واقع المسلمين في كلام الإمام عليّ(ع)

واقع المسلمين في كلام الإمام عليّ(ع)

لا نزال مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، وهو يخاطب أصحابه ليضيء لهم الطريق، وهو إذ يخاطب أصحابه في عصره، فإنَّه يخاطبهم بالمبادئ العامّة الّتي تتحرّك من خلال القاعدة الإسلاميَّة مع الأجيال، لأنَّ عليّاً هو إمام المسلمين، لذلك، فإنَّه لا يُختصر بجيل دون جيل، كما أنه حين ينقد مجتمعه، فإنّه ينقده من خلال الخطوط الإسلاميَّة العامّة التي يمكن أن تتحرّك بالنقد المنطلق منها في كلِّ جيل من الأجيال.

عليّ(ع) الحاضر أبداً

وعندما نقرأ عليّاً(ع)، فنحن لا نقرأ التاريخ لنتحدّث عن الجمهور الّذي كان في عصره، بل نقرأ الواقع، لأنَّ التّعقيدات الّتي كانت في عصره، والّتي واجهته، هي نفسها التّعقيدات الّتي نواجهها في عصرنا الآن، ولذلك، علينا أن نقرأ نصّ الإمام عليّ(ع)، كما لو أنّه كان حاضراً بيننا ويخاطبنا، كما كان يخاطب أولئك.

يقول الإمام عليّ(ع): "ألا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطّاعة"، وهو يشير إلى الانحراف والتمرّد الّذي كان المسلمون في عهده يأخذون به، فلا يلتزمون الإسلام في صفائه ونقائه، بل يتحركون انطلاقاً من الأوضاع المعقَّدة التي كانت تحكم ذلك المجتمع، وتسيطر على علاقاته وانتماءاته.. "ألا وإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطّاعة"، فتركتموه، "وثلمتم حصن اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهليّة"، ويقصد من كلمة (حصن اللّه) الإسلام، فإنَّ اللّه سبحانه وتعالى جعل الإسلام حصناً للناس، يتحركون في داخله ليحميهم من كلّ التيّارات المضادَّة التي يمكن أن تنفذ إلى المجتمع لتمزّق وحدته، وتُسقِط قيمه ومواقعها، لأنَّ قيمة الحصن هو هذا التّماسك بين أجزائه، بحيث لا يكون فيه أية ثغرة، ولا يكون فيه أيّ خلل يمكن أن ينفذ منه الأعداء، ولكن عندما أخذ القوم بأحكام الجاهليَّة في عصبيّاتهم وفي تحركاتهم على أساس أهوائهم، أو نتيجة لإيقاع المستكبرين بهم، وابتعادهم عن خطّ الاعتصام بحبل اللّه، فإنهم ثلموا هذا الحصن، وأحدثوا فيه ثغرةً دخلت إليه بعض الجاهلية على مستوى المجتمع، حيث يشير الإمام(ع)، كما سيأتي، إلى حالة التمزّق والتمرد وعدم التّوازن والاستقامة في خطّ الإسلام، بدل أن يجعله المسلمون القاعدة التي ينطلقون منها ويرتكزون عليها، "فإنَّ اللّه سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الأمّة فيما عقد بينهم من حبل الألفة التي ينتقلون في ظلّها، ويأوون إلى كنفها، بنعمةٍ لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة، لأنّها أرجح من كلّ ثمن" يدفع، "وأجلّ من كلّ خطر" كبير.

وفي هذا، إشارة إلى هذه النّعمة الإلهيّة، في تحوّل تلك المجتمعات الّتي كانت تتحرك في خطّ العداوة والبغضاء، إلى التحرّك في خطّ المحبّة والصّداقة والألفة. وهذا ما عبّر عنه سبحانه وتعالى بقوله: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[1]، وقد حدّث اللّه سبحانه وتعالى مخاطباً رسوله(ص): {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[2]، يعني أنه منحهم هذه النعمة بلطفه ورحمته.

الحديث عن واقع الأمَّة

ثمَّ بدأ الإمام(ع) يتحدَّث عن واقع الأمّة الذي وصلت إليه بقوله(ع): "واعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعراباً". وهنا، لا بدَّ من أن نتوقّف عند هذه الكلمة، وهي علاقة الهجرة بواقع الأعراب، فهذه المسألة، وبحسب ما يُستفاد من الآيات الكريمة، هي أنَّ النبيَّ(ص) بعد الهجرة إلى المدينة، دعا كلّ من آمن به إلى أن يهاجروا معه، وأن يخرجوا من مجتمع الكفر والشّرك إلى مجتمع الإسلام، معتبراً أن لا ولاية بين الّذين آمنوا ولم يهاجروا، والمسلمين، لأنَّ النبيّ(ص) كان يريد إنشاء المجتمع الرّسالي المثقَّف بثقافة الإسلام، لأنَّ ظروفه(ص) في مكّة كانت قاسية، بحيث لم يستطع معها أن يقوم بتنفيذ خطته بتثقيف المسلمين المؤمنين الذين دخلوا الإسلام، لأنَّ قريشاً لم تترك للنبيّ(ص) الفرصة الواسعة للتبليغ ولتلاوة القرآن، فقد كانوا يمنعون الناس من الاجتماع إليه ليستمعوا إليه ويتثقفوا، وكانوا إذا رأوا أناساً يجتمعون حول النبي(ص) وهو يقرأ عليهم القرآن، يقولون: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ}[3]، يعني أثيروا الضجيج والضوضاء، حتى لا يسمع أحد النبيّ(ص).

وهكذا، عرفنا كيف اضطُهِدَ المسلمون في مكّة، ولماذا هاجروا إلى الحبشة، لأنّه لم يكن هناك أيَّة فرصة للنبيّ(ص) ليصنع مجتمعاً مثقّفاً بالفكر الإسلامي وبأحكام القرآن وما إلى ذلك.. فالنبيّ(ص) كان يريد تأسيس المجتمع الرّساليّ المسلم الّذي يحمل الرّسالة من موقع علمٍ وعقلٍ وفكر، فلا يكتفي بأن يدخل الإنسان في الإسلام، ويمارس بعض عباداته، بل كان(ص) يريد أن يصنع دعاةً للإسلام، وأن يصنع قيادات رساليّة إسلاميّة، ولذلك، لم يرد للمسلمين الذين آمنوا به في مكّة أن يبقوا هناك، لأنهم ـ عندئذٍ ـ ينفصلون عن قاعدة الرّسالة، ولا يملكون أية فرصة لزيادة إيمانهم وتثبيت إسلامهم ومعرفتهم بالإسلام، بل يبقون تحت رحمة المشركين، وربما يتراجع إسلامهم بفعل انقطاع المدد الثقافي عنهم، وبفعل ابتعادهم عن الأجواء الروحية التي يمكن أن يعيشوها لو كانوا في المدينة مع النبي(ص). ولذلك، حذّر النبيّ(ص) الّذين آمنوا ولم يهاجروا، بأن ليس هناك من ولاية بينهم وبين المسلمين الّذين هاجروا. ولذلك، فإنَّ الهجرة لا تُمثِّل مجرَّد انتقالٍ من مكّة إلى المدينة، بل كانت تُمثِّل رحلةً إلى الموقع الإسلاميّ، تمنح المسلم نمّواً في عقليّته، وحركةً في عقله، وانفتاحاً في سلوكه وعلاقاته، ليكون الإنسان الذي يمكن أن يحمل الدّعوة الإسلاميّة.

وقد أكّد الإسلام بعد ذلك أنّ على المسلمين الأخذ بأسباب العلم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[4]، {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}[5]، حتى إنّه عندما تحدّث عن المشركين، فقد تحدّث عنهم بصفة كونهم لا يعلمون: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}[6]. لذلك، فإنَّ الهجرة تتحرَّك في إطار اجتماع المسلمين حول الرّسول(ص)، ليستمعوا إليه في خطابه ومواعظه وهو يتلو عليهم القرآن: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}[7]، وكانوا يلتفّون حوله ليسألوه عن كلّ ما يسمعونه هنا وهناك من شبهات، وعن كلّ ما يدور في أذهانهم من علامات الاستفهام حول أيّة قضيّة. ولذلك، نشأ في المسلمين من أصحاب النبيّ(ص) مَنْ أخذ بأسباب علم القرآن والإسلام، وأصبح هناك حفظة للقرآن قرّاء له، حتى قيل إنّه في حرب (اليمامة)، قتل 70 من هؤلاء القرّاء، وقد اختصّ النبيّ(ص) بتهيئة الإمام عليّ(ع) للقيادة المميّزة بما لم يختص به أحداً من المسلمين، ولذلك، قال(ع) وهو يصف هذا الاختصاص: "علّمني رسول اللّه(ص) ألف باب من العلم، فتح لي كلّ باب ألف باب"[8]. وقد روي عن النبيّ(ص) قوله: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"[9]، لأنَّه هيّأ عليّاً(ع) للقيادة الثقافية والسياسية والروحية والإدارية، باعتبار أنّ دوره يفرض ذلك كلّه.

إذاً، فالأعرابي، بحسب المصطلح، هو ذاك الذي لم يتفقّه في الدّين، وهو الذي لم يتعلّم أحكام الإسلام، بل بقي على معلومات بسيطة سطحيَّة لا تغني الإنسان أو تدفعه لكي يفكّر ويدعو وما إلى ذلك. وقد ورد الحديث عن الأعراب في القرآن: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[10]، باعتبار أنَّ هذه الفئة لا تعرف حدوده، لأنها لم تتعلَّم، ولم تهاجر لتعرف حدود اللّه، لذلك، دخلت في خطّ النفاق، وربما اقتربت من خطّ الكفر. وقد تحدّث القرآن الكريم في موضع آخر عن الأعراب الذين كانوا يتحركون في الجانب السلبي حول المدينة: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ}[11]. وقد نزلت الآية في قبائل أسلم وأشجع وجهينة. ولكن القرآن الكريم لا يتحدّث عن الأعراب بشكل مطلق في الجانب السلبي هذا، لأنه يتحدّث عن مجموعة أخرى من الأعراب أخذوا بطريقتهم الخاصّة وبوسائلهم الخاصّة الأسباب التي تعطيهم عمق الإيمان، {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[12].

وفي هذه المسألة، يشير الإمام عليّ(ع) بقوله مخاطباً المسلمين: "أصبحتم بعد الهجرة أعراباً"، كأنّه يقول لهم إنكم كنتم في عهد الرسول(ص) بمثابة المهاجرين، لأنكم تفقّهتم بالقرآن فيما جاء عن النبيّ(ص) وعشتم تلك الأجواء، ولكنّكم انفصلتم ـ بعد ذلك ـ عنها، عندما ابتعد الزّمن بينكم وبين النبيّ(ص)، وبدأتم تتركون الأخذ بأسباب الروحانيّة، وتحوّلتم إلى جماعة من الناس لا تفقه في دينها شيئاً، لأنها انفصلت عن أسباب العلم، ولم تلتزم الخطوط المستقيمة في الدين وما إلى ذلك، وخصوصاً من خلال هذه التعقيدات والمنازعات والخلافات والمؤامرات التي كانت تحدث بين المسلمين نتيجة المتغيّرات التي حصلت في مجتمعهم حينذاك.

ونحن عندما ندرس واقع المسلمين الآن، فإنّنا نجد أنَّ الخطاب الذي وجَّهه الإمام عليّ(ع) إلى من كان في عهده، يمكن أن يُوجّه إلى كثير من المسلمين اليوم، لأنَّهم لم يأخذوا بأسباب الثقافة الإسلاميّة، فنجد أن الثقافة الإسلامية مقتصرة على فريق من الناس، وهذا الفريق نفسه ربما يختلف بمستواه الثقافي، بين من يأخذ من الثقافة ما يقوم على أساس التراث، من دون الانفتاح على التطوّرات المعاصرة في أساليبها وفي وسائلها، ومن يأخذ بالتراث وبما استجدّ.

ولعلَّ معظم المسلمين في شغل عن إسلامهم، ولهذا، رأيناهم يتبعون خطوات الكفر، ويأخذون بعناوينه، وينتمون إلى مواقفه، باعتبار أنهم لا يفهمون حدود المفاهيم الإسلاميّة بالدقّة المطلوبة.

وفي ضوء هذا، فقد يأخذون بعض مفاهيم الكفر بما يُخيَّل إليهم فيه أنها من الإسلام. بهذا، نجد كيف نفذ الكثير من المفاهيم الغربيّة إلى وجدان المسلمين، باعتبار أنهم لم يعرفوا الفواصل بين ما هو إسلاميّ بقواعده ومفاهيمه، وما هو الكفر بقواعده ومفاهيمه. وهكذا، رأينا أنَّ جهل المسلمين بإسلامهم، تطوَّر إلى ابتعاد المسلمين عن الإسلام، فلا نجد هناك ثقافة إسلاميّة واسعة عند أكثريّة المسلمين في العالم.

ولذا، فإنَّ ما تحدّث عنه الإمام عليّ(ع) في عصره، لعلّه ينطبق على كثير من المسلمين في هذا العصر، وأودُّ أن أنبّه إلى نقطة أُخذت عنواناً في الأحكام الشرعيّة الإسلاميّة، وهي مسألة التعرّب بعد الهجرة، وهي من الأمور المحرّمة شرعاً. والمقصود من التعرّب بعد الهجرة، هو أن يسافر الإنسان المسلم من غير حاجة ومن غير ضرورة من بلاد الإسلام، حيث يعيش أجواء الإسلام ومناخه وأهدافه ووسائله، إلى بلاد الكفر، حيث لا تتوافر لديه الأجواء الإسلامية، ولا تتوافر لديه أسباب الثقافة الإسلامية وما إلى ذلك، فيفقد الإنسان إيمانه تدريجياً بنسبة معينة، وحسب اختلاف ظروفه، وهو إنْ ملك نفسه، فإنه سيفقد أولاده الذين يدرسون في مدارس الكفر وأجوائه، بل إنَّه لا يملك أن يربح أولاده أو يؤثّر فيهم؛ ففي هذه الحالة، فإنَّ الهجرة إلى بلاد الغرب، قد تعتبر في كثير من الحالات من التعرّب بعد الهجرة، ولكن يمكن، كما كنّا نقول للمغتربين عن بلادهم، وخصوصاً {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}[13]، أو الذين اضطهدوا هنا وهناك، إنَّ من الواجب أن تفتحوا مدارس إسلاميّة، وتعملوا على إيجاد المراكز الإسلاميّة الثقافيّة والعباديّة وما إلى ذلك، لأنَّ هذا هو الشرط الموضوعيّ لأجل حلّية بقائكم هناك، بالنّسبة إليكم وبالنّسبة إلى أولادكم، فنحن نطمع الآن بأن نحوِّل بلاد الغرب إلى بلاد إسلاميّة، ولا يكفي أن يتواجد فيها المسلمون من دون الإسلام لمجرّد انتمائهم إلى الإسلام، بل أن يكوِّنوا مجتمعاً إسلاميّاً، وأن يعملوا على أساس تقوية المواقع الإسلاميّة ودعوة الآخرين إلى الإسلام.

من الوحدة إلى التمزّق

"وبعد الموالاة أحزاباً"، والنقطة الثانية التي يركِّز عليها الإمام عليّ(ع)، هي التحزّب بعد الوحدة، فالموالاة كناية عن المجتمع الّذي يوالي بعضه بعضاً، كما في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ}[14]. فالعلاقة الإسلاميّة هي علاقة ولاية بين المسلمين، إذ كلُّ مؤمن أو مؤمنة، ومسلم أو مسلمة، يعملون على أساس الموالاة للمسلمين الآخرين، لأنَّهم يشعرون بأنهم أمّة واحدة، وبأنهم يمثّلون خطّاً واحداً، ويتحركون نحو هدف واحد، ويعيشون مسؤوليّة واحدة، وهي أن تكون كلمة اللّه هي العليا، وأن تكون كلمة الشيطان هي السُّفلى، فهذا هو الذي أراده اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}[15]، وهذه هي المسألة الإسلاميّة الّتي أكدَّها النبيّ(ص) بقوله: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحُمّى"[16]، وهكذا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[17].

فالموالاة تمثِّل حالة المودّة والوحدة بين المسلمين، والرّحمة التي تقتضي التعاون، وتفرض الإحساس الواحد، لأنهم أمّة واحدة، وليسوا فِرَقاً متناثرة، وحتى لو اختلفوا في بعض الأمور والاجتهادات، فإنَّ ذلك لا يمنع وحدتهم على الأسس الّتي يلتقون عليها، ولكنّهم تحوّلوا إلى أحزاب وفرق متباعدة ومتناثرة، وكلّ منهم يفكّر في دائرته الخاصّة، بعيداً عن الدائرة الأخرى، وربما يكفِّر بعض المسلمين بعضاً، وربما يحارب بعضهم بعضاً على أساس العصبيّات المذهبيّة والطائفيّة السياسيّة وما إلى ذلك، ما جعل المسلمين يتوزَّعون فرقاً فرقاً، بحيث لا تجمع بينهم كلمة اللّه، لتتحوّل بهم إلى عمقٍ في الواقع وفي العلاقات. ولذلك، فقد ركّز الإسلام على سلبيّة هذه الحزبيّة التي كانت موجودة في الجاهليّة، بقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[18]، يعني بها الحزبيّة القائمة على العصبيّة الّتي تتحرك من خلال انفصال المجتمع عن بعضه البعض، بحيث يتحوّل المجتمع الواحد الذي يملك انتماءً واحداً وعنواناً واحداً إلى مجتمعات متعدّدة، كلّ منها يستغرق بذاته، وكما قال الشّاعر:

وتفرَّقوا شيعاً فكلّ قبيلة             فيها أمير المؤمنين ومنبرُ

بحيث أصبحت القيادات متعدّدة، بدلاً من القيادة الواحدة الموحّدة، مع أنّه لا مانع في الإسلام من أن تكون هناك عدة تنظيمات قد تختلف في بعض الوسائل والأساليب، ولكن لا بدَّ من أن يكون هناك اتفاق على القاعدة التي ينطلقون منها، بحيث لا يختلفون على الإسلام، بل يتحاورون فيما بينهم، وإذا تنازعوا في شيء، فإنهم يردّونه إلى اللّه والرسول.

ولذلك، فالحزبيّة هنا تعني العصبيّة والاستغراق في الذّات أو العشيرة أو الطائفة، وما إلى ذلك مما يفصل المسلمين بعضهم عن بعض، ويعتبر كلاً منهم غريباً عن الآخر، وهذا ما لاحظناه عند تقسيم البلاد الإسلاميّة إلى أقطار متعدّدة من قبل الاستعمار، فقد جعل لكلّ قطر من هذه الأقطار كياناً منفصلاً عن الأقطار الإسلاميّة الأخرى، بحيث إنَّه يعتبر المسلم في هذا البلد الّذي لا يحمل جنسيّة هذا البلد غريباً عنه، لأنّه من جنسيّة أخرى، وإن كانوا يلتقون في الإسلام، وهذا ما أوجب تحوّل المسلمين إلى مجتمعات متعدّدة متناحرة متشتّتة، تتحرك على أساس ذاتيّتها، ولا تتحرك على أساس إسلاميَّتها.

فلذلك، نرى ظاهرة الحزبيّة في بلادنا، ولا سيَّما الأحزاب الإسلاميّة الّتي تتعدَّد في مواقعها، كلّ واحد منها عنوانه الإسلام، ومع ذلك، فإنّهم لا يلتقون على أساس الوحدة الإسلامية، بل كل واحد منهم يعتبر نفسه أنه يمثّل الإسلام دون الآخرين، لذلك، لو اطَّلع كل واحد منهم على عمق ذاته، لرأى أنَّ القضية ليست في الإسلام هنا والإسلام هناك، ولكنَّ الغالب أن تكون القضيّة هي زعامة هنا وزعامة هناك، وخلفيّات هنا وهناك. لذلك، نريد للأحزاب الإسلاميّة في العالم الإسلاميّ كلّه أن تلتقي على الإسلام، وإنْ اختلفت في بعض الخطوط أو التّشريعات الإسلاميّة، فإنّ عليها التحاور فيما بينها، كما أراد اللّه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}[19].

ويمضي الإمام عليّ(ع) في حديثه، فيقول: "ما تَتَعَلّقُون من الإسلام إلا باسمه"[20]، يعني تحملون الانتماء الإسلاميّ مجرَّد عنوان، ومجرَّد شيء له عنوان، ولكنّه ليس شيئاً في العمق، فتعرفون الصّلاة كباقي الطّقوس، أمّا الإيمان في عمقه العقائديّ والشّرعيّ والمفاهيميّ وما إلى ذلك، فإنّكم لا تعرفونه. وهذا هو الواقع الّذي صوَّره الإمام عليّ(ع) في عصره، وكما قلنا، فإننا نستطيع القول إنَّ عصرنا الحاليّ يعاني ذلك المرض...

ويبقى للكلام بقيّة في هذا الاتجاه في الأسبوع القادم...

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  (آل عمران: 103).

[2]  (الأنفال: 63).

[3]  (فصلت: 26).

[4]  (الزمر: 9).

[5]  (طه: 114).

[6]  (البقرة: 118).

[7]  (آل عمران: 164).

[8]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 22، ص 470.

[9]  المصدر نفسه، ج 28، ص 201.

[10]  (التوبة: 97).

[11]  (التوبة: 101).

[12]  (التوبة: 99).

[13]  (الحج: 40).

[14]  (التوبة: 71).

[15]  (آل عمران: 103).

[16]  ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 4، ص 2837.

[17]  (الحجرات: 10).

[18]  (المؤمنون: 53).

[19]  (النساء: 59).

[20]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 154.


لا نزال مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، وهو يخاطب أصحابه ليضيء لهم الطريق، وهو إذ يخاطب أصحابه في عصره، فإنَّه يخاطبهم بالمبادئ العامّة الّتي تتحرّك من خلال القاعدة الإسلاميَّة مع الأجيال، لأنَّ عليّاً هو إمام المسلمين، لذلك، فإنَّه لا يُختصر بجيل دون جيل، كما أنه حين ينقد مجتمعه، فإنّه ينقده من خلال الخطوط الإسلاميَّة العامّة التي يمكن أن تتحرّك بالنقد المنطلق منها في كلِّ جيل من الأجيال.

عليّ(ع) الحاضر أبداً

وعندما نقرأ عليّاً(ع)، فنحن لا نقرأ التاريخ لنتحدّث عن الجمهور الّذي كان في عصره، بل نقرأ الواقع، لأنَّ التّعقيدات الّتي كانت في عصره، والّتي واجهته، هي نفسها التّعقيدات الّتي نواجهها في عصرنا الآن، ولذلك، علينا أن نقرأ نصّ الإمام عليّ(ع)، كما لو أنّه كان حاضراً بيننا ويخاطبنا، كما كان يخاطب أولئك.

يقول الإمام عليّ(ع): "ألا وإنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطّاعة"، وهو يشير إلى الانحراف والتمرّد الّذي كان المسلمون في عهده يأخذون به، فلا يلتزمون الإسلام في صفائه ونقائه، بل يتحركون انطلاقاً من الأوضاع المعقَّدة التي كانت تحكم ذلك المجتمع، وتسيطر على علاقاته وانتماءاته.. "ألا وإنكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطّاعة"، فتركتموه، "وثلمتم حصن اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهليّة"، ويقصد من كلمة (حصن اللّه) الإسلام، فإنَّ اللّه سبحانه وتعالى جعل الإسلام حصناً للناس، يتحركون في داخله ليحميهم من كلّ التيّارات المضادَّة التي يمكن أن تنفذ إلى المجتمع لتمزّق وحدته، وتُسقِط قيمه ومواقعها، لأنَّ قيمة الحصن هو هذا التّماسك بين أجزائه، بحيث لا يكون فيه أية ثغرة، ولا يكون فيه أيّ خلل يمكن أن ينفذ منه الأعداء، ولكن عندما أخذ القوم بأحكام الجاهليَّة في عصبيّاتهم وفي تحركاتهم على أساس أهوائهم، أو نتيجة لإيقاع المستكبرين بهم، وابتعادهم عن خطّ الاعتصام بحبل اللّه، فإنهم ثلموا هذا الحصن، وأحدثوا فيه ثغرةً دخلت إليه بعض الجاهلية على مستوى المجتمع، حيث يشير الإمام(ع)، كما سيأتي، إلى حالة التمزّق والتمرد وعدم التّوازن والاستقامة في خطّ الإسلام، بدل أن يجعله المسلمون القاعدة التي ينطلقون منها ويرتكزون عليها، "فإنَّ اللّه سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الأمّة فيما عقد بينهم من حبل الألفة التي ينتقلون في ظلّها، ويأوون إلى كنفها، بنعمةٍ لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة، لأنّها أرجح من كلّ ثمن" يدفع، "وأجلّ من كلّ خطر" كبير.

وفي هذا، إشارة إلى هذه النّعمة الإلهيّة، في تحوّل تلك المجتمعات الّتي كانت تتحرك في خطّ العداوة والبغضاء، إلى التحرّك في خطّ المحبّة والصّداقة والألفة. وهذا ما عبّر عنه سبحانه وتعالى بقوله: {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[1]، وقد حدّث اللّه سبحانه وتعالى مخاطباً رسوله(ص): {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[2]، يعني أنه منحهم هذه النعمة بلطفه ورحمته.

الحديث عن واقع الأمَّة

ثمَّ بدأ الإمام(ع) يتحدَّث عن واقع الأمّة الذي وصلت إليه بقوله(ع): "واعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعراباً". وهنا، لا بدَّ من أن نتوقّف عند هذه الكلمة، وهي علاقة الهجرة بواقع الأعراب، فهذه المسألة، وبحسب ما يُستفاد من الآيات الكريمة، هي أنَّ النبيَّ(ص) بعد الهجرة إلى المدينة، دعا كلّ من آمن به إلى أن يهاجروا معه، وأن يخرجوا من مجتمع الكفر والشّرك إلى مجتمع الإسلام، معتبراً أن لا ولاية بين الّذين آمنوا ولم يهاجروا، والمسلمين، لأنَّ النبيّ(ص) كان يريد إنشاء المجتمع الرّسالي المثقَّف بثقافة الإسلام، لأنَّ ظروفه(ص) في مكّة كانت قاسية، بحيث لم يستطع معها أن يقوم بتنفيذ خطته بتثقيف المسلمين المؤمنين الذين دخلوا الإسلام، لأنَّ قريشاً لم تترك للنبيّ(ص) الفرصة الواسعة للتبليغ ولتلاوة القرآن، فقد كانوا يمنعون الناس من الاجتماع إليه ليستمعوا إليه ويتثقفوا، وكانوا إذا رأوا أناساً يجتمعون حول النبي(ص) وهو يقرأ عليهم القرآن، يقولون: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ}[3]، يعني أثيروا الضجيج والضوضاء، حتى لا يسمع أحد النبيّ(ص).

وهكذا، عرفنا كيف اضطُهِدَ المسلمون في مكّة، ولماذا هاجروا إلى الحبشة، لأنّه لم يكن هناك أيَّة فرصة للنبيّ(ص) ليصنع مجتمعاً مثقّفاً بالفكر الإسلامي وبأحكام القرآن وما إلى ذلك.. فالنبيّ(ص) كان يريد تأسيس المجتمع الرّساليّ المسلم الّذي يحمل الرّسالة من موقع علمٍ وعقلٍ وفكر، فلا يكتفي بأن يدخل الإنسان في الإسلام، ويمارس بعض عباداته، بل كان(ص) يريد أن يصنع دعاةً للإسلام، وأن يصنع قيادات رساليّة إسلاميّة، ولذلك، لم يرد للمسلمين الذين آمنوا به في مكّة أن يبقوا هناك، لأنهم ـ عندئذٍ ـ ينفصلون عن قاعدة الرّسالة، ولا يملكون أية فرصة لزيادة إيمانهم وتثبيت إسلامهم ومعرفتهم بالإسلام، بل يبقون تحت رحمة المشركين، وربما يتراجع إسلامهم بفعل انقطاع المدد الثقافي عنهم، وبفعل ابتعادهم عن الأجواء الروحية التي يمكن أن يعيشوها لو كانوا في المدينة مع النبي(ص). ولذلك، حذّر النبيّ(ص) الّذين آمنوا ولم يهاجروا، بأن ليس هناك من ولاية بينهم وبين المسلمين الّذين هاجروا. ولذلك، فإنَّ الهجرة لا تُمثِّل مجرَّد انتقالٍ من مكّة إلى المدينة، بل كانت تُمثِّل رحلةً إلى الموقع الإسلاميّ، تمنح المسلم نمّواً في عقليّته، وحركةً في عقله، وانفتاحاً في سلوكه وعلاقاته، ليكون الإنسان الذي يمكن أن يحمل الدّعوة الإسلاميّة.

وقد أكّد الإسلام بعد ذلك أنّ على المسلمين الأخذ بأسباب العلم: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}[4]، {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً}[5]، حتى إنّه عندما تحدّث عن المشركين، فقد تحدّث عنهم بصفة كونهم لا يعلمون: {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ}[6]. لذلك، فإنَّ الهجرة تتحرَّك في إطار اجتماع المسلمين حول الرّسول(ص)، ليستمعوا إليه في خطابه ومواعظه وهو يتلو عليهم القرآن: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}[7]، وكانوا يلتفّون حوله ليسألوه عن كلّ ما يسمعونه هنا وهناك من شبهات، وعن كلّ ما يدور في أذهانهم من علامات الاستفهام حول أيّة قضيّة. ولذلك، نشأ في المسلمين من أصحاب النبيّ(ص) مَنْ أخذ بأسباب علم القرآن والإسلام، وأصبح هناك حفظة للقرآن قرّاء له، حتى قيل إنّه في حرب (اليمامة)، قتل 70 من هؤلاء القرّاء، وقد اختصّ النبيّ(ص) بتهيئة الإمام عليّ(ع) للقيادة المميّزة بما لم يختص به أحداً من المسلمين، ولذلك، قال(ع) وهو يصف هذا الاختصاص: "علّمني رسول اللّه(ص) ألف باب من العلم، فتح لي كلّ باب ألف باب"[8]. وقد روي عن النبيّ(ص) قوله: "أنا مدينة العلم وعليّ بابها"[9]، لأنَّه هيّأ عليّاً(ع) للقيادة الثقافية والسياسية والروحية والإدارية، باعتبار أنّ دوره يفرض ذلك كلّه.

إذاً، فالأعرابي، بحسب المصطلح، هو ذاك الذي لم يتفقّه في الدّين، وهو الذي لم يتعلّم أحكام الإسلام، بل بقي على معلومات بسيطة سطحيَّة لا تغني الإنسان أو تدفعه لكي يفكّر ويدعو وما إلى ذلك. وقد ورد الحديث عن الأعراب في القرآن: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[10]، باعتبار أنَّ هذه الفئة لا تعرف حدوده، لأنها لم تتعلَّم، ولم تهاجر لتعرف حدود اللّه، لذلك، دخلت في خطّ النفاق، وربما اقتربت من خطّ الكفر. وقد تحدّث القرآن الكريم في موضع آخر عن الأعراب الذين كانوا يتحركون في الجانب السلبي حول المدينة: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ}[11]. وقد نزلت الآية في قبائل أسلم وأشجع وجهينة. ولكن القرآن الكريم لا يتحدّث عن الأعراب بشكل مطلق في الجانب السلبي هذا، لأنه يتحدّث عن مجموعة أخرى من الأعراب أخذوا بطريقتهم الخاصّة وبوسائلهم الخاصّة الأسباب التي تعطيهم عمق الإيمان، {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[12].

وفي هذه المسألة، يشير الإمام عليّ(ع) بقوله مخاطباً المسلمين: "أصبحتم بعد الهجرة أعراباً"، كأنّه يقول لهم إنكم كنتم في عهد الرسول(ص) بمثابة المهاجرين، لأنكم تفقّهتم بالقرآن فيما جاء عن النبيّ(ص) وعشتم تلك الأجواء، ولكنّكم انفصلتم ـ بعد ذلك ـ عنها، عندما ابتعد الزّمن بينكم وبين النبيّ(ص)، وبدأتم تتركون الأخذ بأسباب الروحانيّة، وتحوّلتم إلى جماعة من الناس لا تفقه في دينها شيئاً، لأنها انفصلت عن أسباب العلم، ولم تلتزم الخطوط المستقيمة في الدين وما إلى ذلك، وخصوصاً من خلال هذه التعقيدات والمنازعات والخلافات والمؤامرات التي كانت تحدث بين المسلمين نتيجة المتغيّرات التي حصلت في مجتمعهم حينذاك.

ونحن عندما ندرس واقع المسلمين الآن، فإنّنا نجد أنَّ الخطاب الذي وجَّهه الإمام عليّ(ع) إلى من كان في عهده، يمكن أن يُوجّه إلى كثير من المسلمين اليوم، لأنَّهم لم يأخذوا بأسباب الثقافة الإسلاميّة، فنجد أن الثقافة الإسلامية مقتصرة على فريق من الناس، وهذا الفريق نفسه ربما يختلف بمستواه الثقافي، بين من يأخذ من الثقافة ما يقوم على أساس التراث، من دون الانفتاح على التطوّرات المعاصرة في أساليبها وفي وسائلها، ومن يأخذ بالتراث وبما استجدّ.

ولعلَّ معظم المسلمين في شغل عن إسلامهم، ولهذا، رأيناهم يتبعون خطوات الكفر، ويأخذون بعناوينه، وينتمون إلى مواقفه، باعتبار أنهم لا يفهمون حدود المفاهيم الإسلاميّة بالدقّة المطلوبة.

وفي ضوء هذا، فقد يأخذون بعض مفاهيم الكفر بما يُخيَّل إليهم فيه أنها من الإسلام. بهذا، نجد كيف نفذ الكثير من المفاهيم الغربيّة إلى وجدان المسلمين، باعتبار أنهم لم يعرفوا الفواصل بين ما هو إسلاميّ بقواعده ومفاهيمه، وما هو الكفر بقواعده ومفاهيمه. وهكذا، رأينا أنَّ جهل المسلمين بإسلامهم، تطوَّر إلى ابتعاد المسلمين عن الإسلام، فلا نجد هناك ثقافة إسلاميّة واسعة عند أكثريّة المسلمين في العالم.

ولذا، فإنَّ ما تحدّث عنه الإمام عليّ(ع) في عصره، لعلّه ينطبق على كثير من المسلمين في هذا العصر، وأودُّ أن أنبّه إلى نقطة أُخذت عنواناً في الأحكام الشرعيّة الإسلاميّة، وهي مسألة التعرّب بعد الهجرة، وهي من الأمور المحرّمة شرعاً. والمقصود من التعرّب بعد الهجرة، هو أن يسافر الإنسان المسلم من غير حاجة ومن غير ضرورة من بلاد الإسلام، حيث يعيش أجواء الإسلام ومناخه وأهدافه ووسائله، إلى بلاد الكفر، حيث لا تتوافر لديه الأجواء الإسلامية، ولا تتوافر لديه أسباب الثقافة الإسلامية وما إلى ذلك، فيفقد الإنسان إيمانه تدريجياً بنسبة معينة، وحسب اختلاف ظروفه، وهو إنْ ملك نفسه، فإنه سيفقد أولاده الذين يدرسون في مدارس الكفر وأجوائه، بل إنَّه لا يملك أن يربح أولاده أو يؤثّر فيهم؛ ففي هذه الحالة، فإنَّ الهجرة إلى بلاد الغرب، قد تعتبر في كثير من الحالات من التعرّب بعد الهجرة، ولكن يمكن، كما كنّا نقول للمغتربين عن بلادهم، وخصوصاً {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ}[13]، أو الذين اضطهدوا هنا وهناك، إنَّ من الواجب أن تفتحوا مدارس إسلاميّة، وتعملوا على إيجاد المراكز الإسلاميّة الثقافيّة والعباديّة وما إلى ذلك، لأنَّ هذا هو الشرط الموضوعيّ لأجل حلّية بقائكم هناك، بالنّسبة إليكم وبالنّسبة إلى أولادكم، فنحن نطمع الآن بأن نحوِّل بلاد الغرب إلى بلاد إسلاميّة، ولا يكفي أن يتواجد فيها المسلمون من دون الإسلام لمجرّد انتمائهم إلى الإسلام، بل أن يكوِّنوا مجتمعاً إسلاميّاً، وأن يعملوا على أساس تقوية المواقع الإسلاميّة ودعوة الآخرين إلى الإسلام.

من الوحدة إلى التمزّق

"وبعد الموالاة أحزاباً"، والنقطة الثانية التي يركِّز عليها الإمام عليّ(ع)، هي التحزّب بعد الوحدة، فالموالاة كناية عن المجتمع الّذي يوالي بعضه بعضاً، كما في قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ}[14]. فالعلاقة الإسلاميّة هي علاقة ولاية بين المسلمين، إذ كلُّ مؤمن أو مؤمنة، ومسلم أو مسلمة، يعملون على أساس الموالاة للمسلمين الآخرين، لأنَّهم يشعرون بأنهم أمّة واحدة، وبأنهم يمثّلون خطّاً واحداً، ويتحركون نحو هدف واحد، ويعيشون مسؤوليّة واحدة، وهي أن تكون كلمة اللّه هي العليا، وأن تكون كلمة الشيطان هي السُّفلى، فهذا هو الذي أراده اللّه سبحانه وتعالى بقوله: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}[15]، وهذه هي المسألة الإسلاميّة الّتي أكدَّها النبيّ(ص) بقوله: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحُمّى"[16]، وهكذا بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[17].

فالموالاة تمثِّل حالة المودّة والوحدة بين المسلمين، والرّحمة التي تقتضي التعاون، وتفرض الإحساس الواحد، لأنهم أمّة واحدة، وليسوا فِرَقاً متناثرة، وحتى لو اختلفوا في بعض الأمور والاجتهادات، فإنَّ ذلك لا يمنع وحدتهم على الأسس الّتي يلتقون عليها، ولكنّهم تحوّلوا إلى أحزاب وفرق متباعدة ومتناثرة، وكلّ منهم يفكّر في دائرته الخاصّة، بعيداً عن الدائرة الأخرى، وربما يكفِّر بعض المسلمين بعضاً، وربما يحارب بعضهم بعضاً على أساس العصبيّات المذهبيّة والطائفيّة السياسيّة وما إلى ذلك، ما جعل المسلمين يتوزَّعون فرقاً فرقاً، بحيث لا تجمع بينهم كلمة اللّه، لتتحوّل بهم إلى عمقٍ في الواقع وفي العلاقات. ولذلك، فقد ركّز الإسلام على سلبيّة هذه الحزبيّة التي كانت موجودة في الجاهليّة، بقوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[18]، يعني بها الحزبيّة القائمة على العصبيّة الّتي تتحرك من خلال انفصال المجتمع عن بعضه البعض، بحيث يتحوّل المجتمع الواحد الذي يملك انتماءً واحداً وعنواناً واحداً إلى مجتمعات متعدّدة، كلّ منها يستغرق بذاته، وكما قال الشّاعر:

وتفرَّقوا شيعاً فكلّ قبيلة             فيها أمير المؤمنين ومنبرُ

بحيث أصبحت القيادات متعدّدة، بدلاً من القيادة الواحدة الموحّدة، مع أنّه لا مانع في الإسلام من أن تكون هناك عدة تنظيمات قد تختلف في بعض الوسائل والأساليب، ولكن لا بدَّ من أن يكون هناك اتفاق على القاعدة التي ينطلقون منها، بحيث لا يختلفون على الإسلام، بل يتحاورون فيما بينهم، وإذا تنازعوا في شيء، فإنهم يردّونه إلى اللّه والرسول.

ولذلك، فالحزبيّة هنا تعني العصبيّة والاستغراق في الذّات أو العشيرة أو الطائفة، وما إلى ذلك مما يفصل المسلمين بعضهم عن بعض، ويعتبر كلاً منهم غريباً عن الآخر، وهذا ما لاحظناه عند تقسيم البلاد الإسلاميّة إلى أقطار متعدّدة من قبل الاستعمار، فقد جعل لكلّ قطر من هذه الأقطار كياناً منفصلاً عن الأقطار الإسلاميّة الأخرى، بحيث إنَّه يعتبر المسلم في هذا البلد الّذي لا يحمل جنسيّة هذا البلد غريباً عنه، لأنّه من جنسيّة أخرى، وإن كانوا يلتقون في الإسلام، وهذا ما أوجب تحوّل المسلمين إلى مجتمعات متعدّدة متناحرة متشتّتة، تتحرك على أساس ذاتيّتها، ولا تتحرك على أساس إسلاميَّتها.

فلذلك، نرى ظاهرة الحزبيّة في بلادنا، ولا سيَّما الأحزاب الإسلاميّة الّتي تتعدَّد في مواقعها، كلّ واحد منها عنوانه الإسلام، ومع ذلك، فإنّهم لا يلتقون على أساس الوحدة الإسلامية، بل كل واحد منهم يعتبر نفسه أنه يمثّل الإسلام دون الآخرين، لذلك، لو اطَّلع كل واحد منهم على عمق ذاته، لرأى أنَّ القضية ليست في الإسلام هنا والإسلام هناك، ولكنَّ الغالب أن تكون القضيّة هي زعامة هنا وزعامة هناك، وخلفيّات هنا وهناك. لذلك، نريد للأحزاب الإسلاميّة في العالم الإسلاميّ كلّه أن تلتقي على الإسلام، وإنْ اختلفت في بعض الخطوط أو التّشريعات الإسلاميّة، فإنّ عليها التحاور فيما بينها، كما أراد اللّه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ}[19].

ويمضي الإمام عليّ(ع) في حديثه، فيقول: "ما تَتَعَلّقُون من الإسلام إلا باسمه"[20]، يعني تحملون الانتماء الإسلاميّ مجرَّد عنوان، ومجرَّد شيء له عنوان، ولكنّه ليس شيئاً في العمق، فتعرفون الصّلاة كباقي الطّقوس، أمّا الإيمان في عمقه العقائديّ والشّرعيّ والمفاهيميّ وما إلى ذلك، فإنّكم لا تعرفونه. وهذا هو الواقع الّذي صوَّره الإمام عليّ(ع) في عصره، وكما قلنا، فإننا نستطيع القول إنَّ عصرنا الحاليّ يعاني ذلك المرض...

ويبقى للكلام بقيّة في هذا الاتجاه في الأسبوع القادم...

*ندوة الشام الأسبوعيّة، فكر وثقافة


[1]  (آل عمران: 103).

[2]  (الأنفال: 63).

[3]  (فصلت: 26).

[4]  (الزمر: 9).

[5]  (طه: 114).

[6]  (البقرة: 118).

[7]  (آل عمران: 164).

[8]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 22، ص 470.

[9]  المصدر نفسه، ج 28، ص 201.

[10]  (التوبة: 97).

[11]  (التوبة: 101).

[12]  (التوبة: 99).

[13]  (الحج: 40).

[14]  (التوبة: 71).

[15]  (آل عمران: 103).

[16]  ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج 4، ص 2837.

[17]  (الحجرات: 10).

[18]  (المؤمنون: 53).

[19]  (النساء: 59).

[20]  نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 2، ص 154.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية