيد شيئاً ما من سماحة السيّد.

أوّلاً: كيف تكوَّنت شخصيّة السيّد؟ على أيّ أسس؟ ما الذي صنع السيّد محمد حسين فضل الله؟

ثانياً: ما هو مشروع السيّد؟

وثالثاً: كيف نكون مع السيّد؟

صنيعة القرآن

ما صنع شخصيّة السيّد (رضوان الله تعالى عليه)، ليس هو أبٌ ولا عمٌّ ولا صديقٌ... الّذي صنع شخصيّته أوّلاً هو القرآن الكريم.

وأنا عشت مع تفسير "من وحي القرآن" سنوات وسنوات، وقرأته مرّات ومرّات، وأستطيع أن أشهد، أني رغم معرفتي اللّصيقة بسماحة السيّد، حتى كنت لمدّة سبع سنوات تقريباً لا أفارقه، اكتشفت عندما تعمّقت في "تفسير من وحي القرآن"، كثيراً من خلفيات السيّد ومواقفه، اكتشفت أنّه عندما كان يصدع بالحقّ ليصدم الواقع، كان ينطلق من مفهوم قرآنيّ، كان يقول إنَّ الأنبياء وظيفتهم في هذه الحياة هي صدم الواقع لتغيير الواقع الفاسد، وأنا كداعية أتحمّل مسؤوليّة الرسالة في هذا المقطع من الزّمن، فالمسؤوليّة هي ذاتها.

فعندما كان السيّد يُلام على استخدامه أسلوب الصّدمة، فالحقيقة، أنّهم كانوا يوجّهون اللّوم إلى الأسلوب القرآني.. وهكذا، عندما كان يحاور، كان ينطلق مما نظَّر له في كتابه "الحوار في القرآن"، والّذي عمل عليه وكتبه في زمن كانت تنهال عليه القذائف في النبعة، ما بين العامين 75 و 76، حيث كتب هناك كتبه الثّلاثة: "الحوار في القرآن"، "خطوات على طريق الإسلام"، و"الإسلام ومنطق القوّة"، وكلّها كانت تحت وقع القذائف، ومع ذلك، كان ينظّر فيها للحوار. فأيّ فكر هو هذا الفكر؟!

فإذاً، الذي بنى سماحة السيّد أوّلاً هو القرآن الكريم. وراء كلّ آية هناك استيحاء، هناك درسٌ يأخذه ويستفيد منه؛ إن كان الدَّرس موجَّهاً للدّعاة، فيسجّل درساً للدّاعية، وإن كان الدّرس موجَّهاً للأب والأمّ، أو للمعلِّم، أو لأيّ إنسان في هذه الحياة، فيسجّل درساً لهم، لأنَّ القرآن كتاب الحياة، وليس كتاب بركة يُقرَأ في بداية المجالس أو على أرواح الأموات.

القرآن هو كتاب الحياة، وهكذا تعامل معه سماحة السيّد. ومن هنا، جاء اسم كتابه "من وحي القرآن". إننا نأخذ الدروس منه في كلّ زمن، على طريقة مقالة أمير المؤمنين عليّ (ع)، عندما خاطب أصحابه قائلاً: "ذلك القرآن فاستنطقوه"، أي: اعرضوا عليه مشاكلكم، وابحثوا فيه عن الحلول لكلّ كبيرة وصغيرة.

فإذاً، المكوِّن الأوَّل والأساس والنّاظم لكلّ فكر سماحة السيّد، هو القرآن الكريم.

شخصيّات أثّرت في السيّد

المكوِّن الثاني. يُسأَل (رض) ـ في ملخّص لقاء كان قد أعدّ معه، ونشر في كتيّبٍ بعد وفاته بعنوان "أيّها الأحبّة" ـ عن الشخصيّة الّتي أثّرت فيه على مستوى التحوّل. فيجيب: إنّني لا أتصوّر شخصاً ممن عايشته كان له هذا الأثر في التحوّل، ولكني أستطيع أن أؤكّد، أنّ رسول الله (ص)، كان له أبلغ الأثر في كثير من هذه الحياة التي عشتها. والشّخصيّة الثّانية هي الإمام عليّ (ع)، الذي أعيش التصوّف في الانفتاح عليه، بحيث إنّني لا أملك نفسي عندما أتحدّث عنه، وأشعر بأنّني أذوب حبّاً وإعجاباً وتعظيماً له، لأنّ عليّاً، وهو تلميذ رسول الله، وتلميذ القرآن، [فليس اتِّباع عليٍّ(ع) لعلاقةٍ شخصيَّة معه، بل لأنَّه تلميذ رسول الله، وتلميذ القرآن، وهو الإمام المفترض الطاعة]، عاش رحابة الحياة كلّها، ورحابة الحقيقة كلّها في كلّ مفرداتها. ومن الطبيعيّ أن يلتقي الإنسان بالحسين (ع)...

إذاً، ثلاث شخصيّات يذكر سماحتُه تأثُّرَ شخصيَّتِه بها: رسول الله، أمير المؤمنين، والإمام الحسين.

يقال له: والدكم المقدَّس السيد عبد الرؤوف، هل كان له دور؟

يقول: والدي هيَّأ لي الأرضيّة، أخرجني من الزنزانة البيئيّة التي كنت أعيش فيها. والسيّد كان يعيش في النجف، وهو يعبّر عنها بالزنزانة البيئيّة، باعتبار أنَّ عندها طقوسها وتقاليدها، ولم تكن لتسمح لكلّ هذا الانطلاق في الفكر. ولذلك، من عجائب الدَّهر، أنّ شخصاً مثل السيّد محمد حسين فضل الله، يكتب في العام 1960 في النجف الأشرف كتاب "قضايانا على ضوء الإسلام"، الّذي هو أوّل كتاب له، وهو عبارة عن مجموعة مقالات كانت تنشر في مجلة الأضواء، في فترة كانت الساحة هناك تعيش مشكلة الشيوعيّة، فقرّر هو والشهيد محمد باقر الصّدر، أنه ينبغي أن نصنع شيئاً للإسلام، فأسّسا هذه المجلة، وأسّس الشّهيد الصّدر ما يعرف بحزب الدّعوة.

فإذاً، هذه هي الأمور الّتي ساهمت في تكوين شخصيّة سماحة السيّد، إذا أردنا أن نطلّ على التكوين الذاتي لسماحته.

هذا التكوين ما الذي أعطانا؟

أوّلاً وثانياً: أعطانا أصالةً في الفكر والمواقف، لأنَّه فكرٌ مبنيٌّ على القرآن، فكان فكراً حيّاً حياة القرآن، وأصيلاً أصالته. وهذا له تجلّيات، ومن تجلّياته، أنَّ مواقفه كانت ثابتة، لأنّه كان ينطلق بها من القرآن، والقرآن ثابتٌ.

الرّؤية الواضحة

ثالثاً: أنّه كان عنده رؤية واضحة، فقد عرف في القرآن سنن الكون، لأنّ القرآن عندما يعرض قصص السابقين، ويعرض قصص الأنبياء وفلان وفلان، فلأجل أن نأحذ منها الدّرس والعبرة في كلّ مواقفنا في الحياة، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ}، لتقف مع من أطغاهم المال الموقفَ الذي تفيده قصَّة قارون، وتقف مع علماء السوء الموقف الذي تفيده قصَّة الذي انسلخ من آيات الله، وتقف موقف شعيب(ع) إذا كنت وسط مجتمعٍ يمارس التطفيف والغش، وهكذا. والقدوة الأولى لنا في كلِّ ذلك {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.

وأيضاً، هذه الأصالة في الفكر وبناء الشخصيّة، أوجدت لنا السيّد محمد حسين فضل الله المجاهد الحركيّ، الذي أفتى على نفسه من أوّل يوم بدأ فيه، أنّ الراحة حرام.

وكلّ اللّصيقين بالسيّد، والكثير من الإخوان ممن عايشوه أو اطّلعوا على تجربته، يعرفون كم كان يتعب، حتّى عندما يكون مريضاً جدّاً، وهو الّذي كان يعاني مشاكل صحيّة كثيرة، ومع ذلك، كان يتابع العديد من الملفّات؛ ملفّات الاستفتاء، ويقرأ كتاباً، ويُحدِّث هذا، ويقابل ذاك ... فتستصغر نفسك، وتستصغر تعبك أمام تعبه، وتعرف حينئذٍ معنى "الراحة عليّ حرام".

يُسأَل: لماذا الرّاحة عليكم حرام؟ يجيب: لأنَّ الدنيا هي عالم المسؤوليّة، وإذا كانت الدنيا عالم المسؤوليّة، فلا فرصة أخرى لكي أؤدّي فيها المسؤولية. إن أنا خسرت في هذه الدّنيا، فسوف أخسر إلى آخر الخطّ؛ لأنَّ ما بعد هذه الدنيا إمّا هي الجنَّة وإمَّا هي النَّار، لماذا أعيش الحسرة يوم القيامة، أني أخذت هذه الدّرجة من الجنَّة ولم آخذ الأعلى والأعلى. كيف أكتسب هذه الدّرجة؟ بالعمل {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.

الإنسان الدَّاعية

إذا أردنا أن نعطي سماحة السيّد عنواناً مختصراً لكلّ ما مرّ، فهو الإنسان الداعية الرساليّ، الّذي يحمل همّ الرسالة، ويعيش لأجل الرسالة. ولأنه يعيش لأجل الرّسالة، لم يكن لذات، واسم، وصحَّة محمد حسين فضل الله أيُّ حسابٍ في حساباته.

هذا تلمسه بشكل مباشر، وهو صرَّح به في كلماته. لم يكن يبالي هل أنَّ هذا الموقف يؤثّر في مرجعيّته أو في اسمه أو لا؟ المهمّ عنده هو الإسلام، وشعاره الدائم: إلهي، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، وكلمته في هذا المجال معروفة: أنا حساباتي مع الله، لا معكم، رضي من رضي، وسخط من سخط.

هذا ماذا أنتج؟ أنتج الشخص الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، الشخص الذي يصدح بالحقّ، الشخص الذي قال عنه القرآن الكريم: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللهَ}. لذلك وقف ضدّ الخرافة وضدّ الغلو وضدّ الاستكبار، حتى تعرّض للاغتيال أكثر من مرّة، ومجزرة بئر العبد شاهد على ذلك، وما زلنا نعيش ذكراها ومآسيها الأليمة. لماذا؟ لأنه أصبح مزعجاً للاستكبار؟

عندما يغضب عليك الاستكبار، اعرف أنّك مع الحقّ ومع الله عزّ وجلّ. أمير المؤمنين (ع) يقول في نهج البلاغة: "لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع، ولا يضارع، ولا يتّبع المطامع". كذلك كان السيد (رض).

من أتّبعُ من العلماء؟

وقبل أن أنتقل إلى المحور الثَّاني، هناك سؤالٌ كنت أبحث عنه أنا، ويبحث عنه الجميع: مع هذا الكمّ من العمامات الموجودة في الساحة، مع المراجع المتعدّدين تاريخيّاً، وهذا المرجع يأخذني يميناً وذاك يأخذني شمالاً، هذا يقول لي إنّ هذا زمن التقية وذاك يقول لي إنّ الزمن زمن الجهاد، هذا يقول لي أنت علاقتك مع الحسين أن تطعم وتلطم وتبكي وتمشي إلى كربلاء، والآخر يقول لي علاقتك مع الحسين أن تكون على جبهات الحقّ ضد الباطل... أنا من أختار؟

نفسي.. هواي.. سيأخذني باتِّجاه من يقول لي: اجلس في البيت، واحفظ رقبتك، لأنّك لن تستطيع أن تغيّر الواقع، حتَّى هناك أنبياء لم يستطيعوا ذلك.. وسيأتي في يومٍ من الأيَّام صاحب الزّمان(عج) ويتحمّل هو هذه المسؤوليّة.. فمن أتّبع من العلماء؟

وبحثت وبحثت، إلى أن وجدت كلمةً للإمام الكاظم(ع)، يقول فيها: "لا علم إلّا من عالم ربّانيّ ومعرفة العالم بالعقل".

فتّشت، ما معنى ربّاني؟ لأنَّها هي الصفة التي وضعها الإمام(ع) للعالم، فوجدت أنّ الله سبحانه في القرآن الكريم يتحدّث عن الربّانيين، ويتحدّث عن الرهبان، ويتحدّث عن الأحبار. ما الفرق بين هذه العناوين؟

الحبر هو الإنسان الذي يعمل في العلم فقط، وليست له صفة عمليّة، وهي صفة أطلقت في القرآن الكريم على علماء اليهود الذين يعرفون تفسير التوراة.

الرهبان ليست لهم جهة علمية، بل سلوكية، فهم يبتعدون عن الدنيا، ويجلسون في صومعة، ويقضون وقتهم بالصّلاة والصّيام.

أمّا الربّاني، فهو العالم الذي كمل علماً وعملاً، وانطلق إلى تربية الناس بما علم، فحاز على صفة العلم وصفة الأخلاق، وتحمّل مسؤولية التعليم. فهذا هو الربّاني.

ومع ذلك، لم أشف غليلي من الجواب بعد.

بحثت في القرآن أكثر، فرأيت أنّه كلّما ذكر الربّاني، لم يذكر إلا بمدح، بينما كان الأحبار والرهبان يذكرون أحياناً بمدح وأحياناً بذمّ، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً منَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ}.

إذاً، "لا علم إلّا من عالم ربّاني".

والسيد محمد حسين فضل الله في زماننا عشنا معه عالماً ربّانياً، ربّى الأجيال، وبنى لها الفكر الحرّ، وانطلق بها في ساحات الجهاد، ووضع لها الخطوط الحمر، فقال إنّ المقاومة خطّ أحمر، والوحدة الإسلامية خطّ أحمر، ومارس ذلك في كلّ المواقف، شاء من شاء وأبى من أبى، وكان ثابتاً في مقارعة إسرائيل والاستكبار. وحتى عندما كانت تصدر الأصوات من هنا وهناك بأنّ الجوّ ليس مناسباً للصِّدام، كان يدافع وينظّر، وكتابه (الحركة الإسلاميَّة) شاهدٌ على ذلك. أيُّ فكرٍ هو هذا الفكر الَّذي يُنظِّر للأجيال، وينظِّر للعمل ليُبنى على أساس ثابتٍ؟

مشروع السيّد

فإذا اتفقنا وإيّاكم أنّ السيد هو الإنسان الرساليّ، الداعية، العالم الربّاني، نأتي إلى السؤال التالي: ما هو مشروع السيّد؟

بشكل طبيعيّ يأتي الجواب، أنّ السيّد ليس له مشروع خاصّ، مشروعه هو الإسلام. أين يُصرف هذا الكلام؟

يُصرف بأنّه ليس له هناك جماعةٌ خاصّة بالسيّد، لا أحد يستطيع القول أنا من جماعة السيّد، وفلان ليس من جماعة السيد، إذا كنت مع الإسلام الأصيل، فأنت مع السيد، أخذت عنوان فضل الله أم لم تأخذ هذا العنوان. وإذا كنت مع السيّد في مؤسّساته ولم تكن على طريق الإسلام الأصيل، فأنت لست مع السيد.

هذه نقطة محسومة؛ لأنّنا كم نقترب من عناوين السيّد الواقعيّة كم نكون مع السيّد. كان سماحته دائماً يقول: أنا لا أريد عندي موظّفين، أريد معي رساليّين يحملون همَّ الرسالة.

ولأنّه ليست للسيّد جماعة، فلا معنى لأن نتعصّب للسيّد، فلطالما كان السيّد يخطب ضدّ التعصب ويدعو للانفتاح... فهل من المعقول أنّ من يدعو إلى عدم التعصّب وإلى الانفتاح، يرضى بأن يكون من معه متعصّباً؟ إذا تعصَّبنا للسيد فإنَّنا نؤطِّره، بينما هو على مستوى الإسلام، وعلى مستوى العالم.

ولأنَّ مشروع السيّد هو الإسلام، لم يكن يوماً محايداً بين الحق والباطل.

ولأن مشروع السيّد هو الإسلام، لم يكن يعترف من الناحية العملية بأنّ هناك شيئاً مستحيلاً.. قبل أن ينطلق السيّد إلى المجتمع لبناء ما بنى، ومن ضمنها هذا الصرح العظيم الذي يضمّنا الآن، وغيره الكثير، وفي ظلّ الواقع الشّيعيّ المتديّن الّذي كان موجوداً؛ هل كان أحد يتصوّر أن يبني هكذا إنسان، في هكذا ظروف، في هكذا بيئة، ما بنى؟

لم يكن سماحته يعرف معنًى للمستحيل، وكان الصعب على يديه يتحوّل إلى سهل يسير. يقول الفلاسفة: خير دليل على الإمكان هو الوقوع. فبالمثابرة وبالتّخطيط وبالارادة، وقبل كلّ ذلك، بالتوكل على الله وبالإخلاص وبالعمل، أنتج أموراً مادية، منها المبرات العظيمة والكثير من المؤسّسات، وأنتج أموراً معنويّة ستبقى تأكل على مائدتها الأجيال إلى ما شاء الله، لأن الفكر عندما ينطلق، لا يرتبط بساعة وساعتين ويوم ويومين، نحن لا زلنا إلى الآن نقرأ كتباً لعلماء من ألف سنة وألفي سنة، لأنهم قدّموا خدمة للإنسانيّة.

كيف نكون مع السيّد؟!

السؤال الأخير: كيف نكون مع سماحة السيّد؟

الجواب أصبح واضحاً: نكون معه عندما نقترب من الرساليّة في خطِّ سماحته، بأن نكون مخلصين، وأن تكون الراحة علينا حراماً.

مثال: ما الفرق بين الموظّف والرساليّ؟

طبعاً نحن لسنا ضدّ أن يعمل الإنسان لكي يسترزق، بالعكس، العمل لتحصيل الرزق أمرٌ مطلوب جدًا.. لكن وأنا أكتسب لأعيش، يمكنني أن أكتسب القرب من الله، وأن أكتسب الجنان، وأكتسب تقديم شيء لهذا المجتمع.

نحن نتحمَّل مسؤوليّة تربية أطفال، أيتام أو غير أيتام، في هذه المدرسة وفي غيرها؛ هل تعرفون لماذا كان عند سماحته إصرار على بناء المدارس؟

لم تكن المدارس للحظة في فكر السيّد شيئاً إنتاجيّاً، أي أن يكون هدفها الرّبح، فسماحته أصلاً لم يكن فكره في الإنتاج المادّيّ، بل كان فكره الإنتاج البشريّ، كان يريد صنع الإنسان، أن يلتقط الولد في الشّارع، والذي يمكن أن يتحوَّل إلى مشروع لصّ أو مجرم، ويحوّله إلى إنسان صالح في المجتمع.

الطَّالب حتَّى لو كان شقيّاً هو فرصتي للإصلاح. إذا كنت أتعاطى بمفهوم الوظيفة، فسيكون همّي أن أقبض الرّاتب، ولن أهتمّ إذا فهم الطّالب أو لم يفهم، تحسّنت أخلاقه أو لم تتحسّن. أمّا إذا كنت أتعاطى بمفهوم الرّسالة، فسأكون مهتمّاً. يا عليّ "لأن يهدي الله على يديك رجلاً، خير لك مما طلعت عليه الشمس".

مشروع سماحة السيّد هو الرّسالة، ونحن نكون مع سماحته عندما نكون مع الرّسالة.

نفتقد السيّد السّند

سيّدنا، اشتقت إليك، اشتقت لنعومة يديك...

اشتقت إلى صوتك الحنون يبلسم جراحي..

اشتقت إلى روحك الطيّبة تحيي فيَّ الروح..

اشتقت إليك.. اشتقت لضياء عينيك..

اشتقت إلى حزمك ووعيك وجرأتك

اشتقت إليك.. افتقدت برحيلك الأب والمرشد والسند

من أين لي بمثلك؟

وهل بقي في العمر بقيّة؟!

اشتقت إليك..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كلمة ألقاها سماحة الشّيخ جهاد فرحات في مبرّة السيّد الخوئي، في 4 تموز 2018، بمناسبة الذّكرى الثّامنة لرحيل المرجع فضل الله (رض).

بسم الله الرّحمن الرّحيم، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله الطيّبين الطّاهرين.

السّلام عليكم أيّها الأخوة والأخوات الأعزّاء، في أيّ موقع من مواقع الخدمة كنتم، ورحمة الله وبركاته.

إنّه يوم اللّقاء مع السيّد. إنّه اليوم الذي ينبغي أن نكون فيه مع السيّد. عفواً، وهل هناك يوم واحد نكون فيه مع السيّد، أم ينبغي أن تكون كلّ أيامنا معه؟!

الجواب واضح؛ أنّنا مع شخص مثل سماحة السيّد، لا يمكن أن نكون معه يوماً دون يوم، لأنَّ السيّد منهاجٌ نسير عليه في هذه الحياة، لنبني به العزّة والكرامة في الدنيا، ولنكتسب به الجنان والرّضوان في الآخرة. ولأنَّ المحضر محضر أهل علمٍ ومنهجيّةٍ وبحثٍ، أحببت أن تكون هذه الإطلالة في خدمتكم، مرتّبةً ضمن ثلاث نقاط، لكي نستفيد شيئاً ما من سماحة السيّد.

أوّلاً: كيف تكوَّنت شخصيّة السيّد؟ على أيّ أسس؟ ما الذي صنع السيّد محمد حسين فضل الله؟

ثانياً: ما هو مشروع السيّد؟

وثالثاً: كيف نكون مع السيّد؟

صنيعة القرآن

ما صنع شخصيّة السيّد (رضوان الله تعالى عليه)، ليس هو أبٌ ولا عمٌّ ولا صديقٌ... الّذي صنع شخصيّته أوّلاً هو القرآن الكريم.

وأنا عشت مع تفسير "من وحي القرآن" سنوات وسنوات، وقرأته مرّات ومرّات، وأستطيع أن أشهد، أني رغم معرفتي اللّصيقة بسماحة السيّد، حتى كنت لمدّة سبع سنوات تقريباً لا أفارقه، اكتشفت عندما تعمّقت في "تفسير من وحي القرآن"، كثيراً من خلفيات السيّد ومواقفه، اكتشفت أنّه عندما كان يصدع بالحقّ ليصدم الواقع، كان ينطلق من مفهوم قرآنيّ، كان يقول إنَّ الأنبياء وظيفتهم في هذه الحياة هي صدم الواقع لتغيير الواقع الفاسد، وأنا كداعية أتحمّل مسؤوليّة الرسالة في هذا المقطع من الزّمن، فالمسؤوليّة هي ذاتها.

فعندما كان السيّد يُلام على استخدامه أسلوب الصّدمة، فالحقيقة، أنّهم كانوا يوجّهون اللّوم إلى الأسلوب القرآني.. وهكذا، عندما كان يحاور، كان ينطلق مما نظَّر له في كتابه "الحوار في القرآن"، والّذي عمل عليه وكتبه في زمن كانت تنهال عليه القذائف في النبعة، ما بين العامين 75 و 76، حيث كتب هناك كتبه الثّلاثة: "الحوار في القرآن"، "خطوات على طريق الإسلام"، و"الإسلام ومنطق القوّة"، وكلّها كانت تحت وقع القذائف، ومع ذلك، كان ينظّر فيها للحوار. فأيّ فكر هو هذا الفكر؟!

فإذاً، الذي بنى سماحة السيّد أوّلاً هو القرآن الكريم. وراء كلّ آية هناك استيحاء، هناك درسٌ يأخذه ويستفيد منه؛ إن كان الدَّرس موجَّهاً للدّعاة، فيسجّل درساً للدّاعية، وإن كان الدّرس موجَّهاً للأب والأمّ، أو للمعلِّم، أو لأيّ إنسان في هذه الحياة، فيسجّل درساً لهم، لأنَّ القرآن كتاب الحياة، وليس كتاب بركة يُقرَأ في بداية المجالس أو على أرواح الأموات.

القرآن هو كتاب الحياة، وهكذا تعامل معه سماحة السيّد. ومن هنا، جاء اسم كتابه "من وحي القرآن". إننا نأخذ الدروس منه في كلّ زمن، على طريقة مقالة أمير المؤمنين عليّ (ع)، عندما خاطب أصحابه قائلاً: "ذلك القرآن فاستنطقوه"، أي: اعرضوا عليه مشاكلكم، وابحثوا فيه عن الحلول لكلّ كبيرة وصغيرة.

فإذاً، المكوِّن الأوَّل والأساس والنّاظم لكلّ فكر سماحة السيّد، هو القرآن الكريم.

شخصيّات أثّرت في السيّد

المكوِّن الثاني. يُسأَل (رض) ـ في ملخّص لقاء كان قد أعدّ معه، ونشر في كتيّبٍ بعد وفاته بعنوان "أيّها الأحبّة" ـ عن الشخصيّة الّتي أثّرت فيه على مستوى التحوّل. فيجيب: إنّني لا أتصوّر شخصاً ممن عايشته كان له هذا الأثر في التحوّل، ولكني أستطيع أن أؤكّد، أنّ رسول الله (ص)، كان له أبلغ الأثر في كثير من هذه الحياة التي عشتها. والشّخصيّة الثّانية هي الإمام عليّ (ع)، الذي أعيش التصوّف في الانفتاح عليه، بحيث إنّني لا أملك نفسي عندما أتحدّث عنه، وأشعر بأنّني أذوب حبّاً وإعجاباً وتعظيماً له، لأنّ عليّاً، وهو تلميذ رسول الله، وتلميذ القرآن، [فليس اتِّباع عليٍّ(ع) لعلاقةٍ شخصيَّة معه، بل لأنَّه تلميذ رسول الله، وتلميذ القرآن، وهو الإمام المفترض الطاعة]، عاش رحابة الحياة كلّها، ورحابة الحقيقة كلّها في كلّ مفرداتها. ومن الطبيعيّ أن يلتقي الإنسان بالحسين (ع)...

إذاً، ثلاث شخصيّات يذكر سماحتُه تأثُّرَ شخصيَّتِه بها: رسول الله، أمير المؤمنين، والإمام الحسين.

يقال له: والدكم المقدَّس السيد عبد الرؤوف، هل كان له دور؟

يقول: والدي هيَّأ لي الأرضيّة، أخرجني من الزنزانة البيئيّة التي كنت أعيش فيها. والسيّد كان يعيش في النجف، وهو يعبّر عنها بالزنزانة البيئيّة، باعتبار أنَّ عندها طقوسها وتقاليدها، ولم تكن لتسمح لكلّ هذا الانطلاق في الفكر. ولذلك، من عجائب الدَّهر، أنّ شخصاً مثل السيّد محمد حسين فضل الله، يكتب في العام 1960 في النجف الأشرف كتاب "قضايانا على ضوء الإسلام"، الّذي هو أوّل كتاب له، وهو عبارة عن مجموعة مقالات كانت تنشر في مجلة الأضواء، في فترة كانت الساحة هناك تعيش مشكلة الشيوعيّة، فقرّر هو والشهيد محمد باقر الصّدر، أنه ينبغي أن نصنع شيئاً للإسلام، فأسّسا هذه المجلة، وأسّس الشّهيد الصّدر ما يعرف بحزب الدّعوة.

فإذاً، هذه هي الأمور الّتي ساهمت في تكوين شخصيّة سماحة السيّد، إذا أردنا أن نطلّ على التكوين الذاتي لسماحته.

هذا التكوين ما الذي أعطانا؟

أوّلاً وثانياً: أعطانا أصالةً في الفكر والمواقف، لأنَّه فكرٌ مبنيٌّ على القرآن، فكان فكراً حيّاً حياة القرآن، وأصيلاً أصالته. وهذا له تجلّيات، ومن تجلّياته، أنَّ مواقفه كانت ثابتة، لأنّه كان ينطلق بها من القرآن، والقرآن ثابتٌ.

الرّؤية الواضحة

ثالثاً: أنّه كان عنده رؤية واضحة، فقد عرف في القرآن سنن الكون، لأنّ القرآن عندما يعرض قصص السابقين، ويعرض قصص الأنبياء وفلان وفلان، فلأجل أن نأحذ منها الدّرس والعبرة في كلّ مواقفنا في الحياة، {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ}، لتقف مع من أطغاهم المال الموقفَ الذي تفيده قصَّة قارون، وتقف مع علماء السوء الموقف الذي تفيده قصَّة الذي انسلخ من آيات الله، وتقف موقف شعيب(ع) إذا كنت وسط مجتمعٍ يمارس التطفيف والغش، وهكذا. والقدوة الأولى لنا في كلِّ ذلك {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}.

وأيضاً، هذه الأصالة في الفكر وبناء الشخصيّة، أوجدت لنا السيّد محمد حسين فضل الله المجاهد الحركيّ، الذي أفتى على نفسه من أوّل يوم بدأ فيه، أنّ الراحة حرام.

وكلّ اللّصيقين بالسيّد، والكثير من الإخوان ممن عايشوه أو اطّلعوا على تجربته، يعرفون كم كان يتعب، حتّى عندما يكون مريضاً جدّاً، وهو الّذي كان يعاني مشاكل صحيّة كثيرة، ومع ذلك، كان يتابع العديد من الملفّات؛ ملفّات الاستفتاء، ويقرأ كتاباً، ويُحدِّث هذا، ويقابل ذاك ... فتستصغر نفسك، وتستصغر تعبك أمام تعبه، وتعرف حينئذٍ معنى "الراحة عليّ حرام".

يُسأَل: لماذا الرّاحة عليكم حرام؟ يجيب: لأنَّ الدنيا هي عالم المسؤوليّة، وإذا كانت الدنيا عالم المسؤوليّة، فلا فرصة أخرى لكي أؤدّي فيها المسؤولية. إن أنا خسرت في هذه الدّنيا، فسوف أخسر إلى آخر الخطّ؛ لأنَّ ما بعد هذه الدنيا إمّا هي الجنَّة وإمَّا هي النَّار، لماذا أعيش الحسرة يوم القيامة، أني أخذت هذه الدّرجة من الجنَّة ولم آخذ الأعلى والأعلى. كيف أكتسب هذه الدّرجة؟ بالعمل {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.

الإنسان الدَّاعية

إذا أردنا أن نعطي سماحة السيّد عنواناً مختصراً لكلّ ما مرّ، فهو الإنسان الداعية الرساليّ، الّذي يحمل همّ الرسالة، ويعيش لأجل الرسالة. ولأنه يعيش لأجل الرّسالة، لم يكن لذات، واسم، وصحَّة محمد حسين فضل الله أيُّ حسابٍ في حساباته.

هذا تلمسه بشكل مباشر، وهو صرَّح به في كلماته. لم يكن يبالي هل أنَّ هذا الموقف يؤثّر في مرجعيّته أو في اسمه أو لا؟ المهمّ عنده هو الإسلام، وشعاره الدائم: إلهي، إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، وكلمته في هذا المجال معروفة: أنا حساباتي مع الله، لا معكم، رضي من رضي، وسخط من سخط.

هذا ماذا أنتج؟ أنتج الشخص الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، الشخص الذي يصدح بالحقّ، الشخص الذي قال عنه القرآن الكريم: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلا اللهَ}. لذلك وقف ضدّ الخرافة وضدّ الغلو وضدّ الاستكبار، حتى تعرّض للاغتيال أكثر من مرّة، ومجزرة بئر العبد شاهد على ذلك، وما زلنا نعيش ذكراها ومآسيها الأليمة. لماذا؟ لأنه أصبح مزعجاً للاستكبار؟

عندما يغضب عليك الاستكبار، اعرف أنّك مع الحقّ ومع الله عزّ وجلّ. أمير المؤمنين (ع) يقول في نهج البلاغة: "لا يقيم أمر الله سبحانه إلا من لا يصانع، ولا يضارع، ولا يتّبع المطامع". كذلك كان السيد (رض).

من أتّبعُ من العلماء؟

وقبل أن أنتقل إلى المحور الثَّاني، هناك سؤالٌ كنت أبحث عنه أنا، ويبحث عنه الجميع: مع هذا الكمّ من العمامات الموجودة في الساحة، مع المراجع المتعدّدين تاريخيّاً، وهذا المرجع يأخذني يميناً وذاك يأخذني شمالاً، هذا يقول لي إنّ هذا زمن التقية وذاك يقول لي إنّ الزمن زمن الجهاد، هذا يقول لي أنت علاقتك مع الحسين أن تطعم وتلطم وتبكي وتمشي إلى كربلاء، والآخر يقول لي علاقتك مع الحسين أن تكون على جبهات الحقّ ضد الباطل... أنا من أختار؟

نفسي.. هواي.. سيأخذني باتِّجاه من يقول لي: اجلس في البيت، واحفظ رقبتك، لأنّك لن تستطيع أن تغيّر الواقع، حتَّى هناك أنبياء لم يستطيعوا ذلك.. وسيأتي في يومٍ من الأيَّام صاحب الزّمان(عج) ويتحمّل هو هذه المسؤوليّة.. فمن أتّبع من العلماء؟

وبحثت وبحثت، إلى أن وجدت كلمةً للإمام الكاظم(ع)، يقول فيها: "لا علم إلّا من عالم ربّانيّ ومعرفة العالم بالعقل".

فتّشت، ما معنى ربّاني؟ لأنَّها هي الصفة التي وضعها الإمام(ع) للعالم، فوجدت أنّ الله سبحانه في القرآن الكريم يتحدّث عن الربّانيين، ويتحدّث عن الرهبان، ويتحدّث عن الأحبار. ما الفرق بين هذه العناوين؟

الحبر هو الإنسان الذي يعمل في العلم فقط، وليست له صفة عمليّة، وهي صفة أطلقت في القرآن الكريم على علماء اليهود الذين يعرفون تفسير التوراة.

الرهبان ليست لهم جهة علمية، بل سلوكية، فهم يبتعدون عن الدنيا، ويجلسون في صومعة، ويقضون وقتهم بالصّلاة والصّيام.

أمّا الربّاني، فهو العالم الذي كمل علماً وعملاً، وانطلق إلى تربية الناس بما علم، فحاز على صفة العلم وصفة الأخلاق، وتحمّل مسؤولية التعليم. فهذا هو الربّاني.

ومع ذلك، لم أشف غليلي من الجواب بعد.

بحثت في القرآن أكثر، فرأيت أنّه كلّما ذكر الربّاني، لم يذكر إلا بمدح، بينما كان الأحبار والرهبان يذكرون أحياناً بمدح وأحياناً بذمّ، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً منَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ}.

إذاً، "لا علم إلّا من عالم ربّاني".

والسيد محمد حسين فضل الله في زماننا عشنا معه عالماً ربّانياً، ربّى الأجيال، وبنى لها الفكر الحرّ، وانطلق بها في ساحات الجهاد، ووضع لها الخطوط الحمر، فقال إنّ المقاومة خطّ أحمر، والوحدة الإسلامية خطّ أحمر، ومارس ذلك في كلّ المواقف، شاء من شاء وأبى من أبى، وكان ثابتاً في مقارعة إسرائيل والاستكبار. وحتى عندما كانت تصدر الأصوات من هنا وهناك بأنّ الجوّ ليس مناسباً للصِّدام، كان يدافع وينظّر، وكتابه (الحركة الإسلاميَّة) شاهدٌ على ذلك. أيُّ فكرٍ هو هذا الفكر الَّذي يُنظِّر للأجيال، وينظِّر للعمل ليُبنى على أساس ثابتٍ؟

مشروع السيّد

فإذا اتفقنا وإيّاكم أنّ السيد هو الإنسان الرساليّ، الداعية، العالم الربّاني، نأتي إلى السؤال التالي: ما هو مشروع السيّد؟

بشكل طبيعيّ يأتي الجواب، أنّ السيّد ليس له مشروع خاصّ، مشروعه هو الإسلام. أين يُصرف هذا الكلام؟

يُصرف بأنّه ليس له هناك جماعةٌ خاصّة بالسيّد، لا أحد يستطيع القول أنا من جماعة السيّد، وفلان ليس من جماعة السيد، إذا كنت مع الإسلام الأصيل، فأنت مع السيد، أخذت عنوان فضل الله أم لم تأخذ هذا العنوان. وإذا كنت مع السيّد في مؤسّساته ولم تكن على طريق الإسلام الأصيل، فأنت لست مع السيد.

هذه نقطة محسومة؛ لأنّنا كم نقترب من عناوين السيّد الواقعيّة كم نكون مع السيّد. كان سماحته دائماً يقول: أنا لا أريد عندي موظّفين، أريد معي رساليّين يحملون همَّ الرسالة.

ولأنّه ليست للسيّد جماعة، فلا معنى لأن نتعصّب للسيّد، فلطالما كان السيّد يخطب ضدّ التعصب ويدعو للانفتاح... فهل من المعقول أنّ من يدعو إلى عدم التعصّب وإلى الانفتاح، يرضى بأن يكون من معه متعصّباً؟ إذا تعصَّبنا للسيد فإنَّنا نؤطِّره، بينما هو على مستوى الإسلام، وعلى مستوى العالم.

ولأنَّ مشروع السيّد هو الإسلام، لم يكن يوماً محايداً بين الحق والباطل.

ولأن مشروع السيّد هو الإسلام، لم يكن يعترف من الناحية العملية بأنّ هناك شيئاً مستحيلاً.. قبل أن ينطلق السيّد إلى المجتمع لبناء ما بنى، ومن ضمنها هذا الصرح العظيم الذي يضمّنا الآن، وغيره الكثير، وفي ظلّ الواقع الشّيعيّ المتديّن الّذي كان موجوداً؛ هل كان أحد يتصوّر أن يبني هكذا إنسان، في هكذا ظروف، في هكذا بيئة، ما بنى؟

لم يكن سماحته يعرف معنًى للمستحيل، وكان الصعب على يديه يتحوّل إلى سهل يسير. يقول الفلاسفة: خير دليل على الإمكان هو الوقوع. فبالمثابرة وبالتّخطيط وبالارادة، وقبل كلّ ذلك، بالتوكل على الله وبالإخلاص وبالعمل، أنتج أموراً مادية، منها المبرات العظيمة والكثير من المؤسّسات، وأنتج أموراً معنويّة ستبقى تأكل على مائدتها الأجيال إلى ما شاء الله، لأن الفكر عندما ينطلق، لا يرتبط بساعة وساعتين ويوم ويومين، نحن لا زلنا إلى الآن نقرأ كتباً لعلماء من ألف سنة وألفي سنة، لأنهم قدّموا خدمة للإنسانيّة.

كيف نكون مع السيّد؟!

السؤال الأخير: كيف نكون مع سماحة السيّد؟

الجواب أصبح واضحاً: نكون معه عندما نقترب من الرساليّة في خطِّ سماحته، بأن نكون مخلصين، وأن تكون الراحة علينا حراماً.

مثال: ما الفرق بين الموظّف والرساليّ؟

طبعاً نحن لسنا ضدّ أن يعمل الإنسان لكي يسترزق، بالعكس، العمل لتحصيل الرزق أمرٌ مطلوب جدًا.. لكن وأنا أكتسب لأعيش، يمكنني أن أكتسب القرب من الله، وأن أكتسب الجنان، وأكتسب تقديم شيء لهذا المجتمع.

نحن نتحمَّل مسؤوليّة تربية أطفال، أيتام أو غير أيتام، في هذه المدرسة وفي غيرها؛ هل تعرفون لماذا كان عند سماحته إصرار على بناء المدارس؟

لم تكن المدارس للحظة في فكر السيّد شيئاً إنتاجيّاً، أي أن يكون هدفها الرّبح، فسماحته أصلاً لم يكن فكره في الإنتاج المادّيّ، بل كان فكره الإنتاج البشريّ، كان يريد صنع الإنسان، أن يلتقط الولد في الشّارع، والذي يمكن أن يتحوَّل إلى مشروع لصّ أو مجرم، ويحوّله إلى إنسان صالح في المجتمع.

الطَّالب حتَّى لو كان شقيّاً هو فرصتي للإصلاح. إذا كنت أتعاطى بمفهوم الوظيفة، فسيكون همّي أن أقبض الرّاتب، ولن أهتمّ إذا فهم الطّالب أو لم يفهم، تحسّنت أخلاقه أو لم تتحسّن. أمّا إذا كنت أتعاطى بمفهوم الرّسالة، فسأكون مهتمّاً. يا عليّ "لأن يهدي الله على يديك رجلاً، خير لك مما طلعت عليه الشمس".

مشروع سماحة السيّد هو الرّسالة، ونحن نكون مع سماحته عندما نكون مع الرّسالة.

نفتقد السيّد السّند

سيّدنا، اشتقت إليك، اشتقت لنعومة يديك...

اشتقت إلى صوتك الحنون يبلسم جراحي..

اشتقت إلى روحك الطيّبة تحيي فيَّ الروح..

اشتقت إليك.. اشتقت لضياء عينيك..

اشتقت إلى حزمك ووعيك وجرأتك

اشتقت إليك.. افتقدت برحيلك الأب والمرشد والسند

من أين لي بمثلك؟

وهل بقي في العمر بقيّة؟!

اشتقت إليك..

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

كلمة ألقاها سماحة الشّيخ جهاد فرحات في مبرّة السيّد الخوئي، في 4 تموز 2018، بمناسبة الذّكرى الثّامنة لرحيل المرجع فضل الله (رض).

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية