الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله والمرسلين، السلام عليكم أيُّها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاته.
سرّ العطاء
عندما نريد أن ننفذ إلى عمق أية شخصية من شخصياتنا الإسلامية، علينا أن ندرك سرّ هذه الشخصية، ليكون ذلك هو المفتاح الذي نستطيع أن ننفتح من خلاله على أبعاد هذه الشخصية، لندخلها من موقع الوعي لا من موقع التقليد، وهذا هو الذي يجعلنا نشعر بضرورة التعمّق في شخصيَّة الإمام علي(ع)، لندرك السر في كلِّ هذه الحياة المليئة بالعطاء... فقد أعطى عليّ(ع) كلَّ نفسه؛ أعطى من فكره فملأ الحياة فكراً، وأعطى من بطولته فملأ الحياة فتوحات، وأعطى من قوته فارتفع بالضعفاء إلى مواقع القوة، وأعطى من كلِّ حركته في الحياة عندما حكم، فأخرج الحكم العادل الذي لا يهادن ولا يجامل في خطِّ الله تعالى. فمن أين انطلق علي(ع)؟ انطلق من الإسلام المنفتح على الله، لأنّه مستمدٌّ من الله، ولأنّه يتحرك في طريق الله، وقد تلمَّذ علي(ع)، على الإسلام عندما تلمَّذ على القرآن على أساس أنّه كتاب الله، كما تلمَّذ على رسول الله(ص)، فكانت حياته في مدرسة القرآن الكريم وفي مدرسة رسول الله(ص)، ولهذا استطاع(ع) أن يفهمه القرآن كما لم يفهم أحد، وأن يفهمه رسول الله(ص) وسنّته كما لم يفهمها أحد.ولهذا، فإنّ كلمة رسول الله(ص): "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"، لم تكن على أساس القربى أو نتيجةً لحالةٍ عاطفيّة، بل كانت من موقع إظهار آفاق تلميذه الذي تلمَّذ عليه في كلِّ شيء، فكان عليّ(ع) من رسول الله بمنـزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعده. وقد جاء عن عليّ(ع): «علّمني رسول الله ألف بابٍ من العلم ينفتح لي من كلِّ باب ألف باب»، فكان(ع) يعتز بأنه تلميذ رسول الله وتلميذ القرآن الكريم، ولهذا كانت حياته كلّها قرآناً يتحرّك في كلِّ خطوة من خطواته. وكان(ع) يعيش الإسلام بكلّ صفائه ونقائه وحركته وانفتاحه، وكان يواجه الحياة على أساس أنّ الإسلام لم يترك في نفس المسلم أيّ فراغٍ يمكن لشيء آخر أن يملأه، وذلك ما أشار إليه قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}(الأنعام:38).
علم عليّ(ع)
وكان(ع) يعالج في خطبه في نهج البلاغة حركيَّة الساحة في الحرب والسلم، ويعالج كلَّ شيءٍ يُطرَحُ عليه أو يواجهه من موقع الإسلام، لأنّه يعتبر أنّ الله بعث رسوله برسالة الإسلام ليجيب عن كلِّ ما يتعلق بتنظيم حياة الناس وبحركة حياتهم.ولهذا كان(ع) لا يكتفي بأن يبدأ الناس بالتعليم، بل كان يستنهضهم ليسألوا، فكان(ع) يقول لهم: «سلوني قبل أن تفقدوني»، قالها مراراً في مسجد الكوفة، من أجل أن ينفذ إلى عمق تفكير كلِّ شخص ليخرج منه كل علامات الاستفهام، ليقدِّم لهم الجواب عنها. كان(ع) يريد أن يؤكّد للناس أنّهم ليسوا معذورين في أن يبقوا جاهلين أو حائرين وهو بينهم، فكان يقول لهم: «إن هاهنا لعلماً جماً لو وجدت له حملة»، كان يشعر بمسؤولية أن لا يبقى المجتمع الذي يعيش فيه جاهلاً يبحث عن العلم، أو حائراً يبحث عن الهدى، أو ضالاً يبحث عن الطَّريق، بل كان يرى أنّ من واجبه أن ينفذ إلى كل فرد ليحقّق له شيئاً ويرتفع بمستواه بحسب ما يستطيع. ومن هنا نفهم أنّه لا يمكن لأيِّ عالم أن يكون حيادياً أمام قضايا الجهل والتخلّف، بل لا بدّ لكلِّ عالم، في أيّ موقع من مواقع العلم الذي يرتبط بحياة الناس، من أن يعرِّفهم إيّاه، وعلي(ع) كان يرى أنّ من واجب العلماء أن يلاحقوا النَّاس حتى يفرضوا عليهم العلم، ويفتحوا قلوبهم على العلم، لأنه ليس لأيّ مثقف أو صاحب خبرة الحرية في أن يجلس في بيته ويقول لا شغل لي ولا مسؤولية، لأنَّ علياً(ع) يفهم من موقع الإسلام، أنّ علم الإنسان ليس ملكه، وأن خبرته ليست ملكه، كما إن قوته ليست ملكه، فعلم الإنسان هو أمانة الله عنده للآخرين، وخبرته وكل طاقاته له وللآخرين.وقد جاء في الحديث: "ما أخذ على أهل الجهل أن يتعلَّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلِّموا"، إذا سألك الناس فأجبهم، وإذا لم يسألك فابتدئهم، وإذا لم يأتوا فاذهب أنت إليهم وحاول أن تُهيّىء لهم الجو لكي يتعلّموا. لهذا لا يمكن أن نحلّ مشكلة العلم ومشكلة الهدى في حياة الناس إذا جلس كل واحدٍ منّا في بيته. ولم يتصدَّى لمسؤولية تعليم الناس وحلّ مشاكلهم. وعلي(ع) كان يفكّر بهذه الطريقة من أجل أن يتحمّل كلّ إنسان مسؤوليته في الحياة.
الإسلام سرّ علي(ع)
فسرُّ شخصيّة علي(ع) هو الإسلام، فهو لم يتحرّك إلاّ من خلال الإسلام، وعندما كان يريد أن يؤكّد الإسلام في نفوس الناس، كان يفتح قلوبهم على الله تعالى، وعلى محبّة الله والخوف منه والابتهال إليه، على أساس أن يكون لله حضورٌ في فكرهم وحسّهم وشعورهم وضميرهم، ليشعروا بحضور الله في كلّ حياتهم. كان يؤكّد هذا المعنى في كلِّ مجال يتحرّك فيه، وعندما كان يخاطب الناس، كان يذكّرهم بالله قبل أن يذكِّرهم بمشاكلهم في الحياة وبحلولها، كان عندما يخطب بجنوده في الحرب، يذكّرهم بالله قبل أن ينفتحوا على الحرب، حتى ينطلقوا إليها من موقع إحساسهم بالمسؤولية أمام الله، كي لا يظلموا الناس في فيها.ويروى عنه(ع)، أنّه عندما سمع قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشام، اندفع إليهم والمعركة محتدمة، وأراد أن يخطّ لهم الخطَّ الّذي يربطهم بالآفاق الروحية التي لا تتحرك من مواقع الحرب، بل من مواقع الرسالة، فقال لهم: «إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: ربّنا احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به».فهو لم يكن يريد أن يثير الحقد في نفوس الذين يقاتلون ليقوِّي الحقد موقفهم، بل كان يريد أن يقوِّي الإيمان موقفهم، حتى يحاربوا من موقع الوعي لحركة السَّاحة في الحرب، لا من موقع الحقد الأعمى الذي يحاول أن ينطلق بعيداً عن كلِّ رؤية واضحة. وعندما كان(ع) يتحدَّث عن الظلم، كان لا يتحدَّث عنه كما نتحدّث عنه نحن، كشعارٍ سياسيٍّ ننسى فيه الله، وننسى فيه كلَّ شيء، بل كان ينفذ إلى كلِّ مظاهر الظلم في الحياة، لكي يعلِّم النّاس أن يرتدعوا عن الظلم من خلال وعيهم لمسؤوليَّتهم أمام الله، حتى لا تكون مسألة رفض الظلم مجرَّد قرار سياسيّ يفرضه الحزب الّذي ينتمي إليه الإنسان أو المنظّمة أو الزّعيم، بل ليكون الرّفض منطلقاً من وعيه وخوفه من الله، تماماً كما يرفض القيام بأيّ معصية عندما تُهيَّأ له الأجواء لارتكابها، لأنه عندما يفكر في الله، فإنّ تفكيره فيه يردُّه ويمنعه عن الظلم، وهكذا لا تكون مسألة محاربة الظلم مجرد قرار تنظيمي، حتى إذا جاء قرار تنظيمي آخر يريد لك أن تدعم الظلم وأن تعاونه، اعتبرت نفسك مسؤولاً عن تنفيذ القرار ونسيت مسؤوليَّتك أمام الله.
عليّ(ع) والعدل
وكان علي(ع) يقول: "الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يُطلب، فأمّا الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله. قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}(النساء:48)، وأمّا الظلم الذي يغفر، فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، وأمّا الظلم الذي لا يترك، فظلم العباد بعضهم بعضاً".ثمّ يقول(ع): "القصاص هناك شديد، ليس جرحاً بالمدى، ولا ضرباً بالسياط، ولكنه ما يستصغر ذلك معه". وقد تحدّث عن القصاص في يوم القيامة، بأنه ليس جرحاً بالسكاكين، ولا ضرباً بالسياط، ولكنّه ما يستصغر ذلك معه، ليعمِّق هذه الصورة في نفس الإنسان الّذي تدعوه نفسه إلى الظلم، ليفكِّر قبل أن يظلم الآخرين: هل يستطيع أن يتحمَّل القصاص في يوم القيامة أو لا يستطيع؟من هنا تنطلق قضية العلاقة بين المعنى الروحي والحركي للإسلام، في انفتاح الإنسان على الله من موقع محبته له وخوفه منه، وبين الحركة السياسية في واقعه، أما الخلل الذي يحصل في أيّة ساحة إسلامية ممّن يسمَّون بالمسلمين، فسببه الفصل بين الجانب الرّوحيّ للإسلام والجانب السياسيّ له، لأنّه عندما يفصل بين الجانبين فسيكون هناك انحراف. لذلك عندما تريد أن تتحرّك في أيّ مشروع سياسي، فكر في صفتك مسلماً يملك فكراً يحدِّد له الخطوط، وشريعةً تحدِّد له المواقف، وآخرة في وعيه تحدِّد له الجزاء، لا أن يحكمك المشروع السياسي الذي تنتمي إليه، أو تحكمك القضايا الطارئة، لتكون مثل الإنسان الذي ليست له مصلحة محددة؛ اليوم يبيع خبزاً، وغداً يبيع خمراً، وبعد غد يبيع قمحاً، لأنه ليس له شيء.
التزام الإسلام منهجاً وشريعةً
إنّ علينا أن نفكر ما هي النظرة الإسلامية من موقع الفكر الإسلامي والشريعة الإسلامية، لا من موقع العقدة الطائفية الإسلامية، فهناك فرق بين أن نعيش الإسلام طائفةً وبين أن نعيشه خطاً وشريعةً {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ـ في كلِّ ما اختلفوا فيه، في شؤون الحرب والسلم والسياسة والاجتماع، وما إلى ذلك ـ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(النساء:65).من هذا الموقع كنّا نقول، إنّ علينا أن ننطلق من الإسلام لنواجه كل الجوّ الطائفي الذي طوّقه، حتّى يترك الإسلام في الهواء الطلق؛ فمن الإسلام نتحرّك سياسياً، ونفكّر اقتصادياً واجتماعياً، ومن الإسلام نتحدّث عن التعايش في المجتمع المتنوّع، وعن الحوار في المجتمع الذي تختلف فيه الأفكار، وعن الإسلام الفكر والشريعة والمنهج، لأنّ الإسلام الطائفي والنصرانية الطائفية هي سرّ مشكلة كل هذا الحقد الذي يعيشه الناس في لبنان وغيره، فالإسلام الفكر والشريعة والمنهج، يقول لأهل الكتاب: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} (آل عمران:64).أيّها الأحبة، علينا أن نكون حاسمين أمام القضايا الكبرى، واقعيين أمام القضايا الصغيرة، من أجل أن نواجه الموقف بطريقة مسؤولة حاسمة، تنفتح على الله سبحانه وتعالى، وتنفتح على الحياة من خلال الله تعالى، ولا شيء إلاّ الله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن في داخل نفوسنا، وفي حركة حياتنا، منه نبدأ وإليه نعود، وتلك هي قصة المسيرة من البداية إلى النهاية.والحمد لله ربّ العالمين.
نص محاضرة ألقاها العلامة المرجع بمناسبة ولادة الإمام علي(ع) بتاريخ 23-3-1986م.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله والمرسلين، السلام عليكم أيُّها الأخوة المؤمنون والأخوات المؤمنات ورحمة الله وبركاته.
سرّ العطاء
عندما نريد أن ننفذ إلى عمق أية شخصية من شخصياتنا الإسلامية، علينا أن ندرك سرّ هذه الشخصية، ليكون ذلك هو المفتاح الذي نستطيع أن ننفتح من خلاله على أبعاد هذه الشخصية، لندخلها من موقع الوعي لا من موقع التقليد، وهذا هو الذي يجعلنا نشعر بضرورة التعمّق في شخصيَّة الإمام علي(ع)، لندرك السر في كلِّ هذه الحياة المليئة بالعطاء... فقد أعطى عليّ(ع) كلَّ نفسه؛ أعطى من فكره فملأ الحياة فكراً، وأعطى من بطولته فملأ الحياة فتوحات، وأعطى من قوته فارتفع بالضعفاء إلى مواقع القوة، وأعطى من كلِّ حركته في الحياة عندما حكم، فأخرج الحكم العادل الذي لا يهادن ولا يجامل في خطِّ الله تعالى. فمن أين انطلق علي(ع)؟ انطلق من الإسلام المنفتح على الله، لأنّه مستمدٌّ من الله، ولأنّه يتحرك في طريق الله، وقد تلمَّذ علي(ع)، على الإسلام عندما تلمَّذ على القرآن على أساس أنّه كتاب الله، كما تلمَّذ على رسول الله(ص)، فكانت حياته في مدرسة القرآن الكريم وفي مدرسة رسول الله(ص)، ولهذا استطاع(ع) أن يفهمه القرآن كما لم يفهم أحد، وأن يفهمه رسول الله(ص) وسنّته كما لم يفهمها أحد.ولهذا، فإنّ كلمة رسول الله(ص): "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"، لم تكن على أساس القربى أو نتيجةً لحالةٍ عاطفيّة، بل كانت من موقع إظهار آفاق تلميذه الذي تلمَّذ عليه في كلِّ شيء، فكان عليّ(ع) من رسول الله بمنـزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبي بعده. وقد جاء عن عليّ(ع): «علّمني رسول الله ألف بابٍ من العلم ينفتح لي من كلِّ باب ألف باب»، فكان(ع) يعتز بأنه تلميذ رسول الله وتلميذ القرآن الكريم، ولهذا كانت حياته كلّها قرآناً يتحرّك في كلِّ خطوة من خطواته. وكان(ع) يعيش الإسلام بكلّ صفائه ونقائه وحركته وانفتاحه، وكان يواجه الحياة على أساس أنّ الإسلام لم يترك في نفس المسلم أيّ فراغٍ يمكن لشيء آخر أن يملأه، وذلك ما أشار إليه قوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}(الأنعام:38).
علم عليّ(ع)
وكان(ع) يعالج في خطبه في نهج البلاغة حركيَّة الساحة في الحرب والسلم، ويعالج كلَّ شيءٍ يُطرَحُ عليه أو يواجهه من موقع الإسلام، لأنّه يعتبر أنّ الله بعث رسوله برسالة الإسلام ليجيب عن كلِّ ما يتعلق بتنظيم حياة الناس وبحركة حياتهم.ولهذا كان(ع) لا يكتفي بأن يبدأ الناس بالتعليم، بل كان يستنهضهم ليسألوا، فكان(ع) يقول لهم: «سلوني قبل أن تفقدوني»، قالها مراراً في مسجد الكوفة، من أجل أن ينفذ إلى عمق تفكير كلِّ شخص ليخرج منه كل علامات الاستفهام، ليقدِّم لهم الجواب عنها. كان(ع) يريد أن يؤكّد للناس أنّهم ليسوا معذورين في أن يبقوا جاهلين أو حائرين وهو بينهم، فكان يقول لهم: «إن هاهنا لعلماً جماً لو وجدت له حملة»، كان يشعر بمسؤولية أن لا يبقى المجتمع الذي يعيش فيه جاهلاً يبحث عن العلم، أو حائراً يبحث عن الهدى، أو ضالاً يبحث عن الطَّريق، بل كان يرى أنّ من واجبه أن ينفذ إلى كل فرد ليحقّق له شيئاً ويرتفع بمستواه بحسب ما يستطيع. ومن هنا نفهم أنّه لا يمكن لأيِّ عالم أن يكون حيادياً أمام قضايا الجهل والتخلّف، بل لا بدّ لكلِّ عالم، في أيّ موقع من مواقع العلم الذي يرتبط بحياة الناس، من أن يعرِّفهم إيّاه، وعلي(ع) كان يرى أنّ من واجب العلماء أن يلاحقوا النَّاس حتى يفرضوا عليهم العلم، ويفتحوا قلوبهم على العلم، لأنه ليس لأيّ مثقف أو صاحب خبرة الحرية في أن يجلس في بيته ويقول لا شغل لي ولا مسؤولية، لأنَّ علياً(ع) يفهم من موقع الإسلام، أنّ علم الإنسان ليس ملكه، وأن خبرته ليست ملكه، كما إن قوته ليست ملكه، فعلم الإنسان هو أمانة الله عنده للآخرين، وخبرته وكل طاقاته له وللآخرين.وقد جاء في الحديث: "ما أخذ على أهل الجهل أن يتعلَّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلِّموا"، إذا سألك الناس فأجبهم، وإذا لم يسألك فابتدئهم، وإذا لم يأتوا فاذهب أنت إليهم وحاول أن تُهيّىء لهم الجو لكي يتعلّموا. لهذا لا يمكن أن نحلّ مشكلة العلم ومشكلة الهدى في حياة الناس إذا جلس كل واحدٍ منّا في بيته. ولم يتصدَّى لمسؤولية تعليم الناس وحلّ مشاكلهم. وعلي(ع) كان يفكّر بهذه الطريقة من أجل أن يتحمّل كلّ إنسان مسؤوليته في الحياة.
الإسلام سرّ علي(ع)
فسرُّ شخصيّة علي(ع) هو الإسلام، فهو لم يتحرّك إلاّ من خلال الإسلام، وعندما كان يريد أن يؤكّد الإسلام في نفوس الناس، كان يفتح قلوبهم على الله تعالى، وعلى محبّة الله والخوف منه والابتهال إليه، على أساس أن يكون لله حضورٌ في فكرهم وحسّهم وشعورهم وضميرهم، ليشعروا بحضور الله في كلّ حياتهم. كان يؤكّد هذا المعنى في كلِّ مجال يتحرّك فيه، وعندما كان يخاطب الناس، كان يذكّرهم بالله قبل أن يذكِّرهم بمشاكلهم في الحياة وبحلولها، كان عندما يخطب بجنوده في الحرب، يذكّرهم بالله قبل أن ينفتحوا على الحرب، حتى ينطلقوا إليها من موقع إحساسهم بالمسؤولية أمام الله، كي لا يظلموا الناس في فيها.ويروى عنه(ع)، أنّه عندما سمع قوماً من أهل العراق يسبّون أهل الشام، اندفع إليهم والمعركة محتدمة، وأراد أن يخطّ لهم الخطَّ الّذي يربطهم بالآفاق الروحية التي لا تتحرك من مواقع الحرب، بل من مواقع الرسالة، فقال لهم: «إني أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: ربّنا احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به».فهو لم يكن يريد أن يثير الحقد في نفوس الذين يقاتلون ليقوِّي الحقد موقفهم، بل كان يريد أن يقوِّي الإيمان موقفهم، حتى يحاربوا من موقع الوعي لحركة السَّاحة في الحرب، لا من موقع الحقد الأعمى الذي يحاول أن ينطلق بعيداً عن كلِّ رؤية واضحة. وعندما كان(ع) يتحدَّث عن الظلم، كان لا يتحدَّث عنه كما نتحدّث عنه نحن، كشعارٍ سياسيٍّ ننسى فيه الله، وننسى فيه كلَّ شيء، بل كان ينفذ إلى كلِّ مظاهر الظلم في الحياة، لكي يعلِّم النّاس أن يرتدعوا عن الظلم من خلال وعيهم لمسؤوليَّتهم أمام الله، حتى لا تكون مسألة رفض الظلم مجرَّد قرار سياسيّ يفرضه الحزب الّذي ينتمي إليه الإنسان أو المنظّمة أو الزّعيم، بل ليكون الرّفض منطلقاً من وعيه وخوفه من الله، تماماً كما يرفض القيام بأيّ معصية عندما تُهيَّأ له الأجواء لارتكابها، لأنه عندما يفكر في الله، فإنّ تفكيره فيه يردُّه ويمنعه عن الظلم، وهكذا لا تكون مسألة محاربة الظلم مجرد قرار تنظيمي، حتى إذا جاء قرار تنظيمي آخر يريد لك أن تدعم الظلم وأن تعاونه، اعتبرت نفسك مسؤولاً عن تنفيذ القرار ونسيت مسؤوليَّتك أمام الله.
عليّ(ع) والعدل
وكان علي(ع) يقول: "الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يُطلب، فأمّا الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله. قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}(النساء:48)، وأمّا الظلم الذي يغفر، فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، وأمّا الظلم الذي لا يترك، فظلم العباد بعضهم بعضاً".ثمّ يقول(ع): "القصاص هناك شديد، ليس جرحاً بالمدى، ولا ضرباً بالسياط، ولكنه ما يستصغر ذلك معه". وقد تحدّث عن القصاص في يوم القيامة، بأنه ليس جرحاً بالسكاكين، ولا ضرباً بالسياط، ولكنّه ما يستصغر ذلك معه، ليعمِّق هذه الصورة في نفس الإنسان الّذي تدعوه نفسه إلى الظلم، ليفكِّر قبل أن يظلم الآخرين: هل يستطيع أن يتحمَّل القصاص في يوم القيامة أو لا يستطيع؟من هنا تنطلق قضية العلاقة بين المعنى الروحي والحركي للإسلام، في انفتاح الإنسان على الله من موقع محبته له وخوفه منه، وبين الحركة السياسية في واقعه، أما الخلل الذي يحصل في أيّة ساحة إسلامية ممّن يسمَّون بالمسلمين، فسببه الفصل بين الجانب الرّوحيّ للإسلام والجانب السياسيّ له، لأنّه عندما يفصل بين الجانبين فسيكون هناك انحراف. لذلك عندما تريد أن تتحرّك في أيّ مشروع سياسي، فكر في صفتك مسلماً يملك فكراً يحدِّد له الخطوط، وشريعةً تحدِّد له المواقف، وآخرة في وعيه تحدِّد له الجزاء، لا أن يحكمك المشروع السياسي الذي تنتمي إليه، أو تحكمك القضايا الطارئة، لتكون مثل الإنسان الذي ليست له مصلحة محددة؛ اليوم يبيع خبزاً، وغداً يبيع خمراً، وبعد غد يبيع قمحاً، لأنه ليس له شيء.
التزام الإسلام منهجاً وشريعةً
إنّ علينا أن نفكر ما هي النظرة الإسلامية من موقع الفكر الإسلامي والشريعة الإسلامية، لا من موقع العقدة الطائفية الإسلامية، فهناك فرق بين أن نعيش الإسلام طائفةً وبين أن نعيشه خطاً وشريعةً {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ـ في كلِّ ما اختلفوا فيه، في شؤون الحرب والسلم والسياسة والاجتماع، وما إلى ذلك ـ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(النساء:65).من هذا الموقع كنّا نقول، إنّ علينا أن ننطلق من الإسلام لنواجه كل الجوّ الطائفي الذي طوّقه، حتّى يترك الإسلام في الهواء الطلق؛ فمن الإسلام نتحرّك سياسياً، ونفكّر اقتصادياً واجتماعياً، ومن الإسلام نتحدّث عن التعايش في المجتمع المتنوّع، وعن الحوار في المجتمع الذي تختلف فيه الأفكار، وعن الإسلام الفكر والشريعة والمنهج، لأنّ الإسلام الطائفي والنصرانية الطائفية هي سرّ مشكلة كل هذا الحقد الذي يعيشه الناس في لبنان وغيره، فالإسلام الفكر والشريعة والمنهج، يقول لأهل الكتاب: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ} (آل عمران:64).أيّها الأحبة، علينا أن نكون حاسمين أمام القضايا الكبرى، واقعيين أمام القضايا الصغيرة، من أجل أن نواجه الموقف بطريقة مسؤولة حاسمة، تنفتح على الله سبحانه وتعالى، وتنفتح على الحياة من خلال الله تعالى، ولا شيء إلاّ الله، هو الأول والآخر، والظاهر والباطن في داخل نفوسنا، وفي حركة حياتنا، منه نبدأ وإليه نعود، وتلك هي قصة المسيرة من البداية إلى النهاية.والحمد لله ربّ العالمين.
نص محاضرة ألقاها العلامة المرجع بمناسبة ولادة الإمام علي(ع) بتاريخ 23-3-1986م.