قدم أحد أصحاب الإمام عليّ (ع)، وهو "ضرار بن غمرة"، على معاوية الَّذي طلب منه أن يصف عليّاً (ع)، فامتنع، ولكنَّ معاوية أصرَّ عليه، فقال:
"أمّا إذ لا بدَّ، فإنَّه كان، والله، بعيد المدى - لا يعيش في أفق محدود، فلقد كان مداه في الفكر والتقوى والزهد والبطولة هو المدى البعيد - شديد القوى - كان يمثِّل القوّة العظيمة - يقول فصلاً - إذا قال فقوله الفصل الَّذي لا نزاع بعده - ويحكم عدلاً - وإذا حكم فإنَّه لا يحكم إلَّا بالعدل، وهو الَّذي قال: "الذَّليل عندي عزيز حتَّى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيفٌ حتَّى آخذ الحقَّ منه"1- يتفجَّر العلم من جوانبه - إذا تحدَّث عن العلم، فإنَّك تشعر بأنَّ الينابيع تتفجّر من كلِّ جنبات ذاته، لأنَّه أخذ علمه من معينٍ صافٍ، وهو رسول الله (ص) - وتنطق الحكم من نواحيه - وإذا تحرَّك وتصرَّف وأمر ونهى، فإنه يضع الأشياء في مواضعها - يستوحش من الدنيا وزهرتها - لأنَّه يشعر بالغربة فيها، فقلبه متعلّق بلقاء الله في الآخرة - ويأنس باللَّيل ووحشته - لأنَّ اللَّيل هو زمن الصَّفاء والهدوء الَّذي يفرغ فيه لربّه، بعيداً من كلِّ ضجيج النَّاس، ليعبد ربَّه ويناجيه.
- كان، والله، غزير الدَّمعة - يبكي من محبَّة الله وخشيته - طويل الفكرة، يقلِّب كفَّيه ويخاطب نفسه - لأنه يجلس مع نفسه ليدرسها وينظم لها كلَّ خطوطها، وليكتشف عمق علاقة نفسه بربِّه - يعجبه من اللّباس ما خشن - كان لا يلبس اللّباس النَّاعم، لأنَّه كان يريد أن يساوي أقلّ المسلمين في لباسه - ومن الطَّعام ما جشب.
كان، والله، فينا كأحدنا - وتلك هي صفة رسول الله، فقد كان مع المسلمين كأحدهم، لا يميِّز نفسه عنهم، لا في جلوس، ولا في أيّ وضع يميِّز فيه القادة أنفسهم - يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن، والله، مع تقريبه إيَّانا وقربه منَّا لا نكاد نكلّمه هيبةً له، فإن تبسَّم فعن مثل اللّؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدّين - إذا جاءه المتديّنون، وهذا ما أمر الله به رسوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}[الكهف: 28] - ويقرِّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضّعيف من عدله.
وأشهد بالله، لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى اللَّيل سدوله، وغارت نجومه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السَّليم - الشَّخص المريض - ويبكي بكاء الحزين، فكأنّي الآن أسمعه وهو يقول: يا دنيا، يا دنيا، أبي تعرَّضت، أم إليَّ تشوَّقت، هيهات هيهات! غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد أبنتك ثلاثاً - طلَّقتك ثلاثاً - لا رجعة لي فيها، فعمرك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه آه من قلَّة الزَّاد، وبُعد السّفر، ووحشة الطريق، وعظم المورد.
فَوَكَفَتْ دُمُوعُ مُعَاوِيَةَ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَنَشَفَهَا بِكُمِّهِ، وَاخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ. ثُمَّ قَالَ معاوية - وهو الَّذي حارب عليَّاً (ع) وعطَّل مسيرته -: كَانَ وَاللهِ أَبُو الْحَسَنِ كَذَلِكَ. فَكَيْفَ كَانَ حُبُّكَ إِيَّاهُ؟ قَالَ: كَحُبِّ أُمِّ مُوسَى لِمُوسَى، وَأَعْتَذِرُ إِلَى اللهِ مِنَ التَّقْصِيرِ. قَالَ: فَكَيْفَ صَبْرُكَ عَنْهُ يَا ضِرَارُ؟ قَالَ: صَبْر مَنْ ذُبِحَ وَاحِدُهَا عَلَى صَدْرِهَا، فَهِيَ لَا تَرْقَى عَبْرَتُهَا، وَلَا تَسْكُنُ حَرَارَتُهَا. ثُمَّ قَامَ وَخَرَجَ وَهُوَ بَاكٍ"2.
* من خطبة جمعة لسماحته، بتاريخ: 10 رجب 1422 ه/ الموافق: ٢٨ / ٩ / ٢٠٠١م.
[1]نهج البلاغة، ج1، ص 89.
[2]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج33، ص 275.
قدم أحد أصحاب الإمام عليّ (ع)، وهو "ضرار بن غمرة"، على معاوية الَّذي طلب منه أن يصف عليّاً (ع)، فامتنع، ولكنَّ معاوية أصرَّ عليه، فقال:
"أمّا إذ لا بدَّ، فإنَّه كان، والله، بعيد المدى - لا يعيش في أفق محدود، فلقد كان مداه في الفكر والتقوى والزهد والبطولة هو المدى البعيد - شديد القوى - كان يمثِّل القوّة العظيمة - يقول فصلاً - إذا قال فقوله الفصل الَّذي لا نزاع بعده - ويحكم عدلاً - وإذا حكم فإنَّه لا يحكم إلَّا بالعدل، وهو الَّذي قال: "الذَّليل عندي عزيز حتَّى آخذ الحقّ له، والقويّ عندي ضعيفٌ حتَّى آخذ الحقَّ منه"1- يتفجَّر العلم من جوانبه - إذا تحدَّث عن العلم، فإنَّك تشعر بأنَّ الينابيع تتفجّر من كلِّ جنبات ذاته، لأنَّه أخذ علمه من معينٍ صافٍ، وهو رسول الله (ص) - وتنطق الحكم من نواحيه - وإذا تحرَّك وتصرَّف وأمر ونهى، فإنه يضع الأشياء في مواضعها - يستوحش من الدنيا وزهرتها - لأنَّه يشعر بالغربة فيها، فقلبه متعلّق بلقاء الله في الآخرة - ويأنس باللَّيل ووحشته - لأنَّ اللَّيل هو زمن الصَّفاء والهدوء الَّذي يفرغ فيه لربّه، بعيداً من كلِّ ضجيج النَّاس، ليعبد ربَّه ويناجيه.
- كان، والله، غزير الدَّمعة - يبكي من محبَّة الله وخشيته - طويل الفكرة، يقلِّب كفَّيه ويخاطب نفسه - لأنه يجلس مع نفسه ليدرسها وينظم لها كلَّ خطوطها، وليكتشف عمق علاقة نفسه بربِّه - يعجبه من اللّباس ما خشن - كان لا يلبس اللّباس النَّاعم، لأنَّه كان يريد أن يساوي أقلّ المسلمين في لباسه - ومن الطَّعام ما جشب.
كان، والله، فينا كأحدنا - وتلك هي صفة رسول الله، فقد كان مع المسلمين كأحدهم، لا يميِّز نفسه عنهم، لا في جلوس، ولا في أيّ وضع يميِّز فيه القادة أنفسهم - يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن، والله، مع تقريبه إيَّانا وقربه منَّا لا نكاد نكلّمه هيبةً له، فإن تبسَّم فعن مثل اللّؤلؤ المنظوم، يعظّم أهل الدّين - إذا جاءه المتديّنون، وهذا ما أمر الله به رسوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}[الكهف: 28] - ويقرِّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضّعيف من عدله.
وأشهد بالله، لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى اللَّيل سدوله، وغارت نجومه، قابضاً على لحيته، يتململ تململ السَّليم - الشَّخص المريض - ويبكي بكاء الحزين، فكأنّي الآن أسمعه وهو يقول: يا دنيا، يا دنيا، أبي تعرَّضت، أم إليَّ تشوَّقت، هيهات هيهات! غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد أبنتك ثلاثاً - طلَّقتك ثلاثاً - لا رجعة لي فيها، فعمرك قصير، وخطرك يسير، وأملك حقير، آه آه من قلَّة الزَّاد، وبُعد السّفر، ووحشة الطريق، وعظم المورد.
فَوَكَفَتْ دُمُوعُ مُعَاوِيَةَ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَنَشَفَهَا بِكُمِّهِ، وَاخْتَنَقَ الْقَوْمُ بِالْبُكَاءِ. ثُمَّ قَالَ معاوية - وهو الَّذي حارب عليَّاً (ع) وعطَّل مسيرته -: كَانَ وَاللهِ أَبُو الْحَسَنِ كَذَلِكَ. فَكَيْفَ كَانَ حُبُّكَ إِيَّاهُ؟ قَالَ: كَحُبِّ أُمِّ مُوسَى لِمُوسَى، وَأَعْتَذِرُ إِلَى اللهِ مِنَ التَّقْصِيرِ. قَالَ: فَكَيْفَ صَبْرُكَ عَنْهُ يَا ضِرَارُ؟ قَالَ: صَبْر مَنْ ذُبِحَ وَاحِدُهَا عَلَى صَدْرِهَا، فَهِيَ لَا تَرْقَى عَبْرَتُهَا، وَلَا تَسْكُنُ حَرَارَتُهَا. ثُمَّ قَامَ وَخَرَجَ وَهُوَ بَاكٍ"2.
* من خطبة جمعة لسماحته، بتاريخ: 10 رجب 1422 ه/ الموافق: ٢٨ / ٩ / ٢٠٠١م.
[1]نهج البلاغة، ج1، ص 89.
[2]بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج33، ص 275.