حياة طويلة مليئة بالعطاء العلمي والإنتاج الفقهي والأصولي عاشها السيّد أبو القاسم الخوئي(رض)، وإذا ما أردت عرض سيرة فقهاء الإسلام، فلا بدّ من أن تأتي على سيرة هذا العالم والفقيه الّذي قضى عمره المديد في خدمة الإسلام والعلم، وتبيان قواعد الشّريعة والعقيدة والتّفسير، والّذي تتلمذ على يديه العديد من المجتهدين والمراجع، وترك بصماته على مستوى العقل الفقهي الشيعي والإسلامي عموماً، لما تميّز به من نشاطٍ وعطاءٍ قلّ نظيره.
إنه صاحب الشخصية الفذّة والعبقريّة المشهود لها. ولد سماحته في منتصف شهر رجب سنة 1317 هـ، في مدينة خوي التّابعة لمحافظة آذربايجان الغربية ـ شمال غربي إيران ـ في أسرة علمائية، يرجع نسبها إلى الإمام موسى الكاظم(ع). والده السيّد علي أكبر الخوئي، من العلماء البارزين، ومن تلاميذ الشيخ عبد الله المامقاني في النجف الأشرف.
بعد أن أتمّ دراسته، قفل راجعاً إلى موطنه خوي، ليتصدَّى فيه للأمور الاجتماعيّة والدينيّة، وبعد حادثة المشروطة الشّهيرة، هاجر والده إلى النَّجف الأشرف سنة 1328هـ، والتحق به السيّد الخوئي سنة 1330 هـ، برفقة أخيه الأكبر المرحوم السيّد عبد الله الخوئي، وبقيّة أفراد عائلته.
منذ نعومة أظافره، كان محبّاً للعمل، ومحصِّلاً بارعاً، حيث توجه بمعية أخيه السيّد عبد الله الخوئي صوب النّجف الأشرف سنة 1330 هـ، وله من العمر 13عاماً، فالتحق بوالده هناك، وشرع بتحصيل علوم اللّغة والمنطق، وتخرَّج من مرحلة السّطوح العالية، وحينما بلغ الحادية والعشرين من العمر، حضر الدراسات العليا في الحوزة العلمية، ونال درجة الاجتهاد سنة 1352 هـ، وقد بلغ الخامسة والثلاثين من عمره المبارك، ما يدلّ على أهليته للاجتهاد في سنّ مكبرة، نسبة إلى هذه الدرجة الرفيعة والمنزلة السامية في الاجتهاد.
وقد أيّد اجتهاده الكثير من المراجع البارزين، والآيات العظام في حوزة النّجف الأشرف، أمثال: النائيني، والكمباني، والعراقي، والبلاغي، والشيخ علي الشيرازي، والسيد أبي الحسن الأصفهاني، وشهدوا له بالتفوّق في نيل المراتب العلميّة الرّفيعة .
كان(قده) نموذجاً عالياً في الأخلاق والسّيرة، شأنه في ذلك شأن باقي علماء الشّيعة السّابقين، الذين ترجموا بأخلاقهم وسلوكهم سيرة نبيّهم المصطفى، وأهل بيته(ع).
ولقد أشار السيّد الخوئي في موسوعة معجم رجال الحديث إلى أسماء كبار مشايخه وأساتذته في علمي الفقه والأصول، قائلاً:
"وحين وصلت النّجف الأشرف، الجامعة الدينيّة للشّيعة الإماميّة، ابتدأت بقراءة العلوم الأدبيّة والمنطق، ثم قرأت الكتب الدراسيّة الأصوليّة، والفقهيّة، لدى الكثير من أعلامها، منهم سيّدي المرحوم العلامة الحجّة الوالد (قدِست نفسه).
ثم حضرت الدّروس العليا بحث الخارج على أكابر المدرّسين في سنة 1338 هـ، أخصّ منهم بالذّكر أساتذتي الخمسة (قدس الله أرواحهم الطاهرة)، وهم:
آية الله الشيخ فتح الله، المعروف بشيخ الشريعة الأصفهاني.
آية الله الشيخ مهدي المازندراني.
آية الله الشيخ ضياء الدين العراقي.
آية الله الشيخ محمد حسين الأصفهاني.
آية الله الشيخ محمد حسين النائيني.
وإنّ الأخيرين أكثر من تتلمذت عليهما فقهاً وأصولاً، فقد حضرت على كلّ منهما دورة كاملة في الأصول، وعدة كتب في الفقه حفنة من السنين، وكنت أقرّر بحث كلّ منهما على جمع من الحاضرين في البحث، وفيهم غير واحد من الأفاضل. وكان المرحوم النّائيني آخر أستاذ لازمته. ولي في الرّواية مشايخ أجازوني أن أروي عنهم كتب أصحابنا الإماميّة، وغيرهم، ولذا أروي بعدّة طرق كتبنا الأربعة (الكافي - الفقيه - التهذيب - الاستبصار)، والجوامع الأخيرة (الوسائل - البحار- الوافي)، وغيرها من كتب أصحابنا (قدس الله سرهم)، فمن تلك الطرق ما أرويه عن شيخي النّائيني عن شيخه النوري بطرقه المحرّرة في خاتمة كتابه (مستدرك الوسائل) المعروفة بـ (مواقع النجوم) المنتهية إلى أهل بيت العصمة والطهارة".
وتتملذ السيّد الخوئي إضافةً إلى علماء ومشايخ الفقه والأصول، على يد علماء بارزين في علوم أخرى، هم:
- الشيخ محمد جواد البلاغي (1282- 1352هـ )، الذي تتلمذ عليه في العقائد والتفسير، وكان البلاغي قد أحدث تحوّلاً كبيراً في الحوزة العلميّة، تشهد لذلك مؤلّفاته في نقد المسيحية والمادية. ويعدّ السيد الخوئي من أبرز تلامذته في التفسير والعقائد.
- تتلمذ في علم الرياضيات العالية على السيّد أبي القاسم الخونساري.
- السيد حسين البادكوبي: الأستاذ البارز في الفلسفة والعرفان، وقد تتلمذ عليه السيد الخوئي في هذين العلمين.
- السيّد أبو تراب الخونساري: كان مضطلعاً بعلمي الرّجال والدراية، وقد حضر السيد الخوئي حلقات درسه في هذين العلمين.
- العارف الكبير السيّد علي القاضي: أستاذ السيّد الخوئي في السلوك والعرفان.
تصدّى السيد الخوئي لكرسيّ التدريس منذ السنين الأولى من عمره الدراسي، وحينما بلغ العقد الرابع من العمر، أصبح من الأساتذة الذين يشار إليهم بالبنان في النجف الأشرف، مواصلاً التدريس ما يقرب من السّتين عاماً، ألقى خلالها دورة فقهيّة كاملة، وعدّة دورات في أصول الفقه.
بعد رحيل أستاذيه آية الله النائيني وآغا ضياء العراقي، تمكّن السيد خلالها من نيل قصب السّبق، فكان درسه على مستوى الدّراسات العليا يشار إليه بالبنان، وينظر إليه بإكبار، حتى تمكّن من استقطاب الكثير من طلاب الدّراسات العليا في الحوزة العلميّة النجفيّة.
ويقول المرحوم العلامة الشّيخ عبد الهادي الفضلي:
"... وفي أصول الفقه، تتلمذ السيّد الخوئي(رض) على أقطاب المدارس الأصولية الثلاث المتعاصرة: الشيخ العراقي، والشيخ الأصفهاني، والميرزا النّائيني .
وكان لكلّ واحدة من هذه المدارس الثّلاث منهجها الخاصّ بها، ومنطلقاتها في إعطاء النظريّات والفقه .
فقد عرفت مدرسة الأصفهاني بطابعها الفلسفيّ، ويعود هذا إلى أنَّ مؤسّسها الأصفهاني كان ـ مضافاً إلى تخصّصه في الفقه وأصوله ـ حكيماً متألّهاً، هيمنت الفلسفة الإلهيّة بأبعادها الثقافية المعروفة على آفاقه الذهنيّة ومنطلقات تفكيره .
وعرفت مدرسة العراقي بطابعها العلميّ الذي نأى بها عن إخضاع الظواهر العلمية لمبادئ الفلسفة ونظرياتها، وذلك للفرق بين العلم والفلسفة، وأصول الفقه ـ كما هو واضح ـ علم لا فلسفة .
وكانت مدرسة النائيني تجمع بين الطابعين الفلسفي والعلمي .
وبمقتضى نضج المنهج، طرحت هذه المدارس الثلاث المتعاصرة، كثيراً من الفكر الأصولي القديم، وأضافت كثيراً من الفكر الأصولي الحديث .
ولأنّ أستاذنا الخوئي كان من أوعى الطلاّب الّذين حضروا منابر هؤلاء الأقطاب الثلاثة، صبت كلها في محيطه العلمي صبّاً حيّاً، حيث استوعبها منهجاً ومادّة، ثم ومن على منبره للدّرس الأصوليّ، جمع بينها في مقارنة علميّة واعية ومنتجة، كوَّنت له مدرسة أصوليّة خاصّة به، ربّع بها مدارس أساتذته المشار إليه، فكانت آراؤه الأصولية تذكر في الدّراسات الأصولية إلى جانب آراء أساتذته، ولعمق أبعاد مدرسته علميّاً، وقف عندها ـ حتى الآن ـ تطوّر أصول الفقه من ناحية علمية، فلم يقدر لي أن رأيت من جدّد من تلامذته في أصول الفقه علميّاً بالشّكل الذي يعد معه صاحب مدرسة .
وفي علم الرّجال، ألف موسوعته القيّمة "معجم رجال الحديث"، التي انفرد فيها بتحديد مركز الراوي في السلسلة السندية عمّن يروي هو عنهم، وعمن هم يروون عنه، فحلّ بهذا مشكلة معقَّدة، ويسَّر أمام الباحثين مؤنة المراجعة والبحث، وأعاد به لعلم الرّجال قيمته العلميّة وأهميّته تعلّماً وتعليماً .
وفي المدخل إلى التّفسير، كانت له آراء كشف فيها عن جوانب مهمَّة في منطلقات التّفسير ومناهجه .
هذا كلّه إلى قيامه لأكثر من عشرين عاماً بأعباء المرجعيّة الدينيّة، من الإفتاء، وإدارة شؤون الحوزات العلميّة في النجف وخارجها، ومؤسَّساته الخيرية في البلدان النائية عن النجف، في ظروف سياسية عصيبة أثقلته بالهموم والمتاعب حتى الرمق الأخير من حياته الشّريفة".[من مقال للشّيخ الفضلي].
ولقد أغنى السيّد الخوئي المكتبة الإسلاميّة بنتاجه الفقهي والأصولي والفكري العميق، من مؤلّفات وموسوعات وأبحاث وتقريرات.
من هنا، على طلاب العلم والحوزات والمعاهد، العكوف على نتاج هذه الشخصيّة وإعادة قراءة إنتاجها، والاستفادة من كلّ ذلك، خدمةً لمسيرة العلم وتطوّره، وخدمةً لأصالة الإسلام. فكم نحن بحاجةٍ إلى هضم ما قدَّمه هؤلاء الكبار هضماً سليماً، بما يدفع مسيرة العلم والمعرفة.
إنّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبّر بالضّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.