يتابع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع) كلامه حول جملةٍ من القضايا الّتي حصلت، وكانت لها تداعياتها على الأمَّة، إذ أفرزت الكثير من التَّعقيدات والمتاعب في الواقع الإسلاميّ، ومن ذلك ما جرى في "حرب الجمل".
يقول(ع): "كُنْتُمْ جُنْدَ اَلْمَرْأَةِ، وَأَتْبَاعَ اَلْبَهِيمَةِ، رَغَا فَأَجَبْتُمْ، وَعُقِرَ فَهَرَبْتُمْ. أَخْلاَقُكُمْ دِقَاقٌ، وَعَهْدُكُمْ شِقَاقٌ، وَدِينُكُمْ نِفَاقٌ، وَمَاؤُكُمْ زُعَاقٌ، وَاَلْمُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ، وَاَلشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ، كَأَنِّي بِمَسْجِدِكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ قَدْ بَعَثَ اَللهُ عَلَيْهَا اَلْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهَا وَمِنْ تَحْتِهَا، وَغَرِقَ مَنْ فِي ضِمْنِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ: وَأَيْمُ اَللهِ لَتَغْرَقَنَّ بَلْدَتُكُمْ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَسْجِدِهَا كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ، أَوْ نَعَامَةٍ جَاثِمَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: كَجُؤْجُؤِ طَيْرٍ فِي لُجَّةِ بَحْرٍ".
يشير الإمام(ع) إلى جند عائشة بنت أبي بكر يوم موقعة الجمل، ويذمّ أصحاب الجمل الّذين تخاذلوا عن نصرة الحقّ، وآثروا المطامع، وقدَّموا المصالح على حساب الدّين، فكان مثلهم مثل أتباع البهيمة، لا نطق لهم ولا رأي ولا عقل ولا دين ولا أخلاق، فقد تجمَّعوا لحرب الإمام(ع) مع عائشة وطلحة والزّبير، وأرادوا قتله.
ويلفت الإمام(ع) إلى أمر غرق البصرة مرّتين. قال ابن أبي الحديد: "غرقت البصرة مرّتين؛ مرّةً في أيّام القادر بالله، ومرّةً في أيّام القائم بأمر الله، ولم يبقَ منها إلا المسجد الجامع بارزاً بعضه كجؤجؤ الطير، كما أخبر أمير المؤمنين عليّ(ع)".
يقول طه حسين: "بعد أن ظفر الأمير(ع) بأهل البصرة، سار بهم سيرة الرّجل الكريم الّذي يقدر فيعفو، ويملك فيسجح، وكان يقول: سرت في أهل البصرة سيرة رسول الله(ص) في أهل مكّة... وبعد أن دخل البصرة ـ عليه السّلام ـ عمد إلى بيت المال، فقسّم ما وجد فيه على النّاس... قسّم المال في الغالبين والمغلوبين جميعاً... ولم يفرّق بين شيعته وعدوِّه".
ويتابع الأمير(ع) قوله: "أَرْضُكُمْ قَرِيبَةٌ مِنَ اَلْمَاءِ، بَعِيدَةٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ، خَفَّتْ عُقُولُكُمْ، وَسَفِهَتْ حُلُومُكُمْ، فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلٍ، وَأُكْلَةٌ لِآكِلٍ، وَفَرِيسَةٌ لِصَائِلٍ".
ويكمل الأمير(ع) خطابه بالحديث عن أهل البصرة، الّذين كانوا أوَّل من أعلن الحرب على عليّ(ع) بعد بيعته بالخلافة، فأرضهم قريبة من الشّاطئ وبعيدة عن السّماء، بمعنى بعيدة عن رحمة الله تعالى.
"وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ الإمَاءُ، لَرَدَدْتُهُ، فَإِنَّ في العَدْلِ سَعَةً، وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ العَدْلُ، فَالجَوْرُ عَلَيْهِ أَضيَقُ!".
ويقصد الأمير(ع) هنا المال الّذي أغدقه عثمان بغير وجه حقّ، والأحرى أن يردّه الأمير(ع) إلى أهله من المستحقّين، وأن يقيم العدل في توزيعه بين الرعيّة، وأن يوزّع الحقوق ويضعها في مواضعها، فالعدل والمساواة بين الرعيّة من أفضل وأهمّ ما يكون كعملٍ في سبيل الله ومرضاته.
وأجمع الرّواة وأهل السِّيَر على أنَّ عليّاً كان يدخل بيت المال، ويُقسّم على النّاس ما وجد فيه، حتى الإبرة والخيط وكسرة الخبز، ثم يأمر فيكنس، وينضح الماء، ثم يصلّي فيه ركعتين ويقول: "هكذا يجب أن يكون بيت المال".
هكذا نتعلَّم من الأمير(ع) الصَّبر والمواجهة والعدل والإنصاف حتى مع الأعداء، ونتعلَّم التزام الصدق والأمانة والعدل، فقد ناضل الأمير(ع) واستشهد من أجل إقامة الحقّ والعدل في الحياة، وأمرنا بهما في كلّ مفاصل حياتنا الخاصَّة والعامَّة، إذ لا يمكن لأهل المروءة والدّين والكياسة والعقل إلا أن يكونوا بفطرتهم عاملين واعين يسيرون وفق شريعة الحقّ والعدل، ويسعون إلى إقامتهما على أنفسهم وعلى النّاس.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.