في الذكرى الثامنة لرحيل سماحة المرجع المجدّد العلامة السيد محمد حسين فضل الله،
هبّت لواعج النفس، وهاج الفؤاد بالحنين إليك، فكانت هذه الكلمات من القلب والعقل،
اعترافاً بالجميل، وشوقاً بالحنين إلى كلماتك الرسالية، ومواعظك الإيمانية، وأسلوبك
الممتلئ حباً وحناناً وعطفاً وصدقاً، وحرصاً على نجاة محبيك وفوزهم في الدنيا
والآخرة.
"كنت بنا رحيماً رؤوفاً" و"أباً روحياً ومرشداً عطوفاً" من خلال مناداتنا:
"أيها الأحبة، كلمة لا تنسى، حفرت في قلوبنا واجتاحت عقولنا.
دخلت قلوبنا من خلالها وتربّعت على عروشها...
سكنت في القلب والعقل والوجدان...
لقد زرعت في أعماقنا كل الحب، وكل الخير، وكل الطهر...
عرفتنا على الله الرحمن الرحيم التواب الغفور الرزاق الودود، فأحببنا ربنا الذي
ربانا بعدما خلقنا وأسبغ نعمه علينا ظاهرة وباطنة، والتي لا تعد ولا تحصى.
كما عرفتنا على رسولنا الحبيب محمد(ص)، وأهل بيته الطيبين الطاهرين.
{عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ
رَّحِيمٌ}.
فعشقنا المسجد معك، وكلماتك العذبة:
ـ اطردوا الحقد من قلوبكم. "احصد الشرّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك".
ـ أحبّوا بعضكم بعضاً.
علّمتنا أن الآخر إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الإنسانية.
ـ لا تتعصّبوا لأنانيتكم وذاتياتكم، لحزبكم وطائفتكم، وعشيرتكم...
كنت تردّد كلام رسول الله(ص): المسلم أخ المسلم؛ حرام دمه وعرضه وماله.
رسّخت فينا قيم التسامح والانفتاح وتقبل الآخر واحترام الأديان.
دعوتنا إلى الوعي وحذّرتنا من التخلف، والجهل، والضعف، والخرافة والغلو، والتعصب.
علّمتنا أن لا مقدّسات في الحوار.
علمتنا كيف نكون ربانيين حقاً، وأقوياء حقاً بتكامل الطاقات.
تدرّبوا على العيش في الأرض بأخلاق أهل الجنة، فعيشوا السلام بداخلكم.
أبرزت أهمية إنسانية الإنسان وأنسنة الرسالة.
لا تدعوا الآخرين يفكّرون عنكم، ولا تعيروا عقولكم للآخرين.
فكروا جيداً بما ينقل إليكم، كونوا واعين.
كنت حصناً حصيناً للمرأة بشكل عام، وللمسلمة بشكل خاصّ، فأذنت لها بالدفاع عن نفسها
في حال تعرّضت للظلم والعنف والضرب.
كونوا ذوي روح سامية لا تعيش العقد النفسية.
كونوا رساليين، كونوا حركيين، كونوا دعاة.
حوّلوا ميادين حياتكم إلى ميادين عبادة؛ المعلم في صفه، والعامل في عمله، والأمّ
والأب في أسرهم...
كنت تردّد دائماً: "الراحة عليّ حرام"، لأنك استشرفت عصرك، وأدركت أن الإسلام يمكن
أن يحلّ المشكلات ويصنع لنا المستقبل المطلوب.
حذّرتنا من الوجوه المزيَّفة التي تحمل قداسة الدين في المجتمع.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ
مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}.
علمتنا أن الإسلام عقيدة وعمل، فلا قيمة للإيمان بلا عمل، ولا قيمة للعمل بلا إيمان:
"المحارب الذي يقاتل بلا عقيدة، يصبح مجاهداً حين يحمل الإيمان والعقيدة".
{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}.
{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللهَ رَمَى}.
قلت لنا: تزوّدوا بالعبادة والدعاء لتنطلقواً في حياتكم.
لقد تعلّمنا منك أن نكون أحراراً أعزاء ولا نسجد لغير الله.
وقد قلت في رباعيات "يا ظلال الإسلام":
أيّ معنى أني أعيش لأحني هامتي للعبيد والأصنام
أيّ معنى أني أسخّر طاقاتي، لفرد يعيش في آلامي
كيف أحيا، أين الحياة، التي أحلم إن عشت في الدّجى أحلامي
أنا حرّ، حريتي هبة الله، وعزّ الإيمان في إسلامي.
سيدي، كنت عملاقاً من عمالقة الفكر في زمن تتخبّط الأمة بين الحقيقة والضياع، فأخذت
بيدها إلى حيث يجب أن تكون في زمن التعقيدات، فكنت صمام الأمان لها.
كنت رجل القرآن أولاً وأخيراً، رجل الوحدة والانفتاح، رجل التحديات، رجل الساحة
الإسلامية، ورجل الجرأة والشجاعة، ورجل السياسة.
كنت رجل الأسلوب في الدعوة إلى الله، بل كنت بوصلة الأمّة التي توجِّه مسارها ورجل
الأدب والشعر.
بل كنت أمّة في رجل.
كنت رمزاً لصياغة الإسلام المحمدي الأصيل، رمزاً للوحدة، ورمزاً للحوار.
كنت المرشد الرّوحي للمقاومين الذين تربّوا على يديك، ونهلوا من فكرك، حيث قال
سماحة السيد نصر الله، ربيبك ومفخرة الأمّة (حفظه الله) عنك: "إنه كان أباً كبيراً،
وحصناً منيعاً للمجاهدين". في حرب تموز خاطبتهم "أيّها البدريون".
لقد حملت خشبة المسيح الّتي صلب عليها، لأنّك لم تعر جمجمتك لأحد.
بل حملت خشبة جدّك رسول الله(ص)، الذي حورب ونُعِت بالجنون، وهو رسول السماء.
وما قتلوك وما صلبوك سيدي، لكن شبِّه لهم ذلك.
سبقت زمانك ومكانك، حيث دعوت إلى حوار إسلامي مسيحي لتوضيح الصورة الحقيقية للإسلام
في نظرته إلى الغرب.
كما دعوت الأنظمة العربية لتحسين سجلّها في مجال حقوق الإنسان، انطلاقاً من القيم
الإنسانية.
والبارز فيك وفي عصرك، أنك أخرجت المرجعية من حقبة الجمود إلى حقبة الانفتاح
والتحليق في العالم الواسع.
فكنت حجة دينية ومرجعية علمية وفقهية متجدّدة، مواكبا ًعصرك، بل كنت مرجعاً متحركاً
مستشرفاً الواقع العربي والإسلامي والعالمي.
تميّزت بأخلاقيّة قرآنيّة قلّ نظيرها، حيث بدأت فيها الحرب من بعض المعمّمين
والعلماء وقرّاء العزاء والعوام التّابعين لهم، فكظمت الغيظ، فكان ردّك لهم: "لي
وقفة معهم عند الله".
حاربوك لأنهم لم يفهموك جيّداً ولم يحاجوك.
وبرأيي، كيف لمن عاش في البادية أن يحاجج من عاش في الفضاء؟
سيدي، اطمئن وأنت في عليائك، فقد أصبح كلّ منا بفكرك ونهجك.
سنظلّ نردّد إلى نهاية العمر، أننا عاصرناك وعرفناك وسرنا على نهجك.
كنت فينا كأحدنا، كنت مع الناس ومن الناس، في آلامهم وأحزانهم وأوجاعهم، ولم تتركهم
حتى في الحرب.
فأنشأت لهم المساجد، وبنيت لهم المؤسّسات التي تحتضن فيها أيتامهم، وترعى مسنّيهم
وأسرهم، وتضمِّد جراحاتهم وتخفّف من معاناتهم.
كما أنشأت مكتباً شرعياً تقضي بينهم بالحقّ.
رحلت في الزمن الصّعب الأكثر تعقيداً، رحلت وعينك على القضيّة (القدس)، لكنك لم تغب
عنّا.
فسلام عليك سيدي، عشت من أجل الإسلام، ورحلت على خطّ الإسلام وأهل بيته، فكان أجمل
ما فيك وجود العشق والرقّة فيك.
الوفية لك والحافظة لنهجك أم علي*
*في الذّكرى السنويّة الثّامنة لرحيل المرجع فضل الله(رض).