الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع) عالَمٌ منفتحٌ على الله

الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع) عالَمٌ منفتحٌ على الله

في سيرة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع) ، أكثر من عالَم منفتح على الله وعلى الإنسان والحياة، وأكثر من أفق منطلق بالفكر والروح والشعور والحبّ الإلهيّ والعرفان الروحيّ، وأكثر من مساحة مليئة بالقضايا الأخلاقية، والأجواء الإنسانية والمناهج الحركيّة، وهو(ع) في ذلك كلِّه ، يمثِّل وحدةً تربط بين كلِّ هذه العوالم والآفاق والسّاحات، لأنّه الإنسان الذي عاش مع الله معنى العبوديّة الخالصة له أمام ألوهيته المهيمنة على الأمر كلِّه، فكانت مسؤوليته في إنسانيته إحدى مظاهر هذه العبوديّة، وبذلك التقى بالإنسان في كلِّ مواقعه، وانفتح على الحياة في كلِّ مجالاتها، فكان الفكرُ سرَّ ارتفاع الإنسان في مستوى المعرفة التي تطوف به في آفاق الله، لتمتدَّ معه في أسرار الحياة في ظواهرها الكونيّة في سنن الله في الكون، وفي ظواهرها الإنسانية الفردية والاجتماعية في سنن الله في الأفراد والمجتمعات..

وهكذا اكتشف الروح في البعد الإنساني السائر إلى الله في عبادة شعوريّةٍ تهزُّ الأعماق، وفي حبٍّ لله يغمر الكيان كلَّه، فيذوب الإنسان معه في أجواء العشق الإلهيّ الذي يصفو الإنسان به ويرقّ، فيعيش الصفاء كلَّه والنقاء كلَّه في إطلالة على الحياة، وفي استغراق في العالم الآخر فيما بعد الموت، حيث الحياة الجديدة التي "لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، وفي هذه الحياة الأخروية إطلالةٌ على ما ادّخره الله للمؤمنين: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مّا أُخفيَ لهم من قرّةِ أعيُنِ جَزاءً بما كانوا يَعْمَلون} [السجدة:17].

إنسان الله

ومع الله في الأجواء الروحية العباديّة الفكريّة، لا بدَّ من قاعدة أخلاقية للسلوك يقف الإنسان عليها، ليتطلّع إلى الله من موقع أخلاقيّ متين، أصله ثابتٌ وفرعه في السماء، يُؤتي أُكُلَه كلَّ حين بإذن ربِّه، وذلك من خلال استيحاء أخلاق الله في صفاته العليا وأسمائه الحسنى، على هدى الحديث المأثور: "تخلّقوا بأخلاق الله"، ليكون الإنسان بذلك إنسانَ الله في روحيته الأخلاقيّة وأخلاقه الإلهيّة.

ومع الله، يكتشف إنسانيته في حركة المسؤولية في حياته، لينفتح على الآخر في آلامه ومشاكله وقضاياه وحاجاته وأوضاعه الخاصة والعامة، ولينطلق معه، فيكون إيجابياً في حركته في اتجاهه، حتى ولو كان الآخر سلبيّاً معه، كما نستوحي ذلك في الخطِّ التصاعدي الذي يرتبط بالأفضل والأكمل والأحسن، ليعارض مَنْ غشَّه بالنصح، ويجزي مَنْ هجره بالبرِّ، ويثيب مَنْ حرمه بالبذل، ويكافى‏ء مَنْ قطعه بالصّلة، ويخالف مَن اغتابه إلى حُسن الذكر، ويشكر الحسنة ويغضي عن السيئة، ويكره ظلمه للآخرين، كما يكره ظلم الآخرين له، انطلاقاً من رفض المبدأ كلِّه من نفسه ومن النّاس..

ومن هنا، اتجهت محاولة القرآن إلى هذه الناحية لدى الداعية، فحاول أن يروّض نفسه، ويوسّع آفاقه، فيُخرجه من نطاق ذاته إلى نطاق الحقيقة الواسع، ويبتعد به عن طبيعة الكبرياء الكاذب الذي يضرى في داخله، ليأخذ بيده إلى طبيعة التسامح.. وهكذا تنطلق الحركة الإنسانية في خطِّ المنهج القائم على العدل والاستقامة والحريّة، لتكون الحياة أقوى وأقوم وأكثر انفتاحاً على الحقِّ والخير والسلام.

سيرةٌ منفتحة على الآفاق الرحبة

إننا نرى أنَّ سيرة الإمام زين العابدين(ع) بحاجة إلى دراسة توثيقيّة واسعة تقف أمام كلِّ المفردات التي يحفل بها تاريخ هذا الإمام العظيم، لنستوحي منها أكثر من خطٍّ فكري وأخلاقيّ وروحيّ واجتماعي على مستوى النظريّة في النهج العام، ولتلتقي بالخطوط التفصيليّة في حركة السلوك العمليّ في هذه المسيرة على مستوى التطبيق، لتجد الإنسان تجسيداً للقيمة الروحية المثلى، ولتكتشف في عمق هذه القيمة وامتدادها عمق الإنسان وامتداد أبعاده في السرِّ الكامن في الفكر والعقل والروح في مداها الواسع..

وقد ينفتح الدارسون فيها على الكثير الكثير من مفردات الثقافة الإسلامية في المسألة العقيدية والفقهية والعرفانيّة والاجتماعية والأخلاقية، بحيث تتمثّل لك الثروة العلميّة الواسعة الممتدّة في واقع الحياة كلِّها على خط الإسلام.

وإذا درسنا الشخصيات التي روت عنه وتتلمذت عليه وعاشت في مدرسته، فإنَّنا نجد في ذلك كلِّه أنَّه كان في عصره الوجه الأبرز والأكثر إشراقاً وتأثيراً في الثقافة الإسلامية آنذاك.

"وقد روى عنه الطبريّ، وابن البيّع، وأحمد، وابن بطّة، وأبو داود، وصاحب الحلية والأغاني، وقوت القلوب، وشرف المصطفى، وأسباب نزول القرآن، والفائق، والترغيب والترهيب، عن الزهريِّ، وسفيان بن عيينة، ونافع، والأوزاعي، ومقاتل، والواقدي، ومحمد بن إسحاق"(1).

ورُوي عن الزهري أنَّه قال: "قال كلُّ واحد منهم: ما رأيت هاشميّاً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه"(2).

أستاذ العلماء

وكان الإمام زين العابدين(ع) في تلك الفترة وبعدها العالم المعلِّم، ولو درسنا ما جاء عنه(ع) من تراث متنوّع في أكثر من موقع من مواقع المعرفة الإسلاميّة، لرأينا أنَّ الإمام كان أستاذ الفكر الإسلامي آنذاك، وعندما نعدّد تلامذته، فإنَّنا نجد أنهم يتنوّعون في ما يختصُّ بالتاريخ والتفسير والفقه وشتى المعارف، ولذلك، فإنَّ تراث الإمام(ع) الذي يجهله الكثيرون منّا في المجال الفكريّ والثقافيّ في مواقع المعرفة كلِّها، يزيد عن تراثه في الدعاء، "وقد روى عنه فقهاء العامة من العلوم ما لا يُحصى كثرةً، وحُفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيّام، ما هو مشهورٌ بين العلماء، ولو قصدنا إلى شرح ذلك لطال به الخطاب وتقضّى به الزمان"(3).

ونقرأ شهادات مَنْ كانوا في عصره أو قريباً من عصره، يقول الإمام مالك: "سمّي زين العابدين ولا أفقه منه"، وعدّه الإمام الشافعي: "أفقه أهل المدينة".. كما نجد أنَّ بعض القرّاء يقول: "كان القرّاء لا يخرجون إلى مكة إلا إذا خرج معهم زين العابدين(ع)، وانتظروه في وقت حتى خرج، فخرج معه ألف راكب من القرّاء".

وعندما ندرس حياة الذين أخذوا العلم عنه، فإننا نرى أنَّه استطاع أن يعلّم أساتذة العالم الإسلامي آنذاك، وليسوا كلّهم شيعة، بل كان منهم مَنْ لا يتشيّع، ومع ذلك كان الإمام يستقبل كلَّ هؤلاء ويعطيهم من علمه علماً ومن خشيته لله خشية، ومن ورعه ورعاً، وكانوا يردّدون بصوت واحد، ليس هناك في المسلمين أشدّ ورعاً وفضلاً من عليّ بن الحسين، كانوا يقولون ذلك بشكل عفوي، وكانت مكانته التي انطلقت في هذا الخطّ وفي كلِّ الخطوط تعيش في أعماقهم، كان الناس يعيشون هناك في ظلال الحكم الأمويّ، وكانت مصالحهم مع بني أميّة وكانوا يجاملونهم، ولكن كان عمق إخلاصهم ومحبتهم للإمام زين العابدين(ع)، وعن سفيان بن عيينة قال: قلت للزهريّ، لقيتَ عليَّ بن الحسين(ع) ؟ قال: "نعم لقيته، وما لقيت أحداً أفضل منه، والله ما علمت له صديقاً في السرّ، ولا عدواً في العلانية، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأنّي لم أرَ أحداً وإن كان يحبُّه إلا وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلا وهو لشدّة مداراته له يداريه"(4).

وهذا هو الفرق بين أن تدخل أعماق النّاس من خلال استقامتك، وبين أن تدخل حياة الناس من خلال سيفك أو سلطتك.. كان(ع) يعيش مع الناس من الموقع الإسلاميّ البسيط، ينفتح على النّاس كلِّهم، يعفو عن مسيئهم ويعطي فقيرهم ويهدي ضالّهم ويعلّم جاهلهم ولا يمتنُّ على أحدٍ بشي‏ء، وكان إذا سافر لا يسافر مع قومٍ يعرفونه، حتى كان يُكلَّف بما كان يكلّف به كلُُّ أهل القافلة..

سموّ الذات

وجاء في كتاب (عيون أخبار الرضا) عن الإمام الصادق(ع) قال: "كان عليّ بن الحسين(ع) لا يسافر إلا مع رفقةٍ لا يعرفونه، ويشترط عليهم أن يكون من خَدَم الرفقة في ما يحتاجون إليه، فسافر مرّةً مع قوم، فرآه رجلٌ فعرفه، فقال لهم: أتدرون مَنْ هذا؟ فقالوا: لا، قال: هذا عليّ بن الحسين(ع) ، فوثبوا إليه، فقبّلوا يده ورجله، وقالوا: يا بن رسول الله، تريد أن تصلينا نار جهنّم لو بدرت منا يدٌ أو لسانٌ، أمَا كنا قد هلكنا إلى آخر الدهر؟ فما الذي يحملك على هذا؟ فقال: إني كنت سافرت مرّةً مع قوم يعرفونني، فأعطوني برسول الله(ص) ما لا أستحق، فإنّي أخاف أن تعطوني مثلَ ذلك، فصار كتمان أمري أحبَّ إليَّ"(5).

فأين هو الفرق بيننا وبينه(ع) ؟ الفرق بيننا في ما نحصل عليه من امتيازات أنَّ بعضنا إذا انتسب إلى رسول الله(ص) وحمل شجرة النسب بين يديه، فإنَّه يريد للناس أن يحملوه على ظهورهم، وأن يقدّروه ويحترموه، ويكون البطّال وهم يشتغلون له.. أهل البيت(ع) لا يريدون ذلك لمن انتسب إليهم، والنبيّ(ص) لم يبعثه الله ليُحمَل أقاربه على ظهور الناس وأعناقهم.. وهذا ما نطلُّ عليه من خلال سيرة الأئمة(ع) .. فقد جاء في مناقب ابن شهر آشوب عن طاووس الفقيه قال: "رأيته ـ يتحدّث عن الإمام زين العابدين(ع) ـ يطوف من العشاء إلى سَحَر ويتعبّد، فلما لم يرَ أحداً، رمق السماء بطرفه وقال: إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي رسول الله(ص) في عرصات القيامة.. ثم بكى وقال: وعزِّتك وجلالك، ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكٌّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني على ذلك سترُك المُرخى به عليَّ، فالآن من عذابك مَنْ يستنقذني؟ وبحبل مَن أعتصم إن قطعت حبلك عنّي؟ فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك، إذا قيل للمُخفّين جوزوا وللمثقلين حُطّوا، أمع المخفّين أجوز؟ أم مع المثقلين أحطّ؟ ويلي كلما طال عمري كثُرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربِّي؟ ثم بكى وأنشأ يقول:

أتحرقني بالنار يا غية المنى فأين رجائـي ثم أيـن محبـتـي

أتيتُ بأعمالٍ قباحٍ رزيةٍ وما في الورى خلق جنى كجنايتي

ثم بكى وقال: سبحانك تُعصى كأنَّك لا تُرى، وتَحْلُم كأنَّك لم تُعْص، تتودّد إلى خلقك بحسن الصنيع، كأنَّ بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيدي الغنيُّ عنهم.. ثم خرَّ إلى الأرض ساجداً، فدنوت منه وشلت برأسه، ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خدِّه، فاستوى جالساً وقال: مَن الذي أشغلني عن ذكر ربّي؟ فقلت: أنا طاووس يا بن رسول الله، ما هذا الجَزَع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثلَ هذا ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن عليّ، وأمُّك فاطمة الزهراء، وجدُّك رسول الله(ص)، فالتفت إليَّ وقال: هيهات هيهات يا طاووس، دع عني حديث أبي وأمي وجدّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً، أمَا سمعت قوله تعالى: {فإذا نُفِخ في الصُّورِ فلا أنسابَ بينَهُم يومئذٍ ولا يتساءَلُون} [المؤمنون: 101 ]، والله ما ينفعك غداً إلا تقدمة تقدّمها من عملٍ صالح"().

محرّر العبيد

لقد جاء في سيرة الإمام(ع) أنَّه كان يشتري العبيد والإماء ـ حيث كان نظام العبيد موجوداً في الواقع الإسلامي ـ ويحرّرهم بعد أن يتعهّدهم بالتربية والتوجيه لينطلقوا إلى المجتمع مؤمنين صالحين، حيث يكون قد فقّههم ورفع من مستواهم، ثم يعتقهم في يوم الفطر بعد أن يغنيهم بما لا يحتاجون إلى الناس.. وكان(ع)، كما تذكر سيرته، يشتري العبيد في الموسم في عرفات، حتى إذا انتهى الموسم حرّرهم جميعاً بعد أن يحفظ ماء وجوههم.. ومن خلال ما نقرأه في سيرته عن تحريره للعبيد في كلِّ سنة، نستطيع أن نقول إنَّه محرّر العبيد بما لم يُعْهَد من مثله، وكان عندما يعيش معهم، لا يعاملهم معاملة السيّد للعبيد، ولكن كانت معاملته معهم، معاملة المؤمن للمؤمن الذي يحترم إنسانية الآخر.. فقد جاء في سيرته(ع) في هذا المجال أنَّه كان يجمع عبيده ويتحدّث معهم في أسلوب تربويّ من أرفع الأساليب في التربية والتواضع والروحانية، فكان(ع) : "إذا دخل شهر رمضان، لا يضرب عبداً ولا أمَةً، وكان إذا أذنب العبد والأمَة يكتب عنده: أذنب فلانٌ، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه، فيجتمع عليهم الأدب، حتى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان، دعاهم وجمعهم حوله ثم أظهر الكتاب، ثم قال: يا فلان فعلت كذا وكذا، ولم أؤدّبك أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى يا بن رسول الله، حتى يأتي على آخرهم، ويقرِّرهم جميعاً، ثم يقوم وسطهم ويقول: ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا عليَّ بن الحسين، إنَّ ربَّك قد أحصى عليك كلَّ ما عملت كما أحصيتَ علينا كلَّ ما عملنا، ولديه كتابٌ ينطق عليك بالحقّ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة مما أتيت إلا أحصاها، وتجد كلَّ ما عملت لديه حاضراً كما وجدنا كلَّ ما عملنا لديك حاضراً، فاعفُ واصفح كما ترجو من المليك العفو، وكما تحبُّ أن يعفو عنك، فاعفُ عنا تجده عفوّاً وبك رحيماً ولك غفوراً ولا يظلم ربُّك أحداً، كما لديك كتابٌ ينطق بالحقّ علينا لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً مما اتيناها إلا أحصاها، فاذكر يا عليَّ بن الحسين ذلَّ مقامك بين يدي ربِّك الحكم العدل، الذي لا يظلم مثقال حبّة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعف واصفح يعفُ عنك المليك، فإنَّه يقول: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبّون أن يغفر الله لكم}[النور:22]، وهو ينادي بذلك على نفسه في عملية ابتهال وحالة طوارى‏ء روحيّة ويلقّنهم، وهم ينادون معه، وهو واقفٌ بينهم يبكي وينوح ويقول: ربِّ إنَّك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد عفونا عمّن ظلمنا كما أمرت فاعفُ عنّا، فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، وأمرتنا ألا نردَّ سائلاً عن أبوابنا، وقد أتيناك سؤّالاً ومساكين، وقد أنخنا بِفنائِك وببابك نطلب نائلك ومعروفك وعطاءَك، فامنن بذلك علينا ولا تخيّبنا، فإنَّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين.. إلهي كرمت فأكرمني إذا كنتُ من سؤّالك، وَجُدْتَ بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم.. ثم يقبل عليهم فيقول: قد عفوت عنكم فهل عفوتم عنّي ومما كان منّي إليكم من سوء ملكة؟ ـ كان(ع) يقول ذلك وهو لا يخطى‏ء لأنَّه المعصوم، لكنه يريد أن يعلّمنا كيف يعيش الإنسان مع مَنْ هم تحت يديه من العمال والموظفين، وفي مجتمع العائلة والأولاد والزوجة ـ فيقولون: قد عفونا عنك يا سيدنا، وما أسأت، فيقول لهم، قولوا: "اللّهمّ اعفُ عن عليِّ بن الحسين كما عفا عنَّا، فاعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرقّ، فيقولون ذلك، فيقول: اللهم آمين ربَّ العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقت رقابكم رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي.. فيعتقهم، فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عمّا في أيدي النّاس"(7).

هذه سيرته مع عبيده الذين لم يشترهم ليستعبدهم، بل ليربّيهم ويحرّرهم ويصون وجوههم عن الناس، وتلك هي سيرته مع النّاس، وحتى مع الحيوان، فإنَّه(ع) كان عندما يريد أن يهوي بالسوط على ناقته عندما تمتنع عن السير، فإنَّه كان يتراجع عن ضربها ويقول: "آه لولا القصاص"، كأنه(ع) يوحي إلينا بأنَّ الإنسان إذا ضرب الحيوان وآذاه، فإنَّ الله سيقتصُّ منه يوم القيامة.. وفي الرواية: "قال عليّ بن الحسين(ع) لابنه الباقر(ع) حين حضرته الوفاة: إنني قد حججت على ناقتي هذه عشرين حجّة فلم أقرعها بسوط قرعةً واحدة"(8).

الحلم وسعة الصدر: قدوة في السماح والعفو

في هذا المجال، تذكر كتب السيرة أنَّ مروان بن الحكم كان يعيش البغض والعداوة لعليّ ولأبنائه (عليهم السلام).. ودارت الدائرة على بني أميّة بعد واقعة الحرّة في ثورة أهل المدينة على يزيد، وكان لمروان عائلةٌ كبيرة من أولاده وأحفاده نساءً ورجالاً، ويذكر الطبري في تاريخه في أحداث سنة 63 للهجرة: "ما كان من إخراج أهل المدينة عامل يزيد بن معاوية، عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وإظهارهم خلع يزيد بن معاوية وحصارهم مَن كان بها من بني أميّة، وعلى رأسهم مروانُ بن الحكم". ذكر الطبري أيضاً "أنّه لما أخرج أهل المدينة والي يزيد منها، كلّم مروان بن الحكم عبدَ الله بن عمر أن يغيّب أهله عنده، فأبى ابن عمر أن يفعل ذلك، وكلَّم علي بن الحسين وقال: إنَّ لي رَحِماً وحُرَمي تكون مع حرمك، فقال(ع): افعل، فبعث بحرمه إلى عليّ بن الحسين، فخرج بحرمه حتى وضعهم بيُنبع (منطقة قرب المدينة)، وكان مروان شاكراً لعليِّ بن الحسين"(9)، ومكث هؤلاء عند عليِّ بن الحسين(ع) كما تقول كتب السيرة مدّة طويلة، حتى انجلى الموقف، وقالت بعض بناته ـ كما يُنقل ـ لم نجد من الحفظ والرعاية والعاطفة في بيت أبينا كما وجدناه عند عليِّ بن الحسين(ع) . لقد ارتفع(ع) عن الحقد، لأنَّه ككل أهل البيت(ع) ، لا يحملون حقداً على إنسان حتى على الذين صنعوا المأساة في حياتهم. أيّة شخصيّة هي شخصية الإمام زين العابدين(ع)؟!

ما رأينا على مدى التاريخ موقفاً كموقفه، حيث رأى أباه وإخوته وأعمامه وأبناء عمومته وأصحاب أبيه والأطفال منهم، رآهم مجزّرين كالأضاحي ورآهم عطاشى، ما رأينا إنساناً عاش في نصف نهار مثل هذه المأساة التي صنعها بنو أميّة في كربلاء.. هل يمكن أن يبقى في قلبه ذرّة حبٍّ أو عطف على إنسان أمويّ؟ هل يمكن أن يفكّر في الإحسان لأيّ إنسان أمويّ؟ ومن هو هذا الإنسان الأمويّ الذي أحسن إليه الإمام(ع) بأفضل الإحسان؟ إنَّه مروان بن الحكم الذي أشار لوالي المدينة أن يأخذ البيعة ليزيد من والده الإمام الحسين(ع) بعد موت معاوية، "وإذا رفض ذلك فاقتله قبل أن يخرج".. ونحن نعرف أنَّ أهل البيت(ع) تعلّموا من جدّهم رسول الله(ص) ومن خلال القرآن، كيف يتعالون على كلِّ حقد، فلم يحملوا(ع) حقداً لأيّ شخص من الناس، بل كانوا يحملون المحبة حتى لأعدائهم من أجل أن تشارك المحبة في هدايتهم، كما يحملون المحبة لأوليائهم، لقد تعلّموا من رسول الله(ص) ما كان يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون"، وتعلّموا من عليٍّ(ع) أنَّه كان يساعد ويعاون ويشير على خصومه الذين أبعدوه عن الخلافة التي هي حقّه الطبيعي، وتعلموا منه(ع) عندما قال: "احصد الشرَّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"().

ملكْنا فكان العفو منا سجيـة فلما ملكتم سال بـالدم أبطـحُ

وحللتم قتل الأسارى وطالمـا عَدَوْنا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ

فحسبكم هذا التفاوُت بيننـا وكلُّ إنـاءٍ بالذي فيـه ينضـحُ

ونحن نقرأ معه هذا السموّ الإسلامي الذي يريدنا أن نرتفع إليه في دعائه في مكارم الأخلاق: "وسدّدني لأن أعارض مَنْ غشّني بالنُّصح، وأجزي مَنْ هجرني بالبرِّ، وأثيب مَنْ حرمني بالبذل، وأكافى‏ء مَنْ قطعني بالصلة، وأخالف مَن اغتابني إلى حُسن الذكر، وأن أشكر الحسَنَة وأُغضي عن السيئة"()، أيُّ سموّ هذا الذي يرتفع به الإنسان عن كلِّ التعقيدات الموجودة في نفسه أمام الذين يُطلقون العقدة في حياته؟ ولكنَّ أهل البيت(ع) هم كرسول الله(ص) في أخلاقهم، كما هم كذلك في سلوكهم واستقامتهم، فلقد عاشوا رسولَ الله(ص) نسباً، وفكراً، وروحاً، وخطّاً، والتزموه منهجاً، واستطاعوا أن يؤصِّلوا ما جاء به رسول الله في حياتهم وحياة الآخرين..

وينقل الطبري أيضاً في تاريخه أنَّه كان هناك والٍ في المدينة من قِبَل الأمويين، وكان يتعرّض بالإساءة دائماً للإمام(ع) ويُدعى هشام بن إسماعيل، فلما "عُزِل أمر به الوليد أن يُوقف للناس ليضربوه ويشتموه، فقال: ما أخاف إلاَّ من عليّ بن الحسين، فمرَّ به عليّ بن الحسين(ع) وقد وقف عند دار مروان، وكان عليٌّ قد تقدّم إلى خاصّته ألا يعرض له أحدٌ منهم بكلمة، فلما مرَّ(ع) ناداه هشام: اللهُ أعلم حيث يجعل رسالاته"(12).

وزاد ابن فيّاض في الرواية في كتابه "أنَّ زين العابدين(ع) أنفذ إليه وقال: انظر إلى ما أعجزك من مال تُؤخَذُ به، فعندنا ما يَسَعُك، فطبْ نفساً منّا ومن كلِّ مَنْ يطيعنا، فنادى هشام: الله أعلم حيث يجعل رسالاته"(13). وهكذا نجد أنَّ الإمام زين العابدين(ع) كان يجسّد العفو والتسامح والقيمة الأخلاقية التي لا يستطيع الناس الارتقاء إلى مستوى قمته في ذلك..

وهكذا كانت سيرته مع الذين أساؤوا إليه، ولم يكن ذلك ضعفاً منه، بل كان قوّةً في الخُلُق السامي الذي انطلق القرآن فيه: {ادْفعْ بالتّي هي أحسنُ فإذا الّذي بينك وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم} [فصّلت:34]، وقد كان(ع) مبتلىً في الحياة الفرديّة ببعض أقربائه، ويروي في ذلك الشيخ المفيد: "وقف على عليِّ بن الحسين(ع) رجلٌ من أهل بيته، فأسمعه وشتمه، فلم يكلّمه (الإمام)، فلما انصرف قال(ع) لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحبّ أن تبْلُغوا معي إليه حتى تسمعوا ردِّي عليه، فقالوا له: نفعل، ولقد كنا نحبّ أن تقول له ونقول.. فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: {والكاظمين الغيظ والعافِينَ عن النّاس والله يُحِبُّ المحسنين}[آل عمران:134]، فخرج حتى أتى منزل الرجل ، فوصل الجميع وطرقوا الباب، فخرج هذا الرجل متوثّباً للشرّ، معتقداً أنّ الإمام يريد به سوءاً، فقال له الإمام: "يا أخي، إنَّك كنتَ قد وقفتَ عليَّ آنفاً فقلت وقلتَ، فإنْ كنتَ قلتَ ما فيَّ فأستغفر اللهَ منه، وإن كنتَ قلتَ ما ليس فيَّ فغفر اللهُ لك"، فقبّل الرجل ما بين عينيه وقال : بل قلتُ فيك ما ليس فيك، وأنا أحقُّ به"(14).

نحتاج إلى أن نعيش هذه الروح في العلاقات الاجتماعية التي يتحرّك فيها الناس في دائرة المجتمع الواحد، فالفرد في المجتمع إذا كان يتحرّك على أساس أن يردَّ على كلِّ مَنْ أساء إليه، سواء كانت الإساءة كلمة أو شتيمة أو ضربة بمثلها، فإنَّ هذا المجتمع سيفتقد روحية السماح والعفو والانتصار على النفس والحقد والعداوة، وبالتالي، فإنَّ هذا المجتمع لن يتوازن.

كان(ع) المثلَ الأعلى في العفو عن النّاس وإعطاء القدوة في نفسه لهم، ويُروى أنَّ جارية له كانت تسكب الماء عليه وهو يتوضأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه، فرفع(ع) رأسه إليها فقالت: "إنَّ الله عزَّ وجلّ يقول: {والكاظمين الغيظ} فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: {والعافين عن النّاس} قال لها: قد عفا الله عنكِ، قالت: {والله يحبُّ المحسنين} قال: اذهبي فأنت حرّة لوجه الله"(15).

الإحسان والجود

ومما يُروى عنه(ع) وقوفه بجانب المستضعفين والمحرومين الذين يأخذ بأيديهم نحو الحياة الكريمة، وليكفَّ وجوههم عن النّاس.. ومما جاء في صدقته ما رويَ في الحلية عن الباقر(ع)، "أنّه كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدّق به"(). وعن عائشة أيضاً أنَّها سمعت أهل المدينة يقولون: "ما فقدنا صدقة السرّ حتى مات عليّ بن الحسين(ع)"(17). وفي خبر: أنَّه كان(ع) إذا جنّه الليل وهدأت العيون قام إلى منزله، فجمع ما يبقى فيه عن قوت أهله، وجعله في جراب ورمى به على عاتقه وخرج إلى دُور الفقراء وهو متلثّم، ويفرّق عليهم، وكثيراً ما كانوا قياماً على أبوابهم ينتظرونه، فإذا رأوه تباشروا به، وقالوا: جاء صاحب الجراب(18).. وفي حلية الأولياء جاء في الرواية: لما مات عليّ بن الحسين فغسّلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سوادٍ في ظهره وقالوا: ما هذا؟ فقيل: كان يحمل جُرَب الدقيق ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة(19).. وكان(ع) يردّد في دعائه: "اللهمّ حبّب إليَّ صحبة الفقراء"، لأنَّهم الفئة الإنسانية التي هي أقرب إلى الأصالة وإلى الفطرة الإنسانية، ولأنَّهم لا يزالون يعيشون معنى القِيَم في كلِّ ما يتحرّكون فيه، ولا يزال الفقراء كما يصفهم القرآن {ويُؤثِرُون على أنفسِهم ولو كانَ بِهِم خصاصةٌ} [الحشر:9]، وقد أحسن(ع) إلى كلِّ مَن قصده بحاجته، أو رأى أنَّه بحاجة، ففي الرواية أنَّ زيد بن أسامة بن زيد لما حضرته الوفاة جعل يبكي، فسأله الإمام زين العابدين(ع) عن سبب بكائه، قال: يُبكيني أنَّ عليَّ خمسة عشر ألف دينار، ولم أترك لها وفاءً، فقال له(ع) : لا تبكِ فهي عليَّ وأنت بريٌ منها، فقضاها عنه(20).. وفي وصف أخلاقه في هذا المجال أنَّ يمينه لا تسبق شماله، وكان يقبّل الصدقة قبل أن يعطيها السائل، قيل له: ما يحملك على هذا؟ فيقول:لستُ أقبّل يدَ السائل، إنَّما أقبّلُ يدَ ربِّي، إنَّها تقع في يد ربِّي قبل أن تقع في يد السائل(21).

فوق الطبقات

يثير الإمام زين العابدين(ع) مسألة هي محل ابتلائنا، ألا وهي قضية الطبقيّة في الزواج، فمن الشائع أنَّه إذا كان هناك شخصٌ من عائلة كبيرة، وجاءه شخصٌ من عائلة متواضعة يخطب ابنته، فإنَّ العائلة كلَّها تستنكر ذلك عليه أو بالعكس، فلنقرأ ما جرى من حوار بين الإمام زين العابدين(ع) وبين عبد الملك بن مروان أحد خلفاء بني أميّة، يقول المؤرخون: "إنَّ عليَّ بن الحسين(ع) تزوّج سريّة أمَةً كانت للحسن بن عليّ(ع) ، فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فكتب إليه في ذلك كتاباً: "إنَّك صرتَ بَعْلَ الإماء"، فكأنَّه يريد أن يقول له، بأنَّه قد أسقط مكانته وشرفه، فكتب إليه عليّ بن الحسين(ع): "إنّ اللهَ رفع بالإسلام الخسيسة، وأتمَّ به الناقصة، فأكرم به من اللؤم، فلا لؤم على مسلم، إنَّما اللؤم لؤمُ الجاهلية"، فعندما يصبح الإنسان مسلماً، فإنَّ كلَّ خسَّة نَسَب ترتفع، لأنَّه عندما يُسلم لله يكون قريباً من الله، ومَنْ كان قريباً من الله، فأيُّ شرف أعظم من هذا الشرف؟ وقد عبَّر الإمام(ع) في أحد أدعيته عن هذا المفهوم، فقال: "فإنَّ الشريف مَنْ شرّفته طاعتُك، وإنَّ العزيز مَنْ أعزته عبادتك". وهذه هي القيمة كلُّ القيمة .. فلمّا انتهى الكتاب إلى عبد الملك، قال لمن عنده: "أخبروني عن رجلٍ إذا أتى ما يضع الناس لم يزده إلا شرفاً؟ قالوا: ذاك أمير المؤمنين، ويقصدون عبد الملك، فقال: لا والله ما هو ذاك. قالوا: ما نعرف إلا أمير المؤمنين. قال: فلا والله ما هو بأمير المؤمنين، ولكنّه عليّ بن الحسين"(22).

أسلوب الدعوة

إنَّ مسألة احترام كرامة إنسان وإنسانيته هي مسألة مهمّة في انفتاح عقله عليك، لأنَّك عندما تفتح قلب الإنسان الآخر، فإنَّ القلب هو أقرب طريق إلى العقل، وهذا ما نلاحظه في أكثر من موقع من مواقع أهل البيت(ع) .. وهكذا نلتقي مع الإمام زين العابدين(ع) في حديثه مع ذلك الشيخ الذي عاش تحت تأثير الإعلام الأمويّ، فبادر الإمام زين العابدين وهو في حالة السبي والأسر بقوله: "الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح البلادَ من رجالكم وأمكن أمير المؤمنين منكم". ولم يقف الإمام(ع) موقفاً سلبيّاً من الرجل على الرغم من قسوة الجوّ النفسيّ الذي يعيشه الإمام(ع) في تلك الحالة، وإنما بادره بالقول: "يا شيخ، هل قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل عرفت هذه الآية {قُلْ لا أسألُكم عليه أجراً إلا المودّة في القُربى} [الشورى: 23]، قال الشيخ: قد قرأت ذلك، فقال له عليٌّ(ع): فنحن القربى يا شيخ". واستغرب الشيخ، لأنَّ الدعاية الأمويّة كانت تحاول الإيحاء بأنَّ هؤلاء الأسارى ليسوا مسلمين، "...وهل قرأتَ هذه الآية {إنَّما يريدُ اللهُ ليذهبَ عنكُمُ الرِّجسَ أهلَ البيت ويطهّرَكم تطهيراً}" [الأحزاب:33] واستغرب الشيخ ثانيةً عندها قال له الإمام(ع): فنحن أهل البيت الذين خُصّصنا بآية الطهارة يا شيخ"، وسكت الشيخ، وهو يعرف أنَّ أهل البيت هم محمد وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين(ع) ، وبدأ الشيخ يفكّر ما معنى هذا السؤال؟ فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به وقال: بالله إنَّكم هم؟ فقال(ع) : "تاللهِ إنَّا لنحن هم من غير شكٍّ، وحقِّ جدِّنا رسول الله إنَّا لنحن هم، فبكى الشيخ ورمى عمامته، ورفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنّي أبرأ إليك من عدوِّ آلِ محمد، ثم قال: هل لي من توبة؟ فقال(ع) : نعم، إن تُبْتَ تاب الله عليك"(23). وبهذا استطاع الإمام زين العابدين(ع) بالأسلوب اللبق الحكيم أن يقلب فكرَ الشيخ رأساً على عقب، ويحوّله من شخصٍ عدوانيّ إلى شخصٍ يعيش الولاء بأعمق ما يكون الولاء.

القويُّ أمام الطغاة

إنَّ الإمام زين العابدين(ع) الذي كان يمثّل كلَّ الروحانية والزهد والخوف من الله، كان القويَّ في موقفه أمام جميع الطغاة، كما كان القويَّ بالله، هذا ما يتضح لنا من خلال موقفه من عبد الملك بن مروان الذي بعث إلى الإمام رسالةً وطلب منه فيها أن يهب له سيف رسول الله(ص)، وعندما رفض الإمام(ع) طَلَب ابن مروان وأبى عليه، كتب إليه يهدّده بأن يمنع عنه ما يستحقه من بيت المال، فأجابه الإمام(ع) : "أما بعد، فإنَّ الله أمّن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون {ومَن يتّقِ الله يجعل له مخرجاً} [الطلاق: 2] وقال جلَّ ذكره: {إنَّ الله لا يحبُّ كلَّ خوّان كفور} [الحج: 38] فانظر أيَّنا أولى بهذه الآية".

ولم يركن(ع) إلى الظالمين في عصره على الإطلاق، فيروي الزهري أنَّه عندما حاول بعض أقربائه أن يأخذوا صدقات أمير المؤمنين عليّ(ع) في عهد الوليد بن عبد الملك، قيل له: لو ركبت إلى الوليد بن عبد الملك ركبةً لكشف عنك ذلك وأعاد لك حقَّك، وكان هو(ع) بمكّة والوليد فيها، فقال لمن أشار عليه بذلك: "ويحك، أفي حَرَمِ الله أسأل غيرَ الله عزَّ وجلَّ؟ إنّي انف أن أسأل الدنيا خالقها، فكيف أسألها مخلوقاً مثلي"، وقال الزهري: لا جرم إنَّ الله عزَّ وجلَّ ألقى هيبته في قلب الوليد حتى حَكَم له(24).

ورغم تضييق الحكّام عليه وعلى حركته، فإنَّ كلَّ المحاولات لم تفلح في انتزاع محبته من قلوب المسلمين.. يذكر المؤرّخون (ومنهم أبو الفرج الأصفهاني) وصاحب كتاب الحلية، أنَّ هشام بن عبد الملك حجَّ ذات عام فلم يقدر على استلام الحجر من الزحام، فَنُصِبَ له منبر فجلس عليه وأطاف به أهلُ الشام، فبينما هو كذلك، إذ أقبل عليٌّ بن الحسين(ع) وعليه إزارٌ ورداء، من أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم رائحة، فجعل يطوف، فإذا بلغ إلى موضع الحجر تنحّى الناس حتى يستلمه هيبةً له، فقال شاميٌّ: مَنْ هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أعرفه، لئلا يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق وكان حاضراً: لكنّي أنا أعرفه، فقال الشاميّ: ومَنْ هو يا أبا فراس.. فأنشأ قصيدة ذكر فيها:

هذا الذي تعرفُ البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحـلُّ والحـرمُ

هذا ابن خير عباد الله كلّهـمُ هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العـلمُ

هذا عليٌ رسول الله والــده صلّى عليه إلهي ما جرى القلمُ

إذا رأتـه قريشٌ قال قائلهـا إلى مكارم هذا ينتهي الكـرمُ

وليس قولك: من هذا بضائره العُرْب تعرفُ مِن أنكرتَ والعجمُ

يغضي حياءً ويُغضى من مهابته فما يُكَلّـم إلا حيـن يبتسـم

إن عُدّ أهل التقى كانوا أئمتهم أو قيل مَن خيرُ أهل الأرض قيل هُمُ(25)

وهكذا كان في الشام القويَّ أمام يزيد، والقويَّ في الكوفة أمام ابن زياد، كان الإمامَ الصلب القويّ الواثق بالله الذي لم تأخذه في الله لومة لائم، ولم نجد له(ع) أيَّ موقف ضعف في كلِّ تلك المسيرة، ففي الرواية: أنّه بعد أن حُملت الرؤوس إلى ابن زياد، التفت ابن زياد إلى عليِّ بن الحسين(ع) فقال: مَنْ هذا؟ فقيل: عليٌّ بن الحسين، فقال: أليس قد قتل الله عليَّ بن الحسين، فقال(ع) : "قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّ بن الحسين قتله الناس، فقال: بل الله قتله، فقال(ع) : {الله يتوفّى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42]، فقال ابن زياد: ولك جرأة على جوابي؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه، فسمعت عمّته زينب، فقالت: يا بن زياد، إنَّك لم تُبقِ منا أحداً، فإن عزمت على قتله فاقتلني معه، فقال لعمته: اسكتي يا عمّة حتى أكلّمه، ثم أقبل(ع) فقال: أبالقتل تهدّدني يا ابن زياد؟ أمّا علمت أنَّ القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة"(26).

وهكذا كان الإمام(ع) قوياً في مجلس يزيد، وذلك حين رآه ينكت بقضيب خيزران ثنايا الحسين(ع)، قال الإمام(ع): "ويلك يا يزيد! إنَّك لا تدري ماذا صنعت، وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي، إذاً لهربت في الجبال وافترشت الرَّماد ودعوتَ بالويل والثبور، أن يكون رأس أبي الحسين بن فاطمة وعليّ منصوباً على باب مدينتكم، وهو وديعة رسول الله فيكم، فأبشر بالخزي والندامة غداً إذا جُمِع النّاس ليوم القيامة"(27).

وهناك ملاحظةٌ جديرةٌ بالاهتمام، وهي أنَّ الإمام زين العابدين(ع) تخطّى كلَّ الحواجز التي صنعتها السلطة والحاكمون في طريق الدعوة إلى الله، فعمل على أن يحيط بالمشكلة الموجودة في الواقع الإسلامي من كلِّ جوانبها، والمشكلة تمثّلت منذ بداية الحكم الأمويّ في إبعاد المسلمين عن الأسس الإسلامية الفكرية الثقافية للعقيدة والشريعة وللمفاهيم العامة للإسلام، وللمنهج في التفكير والسلوك وفي حركة المسؤوليّة.. وهذا ما تصدّى(ع) لتوضيحه وإظهاره وبيانه على الأسس القرآنية الواضحة.. فالحكم الأمويّ يريد أن يبعد الناس عن الجانب الثقافي الفكري، ولذلك عندما ندرس عهد معاوية ويزيد ومرحلة ما بعدهما، فإنَّنا لا نجد أنَّ هناك تخطيطاً ثقافياً للدولة، إضافة إلى ذلك، فإنَّ حصاراً ضُرِب على عقول المسلمين، حتى أنَّ الكثيرين نسوا الثقافة التي كان يثقّفهم بها أمير المؤمنين عليٌّ(ع) الذي كان يملك العلم كلَّه، لقول رسول الله(ص): "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"، وكان يقول هو نفسه: "سلوني قبل أن تفقدوني، فإني بطرق السماء أعرف من طرق الأرض"، وينطلق إنسانٌ تافهٌ ليقول له كم شعرة في رأسي؟ وكان(ع) يقول وهو يخرج إلى ظهر الكوفة متألماً متأوّهاً: "إنَّ ها هنا ـ ويشير إلى صدره ـ لعلماً جمّاً لو وجدتُ له حَمَلَة".

نرجع فنقول: كانت الخطة هي تجهيل المسلمين، لأنَّ أمثال معاوية ويزيد ومن هم على شاكلتهما لا يمكن أن يسيطروا على مجتمع يملك وعي العلم وسعة المعرفة وعمق التقوى وأصالة المسؤولية وامتدادها.. لذلك بدأ الإمام زين العابدين(ع) حركته الفكريّة العلميّة كأوسع ما تكون الحركة، ما يُبعد الفكرة التي تقول إنَّ أسلوب زين العابدين(ع) كان أسلوب الدعاء فحسب.

ثبات الإمام رغم هول المأساة

ربما كانت مشكلة بعض الباحثين أنهم يتمثّلون في دراستهم للإمام زين العابدين(ع) الوجه الحزين الذي يعيش بكائية الألم في ذكرياته الأليمة والمفجعة للمأساة الكربلائية التي وعى كلَّ تجربتها المؤلمة القاسية التي تهزُّ الشعور كلَّه في عمق إحساسه، لتحوّله إلى فيض من الدموع المتفجّرة بالحزن المأساويّ، ولكننا لا نجد في الإمام(ع) ذلك على مستوى الظاهرة في معنى الشخصيّة، بل قد تكون على مستوى اللحظات الطارئة التي قد تحمل في طبيعتها بعض الحاجة إلى الإثارة والتذكير، من أجل الاستفادة من صورة الحزن في الذكرى، لاستعادة القضيّة في الوعي الإنساني بعمقٍ وامتدادٍ يُوحيان بالعقدة الحركيّة التي يتحمّلها كلُّ الناس الذين كانوا لا يزالون يخضعون للحكم الأموي الذي صنع المأساة واستمرّ في ممارساته البعيدة عن روح الدين.

إنّنا لا نلاحظ في تاريخ زين العابدين(ع) الكربلائي أيَّ مظهر للحزن المنهزم في مستوى ما تعطيه كربلاء من دوافع الحزن.. لقد كان حزيناً، ولكنَّ حزنه كان حزناً إنسانياً، لأنَّه الإمام الذي أُعدَّ لتسلّم المسؤولية في كربلاء بعد المعركة، وللسير في التجربة الإعلامية التي أعقبت المعركة، ولم تسقطه المأساة ـ كما قلنا ـ في الكوفة، فكان الإنسان الذي وقف أمام ابن زياد في موقف العنفوان الذي لم يهن ولم يسقط، بل تحدّث بلغة إسلاميّة أحرجت ابن زياد، حتى كاد أن يكون ردُّ فعله الأمر بقتله لولا تدخّل عمته العقيلة زينب(ع) .. وهكذا كان في الشام أمام يزيد، حيث نجد في موقفه الهدوء القوي والصبر الجميل والوعي المنفتح على الموقف، بالدرجة التي قد لا نجد لديه أيّة دموع ليسكبها على المأساة القريبة من تلك المرحلة..

إنَّنا لا نستطيع أن نتصوّر الإمام جازعاً باكياً بالطريقة التي يستهلكها بعض رواة التاريخ الذين يريدون تحريك الإثارة العاطفيّة من دون دراسة للأسس الأخلاقية القويمة التي ترتكز عليها شخصيّة هذا الإمام والأئمة من أهل البيت(ع) ، حيث ينطلق الصبر ليكون في مستوى الأساس الذي ترتكز عليه الشخصيّة في جميع جوانبها، من خلال التجسيد العمليّ للقيمة الأخلاقية التي تتمرّد على الألم وتبتعد عن الجزع، ليرى المسلمون والناس كلُّهم في مسيرتهم الإسلامَ الأخلاقي الذي يرتفع به الإنسان عن أشدِّ حالات البلاء.. وفي دراستنا للروايات التي رواها صاحب البحار حول بكاء السجّاد(ع) واعتباره من البكّائين الخمسة، لاحظنا أنها غير نقيّة السند من خلال القواعد العلميّة في تقويم الحديث، هذا بالإضافة إلى بعض المضامين التي لا تتناسب مع موقع الإمام (عليه السلام) ومكانته الإسلامية والروحيّة.

وهكذا، لم يكن السجّاد(ع) يشعر بأيِّ ذلّ، وإن كان السبي والأسر قاسيين، ولكنه(ع) كان يُخرج من قلب هذه القسوة الموقف الإسلاميَّ القويّ، ولم تزلزله المأساة وتسقطه، حتى أنَّه عندما كان يبكي على أبيه الحسين(ع) في أكثر من حالة، كان لا يبكي جزعاً، لأنَّ الإمام(ع) فوق الجزع، وإن كان الحزن في أعماق قلبه، لكنَّه كان يبكي ليثير قضيّة الحسين(ع) في وجدان الناس ووعيهم في كلِّ مناسبة للبكاء..

العاطفة في خطِّ القضيّة الحسينيّة

وهكذا انطلق(ع) بعد كربلاء إلى المدينة، فكان يثير الحزن بين وقت وآخر، ومن الطبيعي أن يتحرّك هذا الحزن في قلبه، فقد كانت المأساة كبيرة، وعندما ينفصل الإنسان عن جوِّ المأساة ويخلو إلى نفسه، فإنَّ الذكريات تتعاظم وينطلق الألم عميقاً، ولكنّه كان يخطّط لشي‏ء آخر، كان يبكي ليعلّم الناس أسلوب البكاء على الحسين(ع) ، وكان يحدّثهم عنه في كلِّ ألوان المأساة، ليُخلِّد في وجدان الناس تلك المأساة.. كان(ع) أوّل مَنْ خطّط لانطلاقة العاطفة في خطِّ القضيّة الحسينيّة، لأنَّ أهل البيت(ع) كانوا لا يريدون أن تضيع في التاريخ، ولا يريدون للنهضة الحسينيّة أن تبقى في كربلاء، لتضمّها كربلاء قبوراً، ولينسى الناس في زحمة الأحداث الكبرى كلَّ ما جرى هناك.. إنهم أرادوا كربلاء أن تكون الجرح النازف الذي يبقى ينزف من أجل أن يتحوّل هذا النزيف من هذه الجراح إلى ثورة ضدّ الذين يصنعون المأساة في حركة الإنسان في التاريخ.. وفي رأينا أنَّ العاطفة لا بدَّ أن تبقى في عاشوراء، لأنّنا إذا فرّغنا القضية من العاطفة فإنَّها تموت، والذي أبقى عاشوراء، بالرغم من أنَّه مضى عليها ما يقارب الأربعة عشر قرناً هو الحقُّ والعاطفة معاً..

ولذلك، فإنَّ كربلاء تتحرّك في وحيها مع مأساة القضية الفلسطينية، ومع كلِّ المآسي التي يسبّبها الاستكبار للشعوب، وهي تتحرّك في كلِّ حالات الاضطهاد التي تواجهها مع حكّامها، ولكنْ لكلِّ موقع إيحاءٌ من كربلاء يختلف عن موقع آخر، لأنَّ كربلاء انطلقت من خلال الإسلام، والإسلام يأبى الظلم لأيٍّ كان حتى للكفّار، لأنَّ الله لا يريد للإنسان أن يُظلم، بل يريد أن يأخذ حقَّه، سواء كان مسلماً أو كافراً، ولذلك، فإنَّ كربلاء تمثّل صيحة العدل في مقاومة الظلم، فكربلاء كانت إسلاميّة، ولم تكن دائرة ضيّقة تمثّل وضعاً طائفياً معيّناً، بل كانت ساحةً مفتوحةً تمثّل إسلاماً يعمل على أن ينقّي الساحة الإسلامية.. ولهذا، فقد قلناها دائماً بالصوت العالي: إنه من الخطأ، بل من الجريمة أن نعتبر عاشوراء موجّهة ضدّ المسلمين السُّنّة، وإنَّما هي موجّهةٌ ضدّ كلِّ ظالم، سواء كان سنيّاً أو شيعيّاً، ونحن نعرف أنَّ (يزيد) لا يمثّل السُنّة، وأنَّ الحسين بنص النبيّ(ص) كان يمثّل الإسلام: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة".

ولذلك، لا بدَّ أن نطلق كربلاء إسلاميّة من خلال قيم الإسلام التي جسّدها الإمام الحسين(ع) في حركته وشعاراته. ومن هنا، كان أهل البيت(ع) يريدون للمجالس الحسينيّة أن تتحرّك (أحيوا أمرنا)، ولا أمر لهم إلاَّ الإسلام والعدل، ولا أمر لهم إلاَّ أن يعيش الناس الحقّ في كلِّ مواقعهم ومجالاتهم.. ومن هنا، فإنَّ علينا أن نفهم ممّا يُنقل إلينا من بكاء زين العابدين(ع) ومن حزنه، فلسفة كلِّ هذه الرحلة البكائية التي تريد أن تغسل القلوب بتلك الدموع، وأن تحرّك الدموع الحارّة من خلال الرسالة..

ولقد كان(ع) يتنقّل في سوق القصّابين ليقف مع قصّاب يذبح كبشه ويسأله: هل سقيته الماء؟ وذلك كما تروي السيرة، وعندما يجيبه بالإيجاب والناس مشغولون في السوق، وإذ بزين العابدين(ع) يُطلق حزناً ذاتياً عندما يستحضر استشهاد أبيه عطشانَ، وكان يريد من ذلك أن يهيّئ من خلاله الجوّ ليتحسّس الناس في وجدانهم معنى القضيّة الحسينيّة على مستوى المأساة، وعلى مستوى الرسالة.

وهكذا لاحظنا حزن زين العابدين(ع) الذي كان يختزنه في عقله وقلبه بأعمق ما يكون، وإنّني لا أتصوّر حزناً لإنسان أعمق من حزن هذا الإمام الذي تمثّلت مجزرة كربلاء أمامه بكلِّ وحشيتها وهمجيّتها وأحزانها.. وهكذا عندما رأى(ع) مشهد النساء المروَّعات.. مشهد وحشية بني أمية ووحشية جيشهم، عندما قام هؤلاء الجبناء بإحراق الخيم وفيها النساء والأطفال، ويرى النساء بأمّ عينه كيف ينطلقن من خيمة إلى خيمة، ويفررن على وجوههنَّ في البيداء..

ورغم السبي والأسر، عاش الصلابة في مشاعره وأحاسيسه.. وبعد ذلك عمل(ع) على أن يخلّد هذا الحزن لكربلاء ليكون خطّاً في الزمن، وأن يحرّكه من أجل أن يدين كلَّ هذه المواقف التي شاركت في المجزرة والجريمة، ليزرع فيها عقدة الضمير التي تؤرقها ليل نهار.. حرّك(ع) هذا الخطَّ ليجعل الفئة التي خذلت الحسين(ع) تستيقظ من تلك الرقدة الشيطانيَّة التي أحاطت بها، فجعلت قلوب قومه معه وسيوفهم عليه، وجعلت قوماً يعيشون الحياد بينه وبين خصومه.

من هنا، وكما قلنا، نفسِّر حزن زين العابدين(ع) على أبيه الحسين والصفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحابه، على أنَّه كان حزناً إنسانياً، يعبّر فيه عن إنسانيته وذكرياته الأليمة لمشاهد الواقعة التي تقطع نياط القلب: "ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلا وذكرت فرارهنَّ يوم كربلاء من خيمة إلى خيمة"، أو "هل سمعتْ أذناك أو رأت عيناك هاشميّة سبيّة لنا قبل عاشوراء".

من الطبيعي أن يحفر الحزن في قلبه(ع) كأيِّ إنسان يتمثّل المأساة بكلِّ أعصابه ومشاعره، ولا بدَّ أن يعيشها في نفسه، لأنَّ الله يريد للإنسان أن يعيش عاطفته اتِّباعاً لسنّة رسول الله(ص) عندما مات ولده إبراهيم "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الله وإنَّا لفَقدك يا إبراهيم لمحزونون".. وهكذا كانت عاطفة السجّاد(ع) عاطفة هادئة، حزينة الحزن الذي يتمثّل في بعض دموعه وكلماته، بحيث يخشع القلب أمامه في هذا المعنى وهذا المشهد.

* * * *

المصادر

(1) بحار الأنوار، ج 46، ص 97، ومناقب ابن شهر آشوب، ج 3، ص 299.

(2) بحار الأنوار، ج 46، ص 97.

(3) الإرشاد للشيخ المفيد، طبعة بيروت، ص 153.

(4) بحار الأنوار، ج 46، ص 64.

(5) عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 145.

(6) مناقب ابن شهر آشوب، ج 3، ص 291.

(7) بحار الأنوار، ج 46، ص 105.

(8) بحار الأنوار، ج 46، ص 70.

(9) تاريخ الطبري، ج 5، ص 485 482.

(10)نهج البلاغة، قصار الحكم 178.

(11) دعاؤه في مكارم الأخلاق.

(12)تاريخ الطبري، ج 8، ص 61.

(13)مناقب ابن شهر آشوب، ج 3، ص 301.

(14)الإرشاد، ص 146 145.

(15)أمالي الصدوق، ص 201.

(16)حلية الأولياء، ج 3، ص 135.

(17)حلية الأولياء، ج 3، ص 136.

(18)بحار الأنوار، ج 46، ص 89.

(19)حلية الأولياء، ج 3، ص 140.

(20)الإرشاد، ص 149.

(21)بحار الأنوار، ج 46، ص 74.

(22)الكافي، ج 5، ص 345.

(23)بحار الأنوار، ج: 45، ص:129.

(24)بحار الأنوار، ج: 64.

(25)حلية الأولياء، ج:3، ص:139 ـ الأغاني، ج:14، ص:75، الإرشاد للمفيد، ص:151.

(26)الملهوف، ص:144.

(27)بحار الأنوار، ج:45، ص:136.

في سيرة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع) ، أكثر من عالَم منفتح على الله وعلى الإنسان والحياة، وأكثر من أفق منطلق بالفكر والروح والشعور والحبّ الإلهيّ والعرفان الروحيّ، وأكثر من مساحة مليئة بالقضايا الأخلاقية، والأجواء الإنسانية والمناهج الحركيّة، وهو(ع) في ذلك كلِّه ، يمثِّل وحدةً تربط بين كلِّ هذه العوالم والآفاق والسّاحات، لأنّه الإنسان الذي عاش مع الله معنى العبوديّة الخالصة له أمام ألوهيته المهيمنة على الأمر كلِّه، فكانت مسؤوليته في إنسانيته إحدى مظاهر هذه العبوديّة، وبذلك التقى بالإنسان في كلِّ مواقعه، وانفتح على الحياة في كلِّ مجالاتها، فكان الفكرُ سرَّ ارتفاع الإنسان في مستوى المعرفة التي تطوف به في آفاق الله، لتمتدَّ معه في أسرار الحياة في ظواهرها الكونيّة في سنن الله في الكون، وفي ظواهرها الإنسانية الفردية والاجتماعية في سنن الله في الأفراد والمجتمعات..

وهكذا اكتشف الروح في البعد الإنساني السائر إلى الله في عبادة شعوريّةٍ تهزُّ الأعماق، وفي حبٍّ لله يغمر الكيان كلَّه، فيذوب الإنسان معه في أجواء العشق الإلهيّ الذي يصفو الإنسان به ويرقّ، فيعيش الصفاء كلَّه والنقاء كلَّه في إطلالة على الحياة، وفي استغراق في العالم الآخر فيما بعد الموت، حيث الحياة الجديدة التي "لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"، وفي هذه الحياة الأخروية إطلالةٌ على ما ادّخره الله للمؤمنين: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مّا أُخفيَ لهم من قرّةِ أعيُنِ جَزاءً بما كانوا يَعْمَلون} [السجدة:17].

إنسان الله

ومع الله في الأجواء الروحية العباديّة الفكريّة، لا بدَّ من قاعدة أخلاقية للسلوك يقف الإنسان عليها، ليتطلّع إلى الله من موقع أخلاقيّ متين، أصله ثابتٌ وفرعه في السماء، يُؤتي أُكُلَه كلَّ حين بإذن ربِّه، وذلك من خلال استيحاء أخلاق الله في صفاته العليا وأسمائه الحسنى، على هدى الحديث المأثور: "تخلّقوا بأخلاق الله"، ليكون الإنسان بذلك إنسانَ الله في روحيته الأخلاقيّة وأخلاقه الإلهيّة.

ومع الله، يكتشف إنسانيته في حركة المسؤولية في حياته، لينفتح على الآخر في آلامه ومشاكله وقضاياه وحاجاته وأوضاعه الخاصة والعامة، ولينطلق معه، فيكون إيجابياً في حركته في اتجاهه، حتى ولو كان الآخر سلبيّاً معه، كما نستوحي ذلك في الخطِّ التصاعدي الذي يرتبط بالأفضل والأكمل والأحسن، ليعارض مَنْ غشَّه بالنصح، ويجزي مَنْ هجره بالبرِّ، ويثيب مَنْ حرمه بالبذل، ويكافى‏ء مَنْ قطعه بالصّلة، ويخالف مَن اغتابه إلى حُسن الذكر، ويشكر الحسنة ويغضي عن السيئة، ويكره ظلمه للآخرين، كما يكره ظلم الآخرين له، انطلاقاً من رفض المبدأ كلِّه من نفسه ومن النّاس..

ومن هنا، اتجهت محاولة القرآن إلى هذه الناحية لدى الداعية، فحاول أن يروّض نفسه، ويوسّع آفاقه، فيُخرجه من نطاق ذاته إلى نطاق الحقيقة الواسع، ويبتعد به عن طبيعة الكبرياء الكاذب الذي يضرى في داخله، ليأخذ بيده إلى طبيعة التسامح.. وهكذا تنطلق الحركة الإنسانية في خطِّ المنهج القائم على العدل والاستقامة والحريّة، لتكون الحياة أقوى وأقوم وأكثر انفتاحاً على الحقِّ والخير والسلام.

سيرةٌ منفتحة على الآفاق الرحبة

إننا نرى أنَّ سيرة الإمام زين العابدين(ع) بحاجة إلى دراسة توثيقيّة واسعة تقف أمام كلِّ المفردات التي يحفل بها تاريخ هذا الإمام العظيم، لنستوحي منها أكثر من خطٍّ فكري وأخلاقيّ وروحيّ واجتماعي على مستوى النظريّة في النهج العام، ولتلتقي بالخطوط التفصيليّة في حركة السلوك العمليّ في هذه المسيرة على مستوى التطبيق، لتجد الإنسان تجسيداً للقيمة الروحية المثلى، ولتكتشف في عمق هذه القيمة وامتدادها عمق الإنسان وامتداد أبعاده في السرِّ الكامن في الفكر والعقل والروح في مداها الواسع..

وقد ينفتح الدارسون فيها على الكثير الكثير من مفردات الثقافة الإسلامية في المسألة العقيدية والفقهية والعرفانيّة والاجتماعية والأخلاقية، بحيث تتمثّل لك الثروة العلميّة الواسعة الممتدّة في واقع الحياة كلِّها على خط الإسلام.

وإذا درسنا الشخصيات التي روت عنه وتتلمذت عليه وعاشت في مدرسته، فإنَّنا نجد في ذلك كلِّه أنَّه كان في عصره الوجه الأبرز والأكثر إشراقاً وتأثيراً في الثقافة الإسلامية آنذاك.

"وقد روى عنه الطبريّ، وابن البيّع، وأحمد، وابن بطّة، وأبو داود، وصاحب الحلية والأغاني، وقوت القلوب، وشرف المصطفى، وأسباب نزول القرآن، والفائق، والترغيب والترهيب، عن الزهريِّ، وسفيان بن عيينة، ونافع، والأوزاعي، ومقاتل، والواقدي، ومحمد بن إسحاق"(1).

ورُوي عن الزهري أنَّه قال: "قال كلُّ واحد منهم: ما رأيت هاشميّاً أفضل من زين العابدين ولا أفقه منه"(2).

أستاذ العلماء

وكان الإمام زين العابدين(ع) في تلك الفترة وبعدها العالم المعلِّم، ولو درسنا ما جاء عنه(ع) من تراث متنوّع في أكثر من موقع من مواقع المعرفة الإسلاميّة، لرأينا أنَّ الإمام كان أستاذ الفكر الإسلامي آنذاك، وعندما نعدّد تلامذته، فإنَّنا نجد أنهم يتنوّعون في ما يختصُّ بالتاريخ والتفسير والفقه وشتى المعارف، ولذلك، فإنَّ تراث الإمام(ع) الذي يجهله الكثيرون منّا في المجال الفكريّ والثقافيّ في مواقع المعرفة كلِّها، يزيد عن تراثه في الدعاء، "وقد روى عنه فقهاء العامة من العلوم ما لا يُحصى كثرةً، وحُفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيّام، ما هو مشهورٌ بين العلماء، ولو قصدنا إلى شرح ذلك لطال به الخطاب وتقضّى به الزمان"(3).

ونقرأ شهادات مَنْ كانوا في عصره أو قريباً من عصره، يقول الإمام مالك: "سمّي زين العابدين ولا أفقه منه"، وعدّه الإمام الشافعي: "أفقه أهل المدينة".. كما نجد أنَّ بعض القرّاء يقول: "كان القرّاء لا يخرجون إلى مكة إلا إذا خرج معهم زين العابدين(ع)، وانتظروه في وقت حتى خرج، فخرج معه ألف راكب من القرّاء".

وعندما ندرس حياة الذين أخذوا العلم عنه، فإننا نرى أنَّه استطاع أن يعلّم أساتذة العالم الإسلامي آنذاك، وليسوا كلّهم شيعة، بل كان منهم مَنْ لا يتشيّع، ومع ذلك كان الإمام يستقبل كلَّ هؤلاء ويعطيهم من علمه علماً ومن خشيته لله خشية، ومن ورعه ورعاً، وكانوا يردّدون بصوت واحد، ليس هناك في المسلمين أشدّ ورعاً وفضلاً من عليّ بن الحسين، كانوا يقولون ذلك بشكل عفوي، وكانت مكانته التي انطلقت في هذا الخطّ وفي كلِّ الخطوط تعيش في أعماقهم، كان الناس يعيشون هناك في ظلال الحكم الأمويّ، وكانت مصالحهم مع بني أميّة وكانوا يجاملونهم، ولكن كان عمق إخلاصهم ومحبتهم للإمام زين العابدين(ع)، وعن سفيان بن عيينة قال: قلت للزهريّ، لقيتَ عليَّ بن الحسين(ع) ؟ قال: "نعم لقيته، وما لقيت أحداً أفضل منه، والله ما علمت له صديقاً في السرّ، ولا عدواً في العلانية، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأنّي لم أرَ أحداً وإن كان يحبُّه إلا وهو لشدّة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلا وهو لشدّة مداراته له يداريه"(4).

وهذا هو الفرق بين أن تدخل أعماق النّاس من خلال استقامتك، وبين أن تدخل حياة الناس من خلال سيفك أو سلطتك.. كان(ع) يعيش مع الناس من الموقع الإسلاميّ البسيط، ينفتح على النّاس كلِّهم، يعفو عن مسيئهم ويعطي فقيرهم ويهدي ضالّهم ويعلّم جاهلهم ولا يمتنُّ على أحدٍ بشي‏ء، وكان إذا سافر لا يسافر مع قومٍ يعرفونه، حتى كان يُكلَّف بما كان يكلّف به كلُُّ أهل القافلة..

سموّ الذات

وجاء في كتاب (عيون أخبار الرضا) عن الإمام الصادق(ع) قال: "كان عليّ بن الحسين(ع) لا يسافر إلا مع رفقةٍ لا يعرفونه، ويشترط عليهم أن يكون من خَدَم الرفقة في ما يحتاجون إليه، فسافر مرّةً مع قوم، فرآه رجلٌ فعرفه، فقال لهم: أتدرون مَنْ هذا؟ فقالوا: لا، قال: هذا عليّ بن الحسين(ع) ، فوثبوا إليه، فقبّلوا يده ورجله، وقالوا: يا بن رسول الله، تريد أن تصلينا نار جهنّم لو بدرت منا يدٌ أو لسانٌ، أمَا كنا قد هلكنا إلى آخر الدهر؟ فما الذي يحملك على هذا؟ فقال: إني كنت سافرت مرّةً مع قوم يعرفونني، فأعطوني برسول الله(ص) ما لا أستحق، فإنّي أخاف أن تعطوني مثلَ ذلك، فصار كتمان أمري أحبَّ إليَّ"(5).

فأين هو الفرق بيننا وبينه(ع) ؟ الفرق بيننا في ما نحصل عليه من امتيازات أنَّ بعضنا إذا انتسب إلى رسول الله(ص) وحمل شجرة النسب بين يديه، فإنَّه يريد للناس أن يحملوه على ظهورهم، وأن يقدّروه ويحترموه، ويكون البطّال وهم يشتغلون له.. أهل البيت(ع) لا يريدون ذلك لمن انتسب إليهم، والنبيّ(ص) لم يبعثه الله ليُحمَل أقاربه على ظهور الناس وأعناقهم.. وهذا ما نطلُّ عليه من خلال سيرة الأئمة(ع) .. فقد جاء في مناقب ابن شهر آشوب عن طاووس الفقيه قال: "رأيته ـ يتحدّث عن الإمام زين العابدين(ع) ـ يطوف من العشاء إلى سَحَر ويتعبّد، فلما لم يرَ أحداً، رمق السماء بطرفه وقال: إلهي غارت نجوم سماواتك، وهجعت عيون أنامك، وأبوابك مفتّحات للسائلين، جئتك لتغفر لي وترحمني وتريني وجه جدي رسول الله(ص) في عرصات القيامة.. ثم بكى وقال: وعزِّتك وجلالك، ما أردت بمعصيتي مخالفتك، وما عصيتك إذ عصيتك وأنا بك شاكٌّ، ولا بنكالك جاهل، ولا لعقوبتك متعرّض، ولكن سوّلت لي نفسي وأعانني على ذلك سترُك المُرخى به عليَّ، فالآن من عذابك مَنْ يستنقذني؟ وبحبل مَن أعتصم إن قطعت حبلك عنّي؟ فوا سوأتاه غداً من الوقوف بين يديك، إذا قيل للمُخفّين جوزوا وللمثقلين حُطّوا، أمع المخفّين أجوز؟ أم مع المثقلين أحطّ؟ ويلي كلما طال عمري كثُرت خطاياي ولم أتب، أما آن لي أن أستحي من ربِّي؟ ثم بكى وأنشأ يقول:

أتحرقني بالنار يا غية المنى فأين رجائـي ثم أيـن محبـتـي

أتيتُ بأعمالٍ قباحٍ رزيةٍ وما في الورى خلق جنى كجنايتي

ثم بكى وقال: سبحانك تُعصى كأنَّك لا تُرى، وتَحْلُم كأنَّك لم تُعْص، تتودّد إلى خلقك بحسن الصنيع، كأنَّ بك الحاجة إليهم، وأنت يا سيدي الغنيُّ عنهم.. ثم خرَّ إلى الأرض ساجداً، فدنوت منه وشلت برأسه، ووضعته على ركبتي وبكيت حتى جرت دموعي على خدِّه، فاستوى جالساً وقال: مَن الذي أشغلني عن ذكر ربّي؟ فقلت: أنا طاووس يا بن رسول الله، ما هذا الجَزَع والفزع؟ ونحن يلزمنا أن نفعل مثلَ هذا ونحن عاصون جانون، أبوك الحسين بن عليّ، وأمُّك فاطمة الزهراء، وجدُّك رسول الله(ص)، فالتفت إليَّ وقال: هيهات هيهات يا طاووس، دع عني حديث أبي وأمي وجدّي، خلق الله الجنّة لمن أطاعه وأحسن ولو كان عبداً حبشيّاً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان ولداً قرشيّاً، أمَا سمعت قوله تعالى: {فإذا نُفِخ في الصُّورِ فلا أنسابَ بينَهُم يومئذٍ ولا يتساءَلُون} [المؤمنون: 101 ]، والله ما ينفعك غداً إلا تقدمة تقدّمها من عملٍ صالح"().

محرّر العبيد

لقد جاء في سيرة الإمام(ع) أنَّه كان يشتري العبيد والإماء ـ حيث كان نظام العبيد موجوداً في الواقع الإسلامي ـ ويحرّرهم بعد أن يتعهّدهم بالتربية والتوجيه لينطلقوا إلى المجتمع مؤمنين صالحين، حيث يكون قد فقّههم ورفع من مستواهم، ثم يعتقهم في يوم الفطر بعد أن يغنيهم بما لا يحتاجون إلى الناس.. وكان(ع)، كما تذكر سيرته، يشتري العبيد في الموسم في عرفات، حتى إذا انتهى الموسم حرّرهم جميعاً بعد أن يحفظ ماء وجوههم.. ومن خلال ما نقرأه في سيرته عن تحريره للعبيد في كلِّ سنة، نستطيع أن نقول إنَّه محرّر العبيد بما لم يُعْهَد من مثله، وكان عندما يعيش معهم، لا يعاملهم معاملة السيّد للعبيد، ولكن كانت معاملته معهم، معاملة المؤمن للمؤمن الذي يحترم إنسانية الآخر.. فقد جاء في سيرته(ع) في هذا المجال أنَّه كان يجمع عبيده ويتحدّث معهم في أسلوب تربويّ من أرفع الأساليب في التربية والتواضع والروحانية، فكان(ع) : "إذا دخل شهر رمضان، لا يضرب عبداً ولا أمَةً، وكان إذا أذنب العبد والأمَة يكتب عنده: أذنب فلانٌ، أذنبت فلانة يوم كذا وكذا، ولم يعاقبه، فيجتمع عليهم الأدب، حتى إذا كان آخر ليلة من شهر رمضان، دعاهم وجمعهم حوله ثم أظهر الكتاب، ثم قال: يا فلان فعلت كذا وكذا، ولم أؤدّبك أتذكر ذلك؟ فيقول: بلى يا بن رسول الله، حتى يأتي على آخرهم، ويقرِّرهم جميعاً، ثم يقوم وسطهم ويقول: ارفعوا أصواتكم وقولوا: يا عليَّ بن الحسين، إنَّ ربَّك قد أحصى عليك كلَّ ما عملت كما أحصيتَ علينا كلَّ ما عملنا، ولديه كتابٌ ينطق عليك بالحقّ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرة مما أتيت إلا أحصاها، وتجد كلَّ ما عملت لديه حاضراً كما وجدنا كلَّ ما عملنا لديك حاضراً، فاعفُ واصفح كما ترجو من المليك العفو، وكما تحبُّ أن يعفو عنك، فاعفُ عنا تجده عفوّاً وبك رحيماً ولك غفوراً ولا يظلم ربُّك أحداً، كما لديك كتابٌ ينطق بالحقّ علينا لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً مما اتيناها إلا أحصاها، فاذكر يا عليَّ بن الحسين ذلَّ مقامك بين يدي ربِّك الحكم العدل، الذي لا يظلم مثقال حبّة من خردل، ويأتي بها يوم القيامة، وكفى بالله حسيباً وشهيداً، فاعف واصفح يعفُ عنك المليك، فإنَّه يقول: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبّون أن يغفر الله لكم}[النور:22]، وهو ينادي بذلك على نفسه في عملية ابتهال وحالة طوارى‏ء روحيّة ويلقّنهم، وهم ينادون معه، وهو واقفٌ بينهم يبكي وينوح ويقول: ربِّ إنَّك أمرتنا أن نعفو عمّن ظلمنا، وقد عفونا عمّن ظلمنا كما أمرت فاعفُ عنّا، فإنّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين، وأمرتنا ألا نردَّ سائلاً عن أبوابنا، وقد أتيناك سؤّالاً ومساكين، وقد أنخنا بِفنائِك وببابك نطلب نائلك ومعروفك وعطاءَك، فامنن بذلك علينا ولا تخيّبنا، فإنَّك أولى بذلك منّا ومن المأمورين.. إلهي كرمت فأكرمني إذا كنتُ من سؤّالك، وَجُدْتَ بالمعروف فاخلطني بأهل نوالك يا كريم.. ثم يقبل عليهم فيقول: قد عفوت عنكم فهل عفوتم عنّي ومما كان منّي إليكم من سوء ملكة؟ ـ كان(ع) يقول ذلك وهو لا يخطى‏ء لأنَّه المعصوم، لكنه يريد أن يعلّمنا كيف يعيش الإنسان مع مَنْ هم تحت يديه من العمال والموظفين، وفي مجتمع العائلة والأولاد والزوجة ـ فيقولون: قد عفونا عنك يا سيدنا، وما أسأت، فيقول لهم، قولوا: "اللّهمّ اعفُ عن عليِّ بن الحسين كما عفا عنَّا، فاعتقه من النار كما أعتق رقابنا من الرقّ، فيقولون ذلك، فيقول: اللهم آمين ربَّ العالمين، اذهبوا فقد عفوت عنكم وأعتقت رقابكم رجاءً للعفو عنّي وعتق رقبتي.. فيعتقهم، فإذا كان يوم الفطر أجازهم بجوائز تصونهم وتغنيهم عمّا في أيدي النّاس"(7).

هذه سيرته مع عبيده الذين لم يشترهم ليستعبدهم، بل ليربّيهم ويحرّرهم ويصون وجوههم عن الناس، وتلك هي سيرته مع النّاس، وحتى مع الحيوان، فإنَّه(ع) كان عندما يريد أن يهوي بالسوط على ناقته عندما تمتنع عن السير، فإنَّه كان يتراجع عن ضربها ويقول: "آه لولا القصاص"، كأنه(ع) يوحي إلينا بأنَّ الإنسان إذا ضرب الحيوان وآذاه، فإنَّ الله سيقتصُّ منه يوم القيامة.. وفي الرواية: "قال عليّ بن الحسين(ع) لابنه الباقر(ع) حين حضرته الوفاة: إنني قد حججت على ناقتي هذه عشرين حجّة فلم أقرعها بسوط قرعةً واحدة"(8).

الحلم وسعة الصدر: قدوة في السماح والعفو

في هذا المجال، تذكر كتب السيرة أنَّ مروان بن الحكم كان يعيش البغض والعداوة لعليّ ولأبنائه (عليهم السلام).. ودارت الدائرة على بني أميّة بعد واقعة الحرّة في ثورة أهل المدينة على يزيد، وكان لمروان عائلةٌ كبيرة من أولاده وأحفاده نساءً ورجالاً، ويذكر الطبري في تاريخه في أحداث سنة 63 للهجرة: "ما كان من إخراج أهل المدينة عامل يزيد بن معاوية، عثمان بن محمد بن أبي سفيان، وإظهارهم خلع يزيد بن معاوية وحصارهم مَن كان بها من بني أميّة، وعلى رأسهم مروانُ بن الحكم". ذكر الطبري أيضاً "أنّه لما أخرج أهل المدينة والي يزيد منها، كلّم مروان بن الحكم عبدَ الله بن عمر أن يغيّب أهله عنده، فأبى ابن عمر أن يفعل ذلك، وكلَّم علي بن الحسين وقال: إنَّ لي رَحِماً وحُرَمي تكون مع حرمك، فقال(ع): افعل، فبعث بحرمه إلى عليّ بن الحسين، فخرج بحرمه حتى وضعهم بيُنبع (منطقة قرب المدينة)، وكان مروان شاكراً لعليِّ بن الحسين"(9)، ومكث هؤلاء عند عليِّ بن الحسين(ع) كما تقول كتب السيرة مدّة طويلة، حتى انجلى الموقف، وقالت بعض بناته ـ كما يُنقل ـ لم نجد من الحفظ والرعاية والعاطفة في بيت أبينا كما وجدناه عند عليِّ بن الحسين(ع) . لقد ارتفع(ع) عن الحقد، لأنَّه ككل أهل البيت(ع) ، لا يحملون حقداً على إنسان حتى على الذين صنعوا المأساة في حياتهم. أيّة شخصيّة هي شخصية الإمام زين العابدين(ع)؟!

ما رأينا على مدى التاريخ موقفاً كموقفه، حيث رأى أباه وإخوته وأعمامه وأبناء عمومته وأصحاب أبيه والأطفال منهم، رآهم مجزّرين كالأضاحي ورآهم عطاشى، ما رأينا إنساناً عاش في نصف نهار مثل هذه المأساة التي صنعها بنو أميّة في كربلاء.. هل يمكن أن يبقى في قلبه ذرّة حبٍّ أو عطف على إنسان أمويّ؟ هل يمكن أن يفكّر في الإحسان لأيّ إنسان أمويّ؟ ومن هو هذا الإنسان الأمويّ الذي أحسن إليه الإمام(ع) بأفضل الإحسان؟ إنَّه مروان بن الحكم الذي أشار لوالي المدينة أن يأخذ البيعة ليزيد من والده الإمام الحسين(ع) بعد موت معاوية، "وإذا رفض ذلك فاقتله قبل أن يخرج".. ونحن نعرف أنَّ أهل البيت(ع) تعلّموا من جدّهم رسول الله(ص) ومن خلال القرآن، كيف يتعالون على كلِّ حقد، فلم يحملوا(ع) حقداً لأيّ شخص من الناس، بل كانوا يحملون المحبة حتى لأعدائهم من أجل أن تشارك المحبة في هدايتهم، كما يحملون المحبة لأوليائهم، لقد تعلّموا من رسول الله(ص) ما كان يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون"، وتعلّموا من عليٍّ(ع) أنَّه كان يساعد ويعاون ويشير على خصومه الذين أبعدوه عن الخلافة التي هي حقّه الطبيعي، وتعلموا منه(ع) عندما قال: "احصد الشرَّ من صدر غيرك بقلعه من صدرك"().

ملكْنا فكان العفو منا سجيـة فلما ملكتم سال بـالدم أبطـحُ

وحللتم قتل الأسارى وطالمـا عَدَوْنا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ

فحسبكم هذا التفاوُت بيننـا وكلُّ إنـاءٍ بالذي فيـه ينضـحُ

ونحن نقرأ معه هذا السموّ الإسلامي الذي يريدنا أن نرتفع إليه في دعائه في مكارم الأخلاق: "وسدّدني لأن أعارض مَنْ غشّني بالنُّصح، وأجزي مَنْ هجرني بالبرِّ، وأثيب مَنْ حرمني بالبذل، وأكافى‏ء مَنْ قطعني بالصلة، وأخالف مَن اغتابني إلى حُسن الذكر، وأن أشكر الحسَنَة وأُغضي عن السيئة"()، أيُّ سموّ هذا الذي يرتفع به الإنسان عن كلِّ التعقيدات الموجودة في نفسه أمام الذين يُطلقون العقدة في حياته؟ ولكنَّ أهل البيت(ع) هم كرسول الله(ص) في أخلاقهم، كما هم كذلك في سلوكهم واستقامتهم، فلقد عاشوا رسولَ الله(ص) نسباً، وفكراً، وروحاً، وخطّاً، والتزموه منهجاً، واستطاعوا أن يؤصِّلوا ما جاء به رسول الله في حياتهم وحياة الآخرين..

وينقل الطبري أيضاً في تاريخه أنَّه كان هناك والٍ في المدينة من قِبَل الأمويين، وكان يتعرّض بالإساءة دائماً للإمام(ع) ويُدعى هشام بن إسماعيل، فلما "عُزِل أمر به الوليد أن يُوقف للناس ليضربوه ويشتموه، فقال: ما أخاف إلاَّ من عليّ بن الحسين، فمرَّ به عليّ بن الحسين(ع) وقد وقف عند دار مروان، وكان عليٌّ قد تقدّم إلى خاصّته ألا يعرض له أحدٌ منهم بكلمة، فلما مرَّ(ع) ناداه هشام: اللهُ أعلم حيث يجعل رسالاته"(12).

وزاد ابن فيّاض في الرواية في كتابه "أنَّ زين العابدين(ع) أنفذ إليه وقال: انظر إلى ما أعجزك من مال تُؤخَذُ به، فعندنا ما يَسَعُك، فطبْ نفساً منّا ومن كلِّ مَنْ يطيعنا، فنادى هشام: الله أعلم حيث يجعل رسالاته"(13). وهكذا نجد أنَّ الإمام زين العابدين(ع) كان يجسّد العفو والتسامح والقيمة الأخلاقية التي لا يستطيع الناس الارتقاء إلى مستوى قمته في ذلك..

وهكذا كانت سيرته مع الذين أساؤوا إليه، ولم يكن ذلك ضعفاً منه، بل كان قوّةً في الخُلُق السامي الذي انطلق القرآن فيه: {ادْفعْ بالتّي هي أحسنُ فإذا الّذي بينك وبينه عداوةٌ كأنّه وليٌّ حميم} [فصّلت:34]، وقد كان(ع) مبتلىً في الحياة الفرديّة ببعض أقربائه، ويروي في ذلك الشيخ المفيد: "وقف على عليِّ بن الحسين(ع) رجلٌ من أهل بيته، فأسمعه وشتمه، فلم يكلّمه (الإمام)، فلما انصرف قال(ع) لجلسائه: قد سمعتم ما قال هذا الرجل، وأنا أحبّ أن تبْلُغوا معي إليه حتى تسمعوا ردِّي عليه، فقالوا له: نفعل، ولقد كنا نحبّ أن تقول له ونقول.. فأخذ نعليه ومشى وهو يقول: {والكاظمين الغيظ والعافِينَ عن النّاس والله يُحِبُّ المحسنين}[آل عمران:134]، فخرج حتى أتى منزل الرجل ، فوصل الجميع وطرقوا الباب، فخرج هذا الرجل متوثّباً للشرّ، معتقداً أنّ الإمام يريد به سوءاً، فقال له الإمام: "يا أخي، إنَّك كنتَ قد وقفتَ عليَّ آنفاً فقلت وقلتَ، فإنْ كنتَ قلتَ ما فيَّ فأستغفر اللهَ منه، وإن كنتَ قلتَ ما ليس فيَّ فغفر اللهُ لك"، فقبّل الرجل ما بين عينيه وقال : بل قلتُ فيك ما ليس فيك، وأنا أحقُّ به"(14).

نحتاج إلى أن نعيش هذه الروح في العلاقات الاجتماعية التي يتحرّك فيها الناس في دائرة المجتمع الواحد، فالفرد في المجتمع إذا كان يتحرّك على أساس أن يردَّ على كلِّ مَنْ أساء إليه، سواء كانت الإساءة كلمة أو شتيمة أو ضربة بمثلها، فإنَّ هذا المجتمع سيفتقد روحية السماح والعفو والانتصار على النفس والحقد والعداوة، وبالتالي، فإنَّ هذا المجتمع لن يتوازن.

كان(ع) المثلَ الأعلى في العفو عن النّاس وإعطاء القدوة في نفسه لهم، ويُروى أنَّ جارية له كانت تسكب الماء عليه وهو يتوضأ للصلاة، فسقط الإبريق من يد الجارية على وجهه فشجّه، فرفع(ع) رأسه إليها فقالت: "إنَّ الله عزَّ وجلّ يقول: {والكاظمين الغيظ} فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: {والعافين عن النّاس} قال لها: قد عفا الله عنكِ، قالت: {والله يحبُّ المحسنين} قال: اذهبي فأنت حرّة لوجه الله"(15).

الإحسان والجود

ومما يُروى عنه(ع) وقوفه بجانب المستضعفين والمحرومين الذين يأخذ بأيديهم نحو الحياة الكريمة، وليكفَّ وجوههم عن النّاس.. ومما جاء في صدقته ما رويَ في الحلية عن الباقر(ع)، "أنّه كان يحمل جراب الخبز على ظهره بالليل فيتصدّق به"(). وعن عائشة أيضاً أنَّها سمعت أهل المدينة يقولون: "ما فقدنا صدقة السرّ حتى مات عليّ بن الحسين(ع)"(17). وفي خبر: أنَّه كان(ع) إذا جنّه الليل وهدأت العيون قام إلى منزله، فجمع ما يبقى فيه عن قوت أهله، وجعله في جراب ورمى به على عاتقه وخرج إلى دُور الفقراء وهو متلثّم، ويفرّق عليهم، وكثيراً ما كانوا قياماً على أبوابهم ينتظرونه، فإذا رأوه تباشروا به، وقالوا: جاء صاحب الجراب(18).. وفي حلية الأولياء جاء في الرواية: لما مات عليّ بن الحسين فغسّلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سوادٍ في ظهره وقالوا: ما هذا؟ فقيل: كان يحمل جُرَب الدقيق ليلاً على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة(19).. وكان(ع) يردّد في دعائه: "اللهمّ حبّب إليَّ صحبة الفقراء"، لأنَّهم الفئة الإنسانية التي هي أقرب إلى الأصالة وإلى الفطرة الإنسانية، ولأنَّهم لا يزالون يعيشون معنى القِيَم في كلِّ ما يتحرّكون فيه، ولا يزال الفقراء كما يصفهم القرآن {ويُؤثِرُون على أنفسِهم ولو كانَ بِهِم خصاصةٌ} [الحشر:9]، وقد أحسن(ع) إلى كلِّ مَن قصده بحاجته، أو رأى أنَّه بحاجة، ففي الرواية أنَّ زيد بن أسامة بن زيد لما حضرته الوفاة جعل يبكي، فسأله الإمام زين العابدين(ع) عن سبب بكائه، قال: يُبكيني أنَّ عليَّ خمسة عشر ألف دينار، ولم أترك لها وفاءً، فقال له(ع) : لا تبكِ فهي عليَّ وأنت بريٌ منها، فقضاها عنه(20).. وفي وصف أخلاقه في هذا المجال أنَّ يمينه لا تسبق شماله، وكان يقبّل الصدقة قبل أن يعطيها السائل، قيل له: ما يحملك على هذا؟ فيقول:لستُ أقبّل يدَ السائل، إنَّما أقبّلُ يدَ ربِّي، إنَّها تقع في يد ربِّي قبل أن تقع في يد السائل(21).

فوق الطبقات

يثير الإمام زين العابدين(ع) مسألة هي محل ابتلائنا، ألا وهي قضية الطبقيّة في الزواج، فمن الشائع أنَّه إذا كان هناك شخصٌ من عائلة كبيرة، وجاءه شخصٌ من عائلة متواضعة يخطب ابنته، فإنَّ العائلة كلَّها تستنكر ذلك عليه أو بالعكس، فلنقرأ ما جرى من حوار بين الإمام زين العابدين(ع) وبين عبد الملك بن مروان أحد خلفاء بني أميّة، يقول المؤرخون: "إنَّ عليَّ بن الحسين(ع) تزوّج سريّة أمَةً كانت للحسن بن عليّ(ع) ، فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فكتب إليه في ذلك كتاباً: "إنَّك صرتَ بَعْلَ الإماء"، فكأنَّه يريد أن يقول له، بأنَّه قد أسقط مكانته وشرفه، فكتب إليه عليّ بن الحسين(ع): "إنّ اللهَ رفع بالإسلام الخسيسة، وأتمَّ به الناقصة، فأكرم به من اللؤم، فلا لؤم على مسلم، إنَّما اللؤم لؤمُ الجاهلية"، فعندما يصبح الإنسان مسلماً، فإنَّ كلَّ خسَّة نَسَب ترتفع، لأنَّه عندما يُسلم لله يكون قريباً من الله، ومَنْ كان قريباً من الله، فأيُّ شرف أعظم من هذا الشرف؟ وقد عبَّر الإمام(ع) في أحد أدعيته عن هذا المفهوم، فقال: "فإنَّ الشريف مَنْ شرّفته طاعتُك، وإنَّ العزيز مَنْ أعزته عبادتك". وهذه هي القيمة كلُّ القيمة .. فلمّا انتهى الكتاب إلى عبد الملك، قال لمن عنده: "أخبروني عن رجلٍ إذا أتى ما يضع الناس لم يزده إلا شرفاً؟ قالوا: ذاك أمير المؤمنين، ويقصدون عبد الملك، فقال: لا والله ما هو ذاك. قالوا: ما نعرف إلا أمير المؤمنين. قال: فلا والله ما هو بأمير المؤمنين، ولكنّه عليّ بن الحسين"(22).

أسلوب الدعوة

إنَّ مسألة احترام كرامة إنسان وإنسانيته هي مسألة مهمّة في انفتاح عقله عليك، لأنَّك عندما تفتح قلب الإنسان الآخر، فإنَّ القلب هو أقرب طريق إلى العقل، وهذا ما نلاحظه في أكثر من موقع من مواقع أهل البيت(ع) .. وهكذا نلتقي مع الإمام زين العابدين(ع) في حديثه مع ذلك الشيخ الذي عاش تحت تأثير الإعلام الأمويّ، فبادر الإمام زين العابدين وهو في حالة السبي والأسر بقوله: "الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح البلادَ من رجالكم وأمكن أمير المؤمنين منكم". ولم يقف الإمام(ع) موقفاً سلبيّاً من الرجل على الرغم من قسوة الجوّ النفسيّ الذي يعيشه الإمام(ع) في تلك الحالة، وإنما بادره بالقول: "يا شيخ، هل قرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: فهل عرفت هذه الآية {قُلْ لا أسألُكم عليه أجراً إلا المودّة في القُربى} [الشورى: 23]، قال الشيخ: قد قرأت ذلك، فقال له عليٌّ(ع): فنحن القربى يا شيخ". واستغرب الشيخ، لأنَّ الدعاية الأمويّة كانت تحاول الإيحاء بأنَّ هؤلاء الأسارى ليسوا مسلمين، "...وهل قرأتَ هذه الآية {إنَّما يريدُ اللهُ ليذهبَ عنكُمُ الرِّجسَ أهلَ البيت ويطهّرَكم تطهيراً}" [الأحزاب:33] واستغرب الشيخ ثانيةً عندها قال له الإمام(ع): فنحن أهل البيت الذين خُصّصنا بآية الطهارة يا شيخ"، وسكت الشيخ، وهو يعرف أنَّ أهل البيت هم محمد وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين(ع) ، وبدأ الشيخ يفكّر ما معنى هذا السؤال؟ فبقي الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به وقال: بالله إنَّكم هم؟ فقال(ع) : "تاللهِ إنَّا لنحن هم من غير شكٍّ، وحقِّ جدِّنا رسول الله إنَّا لنحن هم، فبكى الشيخ ورمى عمامته، ورفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنّي أبرأ إليك من عدوِّ آلِ محمد، ثم قال: هل لي من توبة؟ فقال(ع) : نعم، إن تُبْتَ تاب الله عليك"(23). وبهذا استطاع الإمام زين العابدين(ع) بالأسلوب اللبق الحكيم أن يقلب فكرَ الشيخ رأساً على عقب، ويحوّله من شخصٍ عدوانيّ إلى شخصٍ يعيش الولاء بأعمق ما يكون الولاء.

القويُّ أمام الطغاة

إنَّ الإمام زين العابدين(ع) الذي كان يمثّل كلَّ الروحانية والزهد والخوف من الله، كان القويَّ في موقفه أمام جميع الطغاة، كما كان القويَّ بالله، هذا ما يتضح لنا من خلال موقفه من عبد الملك بن مروان الذي بعث إلى الإمام رسالةً وطلب منه فيها أن يهب له سيف رسول الله(ص)، وعندما رفض الإمام(ع) طَلَب ابن مروان وأبى عليه، كتب إليه يهدّده بأن يمنع عنه ما يستحقه من بيت المال، فأجابه الإمام(ع) : "أما بعد، فإنَّ الله أمّن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون {ومَن يتّقِ الله يجعل له مخرجاً} [الطلاق: 2] وقال جلَّ ذكره: {إنَّ الله لا يحبُّ كلَّ خوّان كفور} [الحج: 38] فانظر أيَّنا أولى بهذه الآية".

ولم يركن(ع) إلى الظالمين في عصره على الإطلاق، فيروي الزهري أنَّه عندما حاول بعض أقربائه أن يأخذوا صدقات أمير المؤمنين عليّ(ع) في عهد الوليد بن عبد الملك، قيل له: لو ركبت إلى الوليد بن عبد الملك ركبةً لكشف عنك ذلك وأعاد لك حقَّك، وكان هو(ع) بمكّة والوليد فيها، فقال لمن أشار عليه بذلك: "ويحك، أفي حَرَمِ الله أسأل غيرَ الله عزَّ وجلَّ؟ إنّي انف أن أسأل الدنيا خالقها، فكيف أسألها مخلوقاً مثلي"، وقال الزهري: لا جرم إنَّ الله عزَّ وجلَّ ألقى هيبته في قلب الوليد حتى حَكَم له(24).

ورغم تضييق الحكّام عليه وعلى حركته، فإنَّ كلَّ المحاولات لم تفلح في انتزاع محبته من قلوب المسلمين.. يذكر المؤرّخون (ومنهم أبو الفرج الأصفهاني) وصاحب كتاب الحلية، أنَّ هشام بن عبد الملك حجَّ ذات عام فلم يقدر على استلام الحجر من الزحام، فَنُصِبَ له منبر فجلس عليه وأطاف به أهلُ الشام، فبينما هو كذلك، إذ أقبل عليٌّ بن الحسين(ع) وعليه إزارٌ ورداء، من أحسن الناس وجهاً، وأطيبهم رائحة، فجعل يطوف، فإذا بلغ إلى موضع الحجر تنحّى الناس حتى يستلمه هيبةً له، فقال شاميٌّ: مَنْ هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أعرفه، لئلا يرغب فيه أهل الشام، فقال الفرزدق وكان حاضراً: لكنّي أنا أعرفه، فقال الشاميّ: ومَنْ هو يا أبا فراس.. فأنشأ قصيدة ذكر فيها:

هذا الذي تعرفُ البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحـلُّ والحـرمُ

هذا ابن خير عباد الله كلّهـمُ هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العـلمُ

هذا عليٌ رسول الله والــده صلّى عليه إلهي ما جرى القلمُ

إذا رأتـه قريشٌ قال قائلهـا إلى مكارم هذا ينتهي الكـرمُ

وليس قولك: من هذا بضائره العُرْب تعرفُ مِن أنكرتَ والعجمُ

يغضي حياءً ويُغضى من مهابته فما يُكَلّـم إلا حيـن يبتسـم

إن عُدّ أهل التقى كانوا أئمتهم أو قيل مَن خيرُ أهل الأرض قيل هُمُ(25)

وهكذا كان في الشام القويَّ أمام يزيد، والقويَّ في الكوفة أمام ابن زياد، كان الإمامَ الصلب القويّ الواثق بالله الذي لم تأخذه في الله لومة لائم، ولم نجد له(ع) أيَّ موقف ضعف في كلِّ تلك المسيرة، ففي الرواية: أنّه بعد أن حُملت الرؤوس إلى ابن زياد، التفت ابن زياد إلى عليِّ بن الحسين(ع) فقال: مَنْ هذا؟ فقيل: عليٌّ بن الحسين، فقال: أليس قد قتل الله عليَّ بن الحسين، فقال(ع) : "قد كان لي أخٌ يُسمّى عليّ بن الحسين قتله الناس، فقال: بل الله قتله، فقال(ع) : {الله يتوفّى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها} [الزمر: 42]، فقال ابن زياد: ولك جرأة على جوابي؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه، فسمعت عمّته زينب، فقالت: يا بن زياد، إنَّك لم تُبقِ منا أحداً، فإن عزمت على قتله فاقتلني معه، فقال لعمته: اسكتي يا عمّة حتى أكلّمه، ثم أقبل(ع) فقال: أبالقتل تهدّدني يا ابن زياد؟ أمّا علمت أنَّ القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة"(26).

وهكذا كان الإمام(ع) قوياً في مجلس يزيد، وذلك حين رآه ينكت بقضيب خيزران ثنايا الحسين(ع)، قال الإمام(ع): "ويلك يا يزيد! إنَّك لا تدري ماذا صنعت، وما الذي ارتكبت من أبي وأهل بيتي وأخي وعمومتي، إذاً لهربت في الجبال وافترشت الرَّماد ودعوتَ بالويل والثبور، أن يكون رأس أبي الحسين بن فاطمة وعليّ منصوباً على باب مدينتكم، وهو وديعة رسول الله فيكم، فأبشر بالخزي والندامة غداً إذا جُمِع النّاس ليوم القيامة"(27).

وهناك ملاحظةٌ جديرةٌ بالاهتمام، وهي أنَّ الإمام زين العابدين(ع) تخطّى كلَّ الحواجز التي صنعتها السلطة والحاكمون في طريق الدعوة إلى الله، فعمل على أن يحيط بالمشكلة الموجودة في الواقع الإسلامي من كلِّ جوانبها، والمشكلة تمثّلت منذ بداية الحكم الأمويّ في إبعاد المسلمين عن الأسس الإسلامية الفكرية الثقافية للعقيدة والشريعة وللمفاهيم العامة للإسلام، وللمنهج في التفكير والسلوك وفي حركة المسؤوليّة.. وهذا ما تصدّى(ع) لتوضيحه وإظهاره وبيانه على الأسس القرآنية الواضحة.. فالحكم الأمويّ يريد أن يبعد الناس عن الجانب الثقافي الفكري، ولذلك عندما ندرس عهد معاوية ويزيد ومرحلة ما بعدهما، فإنَّنا لا نجد أنَّ هناك تخطيطاً ثقافياً للدولة، إضافة إلى ذلك، فإنَّ حصاراً ضُرِب على عقول المسلمين، حتى أنَّ الكثيرين نسوا الثقافة التي كان يثقّفهم بها أمير المؤمنين عليٌّ(ع) الذي كان يملك العلم كلَّه، لقول رسول الله(ص): "أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها"، وكان يقول هو نفسه: "سلوني قبل أن تفقدوني، فإني بطرق السماء أعرف من طرق الأرض"، وينطلق إنسانٌ تافهٌ ليقول له كم شعرة في رأسي؟ وكان(ع) يقول وهو يخرج إلى ظهر الكوفة متألماً متأوّهاً: "إنَّ ها هنا ـ ويشير إلى صدره ـ لعلماً جمّاً لو وجدتُ له حَمَلَة".

نرجع فنقول: كانت الخطة هي تجهيل المسلمين، لأنَّ أمثال معاوية ويزيد ومن هم على شاكلتهما لا يمكن أن يسيطروا على مجتمع يملك وعي العلم وسعة المعرفة وعمق التقوى وأصالة المسؤولية وامتدادها.. لذلك بدأ الإمام زين العابدين(ع) حركته الفكريّة العلميّة كأوسع ما تكون الحركة، ما يُبعد الفكرة التي تقول إنَّ أسلوب زين العابدين(ع) كان أسلوب الدعاء فحسب.

ثبات الإمام رغم هول المأساة

ربما كانت مشكلة بعض الباحثين أنهم يتمثّلون في دراستهم للإمام زين العابدين(ع) الوجه الحزين الذي يعيش بكائية الألم في ذكرياته الأليمة والمفجعة للمأساة الكربلائية التي وعى كلَّ تجربتها المؤلمة القاسية التي تهزُّ الشعور كلَّه في عمق إحساسه، لتحوّله إلى فيض من الدموع المتفجّرة بالحزن المأساويّ، ولكننا لا نجد في الإمام(ع) ذلك على مستوى الظاهرة في معنى الشخصيّة، بل قد تكون على مستوى اللحظات الطارئة التي قد تحمل في طبيعتها بعض الحاجة إلى الإثارة والتذكير، من أجل الاستفادة من صورة الحزن في الذكرى، لاستعادة القضيّة في الوعي الإنساني بعمقٍ وامتدادٍ يُوحيان بالعقدة الحركيّة التي يتحمّلها كلُّ الناس الذين كانوا لا يزالون يخضعون للحكم الأموي الذي صنع المأساة واستمرّ في ممارساته البعيدة عن روح الدين.

إنّنا لا نلاحظ في تاريخ زين العابدين(ع) الكربلائي أيَّ مظهر للحزن المنهزم في مستوى ما تعطيه كربلاء من دوافع الحزن.. لقد كان حزيناً، ولكنَّ حزنه كان حزناً إنسانياً، لأنَّه الإمام الذي أُعدَّ لتسلّم المسؤولية في كربلاء بعد المعركة، وللسير في التجربة الإعلامية التي أعقبت المعركة، ولم تسقطه المأساة ـ كما قلنا ـ في الكوفة، فكان الإنسان الذي وقف أمام ابن زياد في موقف العنفوان الذي لم يهن ولم يسقط، بل تحدّث بلغة إسلاميّة أحرجت ابن زياد، حتى كاد أن يكون ردُّ فعله الأمر بقتله لولا تدخّل عمته العقيلة زينب(ع) .. وهكذا كان في الشام أمام يزيد، حيث نجد في موقفه الهدوء القوي والصبر الجميل والوعي المنفتح على الموقف، بالدرجة التي قد لا نجد لديه أيّة دموع ليسكبها على المأساة القريبة من تلك المرحلة..

إنَّنا لا نستطيع أن نتصوّر الإمام جازعاً باكياً بالطريقة التي يستهلكها بعض رواة التاريخ الذين يريدون تحريك الإثارة العاطفيّة من دون دراسة للأسس الأخلاقية القويمة التي ترتكز عليها شخصيّة هذا الإمام والأئمة من أهل البيت(ع) ، حيث ينطلق الصبر ليكون في مستوى الأساس الذي ترتكز عليه الشخصيّة في جميع جوانبها، من خلال التجسيد العمليّ للقيمة الأخلاقية التي تتمرّد على الألم وتبتعد عن الجزع، ليرى المسلمون والناس كلُّهم في مسيرتهم الإسلامَ الأخلاقي الذي يرتفع به الإنسان عن أشدِّ حالات البلاء.. وفي دراستنا للروايات التي رواها صاحب البحار حول بكاء السجّاد(ع) واعتباره من البكّائين الخمسة، لاحظنا أنها غير نقيّة السند من خلال القواعد العلميّة في تقويم الحديث، هذا بالإضافة إلى بعض المضامين التي لا تتناسب مع موقع الإمام (عليه السلام) ومكانته الإسلامية والروحيّة.

وهكذا، لم يكن السجّاد(ع) يشعر بأيِّ ذلّ، وإن كان السبي والأسر قاسيين، ولكنه(ع) كان يُخرج من قلب هذه القسوة الموقف الإسلاميَّ القويّ، ولم تزلزله المأساة وتسقطه، حتى أنَّه عندما كان يبكي على أبيه الحسين(ع) في أكثر من حالة، كان لا يبكي جزعاً، لأنَّ الإمام(ع) فوق الجزع، وإن كان الحزن في أعماق قلبه، لكنَّه كان يبكي ليثير قضيّة الحسين(ع) في وجدان الناس ووعيهم في كلِّ مناسبة للبكاء..

العاطفة في خطِّ القضيّة الحسينيّة

وهكذا انطلق(ع) بعد كربلاء إلى المدينة، فكان يثير الحزن بين وقت وآخر، ومن الطبيعي أن يتحرّك هذا الحزن في قلبه، فقد كانت المأساة كبيرة، وعندما ينفصل الإنسان عن جوِّ المأساة ويخلو إلى نفسه، فإنَّ الذكريات تتعاظم وينطلق الألم عميقاً، ولكنّه كان يخطّط لشي‏ء آخر، كان يبكي ليعلّم الناس أسلوب البكاء على الحسين(ع) ، وكان يحدّثهم عنه في كلِّ ألوان المأساة، ليُخلِّد في وجدان الناس تلك المأساة.. كان(ع) أوّل مَنْ خطّط لانطلاقة العاطفة في خطِّ القضيّة الحسينيّة، لأنَّ أهل البيت(ع) كانوا لا يريدون أن تضيع في التاريخ، ولا يريدون للنهضة الحسينيّة أن تبقى في كربلاء، لتضمّها كربلاء قبوراً، ولينسى الناس في زحمة الأحداث الكبرى كلَّ ما جرى هناك.. إنهم أرادوا كربلاء أن تكون الجرح النازف الذي يبقى ينزف من أجل أن يتحوّل هذا النزيف من هذه الجراح إلى ثورة ضدّ الذين يصنعون المأساة في حركة الإنسان في التاريخ.. وفي رأينا أنَّ العاطفة لا بدَّ أن تبقى في عاشوراء، لأنّنا إذا فرّغنا القضية من العاطفة فإنَّها تموت، والذي أبقى عاشوراء، بالرغم من أنَّه مضى عليها ما يقارب الأربعة عشر قرناً هو الحقُّ والعاطفة معاً..

ولذلك، فإنَّ كربلاء تتحرّك في وحيها مع مأساة القضية الفلسطينية، ومع كلِّ المآسي التي يسبّبها الاستكبار للشعوب، وهي تتحرّك في كلِّ حالات الاضطهاد التي تواجهها مع حكّامها، ولكنْ لكلِّ موقع إيحاءٌ من كربلاء يختلف عن موقع آخر، لأنَّ كربلاء انطلقت من خلال الإسلام، والإسلام يأبى الظلم لأيٍّ كان حتى للكفّار، لأنَّ الله لا يريد للإنسان أن يُظلم، بل يريد أن يأخذ حقَّه، سواء كان مسلماً أو كافراً، ولذلك، فإنَّ كربلاء تمثّل صيحة العدل في مقاومة الظلم، فكربلاء كانت إسلاميّة، ولم تكن دائرة ضيّقة تمثّل وضعاً طائفياً معيّناً، بل كانت ساحةً مفتوحةً تمثّل إسلاماً يعمل على أن ينقّي الساحة الإسلامية.. ولهذا، فقد قلناها دائماً بالصوت العالي: إنه من الخطأ، بل من الجريمة أن نعتبر عاشوراء موجّهة ضدّ المسلمين السُّنّة، وإنَّما هي موجّهةٌ ضدّ كلِّ ظالم، سواء كان سنيّاً أو شيعيّاً، ونحن نعرف أنَّ (يزيد) لا يمثّل السُنّة، وأنَّ الحسين بنص النبيّ(ص) كان يمثّل الإسلام: "الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة".

ولذلك، لا بدَّ أن نطلق كربلاء إسلاميّة من خلال قيم الإسلام التي جسّدها الإمام الحسين(ع) في حركته وشعاراته. ومن هنا، كان أهل البيت(ع) يريدون للمجالس الحسينيّة أن تتحرّك (أحيوا أمرنا)، ولا أمر لهم إلاَّ الإسلام والعدل، ولا أمر لهم إلاَّ أن يعيش الناس الحقّ في كلِّ مواقعهم ومجالاتهم.. ومن هنا، فإنَّ علينا أن نفهم ممّا يُنقل إلينا من بكاء زين العابدين(ع) ومن حزنه، فلسفة كلِّ هذه الرحلة البكائية التي تريد أن تغسل القلوب بتلك الدموع، وأن تحرّك الدموع الحارّة من خلال الرسالة..

ولقد كان(ع) يتنقّل في سوق القصّابين ليقف مع قصّاب يذبح كبشه ويسأله: هل سقيته الماء؟ وذلك كما تروي السيرة، وعندما يجيبه بالإيجاب والناس مشغولون في السوق، وإذ بزين العابدين(ع) يُطلق حزناً ذاتياً عندما يستحضر استشهاد أبيه عطشانَ، وكان يريد من ذلك أن يهيّئ من خلاله الجوّ ليتحسّس الناس في وجدانهم معنى القضيّة الحسينيّة على مستوى المأساة، وعلى مستوى الرسالة.

وهكذا لاحظنا حزن زين العابدين(ع) الذي كان يختزنه في عقله وقلبه بأعمق ما يكون، وإنّني لا أتصوّر حزناً لإنسان أعمق من حزن هذا الإمام الذي تمثّلت مجزرة كربلاء أمامه بكلِّ وحشيتها وهمجيّتها وأحزانها.. وهكذا عندما رأى(ع) مشهد النساء المروَّعات.. مشهد وحشية بني أمية ووحشية جيشهم، عندما قام هؤلاء الجبناء بإحراق الخيم وفيها النساء والأطفال، ويرى النساء بأمّ عينه كيف ينطلقن من خيمة إلى خيمة، ويفررن على وجوههنَّ في البيداء..

ورغم السبي والأسر، عاش الصلابة في مشاعره وأحاسيسه.. وبعد ذلك عمل(ع) على أن يخلّد هذا الحزن لكربلاء ليكون خطّاً في الزمن، وأن يحرّكه من أجل أن يدين كلَّ هذه المواقف التي شاركت في المجزرة والجريمة، ليزرع فيها عقدة الضمير التي تؤرقها ليل نهار.. حرّك(ع) هذا الخطَّ ليجعل الفئة التي خذلت الحسين(ع) تستيقظ من تلك الرقدة الشيطانيَّة التي أحاطت بها، فجعلت قلوب قومه معه وسيوفهم عليه، وجعلت قوماً يعيشون الحياد بينه وبين خصومه.

من هنا، وكما قلنا، نفسِّر حزن زين العابدين(ع) على أبيه الحسين والصفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحابه، على أنَّه كان حزناً إنسانياً، يعبّر فيه عن إنسانيته وذكرياته الأليمة لمشاهد الواقعة التي تقطع نياط القلب: "ما نظرت إلى عمّاتي وأخواتي إلا وذكرت فرارهنَّ يوم كربلاء من خيمة إلى خيمة"، أو "هل سمعتْ أذناك أو رأت عيناك هاشميّة سبيّة لنا قبل عاشوراء".

من الطبيعي أن يحفر الحزن في قلبه(ع) كأيِّ إنسان يتمثّل المأساة بكلِّ أعصابه ومشاعره، ولا بدَّ أن يعيشها في نفسه، لأنَّ الله يريد للإنسان أن يعيش عاطفته اتِّباعاً لسنّة رسول الله(ص) عندما مات ولده إبراهيم "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الله وإنَّا لفَقدك يا إبراهيم لمحزونون".. وهكذا كانت عاطفة السجّاد(ع) عاطفة هادئة، حزينة الحزن الذي يتمثّل في بعض دموعه وكلماته، بحيث يخشع القلب أمامه في هذا المعنى وهذا المشهد.

* * * *

المصادر

(1) بحار الأنوار، ج 46، ص 97، ومناقب ابن شهر آشوب، ج 3، ص 299.

(2) بحار الأنوار، ج 46، ص 97.

(3) الإرشاد للشيخ المفيد، طبعة بيروت، ص 153.

(4) بحار الأنوار، ج 46، ص 64.

(5) عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 145.

(6) مناقب ابن شهر آشوب، ج 3، ص 291.

(7) بحار الأنوار، ج 46، ص 105.

(8) بحار الأنوار، ج 46، ص 70.

(9) تاريخ الطبري، ج 5، ص 485 482.

(10)نهج البلاغة، قصار الحكم 178.

(11) دعاؤه في مكارم الأخلاق.

(12)تاريخ الطبري، ج 8، ص 61.

(13)مناقب ابن شهر آشوب، ج 3، ص 301.

(14)الإرشاد، ص 146 145.

(15)أمالي الصدوق، ص 201.

(16)حلية الأولياء، ج 3، ص 135.

(17)حلية الأولياء، ج 3، ص 136.

(18)بحار الأنوار، ج 46، ص 89.

(19)حلية الأولياء، ج 3، ص 140.

(20)الإرشاد، ص 149.

(21)بحار الأنوار، ج 46، ص 74.

(22)الكافي، ج 5، ص 345.

(23)بحار الأنوار، ج: 45، ص:129.

(24)بحار الأنوار، ج: 64.

(25)حلية الأولياء، ج:3، ص:139 ـ الأغاني، ج:14، ص:75، الإرشاد للمفيد، ص:151.

(26)الملهوف، ص:144.

(27)بحار الأنوار، ج:45، ص:136.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية