ثقافة العقيدة والقيم والسلوك
إنَّك عندما تقرأ أيّ دعاء من أدعية الإمام السجّاد(ع)، سواءٌ في ما رويَ عنه في الصحيفة السجّادية أو في غيرها، فإنَّك إذا كنت واعياً للدعاء وأنت تقرأه، فإنَّك لا بدَّ وأن تخرج بثقافة في العقيدة والسلوك والقيم، أو في أيِّ أمرٍ يجعلك أكثر معرفةً بالله، وأكثر وعياً للإنسان والحياة في جميع المجالات.. إنَّه(ع) كان يثقّف الناس بأدعيته، كما كان يثقّف الناس بعلومه، هذه العلوم التي يجهلها الكثيرون منّا في المجال الفكري والثقافيّ في مواقع المعرفة كلّها، حيث تزيد كثيراً عن تراثه في الدعاء.. ومع الأسف، فإنَّ بعض الناس يتحدّث أنَّ أسلوب الإمام زين العابدين(ع) الرسالي ينحصر في الدعاء فقط، في حين أنَّه لم يختصّ بأسلوب معيّن، بل كانت حركته العلميّة تشمل جميع أبعاد العلم آنذاك، وكان الدعاء هو إحدى هذه الوسائل لتأكيد المفردات الفكريّة والإسلامية والثقافية التي يؤكّدها في أحاديثه الأخرى.. ونحن نعتبر أنَّ هناك تجديداً في أسلوب الدعاء لدى الإمام زين العابدين(ع)، لأنَّه أدخل إلى الدعاء المفاهيم الإسلاميّة، ولذلك فنحن ندعو إلى دراسة أدعيته، ولا سيما (الصحيفة السجّاديّة)، كثروةٍ روحية تغني في حركتها النتاج الثقافي للإسلام.
وهناك من الباحثين من يتحدّث عن هذه الثروة الروحيّة الدُعائية، فيرونها أسلوباً جديداً من أساليب الدعوة إلى الله والإصلاح الاجتماعي، من خلال ما تتضمّنه هذه الأدعية من إشارات فلسفيّة، ونظرات اجتماعية، ومناهج أخلاقية، وإيحاءات روحيّة، وخطوط إسلامية، وهذا ما يدفع بالناس لأن ينطلقوا من خلال الدعاء في الانفتاح على كلِّ هذه القضايا، ليفكّروا ويهتدوا ويتحرّكوا نحو الأهداف الكبرى التي يستهدفها الإسلام في فكره وشريعته وحركته..
ولكننا في الوقت الذي نقدّر فيه مواقف هؤلاء الباحثين، نتصوّر أنَّ الأدعية كانت نهجاً إسلامياً في عبادة الله، والتوجيه الذاتي الروحي في الأسلوب القرآني، وفي السنّة النبويّة الشريفة، وفي تراث الإمام علي(ع) والأئمة المعصومين من بعده عليهم السلام..
إنَّ القيمة الفنية المبدعة في أدعية الإمام زين العابدين(ع) ، في الفكرة والأسلوب والعرض وجمالية الجوّ والإيحاء واللفتة والإيماء وروحية الفكرة، توحي كلُّها بأنَّ الإمام(ع) كان يدعو من كلِّ روحه وقلبه وشعوره، وكلِّ وجوده وكيانه، تماماً كما هو الإحساس العفويّ الذي يعيشه الإنسان العابد الخاشع الخاضع بين يدي ربِّه..
وهذا لا يمنع أن يجد الناس فيها نتاج الوعي الروحيّ الأخلاقي الاجتماعي في المسألة الإسلاميّة، لأنَّها تمثّل أحد نماذج الثقافة الإسلامية في حركة التوعية العامة التي يجد فيها المؤمنون الغنى الروحي في التجربة الدعائية العبادية من خلال الشكل والمضمون والجوّ والحركة والانفتاح.
إننا إذا درسنا أدعية الإمام السجّاد(ع) ، نجد أنها من الأدعية التي تمثّل منهجاً فكريّاً واجتماعياً، وربما في بعض الحالات خطّاً سياسيّاً على مستوى بعض اللقطات التي كان يواجهها في حياته، وبهذا جمع(ع) في أدعيته العنصر الروحي والاجتماعي والأخلاقي والسياسيّ، حتى يعرّفنا أنه ليس معنى أن نلتقي بالله وأن ندعوه أن ننعزل عن الحياة..
وهذا ما يدعونا إلى دراسة حياة السجّاد(ع) دراسة شموليّة على مستوى ملاحقة كلِّ نتاجه العملي والروحي والحركيّ في تحليل عميق دقيق وشامل، الأمر الذي يفرض على الباحثين مواجهة هذه المسؤولية في تجارب متنوعة متعدّدة، من أجل الوصول إلى معرفة عناصر هذه الشخصيّة الإسلامية الكبيرة بعمقٍ ووضوحٍ وشمول..
الإخلاص لله
نعيش في البداية مع السجّاد(ع) في دعائه في الانقطاع إلى الله، فيقول(ع): "اللهم إنّي أخلصتُ في انقطاعي إليك ـ فليس هناك شخص يشغله(ع) عن الله سبحانه، فانقطع إليه انقطاع الإخلاص، إخلاص العقل والقلب، لأنَّ الحياة كلَّها لله ـ وأقبلتُ بكلِّي عليك ـ فقد أقبل عقلي وقلبي وحياتي إليك ـ وصرفتُ وجهي عمّن يحتاج إلى رفدك ـ إنَّ بعض الناس قد يتوجّهون إلى من يملك المال أو الجاه ليطلبوا منه حاجاتهم، ولكني رأيت أنَّ من يُتوجَّه إليه هو المحتاج إلى رفدك وعطائك ـ وقلبت مسألتي عمّن لم يستغنِ عن فضلك، ورأيت أنَّ طَلَبَ المحتاج إلى المحتاج سَفَهٌ من رأيه وضلّةٌ من عقله ـ فأيُّ سَفَهٍ أشدُّ من أن يطلب المحتاج حاجته من المحتاج ـفكم قد رأيتُ يا إلهي من أناسٍ طلبوا العزَّ بغيرك فذلّوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتّضعوا، فصحَّ بمعاينة أمثالهم حازمٌ وفّقه اعتباره، وأرشدَه إلى طريق صوابه اختيارُه، فأنت يا مولاي دون كلِّ مسؤول موضعُ مسألتي، ودون كلِّ مطلوبٍ وليُّ حاجتي". هذا هو عليّ بن الحسين(ع) الذي عاش مع الله وأقبل بكلّه عليه، يقول لنا من خلال هذا الدعاء: أيّها الناس التجئوا بكلّكم إليه، لأنَّه ليس هناك عدا الله، فكلُّ من عداه خلْقُه وعبيدٌ له، لذلك انطلقوا مع الخالق، ولا تكونوا مع المخلوق الضعيف مثلكم.
التواضع في حضرة الله
في أدعية الصحيفة السجّاديّة، يعالج الإنسان نفسه بين يدي ربِّه: "اللهم لا ترفعني في الناس درجةً إلا حططتني عند نفسي مثلَها، ولا تُحدث لي عزّاً ظاهراً إلا أحدثت لي ذِلّةً باطنةً عند نفسي بِقَدَرها"، وهكذا(ع) عندما يتحدّث عن العمر: "اللهم وعمّرني ما كان عمري بِذْلَةً في طاعتك، فإن كان عمري مرتعاً للشيطان فاقبضني إليك قبل أن يسبق مقتُك إليَّ أو يستحكم غضبك عليّ".
وينطلق(ع) مع أخلاقية الإسلام التي ترسم للإنسان طريقة تعاطيه مع الآخرين، عندما يقاطعونه أو يهجرونه أو يغتابونه، فيقول(ع): "وسدّدني لأنْ أعارض مَنْ غشّني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبرِّ، وأثيبَ مَن حرمني بالبذل، وأكافي من قطعني بالصلة، وأخالف مَن اغتابني إلى حُسن الذكر، وأن أشكر الحسَنَة وأغضي عن السيئة". ويلتفت(ع) ليعلّمنا ألاّ نرفض فقط ظلم الآخرين لنا، بل أن نرفض أيضاً ظلمنا للآخرين: "ولا أظْلَمنَّ وأنت مطيقٌ للدفع عني ـ يا رب إذا ظلمني الناس، فإني أطلب أن تدفع عني ظلمهم ـ ولا أظْلِمنّ وأنت القادرُ على القبض مني"، فالإنسان يطلب من الله في هذه الحالة، أنَّه إذا اندفع لظلم الناس، أن يطبق الله عليه بكلِّ قوّته ليمنعه من ممارسة الظلم.
ونلتقي مع الإمام زين العابدين(ع) عندما يؤكّد لنا خطأ المفاهيم التي نتحرّك فيها في حياتنا الاجتماعية، حيث نرفع الناس الذين يعيشون الغنى، وننزل الناس الذين يعيشون الفقر: "اللهم واعصمني من أن أظنَّ بذي عَدَمٍ خساسةً، أو أظنَّ بصاحب ثروة فضلاً، فإنَّ الشريف مَن شرّفته طاعتُك، والعزيز مَن أعزّته عبادتك". فشرف الإنسان يكون بمقدار ما يرضى الله عنه، وعزّة الإنسان تكون بمقدار ما يكون قريباً من الله.
توظيف الدعاء لتحصين الواقع الإسلاميّ
ملأ الإمام زين العابدين(ع) الفراغ الروحي للإنسان بكلِّ الغنى الروحي، ولا نزال نتغذّى من مائدة هذا الإمام العظيم في الصحيفة السجاديّة وغيرها، ونشعر كما لو كانت هذه الأدعية هي أدعية مرحلتنا، لأنَّها ليست أدعية زمنٍ معيّن أو شخصٍ معيّن، إنَّها أدعية الزمن كلِّه والحياة كلِّها..
ففي دعائه في "الصباح والمساء" يقول في آخر الدعاء: "اللهم وفّقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه لاستعمال الخير وهجران الشرّ وشكر النِعَم واتّباع السُنَن ومجانبة البدَع والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وحياطة الإسلام".
أما كلمة "وحياطة الإسلام"، فإنَّها تعني أن يتطلّع كلُّ مسلمٍ في كلِّ صباح أو مساء يُقْبِل عليهما، إلى الواقع الإسلاميّ، في ما يواجهه من تحدّيات فكريّة في خطِّ الرسالة، عقيدةً وشريعةً، أو تحدّيات واقعيّة في الضغوط التي توجّه إلى المسلمين هنا وهناك، ليطلب هذا المسلم أو هذه المسلمة من الله أن يوفّقه لأن يحوط الإسلام من جوانبه كلِّها، حتى لا ينفذ إليه الكفر أو الباطل، أو يتسلل إليه الأعداء.. وهذا المسلم يطلب من الله تعالى أن يحوط هذا الإسلام بفكره في المسائل الفكريّة، ليوجّه فكره للدفاع عن الإسلام، وأن يحميه بروحه وقلبه وكلِّ طاقاته عندما تواجه الإسلامَ التحدياتُ في الواقع العمليّ للناس.. فحياطة الإسلام هي أن يعيش المسلم همَّ الإسلام يومياً، وأن يحوطه كما الحارس اليقِظ، ليجنّبه الضغوط والاعتداءات تماماً كما يحوط نفسه وعياله ومصالحه الخاصة في الحياة، لتكون حياطة الإسلام عملاً يوميّاً للمسلم في كلِّ صباح ومساء..
وعندما ندرس مفردات ما قبل هذه الكلمة وما بعدها، نرى أنَّها تلتقي مع كلمات الإمام الحسين(ع): "إنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدّي رسول الله"، سواء إصلاح الفرد أو الجماعة، ونحن نعرف أنَّ إصلاح الفرد عندما يتحرّك في خطِّ الدعوة، ينتهي إلى إصلاح الجماعة..
"ووفّقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه لاستعمال الخير ـ والخير عنوانٌ إسلاميٌّ كبير يمتدُّ إلى حركة الإنسان كلِّها في علاقاته الاجتماعية مع النّاس، وهجران الشرّ في الجانب السلبيّ لحركة الإنسان في علاقاته ـ واتّباع السنن ومجانبة البدع ـ والسُّنن هي الخطوط الإسلاميّة السائرة في خط الضوء الذي أطلقه رسول الله(ص) ليبيّن للناس ما يأخذون وما يتركون، وأما البدع، فهي التي تمثّل الانحرافات التي تدخل على الإسلام باسم الإسلام، وهي ليست من الإسلام في شيء ـ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ وهما العنوانان اللذان يتحرّكان في خطِّ الواقع المنحرف الذي يُترَك فيه المعروف، وهو كلُّ ما يريد الله للإنسان أن يقول به، لينطلق المعروف في حياة الناس، وليبتعدوا عن المنكر، وهو كلُّ ما أراد الله للناس ألاّ يأخذوا به في حياتهم.. ثم ينطلق(ع) في توضيح أبعاد الحياطة الأخرى، فيقول: ـ وانتقاص الباطل وإذلاله ـ أي أن نعيش في خطِّ الدعوة والحركة إذا واجهنا الباطل أمامنا، وأن نعمل على أساس أن نُنقصه، بأن ندرس نقاط الضعف كلّها في داخله، سواء في الخطوط العامة أو الخاصة أو في الواقع العمليّ، بأن نذلّه بكلِّ ما عندنا من عناصر الإذلال ـ ونصرة الحق ـ بأن ننصره أمام جنود الباطل كلِّهم، وننصره ثقافياً وواقعياً ـوإعزازه ـ بأن نعزَّ الحقَّ ونقف مع الفئات المستضعفة والمحرومة ـ وإرشاد الضّال ـ لنهديه إلى الحق ـ ومعاونة الضعيف ـ سواء كان ضعيفاً في قوّته أو عيشه أو في الفرص التي يحتاجها في حياته ـوإدراك اللهيف ـ الإنسان الذي يعيش اللهفة من خلال المشاكل والآلام التي يواجهها في الحياة..
النظرة الإسلامية إلى المال
فلنستمع إلى الإمام زين العابدين(ع) كيف أنه انطلق من الحاجة إلى قضاء الدَّيْن ليعطينا الفكرة الإسلامية التي ترصد بعض القضايا السلبية في النظرة إلى المال: "اللهم صلّ على محمد وآله، وهب لي العافية من دَيْن تخلق به وجهي ـ لأن الإنسان قد يعيش الذل في وجهه أمام الدائن ـ ويحار فيه ذهني ـ وعندما يعيش الإنسان الضيق الذي يسببه الدَّيْن، فكيف يحلّ هذه المشكلة؟ ـ ويتشعّب له فكري ـ ينطلق فكره إلى هذا الموقع أو إلى ذاك ـ ويطول بممارسته شغلي ـ لأنه يشغل الإنسان تحت تأثير الضغط النفسي وتحت تأثير الضغط الخارجي في مطالبة الآخرين له ـ وأعوذ بك يا ربِّ من همّ الدَّيْن وفكره وشغل الدَّيْن وسهره، فصلِّ على محمد وآله ـ فالإنسان يطلب من الله أن يقضي له دينه، لأنَّ هذا الدين يشغله ويبعده عن كثير من مسؤولياته، فيملأ نفسه بالهمّ فلا ينفتح على قضايا المسؤوليّة في الحياة، ويملأ فكره بالإرباك فلا يستطيع أن يتحرّك في خطّ الاستقامة في فكره، ويشغله عن كل ما حوله، ويسهر عليه فيمنعه من النوم، وبالتالي من الراحة، وبذلك يترك تأثيره على مجمل حركته في الحياة ـ وأعذني منه، وأستجير بك يا رب من ذلّته في الحياة ومن تَبِعَتِه بعد الوفاة، فصلِّ على محمد وآله ـ لأنَّ الإنسان سيُسأل عمَّا للآخرين من حقوق عليه عندما يقوم الناس لربّ العالمين، كما يواجه الإحراج أمام الدائنين في موقفه الضعيف الذي يمثِّل حاجته إلى إنظارهم إياه ريثما يستطيع قضاء دَينه، ما يجعله في موقع الذليل معهم، لأنَّ ما يذل الإنسان في المجتمع هو حاجته للآخرين، باعتبار أنَّ الحاجات الذاتيّة تستعبد الناس ـ وأجرني منه بوسعٍ فاضل ـ بسعة من المال فتترك لي فضلاً من المال ـ أو كفاف واصل" أن تعطينا الكفاف الذي لا يزيد ولا ينقص عن حاجتنا.
كيفية صرف المال
وينتهي موضوع الدَيْن، لتبدأ التعليمات عن كيفية صرف المال وكيفية مواجهة التأثيرات السلبية التي يعانيها الإنسان عندما يكثر ماله: "اللهم صلِّ على محمد واله، واحجبني عن السرف والازدياد" احجبني عن أن أعمل على أساس ألاّ أسرف في ما ترزقني به من مال، فأتجاوز الحدود المعقولة في الإنفاق، وأحاول أن أنظر إلى أنّ هذا المال الذي أعطيتني إياه كطاقة لا بدّ لي من أن أحافظ عليها كما يحافظ الإنسان على كلِّ الطاقات التي أعطاه الله إياها في الحياة، فلا يسرف في ما لا غنى منه ولا فائدة.
وقد حدّد الإمام الصادق(ع) موضوع الاقتصاد والسرف في كلمة جاء فيها: "إنَّ القصد أمر يحبه الله عز وجل وإنَّ السرف يبغضه"، ثم مثّل بمثال فقال: "حتى طرحك النواة فإنها تصلح لشيء"، فأنت تأكل تمراً أو زيتوناً وتأكل أيَّ شيء له نواة وترمي النواة في الأرض، في حين أنها تصلح لشيء يمكن للمجتمع أن يستفيد منه في إنتاج أشياء كثيرة، "وحتى صبّك فضل شرابك" فأنت تملأ الكأس بالماء وتشرب نصفه وتعزف عن نصفه الآخر، والماء هو طاقة الحياة، املأ نصف الكأس واشربه. هنا نقول وللكثير من الناس الذين يعتبرون الوسوسة دِيناً، إنها شيطنة وليست ديناً، لأنه كما يقول الإمام الصادق(ع) عن الوسواسي إنه يعبد الشيطان لأنه يعبد أوهامه ووسوسته، فعندما تتوضأ وتريق ما شاء الله من الماء أو تغتسل أو ما إلى ذلك تذكّر أنّ الماء طاقة الحياة، فخذ منه في ما تحتاجه بمقدار حاجتك، لأنّ هناك من يحتاجه، لا سيما أمام المشاكل التي يعيشها الناس، ولا سيما في هذه المنطقة، من نقص في الماء ـ واحجبني عن السرف والازدياد ـ في المصرف، ويمكن إرادة الازدياد في المال بنحو الطمع أو ما أشبه ذلك ـوقوّمني بالبذل ـ أن أعطي مما أعطاني الله ـ والاقتصاد ـ{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قَواماً} [الفرقان: 67]، يقال إنَّ الإمام الصادق(ع) قرّب الفكرة في أنه تارة يأتي بالماء ويضعه بيده ولا يُسقط منه شيئاً، وتارة يضع بيده الماء بشكل يُبقي قسماً وينزل قسماً، وهذا هو الشيء الطبيعي في الحياة.
ـ وعلمني حسن التقدير ـ أن أقدّر حاجاتي وإمكاناتي لأحرّك حاجاتي في مستوى إمكاناتي، كما في المثل الشعبي (على قدر بساطك مد رجليك)، وكذلك عليك أن تحرّك حاجاتك وفق إمكاناتك حتى لا تستدين. والإمام هنا ربما يريد أن يوحي بأنَّ كثيراً من الدَيْن ينطلق من الإسراف، لأنَّ الإنسان إذا قدّر حاجاته مقارنة بإمكاناته، فسوف تتوازن حاجاته مع إمكاناته، وسوف لا يضطر في كثير من الحالات إلى أن يمدَّ يده إلى الناس من دَيْن أو غير دَيْن ـ واقبضني بلطفك عن التبذير ـ والتبذير هو نوع من صرف المال بطريقة غير متوازنة في الكمِّ والنوع، بحيث لا يستفيد منه الإنسان على مستوى النتائج بشكل طبيعي، وبذلك يمثّل التبذير المالي حالة مزاجية تنطلق من الهوى النفسي الخاضع لبعض المؤثرات الذاتية المرَضيَّة {إنَّ المبذّرين كانوا إخوان الشياطين} [الإسراء:27]، لأنهم يلتقون بهم في الأساس الذي يرتكز عليه سلوكهم من اتِّباع الهوى ورفض العقل، الأمر الذي يبعدهم عن الله بابتعادهم عن خط الإيمان بالله وبتوحيده وبرسله ورسالاته، اجعلني يا رب عندما أسعى في رزقي أن انطلق من أسباب الحلال، ليكون رزقي من الحلال ـ ووجِّه في أبواب البِرِّ إنفاقي ـ اجعلني أيضاً أنفق مالي في أبواب الخير، وهذا هو حال الإنسان المسؤول عن ماله ممن اكتسبه وفيم أنفقه. وليست القضية فقط أن يكون رزقك حلالاً، بل لا بدّ أن يكون إنفاقك في الحلال، وهذه النقطة يركّزها الإمام في أن تحكّم الحلال في حياتك كلها.. أن تكسب في الحلال وأن تنفق في الحلال، وأن تحرّك شهوتك في الحلال، وأن تقف مواقفك في الحلال، وأن تسكن في الحلال، وما إلى ذلك، فليس بين الدنيا والآخرة إلاّ الحلال والحرام.
ولقد جاء رجل إلى الإمام الصادق(ع) فقال له: "ما الزهد في الدنيا؟ قال: ويحك حرامّها فتنكبه". أي اجتنب الحرام وستكون أزهد الزاهدين، لأنَّ ذلك يوحي بارتفاعك عن مستوى شهوات الدنيا وقدرتك على تحمّل الحرمان من حاجاتها.
ـ وأجرِ من أسباب الحلال أرزاقي، ووجّه في أبواب البر إنفاقي ـ ثم يحدّد حجم المال الذي يريده من الله تعالى، فنحن إذا أردنا أن نطلب رزقاً من الله فلا نضع حدّاً لذلك، بل نطلب الدنيا كلها، ولكن ّالإمام(ع) يعلّمنا أنّ امتلاك المال لا بدّ أن لا يؤثّر على مبادئك وأخلاقك وعلاقتك بالآخرين.
ـ وازوِ عني من المال ـ أبعده عني، وامنعني من أن أحصل عليه ـ ما يحدث لي مخيلة ـ أي يحدث لي انتفاخ الشخصية، فأعيش كما الإنسان الذي ينطلق من الإعجاب المرضي بنفسه، وأتحرّك في الحياة على هذا الأساس، كمثل مَنْ قال الله عنهم: {ولا تمشِ في الأرض مرحاً إنّك لن تخرّق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً} [الإسراء:37]، وأن لا أكون يا ربِّ مثل قارون.
ـ أو تأدّياً إلى بغي ـ أو ما يجعل عندي الإمكانات التي تؤدي إلى البغي على الناس وإلى ظلمهم.
ـ أو ما أتعقّب منه طغياناً" أن أتحوّل إلى طاغية أطغى على الفقراء والضعفاء بفعل ما أملكه من قوة مالية، ونحن نعرف في الواقع الذي نعيشه، أنَّ في مقدمة خطط الاستكبار في العالم ما يُعَبَّر عنه في هذه الأيام بالقوة الاقتصادية التي أصبحت تجرف معها السياسة والأمن، بل حتى الثقافة.
فالعولمة الآن تنطلق من منطلقات اقتصادية كيما تنتج عولمة سياسية، حتى تُخضع سياسة العالم للذين يملكون الاقتصاد (أي السبعة أو الثمانية الكبار) من السبعة الغربيّين، وأضيف إليهم (روسيا) مؤخراً. فالاستكبار الاقتصادي هو الذي أدَّى إلى الطغيان، فلقد أصبحوا نتيجة الاستغراق في القوة الاقتصادية يعملون على مصادرة ثروات الشعوب وتحويل تلك الشعوب إلى قوة استهلاكية بحيث تمنع من الإنتاج، ويثيرون فيها المشاكل حتى يستنزفوا القوة الاقتصادية عند هذا الشعب أو ذاك، فدورهم هو إفقار شعوب العالم الثالث، حتى أنّ هذا النوع من القوة الاقتصادية راح يفرض نفسه على القوى الاقتصادية المتحرِّكة ، كما في الصراع الاقتصادي بين أوروبا وأميركا، وبين اليابان وأميركا، وربما تدخل الصين في هذا الصراع، وهذا هو معنى قوله تعالى: {كلا إنَّ الإنسان ليطغى* أنْ رآه استغنى} [العلق:6ـ7]، بلحاظ بعض التفاسير في أنَّ المراد منه هو الغنى المالي.
فالإمام(ع) يريد أن يقول إنّ أخلاقي ومبادئي وروحيّتي وإنسانيتي هي أعظم من المال الذي يفترس كلَّ هذه الأمور عندما يزيد عن الحدّ في الحياة.
صحبة الفقراء
ثم ينطلق الإمام في اتجاه آخر، وهو أنَّ الإنسان عادة يحب صحبة الأغنياء ولا يحب صحبة الفقراء، وهذا ما نلاحظه في أغلب الطبقات الاجتماعية التي تملك نوعاً من أنواع الجاه أو المال أو السلطة وغير ذلك، فالفقراء هم الفئة المنبوذة والمستغلَّة في المجتمع، الذي يعمل المجتمع الطاغي المستكبر على أساس أن يعتصر طاقاتها ثم يتركها من دون طاقة، ولا يفكِّر بأيِّ ضمان لحياتها ولا أية وسائل إنسانية تحفظ كرامتها، بل يعمل هذا المجتمع الطاغي على أن يرتفع بنفسه، ويعتبر أنَّ من النزول في قدره والإقلال من شأنه أن يصاحب الفقراء، وربما يحدّثك الإنسان الطاغي الذي يرفض صحبة الفقراء بأنَّ الفقراء يخلقون لنا مشاكل، كما كان المشركون يطلبون من النبي(ص) أن يطردهم لأنه يخرج منهم ما يشبه الصنان (رائحة العرق)، ولأنّ ثيابهم رثّة أو وسخة، فكانوا يطلبون من النبي(ص) أن يبعدهم عن مجلسه، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى عدَّة آيات في هذا المجال فالموقف هو هذا: لماذا تصاحب الفقراء والمتخلّفين والذين لا يعرفون آداب اللياقة، والذين يستخدمون الكلمات الخشنة لا الكلمات الحضارية. فالإمام السجاد(ع) يعالج النقطتين معاً، فيقول: "اللهم حبّب إليّ صحبة الفقراء" لأنَّهم الفئة الإنسانية التي هي أقرب إلى الأصالة وإلى الفطرة والإنسانية، لأنهم لا يزالون يعيشون معنى القيم في كلِّ ما يتحرّكون فيه، ولا يزال الفقراء كما يصفهم القرآن: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة} [الحشر:9]، ولا يزالون يعيشون الوفاء في علاقاتهم ببعضهم البعض ويعتبرون للصداقة معنى، ويتحرَّكون على أساس أن هناك قِيَماً تشدُّهم إلى بعضهم البعض.
ومن هنا نفهم معنى قول الإمام(ع): "حبّب إليّ صحبة الفقراء ـ حتى أحصل على ما يختزنون من هذه القيم، وإذا كانت هناك مشاكل لمن يصاحب الفقراء من جهة ما يعيشونه من نقاط الضعف السلوكية أو الاجتماعية، فالإمام(ع) يقول: "وأعنّي على صحبتهم بحسن الصبر"، أي اجعلني أصبر على ما يبدو منهم، ولا تجعلني أبتعد عنهم نتيجة ذلك، فقد تكون هناك بعض السلبيات في صحبتهم، ولكنَّ الإيجابيات الإنسانية التي أغتني بها في صحبتهم هي أكثر من هذه السلبيات.
المنع والإعطاء
ثم يتحدّث الإمام(ع) عما منعه الله من المال وعما أعطاه منه: "وما زويت عني من متاع الدنيا الفانية فادّخره لي في خزانتك الباقية ـ عندما تقدّر عليَّ رزقي وتضيّقه، فأنا يا رب أشكرك على ما أعطيتني وما منعتني، لأنك تمنعني عن مصلحة، وتعطيني عن مصلحة، فأنت الذي تعلم بما يصلحني وما يفسدني، وأنت القائل: {ألا يعلم مَن خلق وهو اللّطيف الخبير} [الملك:14]، فأنت أعلم بي من نفسي، وأنت يا رب الذي لا يُحمَد على مكروه سواه، ولقد منحتني هذا المتاع في الدنيا، وأنت الكريم فأعطني مقابله في الاخرة، لأنك القائل: {وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان} [العنكبوت:64].
ـ واجعل ما خوّلتني من حُطامها ـ أمَّا ما أعطيتني من مواهب، فما هي مشاعري تجاهها؟ ـ وعجّلت لي من متاعها بُلْغَةَ إلى جوارك ـ أي اجعلني يا رب أستفيد من هذا المال الذي أعطيتنيه في الدنيا بحيث يبلغني جوارك ـ ووصلة إلى قربك ـ بحيث يقرّبني إليك ـ وذريعة إلى جنتك، إنك ذو الفضل العظيم وأنت الجواد الكريم".
هذا هو الإمام زين العابدين(ع) في هذا السموّ وهذه الفلسفة الاجتماعية الإنسانيّة في النظرة إلى المال وحركته، وفي حركة الإنسان في نفسه وبالنسبة إلى غيره، وفي نظرته إلى الفقراء وانفتاحه على الذين لا يملكون المال، كما قال الله سبحانه وتعالى لرسوله(ص): {واصبر نفسك مع الّذين يدعون ربّهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتّبع هواه وكان أمره فرطاً} [الكهف: 28].