مرتكزات مشروع الأنسنة في فكر السيّد فضل الله(ره)

مرتكزات مشروع الأنسنة في فكر السيّد فضل الله(ره)

تكاد الأنسنة تكون لازمةً في خطاب السيّد فضل الله، بدءًا من أنسنة الدّين نفسه، وأنسنة العلاقة مع الله، وأنسنة النبوّة، وأنسنة الصِّراع بين قوى الخير والشرّ... من أنسنة العبادة، إلى أنسنة الأخلاق، إلى أنسنة التّشريع، وأنسنة العلاقات الاجتماعيَّة تحت عنوان الانفتاح الإنسانيّ، إلى أنسنة الحوار، وأنسنة التاريخ، حتى إنَّ السيد فضل الله تحدّث عن أنسنة الزمن..

هذا الخطاب يعكس بالضَّرورة بنية في فكر السيّد فضل الله هي الأنسنة. يقول السيّد فضل الله(ره): "قصَّة الدّين تكمن في أن يؤنسنَك، أن يُعيدك إلى إنسانيّتك، وإنسانيّتك تكبر كلّما انفتحت على ربّك؛ لأنّك عندما تنفتح على ربِّ العالمين الرَّحمن الرَّحيم، فأنت تشعر بأنّك جزءٌ من العالمين جميعًا، لستَ وحدَك؛ أنت وكلُّ العالمين تقفون في الدُّنيا من أجل أن تجسّدوا عبوديَّتكم له في حركة إنسانيّتكم تجاه أنفسكم وتجاه الحياة... وليتكامل الإنسان مع العالمين كلّهم في حركة المسؤوليّة؛ لأنّ قصَّة الحياة في كلّ مشاريعها وقضاياها، هي أن تتكامل الطاقات وتتوازن وتتعانق؛ لتكبر الحياة وتقوى"[1].

هذه الكلمات تلخّص مشروع الأنسنة في فكر السيّد فضل الله(ره)، والَّذي يبدو أنَّ مدخله الأساس هو توحيد الله، وتجسيد الإنسان مبدأ العبوديّة الكاملة لله، ويمكن أن نحدِّد الوجهة التّالية: 

أ ـ العبوديّة لله (توحيد الله) تساوي الأنسنة.

ب ـ العبوديّة لله تتجسّد في مسؤوليّة الإنسان عن تفعيل وجوده الحركيّ.

ج ـ العبوديّة لله تفتح الإنسان على عباد الله ومخلوقاته على قاعدة التَّكامل أو التَّعارف.

هنا ينتظم دورُ الدّين الحقيقيّ ـ في فكر السيّد(ره) ـ وهو أنسنة الإنسان، أو هو عمليّة استعادة دائمةٍ للإنسانيّة الضّائعة في متاهات الاحتكاك بالحياة. وبالتالي، يكون موضوع الدّين هو الإنسان وحياته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}[2].

وإذا أردنا أن نغوص قليلًا لنكتشف بعض العناوين التّفصيليّة لمشروع الأنسنة، فيُمكن أن نشير إلى عدّة عناوين مترابطة فيما بينها:

أوّلًا: الإنسان محور الفاعليّة الحضاريّة

أـ الإنسان سيّد الكون

الإنسان يمثّل ـ في فهم السيّد فضل الله(ره) ـ "سيّد الكون الّذي أراد الله سبحانه وتعالى له أن يقود حركة الكون، من خلال ما أودعه فيه من طاقات ومن قوى يُمكن أن تتيح له القيام بهذه المهمّة الكبيرة"، وهو الَّذي جعلت الحياة كلّها تتحرّك في مداره، كما جعلت الآخرة تتحرّك في مداره؛ فالحياة للإنسان، والجنّة للإنسان، والنّار للإنسان، والملائكة يحملون رسالة الله للإنسان، والملائكة يستقبلون الإنسان، والكون مسخَّرٌ للإنسان، الشَّمسُ والقمر وكلُّ القوانين الكونيّة... ومعنى ذلك، أنّ الإسلام ينظر إلى الإنسان على أنّه مركز الكون والعنصر الذي يدور الكون في دائرته"[3].

والقيمة الَّتي جعلها الإسلام للإنسان لا ترقى إليها قيمة في النَّظرة العامّة إلى موقع الإنسان في الكون وعند الله؛ لأنّ الإنسان اعتُبر مسؤولًا عن نفسه، في الوقت الذي لم يُعتبر الملائكة مسؤولين عن أنفسهم، ولم يُعتبر الكونُ مسؤولًا عن نفسه. وحده الإنسان هو الّذي حمل مسؤوليّة نفسه"[4]، وهو ما أشار إليه الله تعالى في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ}[5].

ب ـ الخلافة مسؤوليَّة

وهذا هو الَّذي أهَّله ليكون خليفةً على الأرض. والخلافة هنا هي للنَّوع البشريّ، وهو المقصود بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[6]، وليس فئة خاصّة من البشر، لأنّ الآية تحدّثت عن الخليفة أنّه يفسد في الأرض ويسفك الدِّماء، وهذا بعيدٌ عن ساحة آدم النّبي، كما أنّ عمر آدم محدودٌ، بينما الخلافة تشير إلى إعمار الأرض في مدى الزمن، ولعلّ أوضح دليلٍ عنده هو قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ}[7]، فآدم مثالٌ للنوع البشريّ، وسجود الملائكة إنّما هو بما يختزن من عناصر الإنسانيّة، والتي من خلالها ستتحرّك عجلة بناء الحياة على الأسس المنسجمة مع إنسانيّة الإنسان، وهي القيم المرتبطة بالله تعالى.

وهذه الخلافة هي "إدارة ما يحتاج إلى الإدارة والرّعاية والتّدبير في بناء الحياة في الأرض على أساس النّظام الّذي جعله الله واختاره"، وذلك من خلال المؤهّلات التكوينيَّة التي منحها الله للإنسان، والّتي منها "قوّة المعرفة الّتي يستطيع من خلالها استيعاب كلّ ما حوله من الظّواهر والموجودات، وطاقة العقل الذي يدرك به الخير والشرّ والصّلاح والفساد، ويوازن به بين الأمور التي يواجهها؛ ليستنتج منها أفكارًا جديدة، ويثير منها الحلول الصَّحيحة لمشاكل الحياة وقضاياها"[8].

إنّ الخصائصَ الممنوحة للإنسان من الله ـ حسب السيّد فضل الله(ره) ـ "ليست شرفًا يزهو به، بل هي مسؤوليّة يحملها من أجل تفجيرها وتنميتها وتركيزها على الأسس التي يمكن له من خلالها أن يحقِّقَ الأهداف التي من أجلها كان وجوده"، كما أنّ تلك الطاقات أمانةٌ إلهيّة لديه، "ليس له أن يعطّلها ويجمّدها، أو يوجِّهها إلى التفاهات التي لا تحقِّقُ للحياة شيئًا جديدًا، ولا تقدّمها خطوة إلى الأمام"[9].

ج ـ الصّراع مع قوى تعطيل الفاعليّة

ولعلّنا نرصد هنا، أنّ الصِّراع بين الخير والشرّ (المتمثّل بمفهوم الشَّيطان في الفكر الدّيني)، إنّما يقوم على محاولة الشَّيطان تعطيل فاعليّة الطاقات الإنسانيّة، ودفع الإنسان إلى الاستغراق في "اللحظة الحاضرة التي يعيش معها الإنسان توتّر الغريزة، وسعار الشَّهوة، ونزق الانفعالات"، بعيدًا عن "المسؤوليّة الجادّة" عن الحياة، "التي تحسب حساب النّتائج الإيجابيّة أو السلبيّة لما يقوم به الإنسان من أعمال وما يقفه من مواقف"[10]، وهذا ما أشار إليه الله تعالى في قوله ـ على لسان الشَّيطان ـ: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[11]، بما يختزنه الشُّكر من توجيه للطّاقة والنِّعمة في الخطّ الَّذي يرضاه الله.

ويعتبر السيّد فضل الله(ره) أنَّ "بقاء إبليس كعنصرٍ لإثارة الشرّ مع الإنسان في الحياة المستمرّة التي يعيشها الإنسان، لا يمثّل عنصر إسقاطٍ له، ولكنّه يمثّل عنصر الثقة بأنّه قادرٌ على أن يخوض معركة الاختيار ومعركة قيادة نفسه من موقع إرادته؛ ليستطيع أن يقود الحياة من موقع الإرادة الحرّة القائمة على تأكيد الموقع القويّ في قضيّة الصِّراع بين الخير والشرّ"[12]، وهو ما يوحي به قول الله تعالى في خطابه لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}[13]. باختصارٍ، قد نجد أنّ الصّراع مع قوى الشرّ يقوم بدور جوهرة إنسانيّة الإنسان، لا تدميره.

وأيًّا يكن الحال، فإذا كان الإنسان هو محور الفاعليّة الحضاريّة في الحياة، فهنا تزول حالة التضادّ المزعوم بين الإسلام (أو الدّين عمومًا) والأنسنة، سواء في المستوى العقديّ أو في المستوى الشّرعيّ؛ لأنّ ما يفرضه الدّين على الإنسان، إنّما ينسجم مع معنى إنسانيَّته وحقيقة جوهرها، وليس أمرًا مناقضًا لها، وسيُدرك الإنسان ذلك خلال تطوّر تجربته الحضاريّة عبر الزمن، ليظهَر دينُ الله[14] على كلّ الاتّجاهات في نهاية المطاف.

ويردُّ السيّد فضل الله(ره) على القائلين إنّ النظريّة الإسلاميّة لا تعطي الإنسان مركز القوّة في وجوده من خلال التركيز على مبدأ العبوديّة لله، بأنَّ هذا النمط من التفكير لا يستند إلى وعي ماهيّة "الضَّعف الإنساني أمام الله في دائرة القوّة الذاتيّة الوجوديّة للإنسان"، وذلك لأنّ "الإنسان عندما يكون ضعيفًا أمام الله، فإنّه ضعيفٌ أمام مصدر القوّة المطلقة الَّتي أعطته سرّ وجوده، كما أعطت الكون سرّ وجوده... فنظريّة الضَّعف الإنساني أمام الله لا تضيف شيئًا آخر إلى وجود الإنسان؛ لأنّ الضَّعف يدخل في نطاق طبيعته، من حيث أنّه مخلوقٌ لله سبحانه وتعالى كما هي كلُّ المخلوقات... ونحن نعتقد أنّ الضَّعف الإنساني في موقف الإنسان أمام الله، يمثّل في الوقت نفسه القوّة الإنسانيّة التي تستمدّ حيويّتها من المصدر الّذي لا يمكن أن تزول منه تلك القوّة أو تضعف... وهذا ما يجعلنا نقول إنّ ضعف الإنسان أمام الله يمثّل قوّته أمام الكون كلّه"[15].

ثانيًا: الحرّيّة الإنسانيّة

يبدو من سياق الآيات الَّتي تحدَّثت عن آدم، أنّ الله ترك الحرّيّة التكوينيَّة للإنسان أن يفعل الخير وأن ينتج الشرّ، وهذه الحرّيّة هي عنصر أصيلٌ في معنى إنسانيّته، حيث أكَّد الله تعالى هذه الحرّيّة بالرّغم من أنّها قد تتحوَّل إلى حالة إفسادٍ في الأرض وسفكٍ للدّماء. وهنا يقرّر السيّد فضل الله(ره) بكلّ وضوح هذا المعنى بقوله: "الإنسانيّة عندما نحرِّكها ليست أخلاقًا تتحرّك في العلاقات الاجتماعيّة على مستوى المجاملات. قضيّة إنسانيّتك أوّلًا هي قضيّة أن تكون الإنسان الّذي يملك القرار في ما يريد وما لا يريد؛ أن تكون الإنسان الحرّ الّذي يحرّك عقله باتّجاه القرار الذي يمثّل مصلحته ومصلحة الحياة، ويركّز إرادته ليُثبت قرارَه في الواقع"[16].

أمّا تحرير العقل الإنسانيّ في إطار الالتزام الدّينيّ، فيُؤكّد السيّد فضل الله(ره) أنّ "الإسلام يرفض التقليد" في عالم الفكر، ويقول: "إذا أردتَ أن تعيش قناعاتك، أو تكوِّنها، أو تحرّكها في الواقع، فلا بدّ من أن يكون الأساس في قناعاتك، فكرك الذي تطلقه بما تملك من عناصره، وبما تتحرّك به مع الفكر الآخر في ما يملك من العناصر الأخرى؛ لتكون القناعة منطلقة من ذاتك، لا من محاكاة الإنسان الآخر واتّباعه"[17]، ويخلص إلى أنّ مسؤوليّة الفكر لدى الإنسان هي مسؤوليّة أمام الله، بعيدًا عن الضّغوطات والمؤثّرات المحيطة، لأنّ "الله يريد للإنسان أن يكون إنسانًا في صلابة عقله، وفي صلابة إرادته، وفي صلابة موقفه، لا أن يكون الصَّدى أو الظِّلّ، أو أن يكون كمّيّة مهملة لا معنى لها"[18]، وإذا كان النَّصُّ الدّيني ثابتًا، فإنّ ذلك "لا يعني ثبات الاجتهاد في عناصر فهم النصّ؛ لأنّ اجتهاد المجتهد لا يمثّل الحقيقة الحاسمة، بل يمثّل رأي المجتهد في ما يملكه من عناصر الفهم للنُّصوص، فيبقى في مستوى الشَّرعيّة حتّى يأتي رأيٌ أكثر صوابًا وأقرب إلى الواقع من وجهة نظر جديدة"؛ الأمر الذي يعني أنّ الدِّين نفسه ـ في وجوده الواقعي في حياة المتديّنين ـ إنّما هو أمرٌ قابلٌ للتطوّر تبعًا لتطوّر المعطيات التي يمكن أن يمنحها الفكر والتَّجربة للإنسان.

وأمّا الحرّيّة في البُعد التّشريعيّ، في ما قد يثور فيه الجدل حول مدى وجود الحرّيّة في ظلّ إلزاميّة الشريعة، فيشرح السيّد(ره) العلاقة بين العبوديّة لله والحرّيّة، فيقول: "بقدر ما نتعبَّد لله ونوحّده في عبادته، نضمن لأنفسنا حرّيتها؛ لأنّ ما يعتبره النّاس في كثيرٍ من أوضاعهم حرّيّةً لا يعدو أن يكون عبوديّة، لكن لغير الله، بل لأشخاصٍ وشهوات"، ويرى أنّ نسيان الله وارتكاب معصيته تمثّل "عبوديّة خانقة" لا يتنفّس فيها الإنسان إنسانيّته[19]، وقد أردنا هنا أن نشير إلى المسألة من بُعد، وإلّا فالموضوع في حدّ ذاته يحتاج إلى بحثٍ مستقلّ لسنا هنا في صدده.

ثالثًا: العقلانيّة الرساليّة

إذا كان الله يثبت للإنسان معنى الخلافة والحرّيّة معًا، فهذا يعني أنّ مشيئته تعلّقت بأنْ يحقّق الإنسان إرادة الله بإرادته، وليس كأمرٍ جبريّ يُفرض على الإنسان بإرادة الله القاهرة. ولتحقيق هذا الأمر، تطلَّب ذلك مواكبة الرسالات لمسيرة الإنسانيّة، وذلك بهدف إبقاء الجوهر الإنساني على أصالته، وهنا تكتسب الرسالة معنى الهداية، والتي تعني إعطاء العقل عناصر الهداية ليقتنع، وليتحوّل مضمون الهداية إلى جزءٍ من ذاته والتزاماته، ليكون انطلاقه في تجسيدها من موقع حرّيته. قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[20].

وبهذا، تتحوّل الرسالة إلى عقلٍ من خارج الإنسان، يحاكي العقل الذي يمثّل رسالة الله في داخل الإنسان، لتتكامل بذلك حركة الرسالة مع حركة الإنسان في إنتاج الفكرة وتحريكها في ميادين الحياة. وقد نستطيع هنا التعبير عن هذا البُعد في حركة الدّين، أي أن يتحوّل الدّين إلى قناعة يحملها الإنسان كجزءٍ من ذاته ومسؤوليّاته، بتعبير "أنسنة الدّين".

وأعتقد هنا أنّ هذه النُّقطة جوهريّة جدًّا، وهي ميدانٌ خصبٌ لعلم الاجتماع في مقاربته لأمور الدّين؛ لأنّ النّمط السائد في التعامل مع الدّين يقوم على التجريد، وكأنّ الدّين أمرٌ معلّقٌ في الهواء، لا علاقة له بحياة النّاس ولا بخصائص تنوّعهم. إنّ الدّين عندما ينزل إلى عالم البشر، فلكي يحمله البشر، وإذا كان البشرُ متنوّعين في خصائصهم وثقافاتهم، فمن الطَّبيعيّ حينئذٍ أن يأخذ التديُّن من كلّ ذلك، وهذا ما يدفعنا إلى القول بخطأ الفكرة التي تعتقد أنّ تمثّلات الدّين واحدةٌ في الحياة، ولعلّ هذا يمثّل ضابطًا حكيمًا وضعه الله للمحافظة على الدّين نفسه بفعل تطوّر الظروف والتحدّيات عبر الزمن، وهو ما نطلق عليه قانون "الدَّفع" المبيَّن في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً}[21]، وفي آيةٍ أخرى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[22].

ولعلّنا هنا نستطيع أن ننفتح على مرتكزٍ جديدٍ لأنسنة الدّين، وهو مبدأ التعارُف بين البشريّة في امتداد الزمن وعرضِ الشُّعوب والثقافات، وهو ما نقف عنده في النقطة الآتية.

رابعًا: التّعارُف والتّكامل الإنسانيّ

يطرح السيّد(ره) بقوّة مبدأ العلاقة بين توحيد الله والانفتاح الإنساني الإنساني، انطلاقًا من القاعدة العقديّة التي تفسّر الظواهر الكونيّة والإنسانيّة بالاستناد إلى القوّة الإلهيّة الخلاقة والقادرة والحكيمة... في وحدة النِّظام العامّ، وفي صفة المخلوقيَّة للخالق والعبوديَّة للرَّبّ"، حيث "يمتدّ الإحساس بهذه الوحدة إلى داخل المجتمع الإنسانيّ الذي يعيش كلُّ أفراده في نطاق الرّابطة الإنسانيّة التي تجمع كلّ تنوّعات النّاس في وحدةٍ يلتقون عليها، وفي دورٍ يتكاملون فيه"، ويؤكّد السيّد(ره) هنا أنّ التنوّع لا يمثّل تباينًا، "بل تكاملًا في الخصوصيّات، بحيث ينضمّ بعضُها إلى البعض الآخر، من أجل الإعمار والتكامل الإنسانيّ"، مُستشهدًا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[23]، ويعتبر هنا أنّ "التنوّع هو الوسيلة الفضلى للتَّعارف؛ لأنّه يفضي إلى انجذاب الإنسان إلى الإنسان الآخر، لبناء علاقات تسدُّ الحاجات الخاصّة، وتتبادل الإفادة من الطّاقات المتنوّعة"[24].

ويمكن لنا أن نعبّر عمّا ذكره السيّد(ره) أخيرًا بطريقة أخرى، وذلك من خلال تتبّع استعمالات القرآن لمادّة التعارُف، حيث من المرجّح أن يكون المقصود به ما تعرفُهُ النَّفس الإنسانيّة بطبيعتها الفطريّة، ولذلك سمّي المعروف معروفًا وأمر به الدِّين، الذي هو دين الفطرة، كما يطرح نفسه، ولذلك قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}[25]، أي بما لا تنكره الفطرة. وبناءً على صحّة هذا التوجيه للمفردة، يمكن لنا أن نعتبر أنّ التنوّع الذي تطرحه الآية، إنّما حكمته تحقيق المشروع الإلهيّ من خلال حركة البشريّة وتكاملها عبر تجربتها في مدى الزمن، وهو تحديدًا إبقاء التوازن الإنساني في حركة البشريّة، وهذا هو الذي يبرّر تحمّل السلبيّات الناجمة عن هذا المخلوق البشري، {يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}[26].

خامسًا: إنسانيَّة العلم

هنا، يؤسّس السيّد فضل الله(ره) لانفتاح التجربة في مدى الإنسانيّة كلّها، انطلاقًا من الرؤية الدّينية للإنسان والحياة، فالانغلاق خلاف إرادة الله، والتقوقع في إطار التجربة الخاصّة خلاف حركة العلم وتطوّرها، حيث يرى السيّد(ره) أنّ ثمّة خطّين للمعرفة: الخطّ العقليّ الّذي ينطلق من خلال معطيات العقل وحركيّته في الأفكار على قاعدة الأفكار الفطريّة[27]، والخطّ التّجريبيّ الّذي يتعرّف فيه الإنسان إلى المعطيات من خلال عمليّة استقراء للواقع[28]، وبهذا يُمكن إزالة الحواجز بين شرق وغربٍ، وشمالٍ وجنوبٍ، وبين شعوبٍ وشعوبٍ، فالكلّ يمكن أن يساهم في إغناء التجربة الإنسانيّة العامّة.

يعتبر السيّد فضل الله(ره) أنّ الحديث عن العلم حديثٌ عن "قيمةٍ إنسانيّةٍ تتحرّك في بناء الحضارة على أساس أن تحقّق ذاتها". وتحقيق هذه الذّات الحضاريّة ـ في نظره ـ يفرض البحث عن المنهج الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يحوّل "الموادّ الخامّ (المعلومات) إلى نتائج علميّة على مستوى حركة المعرفة في خطّ التطوّر الإنسانيّ"[29]، وهو منهجٌ يتحرّك في خطّي العقل والتجربة العمليّة أو الحسّيّة، بحيث لا يمكن فصلُ "المنهج العقليّ عن المنهج التّجريبيّ، وبالعكس؛ باعتبار أنّ كُلًّا منهما يكمّل الآخر"[30].

إنّ السيّد فضل الله(ره) يؤسّس هنا لإنسانيّة العلم، انطلاقًا من كون العقل والتجربة يمثّلان الطاقة والحركة الإنسانيّتين اللتين تمثّلان طبيعة إنسانيّة واحدة، فالعلم البشريّ ـ في تعبيره ـ "ينطلق من خلال عنوان إلهيّ يقول للإنسان: إنّك تملك إمكانات العقل وتملك إمكانات الحسّ، وإنّني هيّأتُ لك الكون كلّه ليكون مسخّرًا لك فيما يعطيك من مواقعه التي تستطيع من خلالها أن تنفتح على كلّ ما في داخله من قوانين ومن أسرار في ما تملكه من طاقات تحرّكها في هذا الاتّجاه"[31]. وبهذا، يرى السيّد(ره) أنّ "منجزات الحضارة المعاصرة كانت نتيجة للجهد الإنساني الذي عانى الإنسان الكثير حتّى استطاع أن يصل به إلى هذه الدَّرجة الكبيرة، وأنّ الإسلام عندما يريد أن يبني الحياة، فإنّه لا بدّ من أن يستفيد من كلّ نتاج الحضارة"[32]، ولكنّه قد لا يوافق على الكثير ممّا يستنتجه الذين يشرفون على الحضارة المعاصرة، من بعض الخطوط النظريَّة التي تتمثّل في طبيعة حركة الإنسان في الحياة في الجانب الأخلاقي أو السياسيّ أو الاجتماعيّ أو ما إلى ذلك، ولكنّه يعود ليضع الإطار المنهجيّ لحركة العلم الإنسانيّ، يحيث يتمّ التعامُل مع "منجزات الحضارة كمفردات علميّة في ما يكتشفه الإنسان من قضايا القوانين الإلهيّة في الكون"[33]، ويساهم الإسلاميّون أو أيٌّ من المنتمين دينيًا، في إغناء تجربة العلم، من خلال جهدهم العلميّ الَّذي يعتمد العقل والتَّجربة معًا.

وإذا كانت الأنسنة قاعدةً للعلم، فمن البديهي أنَّ العلم لا يقبل المذهبة ولا التطييف، حتّى النّصوص الدينية المقدَّسة مفتوحة لكلّ دارس يمتلك أدوات فهمها، وليس لأحد أن يفرض أيّ حُرُم على الحوار العلميّ الموضوعيّ بين مختلف الفئات الدينيّة وغير الدينيّة أيضًا.

سادسًا: الواقع وأنسنة الفكر الدّينيّ

بناءً على ما قدّمناه، يمكن لنا أن نشير إلى أهمّية الواقع في عمليّة أنسنة الفكر الدّيني، لأنّ إحدى أهمّ المشاكل التي يعانيها الخطاب الدّيني، مضمونًا وأسلوبًا، هي القطيعة مع الواقع، ولذلك تغرق مواضيعه في التجريد، ويقع الكثير من أساليبه في عقم التأثير أو محدوديّته.

أحد أهمّ المرتكزات الّتي عمل عليها السيّد فضل الله(ره) في مشروع الأنسنة، هو الواقعيّة، بما تعنيه من فهم عميقٍ للواقع وللمجتمعات وقوانينها، وللعصر وأفكاره واتّجاهاته، وللنفس البشريّة ومؤثّراتها، ولحركة التاريخ والسياسة والاقتصاد وما إلى ذلك؛ ليكون ذلك المادّة الخصبة التي تدفع المفكّر الدّيني نحو تركيز مادّة بحثه انطلاقًا من الواقع؛ بل لفهم النَّصِّ الديني نفسه؛ لأنّ النَّصَّ هو نصٌّ لتوجيه الواقع، وقوّته هي في محاكاته لعمق الخصائص الإنسانيّة غير الخاضعة لخصوصيّات الزمان والمكان.

لقد عمل السيّد فضل الله على إعادة إنتاج بنى الاجتهاد الفكريّ والفقهيّ على قاعدة الأنسنة، فكانت تمظهرات النّصّ في الواقع تمدّه بمعطيات لم تلتفت إليها المناهج التقليديَّة، فكانت الظروف التاريخيَّة للنّصّ جزءًا من بنية الاجتهاد الصحيح، وكان البعد الاجتماعيّ حاضرًا بقوّة في مساحة الفهم كذلك.. لذلك كانت النّتائج المغايرة التي وصل إليها السيد(ره) مستندة إلى بنية اجتهاديَّة مؤصّلة، ووجود البنى يعني تحوّل الفكر إلى مدرسة تستمرّ في عطائها وإبداعها.

ولعلّ من أجرأ ما يطرحه السيّد فضل الله(ره) على مستوى الأنسنة، المقولة الآتية: "إنّ الإسلام جاء من أجل أن يُكرِّم الإنسان، وبهذا نستطيع أن نجعل هذا عنوانًا كبيرًا يحكُم على كلّ الأحكام الإسلاميّة؛ فكُلُّ حكمٍ لا يكرِّم الإنسان في إنسانيّته ليس من الإسلام، وكلُّ حكم ينطلق من قاعدةٍ إسلاميّة اجتهاديّة ويتحرّك في خطّ الكرامة الإنسانيّة، يُمكن أن يكون هو حكم الإسلام"[34].

إنَّ غيبوبة الفكر الدّيني عن واقع الحياة، أوقع الإسلاميّين، أو الدّينيّين عمومًا، في إطلاقاتٍ جعلت تطبيقاتها في الحياة ضدّ الإنسانيّة وضدّ المبادئ، ففي الوقت الذي يرجم المتديّنون الشيطان، يمكن أن يعترفوا بشرعيّة الكثير من نماذجه في الواقع، ويخرّبوا الحياة باسم إعمارها، ويقتلوا أيّ معنًى للحضارة باسم التوحيد!

وممّا يحضُرني في هذا المجال، ما قاله لي ذاتَ مرّة ـ وكنّا في مِنى في سنةِ حجٍّ ـ: "إنّ الذي عندي ربعٌ من الكتب، وثلاثة أرباعٍ تجربةُ حياة".

ولعلّنا نستطيع أن نؤكّد هنا على نقطة، وهي أنّ كثيرًا من المشاكل الناتجة من القراءة المأزومة للنصوص الدّينية، سببُها هذه الانعزاليّة عن الواقع، وعدم امتلاك الأدوات المعرفيّة والنفسية التي تجعل الإنسان يحرّك القيمة، التي هي الروح الإنسانيّة لأيّ نصٍّ، ضمن أدوات الواقع ومفرداته.. ولذلك، بتنا نشهد شيئًا يُشبه الإنسان في الشَّكلِ، لكنَّه ينبئ عن حالة توحُّشٍ موصوف!

وإذا كان الكثيرون من الانعزاليّين ذهبوا إلى التّاريخ ليعيدوا إنتاجه بأدوات الماضي، فهذا يكشف عن مشكلةٍ في فهم البُعد الإنساني للتاريخ. إنّ القرآن يطرح ما يمكن أن نطلق عليه "أنسنة التاريخ"، وذلك استنادًا إلى أنّ وظيفة التاريخ هي إمداد الواقع بتجسّدات القيمة، ثمّ تجريدها من خصوصيّة التاريخ، لتكون الروح الإنسانيّة التي تنفح الحاضر وتعيد صناعة القيمة في مدى الزمن.

عندما يتحوّل التاريخ إلى صنمٍ نعبده من دون الله، وعندما يتحوّل التاريخ إلى مادّة للعصبيّة والقتال والقتل، عند ذاك يكون قد فقد معنى إنسانيّته، وتحوّل بدوره إلى عنصر شللٍ للحاضر ودمارٍ للمستقبل!

وختامًا، يبدو هنا أنّنا لا نستطيع حصر تجليّات الأنسنة في كلّ مفردات النّشاط الإنسانيّ، ونجد أنفسنا أمام صورةٍ متناهيةٍ في البساطة للإسلام وللرّسالات السماويّة، عنوانُها الأنسنة، بدءًا من أصلها العقديّ التّوحيديّ، وصولًا إلى أصغر حكمٍ فقهيّ أو أخلاقيّ.

[كلمة ألقاها في "المؤتمر الفكري الثاني: أنسنة الدين في فكر المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله(رض)"، بيروت: 23 ذو الحجّة 1436هـ/ الموافق: 6 تشرين الأوّل 2015م].


[1] السيّد محمد حسين فضل الله، حوارات في الفكر والسياسة والاجتماع، إعداد وتنسيق نجيب نور الدين، ط 2، 2001م، دار الملاك، بيروت، لبنان، ص194.

[2] [سورة الأنفال: 24].

[3] فضل الله، المشروع الإسلامي الحضاري، ط1، 1991م، مؤسّسة العارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، ص75، 77 (بتلخيص وتصرّف يسير).

[4] فضل الله، المشروع الإسلامي الحضاري، ص 76.

[5] سورة الأحزاب: 72.

[6] سورة البقرة: 30.

[7] سورة الأعراف: 1.

[8] فضل الله، السيد محمد حسين، تفسير من وحي القرآن، دار الملاك، ط 3، 2007م، ج 1، ص 229.

[9] فضل الله، من وحي القرآن، م. ن.، ص 235.

[10] فضل الله، من وحي القرآن، م. ن.، ج10، ص38.

[11] [سورة الأعراف: 16، 17].

[12] فضل الله، المشروع الحضاري الإسلامي، ص 75، 76 (بتصرّف يسير).

[13] [سورة الحجر: 42].

[14] لعلّ هذا المعنى هو المراد من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة: 33]، حيث المقصود من الظهور هو الظهور الحضاري، وليس الظهور العسكري ونحو ذلك.

[15] فضل الله، المشروع الإسلامي الحضاري، ص 77، 78.

[16] فضل الله، حوارات..، م. س، ص 196.

[17] فضل الله، السيد محمد حسين، الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل، ط1، 2009م، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ص 34.

[18] م. ن.، ص 36 (بتصرّف يسير).

[19] فضل الله، حوارات..، م. س.، ص 195.

[20] [سورة البقرة: 38].

[21] [سورة الحج: 40].

[22] [سورة البقرة: 251].

[23] [سورة الحجرات: 13].

[24]  فضل الله، الاجتهاد، م. س.، ص 19.

[25] سورة الأعراف: 199.

[26] [سورة البقرة: 30].

[27] م.ن.، ص 37.

[28] فضل الله، الاجتهاد، م. س.، ص 41.

[29] فضل الله، المشروع الإسلامي الحضاري، ص 91.

[30]  م. ن.، ص 92، 93.

[31]  م. ن.، ص 93.

[32]  م. ن.، ص 94.

[33]  م. ن.، ص95.

[34]  فضل الله، المشروع الإسلامي الحضاري، ص 39. ورد في المصدر: "حكم الإنسان"، والظاهر أنّ الصحيح "حكم الإسلام" ممّا يُفهم من السياق.

تكاد الأنسنة تكون لازمةً في خطاب السيّد فضل الله، بدءًا من أنسنة الدّين نفسه، وأنسنة العلاقة مع الله، وأنسنة النبوّة، وأنسنة الصِّراع بين قوى الخير والشرّ... من أنسنة العبادة، إلى أنسنة الأخلاق، إلى أنسنة التّشريع، وأنسنة العلاقات الاجتماعيَّة تحت عنوان الانفتاح الإنسانيّ، إلى أنسنة الحوار، وأنسنة التاريخ، حتى إنَّ السيد فضل الله تحدّث عن أنسنة الزمن..

هذا الخطاب يعكس بالضَّرورة بنية في فكر السيّد فضل الله هي الأنسنة. يقول السيّد فضل الله(ره): "قصَّة الدّين تكمن في أن يؤنسنَك، أن يُعيدك إلى إنسانيّتك، وإنسانيّتك تكبر كلّما انفتحت على ربّك؛ لأنّك عندما تنفتح على ربِّ العالمين الرَّحمن الرَّحيم، فأنت تشعر بأنّك جزءٌ من العالمين جميعًا، لستَ وحدَك؛ أنت وكلُّ العالمين تقفون في الدُّنيا من أجل أن تجسّدوا عبوديَّتكم له في حركة إنسانيّتكم تجاه أنفسكم وتجاه الحياة... وليتكامل الإنسان مع العالمين كلّهم في حركة المسؤوليّة؛ لأنّ قصَّة الحياة في كلّ مشاريعها وقضاياها، هي أن تتكامل الطاقات وتتوازن وتتعانق؛ لتكبر الحياة وتقوى"[1].

هذه الكلمات تلخّص مشروع الأنسنة في فكر السيّد فضل الله(ره)، والَّذي يبدو أنَّ مدخله الأساس هو توحيد الله، وتجسيد الإنسان مبدأ العبوديّة الكاملة لله، ويمكن أن نحدِّد الوجهة التّالية: 

أ ـ العبوديّة لله (توحيد الله) تساوي الأنسنة.

ب ـ العبوديّة لله تتجسّد في مسؤوليّة الإنسان عن تفعيل وجوده الحركيّ.

ج ـ العبوديّة لله تفتح الإنسان على عباد الله ومخلوقاته على قاعدة التَّكامل أو التَّعارف.

هنا ينتظم دورُ الدّين الحقيقيّ ـ في فكر السيّد(ره) ـ وهو أنسنة الإنسان، أو هو عمليّة استعادة دائمةٍ للإنسانيّة الضّائعة في متاهات الاحتكاك بالحياة. وبالتالي، يكون موضوع الدّين هو الإنسان وحياته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}[2].

وإذا أردنا أن نغوص قليلًا لنكتشف بعض العناوين التّفصيليّة لمشروع الأنسنة، فيُمكن أن نشير إلى عدّة عناوين مترابطة فيما بينها:

أوّلًا: الإنسان محور الفاعليّة الحضاريّة

أـ الإنسان سيّد الكون

الإنسان يمثّل ـ في فهم السيّد فضل الله(ره) ـ "سيّد الكون الّذي أراد الله سبحانه وتعالى له أن يقود حركة الكون، من خلال ما أودعه فيه من طاقات ومن قوى يُمكن أن تتيح له القيام بهذه المهمّة الكبيرة"، وهو الَّذي جعلت الحياة كلّها تتحرّك في مداره، كما جعلت الآخرة تتحرّك في مداره؛ فالحياة للإنسان، والجنّة للإنسان، والنّار للإنسان، والملائكة يحملون رسالة الله للإنسان، والملائكة يستقبلون الإنسان، والكون مسخَّرٌ للإنسان، الشَّمسُ والقمر وكلُّ القوانين الكونيّة... ومعنى ذلك، أنّ الإسلام ينظر إلى الإنسان على أنّه مركز الكون والعنصر الذي يدور الكون في دائرته"[3].

والقيمة الَّتي جعلها الإسلام للإنسان لا ترقى إليها قيمة في النَّظرة العامّة إلى موقع الإنسان في الكون وعند الله؛ لأنّ الإنسان اعتُبر مسؤولًا عن نفسه، في الوقت الذي لم يُعتبر الملائكة مسؤولين عن أنفسهم، ولم يُعتبر الكونُ مسؤولًا عن نفسه. وحده الإنسان هو الّذي حمل مسؤوليّة نفسه"[4]، وهو ما أشار إليه الله تعالى في قوله: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ}[5].

ب ـ الخلافة مسؤوليَّة

وهذا هو الَّذي أهَّله ليكون خليفةً على الأرض. والخلافة هنا هي للنَّوع البشريّ، وهو المقصود بقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[6]، وليس فئة خاصّة من البشر، لأنّ الآية تحدّثت عن الخليفة أنّه يفسد في الأرض ويسفك الدِّماء، وهذا بعيدٌ عن ساحة آدم النّبي، كما أنّ عمر آدم محدودٌ، بينما الخلافة تشير إلى إعمار الأرض في مدى الزمن، ولعلّ أوضح دليلٍ عنده هو قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ}[7]، فآدم مثالٌ للنوع البشريّ، وسجود الملائكة إنّما هو بما يختزن من عناصر الإنسانيّة، والتي من خلالها ستتحرّك عجلة بناء الحياة على الأسس المنسجمة مع إنسانيّة الإنسان، وهي القيم المرتبطة بالله تعالى.

وهذه الخلافة هي "إدارة ما يحتاج إلى الإدارة والرّعاية والتّدبير في بناء الحياة في الأرض على أساس النّظام الّذي جعله الله واختاره"، وذلك من خلال المؤهّلات التكوينيَّة التي منحها الله للإنسان، والّتي منها "قوّة المعرفة الّتي يستطيع من خلالها استيعاب كلّ ما حوله من الظّواهر والموجودات، وطاقة العقل الذي يدرك به الخير والشرّ والصّلاح والفساد، ويوازن به بين الأمور التي يواجهها؛ ليستنتج منها أفكارًا جديدة، ويثير منها الحلول الصَّحيحة لمشاكل الحياة وقضاياها"[8].

إنّ الخصائصَ الممنوحة للإنسان من الله ـ حسب السيّد فضل الله(ره) ـ "ليست شرفًا يزهو به، بل هي مسؤوليّة يحملها من أجل تفجيرها وتنميتها وتركيزها على الأسس التي يمكن له من خلالها أن يحقِّقَ الأهداف التي من أجلها كان وجوده"، كما أنّ تلك الطاقات أمانةٌ إلهيّة لديه، "ليس له أن يعطّلها ويجمّدها، أو يوجِّهها إلى التفاهات التي لا تحقِّقُ للحياة شيئًا جديدًا، ولا تقدّمها خطوة إلى الأمام"[9].

ج ـ الصّراع مع قوى تعطيل الفاعليّة

ولعلّنا نرصد هنا، أنّ الصِّراع بين الخير والشرّ (المتمثّل بمفهوم الشَّيطان في الفكر الدّيني)، إنّما يقوم على محاولة الشَّيطان تعطيل فاعليّة الطاقات الإنسانيّة، ودفع الإنسان إلى الاستغراق في "اللحظة الحاضرة التي يعيش معها الإنسان توتّر الغريزة، وسعار الشَّهوة، ونزق الانفعالات"، بعيدًا عن "المسؤوليّة الجادّة" عن الحياة، "التي تحسب حساب النّتائج الإيجابيّة أو السلبيّة لما يقوم به الإنسان من أعمال وما يقفه من مواقف"[10]، وهذا ما أشار إليه الله تعالى في قوله ـ على لسان الشَّيطان ـ: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[11]، بما يختزنه الشُّكر من توجيه للطّاقة والنِّعمة في الخطّ الَّذي يرضاه الله.

ويعتبر السيّد فضل الله(ره) أنَّ "بقاء إبليس كعنصرٍ لإثارة الشرّ مع الإنسان في الحياة المستمرّة التي يعيشها الإنسان، لا يمثّل عنصر إسقاطٍ له، ولكنّه يمثّل عنصر الثقة بأنّه قادرٌ على أن يخوض معركة الاختيار ومعركة قيادة نفسه من موقع إرادته؛ ليستطيع أن يقود الحياة من موقع الإرادة الحرّة القائمة على تأكيد الموقع القويّ في قضيّة الصِّراع بين الخير والشرّ"[12]، وهو ما يوحي به قول الله تعالى في خطابه لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}[13]. باختصارٍ، قد نجد أنّ الصّراع مع قوى الشرّ يقوم بدور جوهرة إنسانيّة الإنسان، لا تدميره.

وأيًّا يكن الحال، فإذا كان الإنسان هو محور الفاعليّة الحضاريّة في الحياة، فهنا تزول حالة التضادّ المزعوم بين الإسلام (أو الدّين عمومًا) والأنسنة، سواء في المستوى العقديّ أو في المستوى الشّرعيّ؛ لأنّ ما يفرضه الدّين على الإنسان، إنّما ينسجم مع معنى إنسانيَّته وحقيقة جوهرها، وليس أمرًا مناقضًا لها، وسيُدرك الإنسان ذلك خلال تطوّر تجربته الحضاريّة عبر الزمن، ليظهَر دينُ الله[14] على كلّ الاتّجاهات في نهاية المطاف.

ويردُّ السيّد فضل الله(ره) على القائلين إنّ النظريّة الإسلاميّة لا تعطي الإنسان مركز القوّة في وجوده من خلال التركيز على مبدأ العبوديّة لله، بأنَّ هذا النمط من التفكير لا يستند إلى وعي ماهيّة "الضَّعف الإنساني أمام الله في دائرة القوّة الذاتيّة الوجوديّة للإنسان"، وذلك لأنّ "الإنسان عندما يكون ضعيفًا أمام الله، فإنّه ضعيفٌ أمام مصدر القوّة المطلقة الَّتي أعطته سرّ وجوده، كما أعطت الكون سرّ وجوده... فنظريّة الضَّعف الإنساني أمام الله لا تضيف شيئًا آخر إلى وجود الإنسان؛ لأنّ الضَّعف يدخل في نطاق طبيعته، من حيث أنّه مخلوقٌ لله سبحانه وتعالى كما هي كلُّ المخلوقات... ونحن نعتقد أنّ الضَّعف الإنساني في موقف الإنسان أمام الله، يمثّل في الوقت نفسه القوّة الإنسانيّة التي تستمدّ حيويّتها من المصدر الّذي لا يمكن أن تزول منه تلك القوّة أو تضعف... وهذا ما يجعلنا نقول إنّ ضعف الإنسان أمام الله يمثّل قوّته أمام الكون كلّه"[15].

ثانيًا: الحرّيّة الإنسانيّة

يبدو من سياق الآيات الَّتي تحدَّثت عن آدم، أنّ الله ترك الحرّيّة التكوينيَّة للإنسان أن يفعل الخير وأن ينتج الشرّ، وهذه الحرّيّة هي عنصر أصيلٌ في معنى إنسانيّته، حيث أكَّد الله تعالى هذه الحرّيّة بالرّغم من أنّها قد تتحوَّل إلى حالة إفسادٍ في الأرض وسفكٍ للدّماء. وهنا يقرّر السيّد فضل الله(ره) بكلّ وضوح هذا المعنى بقوله: "الإنسانيّة عندما نحرِّكها ليست أخلاقًا تتحرّك في العلاقات الاجتماعيّة على مستوى المجاملات. قضيّة إنسانيّتك أوّلًا هي قضيّة أن تكون الإنسان الّذي يملك القرار في ما يريد وما لا يريد؛ أن تكون الإنسان الحرّ الّذي يحرّك عقله باتّجاه القرار الذي يمثّل مصلحته ومصلحة الحياة، ويركّز إرادته ليُثبت قرارَه في الواقع"[16].

أمّا تحرير العقل الإنسانيّ في إطار الالتزام الدّينيّ، فيُؤكّد السيّد فضل الله(ره) أنّ "الإسلام يرفض التقليد" في عالم الفكر، ويقول: "إذا أردتَ أن تعيش قناعاتك، أو تكوِّنها، أو تحرّكها في الواقع، فلا بدّ من أن يكون الأساس في قناعاتك، فكرك الذي تطلقه بما تملك من عناصره، وبما تتحرّك به مع الفكر الآخر في ما يملك من العناصر الأخرى؛ لتكون القناعة منطلقة من ذاتك، لا من محاكاة الإنسان الآخر واتّباعه"[17]، ويخلص إلى أنّ مسؤوليّة الفكر لدى الإنسان هي مسؤوليّة أمام الله، بعيدًا عن الضّغوطات والمؤثّرات المحيطة، لأنّ "الله يريد للإنسان أن يكون إنسانًا في صلابة عقله، وفي صلابة إرادته، وفي صلابة موقفه، لا أن يكون الصَّدى أو الظِّلّ، أو أن يكون كمّيّة مهملة لا معنى لها"[18]، وإذا كان النَّصُّ الدّيني ثابتًا، فإنّ ذلك "لا يعني ثبات الاجتهاد في عناصر فهم النصّ؛ لأنّ اجتهاد المجتهد لا يمثّل الحقيقة الحاسمة، بل يمثّل رأي المجتهد في ما يملكه من عناصر الفهم للنُّصوص، فيبقى في مستوى الشَّرعيّة حتّى يأتي رأيٌ أكثر صوابًا وأقرب إلى الواقع من وجهة نظر جديدة"؛ الأمر الذي يعني أنّ الدِّين نفسه ـ في وجوده الواقعي في حياة المتديّنين ـ إنّما هو أمرٌ قابلٌ للتطوّر تبعًا لتطوّر المعطيات التي يمكن أن يمنحها الفكر والتَّجربة للإنسان.

وأمّا الحرّيّة في البُعد التّشريعيّ، في ما قد يثور فيه الجدل حول مدى وجود الحرّيّة في ظلّ إلزاميّة الشريعة، فيشرح السيّد(ره) العلاقة بين العبوديّة لله والحرّيّة، فيقول: "بقدر ما نتعبَّد لله ونوحّده في عبادته، نضمن لأنفسنا حرّيتها؛ لأنّ ما يعتبره النّاس في كثيرٍ من أوضاعهم حرّيّةً لا يعدو أن يكون عبوديّة، لكن لغير الله، بل لأشخاصٍ وشهوات"، ويرى أنّ نسيان الله وارتكاب معصيته تمثّل "عبوديّة خانقة" لا يتنفّس فيها الإنسان إنسانيّته[19]، وقد أردنا هنا أن نشير إلى المسألة من بُعد، وإلّا فالموضوع في حدّ ذاته يحتاج إلى بحثٍ مستقلّ لسنا هنا في صدده.

ثالثًا: العقلانيّة الرساليّة

إذا كان الله يثبت للإنسان معنى الخلافة والحرّيّة معًا، فهذا يعني أنّ مشيئته تعلّقت بأنْ يحقّق الإنسان إرادة الله بإرادته، وليس كأمرٍ جبريّ يُفرض على الإنسان بإرادة الله القاهرة. ولتحقيق هذا الأمر، تطلَّب ذلك مواكبة الرسالات لمسيرة الإنسانيّة، وذلك بهدف إبقاء الجوهر الإنساني على أصالته، وهنا تكتسب الرسالة معنى الهداية، والتي تعني إعطاء العقل عناصر الهداية ليقتنع، وليتحوّل مضمون الهداية إلى جزءٍ من ذاته والتزاماته، ليكون انطلاقه في تجسيدها من موقع حرّيته. قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[20].

وبهذا، تتحوّل الرسالة إلى عقلٍ من خارج الإنسان، يحاكي العقل الذي يمثّل رسالة الله في داخل الإنسان، لتتكامل بذلك حركة الرسالة مع حركة الإنسان في إنتاج الفكرة وتحريكها في ميادين الحياة. وقد نستطيع هنا التعبير عن هذا البُعد في حركة الدّين، أي أن يتحوّل الدّين إلى قناعة يحملها الإنسان كجزءٍ من ذاته ومسؤوليّاته، بتعبير "أنسنة الدّين".

وأعتقد هنا أنّ هذه النُّقطة جوهريّة جدًّا، وهي ميدانٌ خصبٌ لعلم الاجتماع في مقاربته لأمور الدّين؛ لأنّ النّمط السائد في التعامل مع الدّين يقوم على التجريد، وكأنّ الدّين أمرٌ معلّقٌ في الهواء، لا علاقة له بحياة النّاس ولا بخصائص تنوّعهم. إنّ الدّين عندما ينزل إلى عالم البشر، فلكي يحمله البشر، وإذا كان البشرُ متنوّعين في خصائصهم وثقافاتهم، فمن الطَّبيعيّ حينئذٍ أن يأخذ التديُّن من كلّ ذلك، وهذا ما يدفعنا إلى القول بخطأ الفكرة التي تعتقد أنّ تمثّلات الدّين واحدةٌ في الحياة، ولعلّ هذا يمثّل ضابطًا حكيمًا وضعه الله للمحافظة على الدّين نفسه بفعل تطوّر الظروف والتحدّيات عبر الزمن، وهو ما نطلق عليه قانون "الدَّفع" المبيَّن في قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً}[21]، وفي آيةٍ أخرى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[22].

ولعلّنا هنا نستطيع أن ننفتح على مرتكزٍ جديدٍ لأنسنة الدّين، وهو مبدأ التعارُف بين البشريّة في امتداد الزمن وعرضِ الشُّعوب والثقافات، وهو ما نقف عنده في النقطة الآتية.

رابعًا: التّعارُف والتّكامل الإنسانيّ

يطرح السيّد(ره) بقوّة مبدأ العلاقة بين توحيد الله والانفتاح الإنساني الإنساني، انطلاقًا من القاعدة العقديّة التي تفسّر الظواهر الكونيّة والإنسانيّة بالاستناد إلى القوّة الإلهيّة الخلاقة والقادرة والحكيمة... في وحدة النِّظام العامّ، وفي صفة المخلوقيَّة للخالق والعبوديَّة للرَّبّ"، حيث "يمتدّ الإحساس بهذه الوحدة إلى داخل المجتمع الإنسانيّ الذي يعيش كلُّ أفراده في نطاق الرّابطة الإنسانيّة التي تجمع كلّ تنوّعات النّاس في وحدةٍ يلتقون عليها، وفي دورٍ يتكاملون فيه"، ويؤكّد السيّد(ره) هنا أنّ التنوّع لا يمثّل تباينًا، "بل تكاملًا في الخصوصيّات، بحيث ينضمّ بعضُها إلى البعض الآخر، من أجل الإعمار والتكامل الإنسانيّ"، مُستشهدًا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[23]، ويعتبر هنا أنّ "التنوّع هو الوسيلة الفضلى للتَّعارف؛ لأنّه يفضي إلى انجذاب الإنسان إلى الإنسان الآخر، لبناء علاقات تسدُّ الحاجات الخاصّة، وتتبادل الإفادة من الطّاقات المتنوّعة"[24].

ويمكن لنا أن نعبّر عمّا ذكره السيّد(ره) أخيرًا بطريقة أخرى، وذلك من خلال تتبّع استعمالات القرآن لمادّة التعارُف، حيث من المرجّح أن يكون المقصود به ما تعرفُهُ النَّفس الإنسانيّة بطبيعتها الفطريّة، ولذلك سمّي المعروف معروفًا وأمر به الدِّين، الذي هو دين الفطرة، كما يطرح نفسه، ولذلك قال تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}[25]، أي بما لا تنكره الفطرة. وبناءً على صحّة هذا التوجيه للمفردة، يمكن لنا أن نعتبر أنّ التنوّع الذي تطرحه الآية، إنّما حكمته تحقيق المشروع الإلهيّ من خلال حركة البشريّة وتكاملها عبر تجربتها في مدى الزمن، وهو تحديدًا إبقاء التوازن الإنساني في حركة البشريّة، وهذا هو الذي يبرّر تحمّل السلبيّات الناجمة عن هذا المخلوق البشري، {يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء}[26].

خامسًا: إنسانيَّة العلم

هنا، يؤسّس السيّد فضل الله(ره) لانفتاح التجربة في مدى الإنسانيّة كلّها، انطلاقًا من الرؤية الدّينية للإنسان والحياة، فالانغلاق خلاف إرادة الله، والتقوقع في إطار التجربة الخاصّة خلاف حركة العلم وتطوّرها، حيث يرى السيّد(ره) أنّ ثمّة خطّين للمعرفة: الخطّ العقليّ الّذي ينطلق من خلال معطيات العقل وحركيّته في الأفكار على قاعدة الأفكار الفطريّة[27]، والخطّ التّجريبيّ الّذي يتعرّف فيه الإنسان إلى المعطيات من خلال عمليّة استقراء للواقع[28]، وبهذا يُمكن إزالة الحواجز بين شرق وغربٍ، وشمالٍ وجنوبٍ، وبين شعوبٍ وشعوبٍ، فالكلّ يمكن أن يساهم في إغناء التجربة الإنسانيّة العامّة.

يعتبر السيّد فضل الله(ره) أنّ الحديث عن العلم حديثٌ عن "قيمةٍ إنسانيّةٍ تتحرّك في بناء الحضارة على أساس أن تحقّق ذاتها". وتحقيق هذه الذّات الحضاريّة ـ في نظره ـ يفرض البحث عن المنهج الذي يستطيع الإنسان من خلاله أن يحوّل "الموادّ الخامّ (المعلومات) إلى نتائج علميّة على مستوى حركة المعرفة في خطّ التطوّر الإنسانيّ"[29]، وهو منهجٌ يتحرّك في خطّي العقل والتجربة العمليّة أو الحسّيّة، بحيث لا يمكن فصلُ "المنهج العقليّ عن المنهج التّجريبيّ، وبالعكس؛ باعتبار أنّ كُلًّا منهما يكمّل الآخر"[30].

إنّ السيّد فضل الله(ره) يؤسّس هنا لإنسانيّة العلم، انطلاقًا من كون العقل والتجربة يمثّلان الطاقة والحركة الإنسانيّتين اللتين تمثّلان طبيعة إنسانيّة واحدة، فالعلم البشريّ ـ في تعبيره ـ "ينطلق من خلال عنوان إلهيّ يقول للإنسان: إنّك تملك إمكانات العقل وتملك إمكانات الحسّ، وإنّني هيّأتُ لك الكون كلّه ليكون مسخّرًا لك فيما يعطيك من مواقعه التي تستطيع من خلالها أن تنفتح على كلّ ما في داخله من قوانين ومن أسرار في ما تملكه من طاقات تحرّكها في هذا الاتّجاه"[31]. وبهذا، يرى السيّد(ره) أنّ "منجزات الحضارة المعاصرة كانت نتيجة للجهد الإنساني الذي عانى الإنسان الكثير حتّى استطاع أن يصل به إلى هذه الدَّرجة الكبيرة، وأنّ الإسلام عندما يريد أن يبني الحياة، فإنّه لا بدّ من أن يستفيد من كلّ نتاج الحضارة"[32]، ولكنّه قد لا يوافق على الكثير ممّا يستنتجه الذين يشرفون على الحضارة المعاصرة، من بعض الخطوط النظريَّة التي تتمثّل في طبيعة حركة الإنسان في الحياة في الجانب الأخلاقي أو السياسيّ أو الاجتماعيّ أو ما إلى ذلك، ولكنّه يعود ليضع الإطار المنهجيّ لحركة العلم الإنسانيّ، يحيث يتمّ التعامُل مع "منجزات الحضارة كمفردات علميّة في ما يكتشفه الإنسان من قضايا القوانين الإلهيّة في الكون"[33]، ويساهم الإسلاميّون أو أيٌّ من المنتمين دينيًا، في إغناء تجربة العلم، من خلال جهدهم العلميّ الَّذي يعتمد العقل والتَّجربة معًا.

وإذا كانت الأنسنة قاعدةً للعلم، فمن البديهي أنَّ العلم لا يقبل المذهبة ولا التطييف، حتّى النّصوص الدينية المقدَّسة مفتوحة لكلّ دارس يمتلك أدوات فهمها، وليس لأحد أن يفرض أيّ حُرُم على الحوار العلميّ الموضوعيّ بين مختلف الفئات الدينيّة وغير الدينيّة أيضًا.

سادسًا: الواقع وأنسنة الفكر الدّينيّ

بناءً على ما قدّمناه، يمكن لنا أن نشير إلى أهمّية الواقع في عمليّة أنسنة الفكر الدّيني، لأنّ إحدى أهمّ المشاكل التي يعانيها الخطاب الدّيني، مضمونًا وأسلوبًا، هي القطيعة مع الواقع، ولذلك تغرق مواضيعه في التجريد، ويقع الكثير من أساليبه في عقم التأثير أو محدوديّته.

أحد أهمّ المرتكزات الّتي عمل عليها السيّد فضل الله(ره) في مشروع الأنسنة، هو الواقعيّة، بما تعنيه من فهم عميقٍ للواقع وللمجتمعات وقوانينها، وللعصر وأفكاره واتّجاهاته، وللنفس البشريّة ومؤثّراتها، ولحركة التاريخ والسياسة والاقتصاد وما إلى ذلك؛ ليكون ذلك المادّة الخصبة التي تدفع المفكّر الدّيني نحو تركيز مادّة بحثه انطلاقًا من الواقع؛ بل لفهم النَّصِّ الديني نفسه؛ لأنّ النَّصَّ هو نصٌّ لتوجيه الواقع، وقوّته هي في محاكاته لعمق الخصائص الإنسانيّة غير الخاضعة لخصوصيّات الزمان والمكان.

لقد عمل السيّد فضل الله على إعادة إنتاج بنى الاجتهاد الفكريّ والفقهيّ على قاعدة الأنسنة، فكانت تمظهرات النّصّ في الواقع تمدّه بمعطيات لم تلتفت إليها المناهج التقليديَّة، فكانت الظروف التاريخيَّة للنّصّ جزءًا من بنية الاجتهاد الصحيح، وكان البعد الاجتماعيّ حاضرًا بقوّة في مساحة الفهم كذلك.. لذلك كانت النّتائج المغايرة التي وصل إليها السيد(ره) مستندة إلى بنية اجتهاديَّة مؤصّلة، ووجود البنى يعني تحوّل الفكر إلى مدرسة تستمرّ في عطائها وإبداعها.

ولعلّ من أجرأ ما يطرحه السيّد فضل الله(ره) على مستوى الأنسنة، المقولة الآتية: "إنّ الإسلام جاء من أجل أن يُكرِّم الإنسان، وبهذا نستطيع أن نجعل هذا عنوانًا كبيرًا يحكُم على كلّ الأحكام الإسلاميّة؛ فكُلُّ حكمٍ لا يكرِّم الإنسان في إنسانيّته ليس من الإسلام، وكلُّ حكم ينطلق من قاعدةٍ إسلاميّة اجتهاديّة ويتحرّك في خطّ الكرامة الإنسانيّة، يُمكن أن يكون هو حكم الإسلام"[34].

إنَّ غيبوبة الفكر الدّيني عن واقع الحياة، أوقع الإسلاميّين، أو الدّينيّين عمومًا، في إطلاقاتٍ جعلت تطبيقاتها في الحياة ضدّ الإنسانيّة وضدّ المبادئ، ففي الوقت الذي يرجم المتديّنون الشيطان، يمكن أن يعترفوا بشرعيّة الكثير من نماذجه في الواقع، ويخرّبوا الحياة باسم إعمارها، ويقتلوا أيّ معنًى للحضارة باسم التوحيد!

وممّا يحضُرني في هذا المجال، ما قاله لي ذاتَ مرّة ـ وكنّا في مِنى في سنةِ حجٍّ ـ: "إنّ الذي عندي ربعٌ من الكتب، وثلاثة أرباعٍ تجربةُ حياة".

ولعلّنا نستطيع أن نؤكّد هنا على نقطة، وهي أنّ كثيرًا من المشاكل الناتجة من القراءة المأزومة للنصوص الدّينية، سببُها هذه الانعزاليّة عن الواقع، وعدم امتلاك الأدوات المعرفيّة والنفسية التي تجعل الإنسان يحرّك القيمة، التي هي الروح الإنسانيّة لأيّ نصٍّ، ضمن أدوات الواقع ومفرداته.. ولذلك، بتنا نشهد شيئًا يُشبه الإنسان في الشَّكلِ، لكنَّه ينبئ عن حالة توحُّشٍ موصوف!

وإذا كان الكثيرون من الانعزاليّين ذهبوا إلى التّاريخ ليعيدوا إنتاجه بأدوات الماضي، فهذا يكشف عن مشكلةٍ في فهم البُعد الإنساني للتاريخ. إنّ القرآن يطرح ما يمكن أن نطلق عليه "أنسنة التاريخ"، وذلك استنادًا إلى أنّ وظيفة التاريخ هي إمداد الواقع بتجسّدات القيمة، ثمّ تجريدها من خصوصيّة التاريخ، لتكون الروح الإنسانيّة التي تنفح الحاضر وتعيد صناعة القيمة في مدى الزمن.

عندما يتحوّل التاريخ إلى صنمٍ نعبده من دون الله، وعندما يتحوّل التاريخ إلى مادّة للعصبيّة والقتال والقتل، عند ذاك يكون قد فقد معنى إنسانيّته، وتحوّل بدوره إلى عنصر شللٍ للحاضر ودمارٍ للمستقبل!

وختامًا، يبدو هنا أنّنا لا نستطيع حصر تجليّات الأنسنة في كلّ مفردات النّشاط الإنسانيّ، ونجد أنفسنا أمام صورةٍ متناهيةٍ في البساطة للإسلام وللرّسالات السماويّة، عنوانُها الأنسنة، بدءًا من أصلها العقديّ التّوحيديّ، وصولًا إلى أصغر حكمٍ فقهيّ أو أخلاقيّ.

[كلمة ألقاها في "المؤتمر الفكري الثاني: أنسنة الدين في فكر المرجع الراحل السيد محمد حسين فضل الله(رض)"، بيروت: 23 ذو الحجّة 1436هـ/ الموافق: 6 تشرين الأوّل 2015م].


[1] السيّد محمد حسين فضل الله، حوارات في الفكر والسياسة والاجتماع، إعداد وتنسيق نجيب نور الدين، ط 2، 2001م، دار الملاك، بيروت، لبنان، ص194.

[2] [سورة الأنفال: 24].

[3] فضل الله، المشروع الإسلامي الحضاري، ط1، 1991م، مؤسّسة العارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، ص75، 77 (بتلخيص وتصرّف يسير).

[4] فضل الله، المشروع الإسلامي الحضاري، ص 76.

[5] سورة الأحزاب: 72.

[6] سورة البقرة: 30.

[7] سورة الأعراف: 1.

[8] فضل الله، السيد محمد حسين، تفسير من وحي القرآن، دار الملاك، ط 3، 2007م، ج 1، ص 229.

[9] فضل الله، من وحي القرآن، م. ن.، ص 235.

[10] فضل الله، من وحي القرآن، م. ن.، ج10، ص38.

[11] [سورة الأعراف: 16، 17].

[12] فضل الله، المشروع الحضاري الإسلامي، ص 75، 76 (بتصرّف يسير).

[13] [سورة الحجر: 42].

[14] لعلّ هذا المعنى هو المراد من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}[التوبة: 33]، حيث المقصود من الظهور هو الظهور الحضاري، وليس الظهور العسكري ونحو ذلك.

[15] فضل الله، المشروع الإسلامي الحضاري، ص 77، 78.

[16] فضل الله، حوارات..، م. س، ص 196.

[17] فضل الله، السيد محمد حسين، الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل، ط1، 2009م، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ص 34.

[18] م. ن.، ص 36 (بتصرّف يسير).

[19] فضل الله، حوارات..، م. س.، ص 195.

[20] [سورة البقرة: 38].

[21] [سورة الحج: 40].

[22] [سورة البقرة: 251].

[23] [سورة الحجرات: 13].

[24]  فضل الله، الاجتهاد، م. س.، ص 19.

[25] سورة الأعراف: 199.

[26] [سورة البقرة: 30].

[27] م.ن.، ص 37.

[28] فضل الله، الاجتهاد، م. س.، ص 41.

[29] فضل الله، المشروع الإسلامي الحضاري، ص 91.

[30]  م. ن.، ص 92، 93.

[31]  م. ن.، ص 93.

[32]  م. ن.، ص 94.

[33]  م. ن.، ص95.

[34]  فضل الله، المشروع الإسلامي الحضاري، ص 39. ورد في المصدر: "حكم الإنسان"، والظاهر أنّ الصحيح "حكم الإسلام" ممّا يُفهم من السياق.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية