في دراستنا لشخصيَّة السيِّد محسن الأمين، نلاحظ أنَّها شخصيَّة متعدِّدة الأبعاد في حركة المعرفة، وفي حركة الواقع، ما جعله حاضراً في وجدان عصره، وقريباً إلى وعي عصرنا الحاضر، فلا نحسّ بالغربة عندما نتحدَّث عنه، أو نثير أفكاره في حديثنا الفكري الثقافي، فقد كان يحمل شخصيّة الفقيه الأصولي إلى جانب شخصيَّة الشَّاعر الناقد، والكاتب الأديب والمؤرِّخ المنفتح على حركة التاريخ في وعي أحداثه، وتقويم شخصيّاته، وسعة آفاقه، ليلاحق الأحداث بتحليلاته الَّتي تكتشف خلفيَّاتها، وترصد أسبابها، وتحاكم نتائجها في السلبيَّات والإيجابيات.
قلقُ المعرفة
ونلتقي به في النظرة الموضوعيَّة إلى حركة التنوّع في العقيدة المذهبيَّة، الَّذي يدرس ألوان المذاهب الفكريّة في الخطِّ الإسلاميّ، ليتحرّك في خطوطها المتنوّعة باحثاً وناقداً، على مستوى المنهج الموضوعيّ في أسلوب العرض، وأمانة النَّقل، وهدوء العقل، وروحيَّة الانفتاح، ونلتقي به في حركة المنهج التربويّ ناقداً للأساليب التربويَّة في تعليم الأطفال، وفي حركة دراسة الفقه وأصوله، وعلوم العربيَّة في الدراسات الحوزويَّة.
لقد عاش منذ البداية قلق المعرفة في كلِّ آفاقها المنفتحة على محيطه ليتابع مواقعها، فيتنقل من أستاذ إلى أستاذ، ومن مدرسة إلى مدرسة، ومن بلد إلى آخر، لأنَّه وجد هذا الأستاذ لا يحقِّق له طموحَه في علمه أو في أسلوبه، ولأنَّ هذه المدرسة لا تحتوي المناهج الَّتي تلتقي بحاجاته، ولأنَّ هذا البلد لا يحمل له في تطلّعاته المعرفيَّة الفرص الواسعة للوصول إلى أهدافه.. وهكذا تجده ينقد هذه المدرسة وهذا الأستاذ، ويتوفّر على الاستفادة من كلّ وقته وجهده، حتَّى يبتعد - في بعض الحالات - عن المألوف في العلاقات الاجتماعيَّة في أجواء المجتمع الدراسي، حفاظاً على وقته.
وهكذا كان يدرس ويبحث وينشد المعرفة الفكريّة والروحيّة والتربويّة من خلال أساتذته، لينفتح على روحيّة التقوى في حركيَّة العلم، وعقلانيّة الشخصيَّة في واقع الحركة، من موقع صناعة الشخصيَّة الإسلاميَّة المسؤولة في إغناء ذاتها بالعناصر الَّتي تحقِّق لها الغنى الفكريّ والروحيّ والعقليّ، فكان يتحدَّث عن شخصيَّة المجتهد في شخصيَّة العالم المسلم القياديّ، إلى جانب شخصيَّة التقيّ العادل والحكيم الخبير، لينقد في أسلوبه اللَّاذع في أحاديثه البعضَ من المشايخ الَّذين افتقدوا العلمَ الواسعَ في ثقافتهم، والتقوى العميقة في روحيَّتهم، والعقل النَّاضج في تفكيرهم ورؤيتهم للأحداث.
حركيَّةُ الانفتاحِ
وكان العالِم المنفتح على قضايا عصره، وعلى تطلُّعاته وأوضاعه وحاجاته، كما كان القريب إلى حركة الثَّقافة الحديثة في واقع المثقَّفين الَّذين قد يختلف منهجهم الثقافي عن منهجه، وانتماءاتهم الفكريَّة عن انتمائه، ممّن قد يجد بعض الفقهاء الآخرين فيهم البعد عن الخطّ، والانحراف عن الدِّين، بالمستوى الَّذي ينفرون منه من اللّقاء بهم والحوار معهم والانفتاح عليهم، انطلاقاً من الذهنيَّة المنغلقة على الواقع الَّذي تختلف معه، أو الأشخاص الَّذين نختلف معهم، الأمر الَّذي قد يؤدّي إلى صراع الأجيال في الفكر والمنهج والأسلوب، بالطَّريقة التي تبتعد فيها السَّاحات عن طبيعة التَّكامل، وينفصل فيها النَّاس بعضهم عن بعض في قضايا الحوار، ويتحرَّك معها الواقع المتنوّع بعيداً من قاعدة التَّوازن، لتكون النَّتائج اتّهاماً في مقابل اتّهام، وسباباً في مواجهة سباب، وابتعاداً عن وضوح الرّؤية للأفكار والحركات والأشخاص.
لقد كان السيِّد محسن الأمين عالماً يجد في جيل الشَّباب السَّاحةَ الَّتي يتحرَّك فيها، والأفقَ الَّذي ينطلق فيه، ليجد فيهم حركة العصر، وروحيَّة النّموّ، وحيويّة التطوّر، فليتقي بهم ليستمع إليهم في أفكارهم وقضاياهم وتطلّعاتهم نحو أهداف المستقبل، ليتعرَّف إليهم في شخصيّاتهم الجديدة، وليعمل في ضوء التجربة الحيّة الحكيمة الَّتي يلتقي فيها القديم بالجديد، لتمتدَّ الجسور الَّتي تربط بين مرحلة ومرحلة، وبين جيلٍ وجيل، حتَّى تكون عمليَّة التطوّر في حركة التاريخ حركة تكامل بين عناصر الزَّمن، في المعطيات الغنيَّة الَّتي يحمل فيها الماضي للحاضر حقائقَ الحياة في حقائق الفكر، وينطلقَ فيها الحاضر ليجدِّد بعض ما بلي من الماضي، ويدفع بالحياة الفكريَّة والعمليَّة إلى آفاق جديدة، تماماً كما هي الشَّمس عندما تجدِّد الحياة في إشراقة النّور المتجدِّد في كلِّ صباح.
شهادةٌ حولَ لقاءاتِهِ
ويحدّثنا بعض معاصريه عن بعض هذه اللّقاءات، فيقول:
كان رجال الكتلة الوطنيَّة في سوريا قد اعتادوا بين الحين والحين أن يزوروا السيِّد محسن الأمين في منزله المتواضع البسيط جداً، وكانت زيارتهم هذه إمَّا أن تكون فرديَّة، فيزوره كلّ واحد منهم منفرداً، أو زيارة جماعيَّة تضمّ اثنين أو ثلاثة أو أكثر، وكثيراً ما كان يرافقهم في هذه الحالة بعض زعماء الأحياء وبعض الصحفيّين.
وكان محورُ هذه الزّيارات، سواء كانت فرديَّة أو جماعيَّة، يدورُ على بحوثٍ فكريَّةٍ أو وطنيَّةٍ أو ثقافيَّةٍ أو اجتماعيَّةٍ، يغتنمُ فيها الحاضرون وجودهم في مجلس السيِّد محسن الأمين ليطرحوا تساؤلات، أو يناقشوا موضوعات يرون في مشاركة السيِّد محسن فيها وإدلائه بآرائه في مشاكلها وتفاصيلها فائدةً كبرى يجب اغتنامها.
وأذكر مرّة أنَّ لطفي الحفّار، أحد أركان الكتلة الوطنيَّة ورئيس الوزراء بعد ذلك، ناقش أمر توريث البنات جميع تركة الميت إذا لم يترك أولاداً ذكوراً، فشرح له السيِّد محسن ذلك شرحاً مفصَّلاً، فكان الحفَّار يتحدَّث عنه في كلِّ مناسبة.
وكان الدكتور محسن البرازي يفضِّل دائماً أن يزور السيِّد محسن منفرداً، لأنّه كان من بين السياسيّين السوريّين سياسيَّاً عالماً كثير المطالعة، وكان يصرّ على أن يستقبله السيِّد محسن في «علّيَّته» المربَّعة الصَّغيرة التي تحتوي على مكتبته، ويجلس فيها على الأرض ويكتب فيها كتبه، وكان البرازي يشرع في طرح أسئلته الَّتي كانت تدور في معظمها حول الشّؤون الفقهيَّة.
وعندما يكون نجيب الرّيِّس صاحب جريدة «القبس» بين الحاضرين، فلا بدَّ من مطارحات ومناقشات أدبيَّة نقديَّة أو شعريَّة، وهكذا تتنوّع مواضيع الزّيارات بتنوّع الحاضرين.
وهكذا كان الكثيرون في لبنان يحدِّثونك عن انفتاحه على جيل الشَّباب، ورفقه بهم وبأحاسيسهم ومشاعرهم، وصبره على أخطائهم وخطاياهم، لأنّه كان يعمل على أن يقرّبهم إليه لينفتحوا على علمه وهَدْيِه، ليهتدوا به من موقع المحبَّة، لا من موقع الدَّرجة العالية الَّتي توحي إليهم بالمسافة الشَّاسعة الفاصلة بينهم وبينه، كما يفعله البعض من العلماء والفقهاء، ومن المثقَّفين الكبار.
* من محاضرة لسماحته، ألقيت في مؤتمر خاصّ بالعلَّامة السيِّد محسن الأمين، في المستشاريّة الثّقافيَّة، دمشق، نيسان 1999م.
في دراستنا لشخصيَّة السيِّد محسن الأمين، نلاحظ أنَّها شخصيَّة متعدِّدة الأبعاد في حركة المعرفة، وفي حركة الواقع، ما جعله حاضراً في وجدان عصره، وقريباً إلى وعي عصرنا الحاضر، فلا نحسّ بالغربة عندما نتحدَّث عنه، أو نثير أفكاره في حديثنا الفكري الثقافي، فقد كان يحمل شخصيّة الفقيه الأصولي إلى جانب شخصيَّة الشَّاعر الناقد، والكاتب الأديب والمؤرِّخ المنفتح على حركة التاريخ في وعي أحداثه، وتقويم شخصيّاته، وسعة آفاقه، ليلاحق الأحداث بتحليلاته الَّتي تكتشف خلفيَّاتها، وترصد أسبابها، وتحاكم نتائجها في السلبيَّات والإيجابيات.
قلقُ المعرفة
ونلتقي به في النظرة الموضوعيَّة إلى حركة التنوّع في العقيدة المذهبيَّة، الَّذي يدرس ألوان المذاهب الفكريّة في الخطِّ الإسلاميّ، ليتحرّك في خطوطها المتنوّعة باحثاً وناقداً، على مستوى المنهج الموضوعيّ في أسلوب العرض، وأمانة النَّقل، وهدوء العقل، وروحيَّة الانفتاح، ونلتقي به في حركة المنهج التربويّ ناقداً للأساليب التربويَّة في تعليم الأطفال، وفي حركة دراسة الفقه وأصوله، وعلوم العربيَّة في الدراسات الحوزويَّة.
لقد عاش منذ البداية قلق المعرفة في كلِّ آفاقها المنفتحة على محيطه ليتابع مواقعها، فيتنقل من أستاذ إلى أستاذ، ومن مدرسة إلى مدرسة، ومن بلد إلى آخر، لأنَّه وجد هذا الأستاذ لا يحقِّق له طموحَه في علمه أو في أسلوبه، ولأنَّ هذه المدرسة لا تحتوي المناهج الَّتي تلتقي بحاجاته، ولأنَّ هذا البلد لا يحمل له في تطلّعاته المعرفيَّة الفرص الواسعة للوصول إلى أهدافه.. وهكذا تجده ينقد هذه المدرسة وهذا الأستاذ، ويتوفّر على الاستفادة من كلّ وقته وجهده، حتَّى يبتعد - في بعض الحالات - عن المألوف في العلاقات الاجتماعيَّة في أجواء المجتمع الدراسي، حفاظاً على وقته.
وهكذا كان يدرس ويبحث وينشد المعرفة الفكريّة والروحيّة والتربويّة من خلال أساتذته، لينفتح على روحيّة التقوى في حركيَّة العلم، وعقلانيّة الشخصيَّة في واقع الحركة، من موقع صناعة الشخصيَّة الإسلاميَّة المسؤولة في إغناء ذاتها بالعناصر الَّتي تحقِّق لها الغنى الفكريّ والروحيّ والعقليّ، فكان يتحدَّث عن شخصيَّة المجتهد في شخصيَّة العالم المسلم القياديّ، إلى جانب شخصيَّة التقيّ العادل والحكيم الخبير، لينقد في أسلوبه اللَّاذع في أحاديثه البعضَ من المشايخ الَّذين افتقدوا العلمَ الواسعَ في ثقافتهم، والتقوى العميقة في روحيَّتهم، والعقل النَّاضج في تفكيرهم ورؤيتهم للأحداث.
حركيَّةُ الانفتاحِ
وكان العالِم المنفتح على قضايا عصره، وعلى تطلُّعاته وأوضاعه وحاجاته، كما كان القريب إلى حركة الثَّقافة الحديثة في واقع المثقَّفين الَّذين قد يختلف منهجهم الثقافي عن منهجه، وانتماءاتهم الفكريَّة عن انتمائه، ممّن قد يجد بعض الفقهاء الآخرين فيهم البعد عن الخطّ، والانحراف عن الدِّين، بالمستوى الَّذي ينفرون منه من اللّقاء بهم والحوار معهم والانفتاح عليهم، انطلاقاً من الذهنيَّة المنغلقة على الواقع الَّذي تختلف معه، أو الأشخاص الَّذين نختلف معهم، الأمر الَّذي قد يؤدّي إلى صراع الأجيال في الفكر والمنهج والأسلوب، بالطَّريقة التي تبتعد فيها السَّاحات عن طبيعة التَّكامل، وينفصل فيها النَّاس بعضهم عن بعض في قضايا الحوار، ويتحرَّك معها الواقع المتنوّع بعيداً من قاعدة التَّوازن، لتكون النَّتائج اتّهاماً في مقابل اتّهام، وسباباً في مواجهة سباب، وابتعاداً عن وضوح الرّؤية للأفكار والحركات والأشخاص.
لقد كان السيِّد محسن الأمين عالماً يجد في جيل الشَّباب السَّاحةَ الَّتي يتحرَّك فيها، والأفقَ الَّذي ينطلق فيه، ليجد فيهم حركة العصر، وروحيَّة النّموّ، وحيويّة التطوّر، فليتقي بهم ليستمع إليهم في أفكارهم وقضاياهم وتطلّعاتهم نحو أهداف المستقبل، ليتعرَّف إليهم في شخصيّاتهم الجديدة، وليعمل في ضوء التجربة الحيّة الحكيمة الَّتي يلتقي فيها القديم بالجديد، لتمتدَّ الجسور الَّتي تربط بين مرحلة ومرحلة، وبين جيلٍ وجيل، حتَّى تكون عمليَّة التطوّر في حركة التاريخ حركة تكامل بين عناصر الزَّمن، في المعطيات الغنيَّة الَّتي يحمل فيها الماضي للحاضر حقائقَ الحياة في حقائق الفكر، وينطلقَ فيها الحاضر ليجدِّد بعض ما بلي من الماضي، ويدفع بالحياة الفكريَّة والعمليَّة إلى آفاق جديدة، تماماً كما هي الشَّمس عندما تجدِّد الحياة في إشراقة النّور المتجدِّد في كلِّ صباح.
شهادةٌ حولَ لقاءاتِهِ
ويحدّثنا بعض معاصريه عن بعض هذه اللّقاءات، فيقول:
كان رجال الكتلة الوطنيَّة في سوريا قد اعتادوا بين الحين والحين أن يزوروا السيِّد محسن الأمين في منزله المتواضع البسيط جداً، وكانت زيارتهم هذه إمَّا أن تكون فرديَّة، فيزوره كلّ واحد منهم منفرداً، أو زيارة جماعيَّة تضمّ اثنين أو ثلاثة أو أكثر، وكثيراً ما كان يرافقهم في هذه الحالة بعض زعماء الأحياء وبعض الصحفيّين.
وكان محورُ هذه الزّيارات، سواء كانت فرديَّة أو جماعيَّة، يدورُ على بحوثٍ فكريَّةٍ أو وطنيَّةٍ أو ثقافيَّةٍ أو اجتماعيَّةٍ، يغتنمُ فيها الحاضرون وجودهم في مجلس السيِّد محسن الأمين ليطرحوا تساؤلات، أو يناقشوا موضوعات يرون في مشاركة السيِّد محسن فيها وإدلائه بآرائه في مشاكلها وتفاصيلها فائدةً كبرى يجب اغتنامها.
وأذكر مرّة أنَّ لطفي الحفّار، أحد أركان الكتلة الوطنيَّة ورئيس الوزراء بعد ذلك، ناقش أمر توريث البنات جميع تركة الميت إذا لم يترك أولاداً ذكوراً، فشرح له السيِّد محسن ذلك شرحاً مفصَّلاً، فكان الحفَّار يتحدَّث عنه في كلِّ مناسبة.
وكان الدكتور محسن البرازي يفضِّل دائماً أن يزور السيِّد محسن منفرداً، لأنّه كان من بين السياسيّين السوريّين سياسيَّاً عالماً كثير المطالعة، وكان يصرّ على أن يستقبله السيِّد محسن في «علّيَّته» المربَّعة الصَّغيرة التي تحتوي على مكتبته، ويجلس فيها على الأرض ويكتب فيها كتبه، وكان البرازي يشرع في طرح أسئلته الَّتي كانت تدور في معظمها حول الشّؤون الفقهيَّة.
وعندما يكون نجيب الرّيِّس صاحب جريدة «القبس» بين الحاضرين، فلا بدَّ من مطارحات ومناقشات أدبيَّة نقديَّة أو شعريَّة، وهكذا تتنوّع مواضيع الزّيارات بتنوّع الحاضرين.
وهكذا كان الكثيرون في لبنان يحدِّثونك عن انفتاحه على جيل الشَّباب، ورفقه بهم وبأحاسيسهم ومشاعرهم، وصبره على أخطائهم وخطاياهم، لأنّه كان يعمل على أن يقرّبهم إليه لينفتحوا على علمه وهَدْيِه، ليهتدوا به من موقع المحبَّة، لا من موقع الدَّرجة العالية الَّتي توحي إليهم بالمسافة الشَّاسعة الفاصلة بينهم وبينه، كما يفعله البعض من العلماء والفقهاء، ومن المثقَّفين الكبار.
* من محاضرة لسماحته، ألقيت في مؤتمر خاصّ بالعلَّامة السيِّد محسن الأمين، في المستشاريّة الثّقافيَّة، دمشق، نيسان 1999م.