صورةُ السيِّد المسيح (ع) وصفاتُهُ في القرآن

صورةُ السيِّد المسيح (ع) وصفاتُهُ في القرآن

يحتفل العالم في هذا اليوم بذكرى ميلاد السيّد المسيح (ع)، ولا نريد أن ندخل في جدل حول هل إنَّ هذا التاريخ هو التاريخ الصَّحيح لميلاده (ع)، أو أنَّ هناك تاريخاً غيره، لأنَّه جدل لا فائدة فيه، ولكنَّنا نريد أن نستوحي السيّد المسيح (ع) في كلّ القيم الَّتي عاشها في إخلاصه لله، وفي انفتاحه في رسالته على المحبَّة؛ محبَّة الإنسان لله، ومحبَّة الإنسان للإنسان، وعلى السَّلام الَّذي ينطلق من عمق السَّلام الروحي في نفس الإنسان المؤمن الَّذي يعيش السَّلام مع الله ومع نفسه ومع النَّاس، ليتحوَّل السَّلام إلى حركة في واقع النَّاس من خلال علاقات بعضهم ببعض، في كلّ ما يتَّفقون عليه ويختلفون فيه.
إنَّنا نقف أمام ذكرى السيّد المسيح (ع) الَّذي تحدَّث عنه القرآن في أكثر من آية، بما تميَّز به عن كلّ البشر، بأنَّ الله أظهر قدرته فيه، بعد أن أظهر قدرته في آدم، وأظهر قدرته في خلق النَّاس كلّهم {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[آل عمران: 59].
ونحن، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ لنا في هذا الموقف أن نحدّثكم من خلال القرآن عن صورة عيسى (ع) في القرآن؛ ما هي صفته وما هي صورته، لأنَّ هناك خلافاً عقائدياً بين المسلمين والنَّصارى، فيما هو المعروف المشهور عند النصارى، وإن كان لبعضهم رأي آخر يختلف عن الرأي المشهور، فنحن نعرف أنَّ الرأي المعروف لديهم، والَّذي يتكرَّر في كلماتهم، أنَّ عيسى (ع) يمثِّل التجسيد لله، ولذلك يتحدَّثون عن عيسى كربّ وكإله، وأنَّ الله تجسَّد فيه ليتحمَّل الآلام ليعفو عن خطايا النَّاس، فهو عندهم في موقع الربوبيَّة وليس فيه موقع النبوَّة والرسالة، وهم مع ذلك يقولون بالتَّوحيد، فهم يقولون: باسم الأب والابن والروح القدس إلهاً واحداً، حيث يرون أنَّ الأقانيم تتوحَّد، وإن كانوا يختلفون في فلسفة ذلك.
نحن لسنا في مجال الجدل؛ هل إنَّ العقيدة النّصرانيّة في السيّد المسيح صحيحة أم لا، ولكنَّنا نريد أن نبيِّن الفارق في التصوّر بين العقيدة الإسلاميَّة والعقيدة المسيحيَّة، حتَّى لا يختلط الأمر علينا، لنعرف عقيدتنا في الأنبياء وفي كلّ الأمور كما شرحها القرآن، فهم، كما قلنا، يرون في عيسى (ع) التجسيد لله، ويرون أنَّه قُتِل وصُلب ودفن ثمَّ قام بعد ذلك، أمَّا القرآن، فله حديث آخر.
سنحاول في البداية أن نقرأ بعض آيات الله في سورة آل عمران الَّتي يحدِّثنا فيها عن عيسى (ع) من حين ولادته إلى أن رفعه الله. تعالوا نستمع إلى القرآن، ثمَّ نفصّل بعض الحديث في هذا الموضوع.
البشارةُ بالمسيح (ع)
يقول تعالى في كتابه الكريم: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ - والكلمة هنا، كما ورد عندنا، هي قول الله {كُنْ}، فالله سبحانه وتعالى خلقه بإرادته، وليس معنى ذلك أنَّ الله يقول له (كُنْ)، بل كما قال الإمام زين العابدين (ع) في دعائه: "فَهِيَ بِمَشِيَّتِكَ دُونَ قَوْلِكَ مُؤْتَمِرَةٌ"، فالأشياء تحصل بإرادة الله، وكلمة (كُنْ) تعبير عن إرادة الله - اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا - له وجاهة الرّسالة، ووجاهة الرّوحانيَّة، ووجاهة الدَّعوة والإخلاص لله ولعباده، فسوف يكون له في الدنيا شأن كبير عند النَّاس – وَالْآخِرَةِ – وشأنه في الآخرة كبير - وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[آل عمران: 45] الّذين يعيشون القرب من الله سبحانه وتعالى.
{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ - {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}[مريم: 29 - 30] – وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ}[آل عمران: 46]، فهو يجسّد الصَّلاح في كلّ عقله وقلبه وكلّ حياته مع الناس.
{قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ - وقضيَّة أن تلد المرأة، هي قضيّة تخضع للسنَّة الإلهيَّة التي أودعها الله في الإنسان، في لقاء الرَّجل بالمرأة ليكون هناك ولد.
- قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ - إنَّ الله هو الَّذي خلق الإنسان بهذه الطَّريقة، وخلق أب الإنسان، وهو آدم، من دون أب وأمّ، فالقادر على هذا وذاك، قادر على أن يخلق ولداً بدون أب؛ إنَّها قدرة الله، ولا يعجز اللهَ شيءٌ – إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[آل عمران: 47].
رسالةُ المسيح (ع)
ويتابع القرآن الحديثَ عن كيف ينمِّي الله عيسى (ع): {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ - الذي أنزله على أنبيائه ورسله – وَالْحِكْمَةَ - الَّتي تجعل له عقلاً يواجه كلَّ شيء ليضعه في موضعه، فلا ينحرف عن موضعه الطبيعي - وَالتَّوْرَاةَ - الَّتي أنزلها الله على موسى - وَالْإِنجِيلَ}[آل عمران: 48]، لأنَّ عيسى (ع) عندما جاء برسالته، لم ينسخ التَّوراة، بل قال: "جئت لأكمل النَّاموس"، فهو جاء مكمّلاً ولم يأت ناسخاً.
{وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ - فهو رسول ونبيّ وليس إلهاً، ولم يتجسَّد الإله فيه، بل هو عبد الله {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ}[مريم: 30]، عاش العبوديَّة لله، وعاش إنسانيَّته كما يعيش أيّ إنسان في حياته الخاصَّة، وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم في آية أخرى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ}[المائدة: 75]، كما يأكل بقيَّة البشر الطَّعام، من دون أيّ فرق بينه وبينهم في الجانب البشريّ، {لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ ۚ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِۦ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا}[النّساء: 172].
- أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ - تعرفون من خلالها أنَّ الله سبحانه وتعالى اختارني نبيّاً، وأنّ لي صلة بالله تعالى - أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ - فهو لم يخلق الطَّير، بل خلق المثال. فهو (ع) يقول إنّي أصنع لكم طيراً من هذا الطّين - فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ - لست أنا الَّذي أدخل فيه الرّوح، ولا أنا الَّذي أحييه، ولكنَّ الله يجعل في نفختي سرَّ الحياة بقدرته، كما جعل نفخة جبرائيل أو هذا الرّوح الَّذي أرسله إلى مريم، جعل فيها سرَّ وجودي وسرَّ حياتي.
- وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ – الأعمى - وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ - أعرّفكم وأنا في بيتي ماذا تأكلون في بيوتكم، دون أن يكون قد جاءني خبر من ذلك، وما تدَّخرون من مؤنة وغير مؤنة - إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: 49]، تقنعكم بأنَّني رسول من قبل الله سبحانه وتعالى، وأنَّني أتحرَّك في كلِّ ما آتي به بإذن الله وبأمره، فليس لي قدرة ذاتيَّة فيما يصدر عني من هذه الآيات، ولكنَّها قدرة ربَّانيَّة تتحرَّك فيَّ من خلال الله الَّذي كانت قدرتي مستمدَّة من قدرته.
{وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ - فلم آت ناسخاً للتّوراة، بل أتيت معترفاً بها، وداعياً إلى العمل بها، ولكن مع أمور جديدة في الإنجيل تكمِّل ما اقتضاه الزَّمن مما يحتاج إلى أشياء جديدة.
- وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ - والتَّحريم والتَّحليل بيد الله، فالله يحلّل شيئاً في وقت وقد يحرِّمه في وقت آخر، أو يحرّم شيئاً في وقت ويحلّله في وقت آخر، ولذلك ربما كانت هناك بعض التَّشريعات التي حرَّمت على بني إسرائيل بعض الأشياء، ربما كانت ناتجة من العقوبة الَّتي أراد الله أن ينزلها بهم، وقد ارتفع ذلك برسالة عيسى (ع) وبنبوَّته، فأمره الله أن يحلّل لهم بعض ما حُرِّم عليهم.
إشكاليّةُ زواجِ أولادِ آدمَ (ع)
وهذه نقطة، أيُّها الأحبَّة، يجب أن تفهموها جيّداً، وخصوصاً في الجدل الّذي يدور دائماً حول بدء الخليقة، أنّه لم يكن هناك إلّا آدم وحوّاء، وكان أولادهم إخوة، فكيف تناسل النَّاس؟
هناك روايات مختلفة في ذلك، بعض الرّوايات تقول إنَّ الله أنزل حوريَّة أو جنيَّة أو ما أشبه ذلك ليتمّ الزواج، ولكن العلَّامة الطبطبائي في "الميزان" يقول إنَّ الآية الكريمة تقول: {يَا أيُّها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً}[النّساء: 1]، وهناك رواية عن الإمام زين العابدين (ع) في كتاب "الاحتجاج"، أنَّ الله أمر آدم أن يزوِّج الأخ من أخته، وكان هذا حلالاً، ثمَّ بعد أن تكاثر النَّاس، وصار هناك عمّ وابن عمّ وخال وابن خال.. حرَّم الله هذا التّشريع حتّى تتوازن القضايا.
نعم، اليوم علاقة الأخ بأخته غير شرعيَّة، ولكن في زمن آدم كانت شرعيَّة، لأنَّ الَّذي يملك التَّشريع هو الله، والله يعرف المصلحة، فقد يحلّل شيئاً ثمَّ يحرّمه، وقد يحرّم شيئاً ثمّ يحلّله، وهذا ما نقرأه: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}.
المسيحُ يؤكِّد عبوديّته لله
- وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ - في كلّ ما آمركم به في الرّسالة - وَأَطِيعُونِ}[آل عمران: 50]، ليس بصفتي الشَّخصيَّة، ولكن بصفتي الرساليَّة، لأنَّ الله يقول في كتابه الكريم: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النّساء: 80]، لأنَّ الرَّسول لا ينطق بشخصه، وإنّما ينطق باسم الله وبكلمته في كلّ الرّسل والرّسالات.
{إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ - فقد أراد (ع) أن يؤكِّد أنّه مربوب لله، وعبد له، ومخلوق له، كما أنّهم مربوبون لله ومخلوقون له وعباد له، فهو (ع) يقول لهم: ليس هناك فرق بيني وبينكم في العبوديَّة، فالله ربي والله ربّكم، لا تتَّخذوني إلهاً من دون الله بأيّ طريقة كانت الألوهيّة، باعتبار أنّي أقوم بعمل لا يستطيع البشر أن يقوموا به، لأنَّ ما قمت به إنما هو من خلال الله سبحانه وتعالى، وليس من خلال قدرتي الخاصَّة - فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}[آل عمران: 51]، فعبادة الله وطاعته وتوحيده هي الصِّراط المستقيم الَّذي يؤدّي بكم إلى رضوان الله وجنّته.
الحواريّون يؤازرون عيسى (ع)
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ - فعندما رأى عيسى (ع) منهم الكفر، عرف أنّ هناك معركة، وأنَّ هناك صراعاً، وأنَّ هناك قوماً سوف يواجهونه في مسيرته ويضطهدونه، فدعا إلى أن يكون له أنصار يساعدونه في المعركة الثقافيّة أو الاجتماعيّة، أو أيّ نوع من أنواع المعارك، فيما كانت تتَّصف به المعارك في تلك الفترة.
- قَالَ الْحَوَارِيُّونَ - هؤلاء الَّذين آمنوا به - نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ - آمنّا بالله، وأسلمنا أمرنا إليه، وإذا أسلم الإنسان أمره إلى الله، فمعنى ذلك أن يكون خيار الله هو خياره، وأن يكون أمر الله هو أمره، ونهيه هو ما ينتهي عنه، فلا كلمة له أمام كلمة الله، ولا موقف له أمام ما يريده الله من موقف. وهذا ما نستلهمه، أيُّها الأحبَّة، من كلمة عيسى (ع)، لأنَّها الكلمة الرساليَّة، ومن كلّ كلمات القرآن في رسالة النّبيّ (ص)، أنَّ الإنسان عندما يقف أمام الله، فهو عبد مملوك له لا يقدر على شيء، فلا أحد يستطيع أن يقول أمام الله أنا حرّ! لا لست حرّاً، أنت عبدٌ لله؛ كلّ جسدك ووجودك عبد لله، لأنَّ عبوديَّتك لله نشأت من خلال خلقه لك. نعم، إذا قال لك شخصٌ تعال افعل كذا أو لا تفعل، يمكن أن تقول له لا أنا لست عبدك، وأنا حرّ، أمَّا عندما يقول لك الله أمراً، ويقول لك الرّسول الَّذي ينطق بكلام الله أمراً، فأنت لست حرّاً، وعليك أن تحني رأسك {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم}[الأحزاب: 36].
فلتبقَ هذه الحقيقة في أذهانكم، لأنَّ هناك الكثير من النَّاس يمكن أن تتضخَّم شخصيّتهم وتنتفخ لأنّهم يملكون المال أو الوجاهة؛ أنا فلان الوجيه، أو أنا الّذي أملك موقعاً في المجتمع أو في الدّولة، كيف أركع، وكيف أسجد؟ ولكنّك مهما كنت، فأنت ضعيف أمام الله سبحانه وتعالى، لا تملك لنفسك نفعاً ولا ضرّاً إلَّا بالله، والله الَّذي أعطاك المال قادر أن يعيدك إلى نقطة الصّفر، والله الَّذي أعطاك القوَّة، قادر بخربشة صغيرة على الدّماغ، أن يجعلك لا تعقل شيئاً ولا تتكلَّم. لذلك، لا تتكبَّر أمام الله، فأمامه أنت لا شيء. لذلك علينا أن نعرف الله جيّداً أنّه {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزّمر: 67]، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}[النّازعات: 40 - 41]، أن نعرف مقام الله، ونعرف حجمنا، حتَّى لا نغترَّ بما نصل إليه من حجم مالي أو اجتماعي أو سياسي، وكلّه من الله {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النّحل: 53].
- وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 52]، وهذا معنى الإسلام، فالإسلام يعني أن لا موقف لك أمام الله {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام: 162 - 163]، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة: 131]، كما يقال في العاميّة: أرفع له العشرة. البعض يرفع العشرة لبعض النَّاس، ولكن عندما يكون أمام الله، فليس مستعدّاً أن يرفع له العشرة {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ - من زعماء ورؤساء وصغار وكبار - عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}[الأعراف: 194] مثلك مثله، فلماذا تخضع له؟!
ثمَّ يكمل الحواريّون كلامهم - وعلينا، أيُّها الأحبَّة، أن نتبنَّى منطق الحواريّين، لأنَّ منطقهم منطق المؤمنين المسلمين - {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران: 53] الَّذين يشهدون على أمَّتهم عندما تستقيم أو تنحرف.
هل صُلِب عيسى (ع)؟!
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[آل عمران: 54]، مكروا، وأرادوا أن يقتلوه ويصلبوه، ووضعوا كلَّ الخطط، ووضع الله الخطَّة، ونجحت خطَّة الله وفشلت خططهم.
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ - بعض النَّاس يستشكل على كلمة "متوفّيك"، فيفترضون أنّها تعني أنّه مات. هنا الوفاة تعني أنَّ الشَّيء بلغ حدَّه، فتقول، مثلاً، هذا وزنٌ وافٍ، يعني بالغٌ حدَّه، فالإنسان له حدّ في هذه الحياة، فتارةً يجعل له الله حدَّه بالموت، وتارة يرفعه إليه، والله سبحانه وتعالى قال {مُتَوَفِّيكَ}، يعني أبلغ بك الحدّ الّذي جعلته لك في الدنيا، بمعنى أخذت حقَّك وافياً فيما لك في الدّنيا، ثمَّ أرفعك إليّ - وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[آل عمران: 55]، والذي يتبع عيسى (ع) هو الَّذي يتبع محمّداً (ص)، وهذا ما حدَّثنا القرآن عنه: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}[الصّفّ: 6].
وهكذا يحدّثنا الله عن الَّذين قالوا إنَّه صُلِب: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ – وعبارة (شُبِّه لهم) لها تفسيران؛ الأوَّل أنّه ألقى شبهه على شخص وصُلِب ذاك الشَّخص، والثاني أنّه خيِّل إليهم أنهم صلبوه ولكنَّهم لم يصلبوه حقيقة - وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النّساء: 156 - 157].
العقيدةُ الإسلاميّةُ في المسيح
أيُّها الأحبَّة، هذه هي سورة عيسى (ع) في القرآن.
إذاً، نحن نعتقد أنّ عيسى (ع) ليس فيه شيء من الألوهيّة، لا ربع إله، ولا نصف إله، ولا كلّ إله، هو عبد لله، يعيش العبوديّة له كأفضل ما يعيشها عبد في موقع العبوديَّه لله، وهو رسول الله، آتاه الكتاب وجعله نبيّاً، وأوصاه بالصَّلاة والزكاة في كلِّ حياته، وأراد له أن يبرَّ والدته، ولم يجعله جبّاراً شقيّاً، وأنَّه لم يُقتَل ولم يُصلَب، بل رفعه الله إليه.
هذه هي عقيدتنا الإسلاميَّة في هذا المجال. وفي ضوء هذا، فمن كان مسلماً، عليه أن يعتقد هذا الاعتقاد. الآخرون عندهم عقيدتهم، وهم مقتنعون بها، ونحن نقول دائماً، إنَّ علينا عندما نختلف في الجوانب العقائدية، وخصوصاً في هذه القضايا الَّتي لها جانب فلسفي، أن لا نتَّخذ أسلوب المهاترات، وأسلوب الشَّتائم والسّباب، وما إلى ذلك، بل أن نعيش في علاقات إنسانيَّة يحترم الإنسان فيها الإنسان الآخر، ودليل الاحترام هو أن تحاور الآخر وتسمح له بأن يحاورك، لأنَّ السباب والشّتائم وكلّ أساليب التَّكفير والتَّضليل لا تحلّ مشكلة، ولا تقنع أحداً، ولكنَّها تزيد الإنسان حقداً وعداوة. وقد علَّمنا الله سبحانه وتعالى في آدابه الَّتي أدَّبنا بها في القرآن، أن لا نسبَّ حتَّى الَّذين يشركون بالله، لا لأنَّهم لا يستحقّون ذلك، ولكن لأنَّ السبَّ يحوِّل الموقف إلى ردّ فعل لسبّ الله {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ – يعني الّذين يشركون بالله - فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}[الأنعام: 108]، بمعنى أنّ كلّ جهة تفترض أنّها على صواب.
لذلك، علينا أن نتّبع أسلوب القرآن: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[العنكبوت: 46]، {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النّحل: 125]، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصّلت: 34]
فليقف كلّ واحد منَّا على عقيدته ويؤكّدها، ولكنَّ هناك قيماً مشتركة؛ الصّدق والأمانة والعفّة واحترام الآخر والحوار والإنسانيَّة وما إلى ذلك، ليس هناك صدق مسيحي يختلف عن صدق إسلامي، ولا أمانة مسيحيّة تختلف عن أمانة إسلاميّة، ولا عفّة مسيحيّة تختلف عن عفّة إسلاميّة، لأنَّ القيم الإنسانيَّة التي جاءت بها التَّوراة والإنجيل وصحف إبراهيم والقرآن كلّها واحدة، فعيسى (ع) جاء مصدّقاً لما بين يديه من التَّوراة، كذلك النبيّ محمّد (ص) جاء مصدّقاً لما بين يديه من الكتب.
فالقيم مشتركة؛ القيم الروحيَّة، القيم الأخلاقيَّة، القيم الإنسانيَّة، وعلينا عندما نعيش مع المسيحيّين، أن نعيش معهم في القيم المشتركة الَّتي نؤمن بها في كتابنا، ويؤمنون بها في كتابهم، وأن ننطلق مع أهل الكتاب بالكلمة السواء {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا - فلنقف من أجل أن نتحرَّك في العالم ضدّ الإلحاد، ونعمل على أساس توحيد لله، وإن اختلفنا في معنى التوحيد هنا وهناك - وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}[آل عمران: 64]، أن نقف ضدّ المستكبرين الذين يعتبرون أنفسهم أرباباً للنَّاس من دون الله، لتنطلق المسيرة الإسلاميَّة الكتابيَّة من أجل العمل المشترك في خطّ توحيد الله، وتوحيد الإنسانيَّة؛ أن لا يكون الإنسان ربّاً للإنسان.
وهكذا، أيُّها الأحبّة، عندما نعيش في بلد واحد كلبنان، ولنا مصالح مشتركة، وقضايا مشتركة، وتحديات مشتركة، وأرض مشتركة، فإنَّ علينا أن نعمل بأن نتكامل في كلّ ما نشترك فيه وما نتساوى فيه، وأن تكون المسألة هي أن يعيش النَّاس في لبنان متساوين في الحقوق وفي الواجبات، من أجل أن نصنع هذا البلد على صورة القيم الرساليَّة الإنسانيَّة الروحيَّة، لأنَّ ذلك هو الذي يبعد هذا البلد وغيره من البلدان عن كلّ المشاكل الكبيرة والصغيرة، وهو الذي يجمع الناس للوقوف أمام كلّ التحديات، ولا سيَّما تحديات الاستكبار والاحتلال والظّلم في الداخل.
الارتقاءُ إلى مستوى الرّسالة
لذلك، في مولد السيّد المسيح (ع)، علينا أن نرتفع إلى مستوى هذا الصَّفاء الروحي، وهذه المحبّة الواسعة، وهذه الرساليَّة التي تعبد الله سبحانه وتعالى في خطِّ رسالته، علينا أن نلتقي في ذلك الخطّ.
وعلينا، أيُّها الأحبَّة - وقد كرّرناها أكثر من مرَّة - أن لا نتَّخذ ذكرى ميلاد السيِّد المسيح، أو ما نستقبله من ذكرى السنة الميلاديَّة، أساساً للعبث واللَّهو، ولأن نسفك العفَّة والطَّهارة، بل أن نخشع في ذكرى هذا الإنسان العظيم الكريم الَّذي كرَّمه الله، وأن نخشع أمام الله من خلال ما نتحرَّك به من مسؤوليَّاتنا العامَّة والخاصَّة.

الخطبة الثّانية
 
عباد الله، لتكن تقوى الله سبحانه وتعالى في كلّ وجدانكم، من أجل أن تجسِّدوا عبادة الله في كلِّ حياتكم، لتكون حياتكم صورة للعبوديَّة التي أراد الله لعباده أن يتمثَّلوها، ليخلصوا له، وليطيعوه في كلِّ ما أمر به ونهى عنه. لتكن تقوى الله شاملةً في حياتكم، لتواجهوا كلَّ المواقف التي تتحرَّك في حياتكم بالمسؤوليَّة الكاملة، سواء كان موقفاً يختصّ بكم كـأفراد أو كجماعة أو كأمَّة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى حمَّلنا مسؤوليَّة إدارة حياتنا الفرديَّة في خصوصيَّاتنا ومسؤوليّاتنا الخاصَّة، وأراد لنا أن نحفظ المجتمع من أنفسنا ومن الآخرين، وأن نحفظ الأمَّة من أنفسنا ومن الآخرين، وأن نعيش هموم الأمَّة كما نعيش هموم العائلة، وأن نواجه الموقف بكلِّ ما نستطيعه من طاقات، لأنَّ الله أراد لنا أن نكون الأعزَّاء، ولم يقبل لنا أن نكون الأذلَّاء، وأراد لنا أن نكون الأقوياء، ولم يرد لنا أن نكون الضّعفاء، وأرادنا أن نواجه الموقف على أساس الآية الكريمة {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}[النّساء: 141]، وعلينا أن نعمل أن لا نجعل لكلِّ هؤلاء المستكبرين الكافرين سبيلاً علينا من أجل أن يحكمونا أو يحتلّونا، أو من أجل أن يحاربونا ويسرقوا ثرواتنا وما إلى ذلك.
تلك مسؤوليَّتنا كأمَّة، ولن نستطيع أن نحقّق هذه المسؤوليَّة إلَّا إذا توحَّدنا واجتمعنا، وقد سمعتم آيات الله {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...}، فإذا كان ذلك مع أهل الكتاب، أفلا يقول بعضنا لبعض قل يا أهل القرآن تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم؟! لماذا نثير الخلافات المذهبيَّة في الدَّائرة الإسلاميَّة الواسعة، ليقف السنّي ليحارب الشيعي أو ليكفّره، أو ليقف الشيعي ليحارب السنّي ويكفّره، أو ننطلق حتى في الدائرة الشيعية أو في الدائرة السنية، ليحارب الشيعيُّ الشيعيَّ أو يكفّره إذا اختلف معه في بعض الحالات، أو ليحارب السنّيُّ السنّيَّ ليكفّره إذا اختلف معه في بعض الحالات؟! إنَّ هذا هو الَّذي جعلنا ضعفاء أمام أعدائنا، وهو الَّذي جعلنا أذلاء أمام المستكبرين.
أيُّها الأحبَّة، ارتفعوا إلى مستوى قضاياكم الكبرى، ليكن لكم وعي القضايا، لا تفكّروا في الزوايا الصَّغيرة، ولكن فكّروا في السَّاحات الكبيرة، لا يُدخِلْ كلّ واحد منكم نفسه في زنزانة تخلُّفه وجهله، إنَّ الله جعل لنا الشمس مشرقة في كلّ يوم من أجل أن نعيش صحوة النور في أفكارنا وحياتنا، وجعل لنا هذه الأرض واسعة {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}[العنكبوت: 56] حتّى نتحرَّك في كلّ ساحاتها {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك: 15].
ونحن، أيُّها الأحبَّة، نعيش في هذه المرحلة في تحدّيات كبرى على مستوى الأمَّة والبلد، فعلينا أن نعرف كيف انطلقت التحدّيات، وكيف يجب أن نتحرَّك فيها.
الوحشيّة الأمريكيّة الإسرائيليّة
من العراق إلى فلسطين فلبنان، تتحرَّك الوحشية الأمريكية الإسرائيلية في حلفٍ يضطهد الإنسان طفلاً وامرأة وشيخاً وحجراً وبشراً، بعناوين مختلفة يتقن الاستكبار تحريكها في السَّاحة، فمن القصف الأمريكي للبنية التحتيَّة والأهداف المدنيَّة في العراق، إضافةً إلى الحصار المستمرّ على شعبه، والَّذي سيبقى إلى الأبد، كما يقول مسؤول أمريكيّ، بعنوان الحصار على نظامه وحاكمه، والخطط المشبوهة للسياسة الاستكباريَّة الأمريكيَّة التي تريد السيطرة على العراق في بتروله واستثماراته وأسواقه، وصولاً إلى السيطرة على سياسته وأمنه...
إلى المأساة الدامية المتحركة في فلسطين الَّتي ينطلق فيها الجيش الصهيوني مع المستوطنين، في عمليّة القتل والجرح والتَّدمير والإرباك اليوميّ للحياة الفلسطينيَّة بالاعتقال والملاحقة، وفرض الشروط المتعسّفة على الفلسطينيّين، في دوَّامة سياسية أمنية اقتصادية تشرف عليها أمريكا الخاضعة لليهود، بالمزيد من التَّمييع والضَّغط واحتواء الجانب الفلسطينيّ، من دون أيّ ردّ فعل عربيّ يخفّف شيئاً من هذا الواقع الصّعب...
وصولاً إلى القصف الوحشي المتحرّك في جنوب لبنان وبقاعه، الَّذي كانت قمَّة الوحشيَّة فيه، المجزرة الجديدة التي أعادت إلى الذَّاكرة مجزرة قانا، في صورة بشعة لقتل ستّة أطفال في عمر الورود مع أمِّهم، في رسالة دمويَّة إلى لبنان وسوريا، وفي ظلّ صمتٍ دوليّ مدمنٍ لأسلوب اللامبالاة أمام ما تقترفه إسرائيل ضدّ لبنان، ما أبعد المسألة عن دائرة الاهتمام الدّولي في المنطق الإنساني، لأنَّ أمريكا تعطي الغطاء السياسيَّ لكلّ هذا الواقع العدواني الإسرائيليّ، حتى إنَّها منعت لبنان من تقديم الشَّكوى إلى مجلس الأمن، مهدِّدةً بأنَّها سوف تستخدم حقّ النَّقض الفيتو لحماية إسرائيل من أيّ عمليَّة إدانة في مجلس الأمن، مهما كانت جرائمها في قتل الأطفال والنّساء والشّيوخ، لأنَّ أمريكا لا تحترم أطفال العرب، بل تبقى مع أطفال اليهود في أيّ عملية أمنية، باعتبار أنّ العرب في منطقها، لا حقّ لهم في الحياة في مجال حقوق الإنسان، ولذلك فإنها لا تلتزم أيّ نوع من أمنهم، لأنَّ الأمن عندها هو لليهود وحدهم.
لقد كان الردّ العمليّ الوحيد على هذه المجزرة الوحشيَّة، هو ما قامت به المقاومة الإسلاميّة – سلمت يداها - من قصف المستوطنات اليهوديَّة في فلسطين، التزاماً منها بحماية المدنيّين في لبنان، كرسالة إلى العدوّ بأنَّ المستوطنات اليهوديَّة لن تكون بعيدة من قصف المجاهدين، إذا تعرَّضت المناطق اللبنانية للقصف.
وهذا وحده الذي أعطى العدوّ درساً واقعيّاً لم يستطع معه أن يتوازن في تصريحاته وخططه، وإذا كان العدوّ قد هدَّد بما يسمِّيه الردَّ المناسب في الوقت المناسب، فإنَّنا نعرف أنَّ المعركة مستمرّة ومفتوحة، وشعبنا يعرف أنَّ العدوَّ الإسرائيلي سوف ينتهز الفرصة للعدوان في أيّ موقع وفي أيّ زمان، الأمر الَّذي يفرض على الجميع الوعي السياسي والأمني الَّذي يلاحق كلّ حركة العدوّ في أيّ زمان ومكان.
وعلينا أن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ العدوّ لا يملك حريَّة الحركة في القيام بما يهدّد به، فهناك ظروف سياسية دولية وإقليمية ومحلية، وهناك ظروف أمنيّة، وظروف سياسيَّة داخليَّة في هذه الفوضى السياسيَّة، تمنعه من أن يقوم بعمل كبير. وإذا كانت بعض الصّحف تتحدَّث أنَّ نتنياهو يمكن أن يقوم بعمل كما قام سلفه شيمون بيريز في "عناقيد الغضب"، فإنَّه يعرف جيّداً - وهو يعيش المشكلة السياسيَّة الدَّاخليَّة الآن – أنَّ شيمون بيريز سقط لأنَّه خاض الحرب في لبنان، وفشل في الحصول على انتصار في هذه الحرب، وأنَّه إذا أراد أن يخوض حرباً مماثلة، فسوف يفشل كما فشل سلفه {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال: 30].
دورُ الشّعوبِ في المواجهة
كما أنّ على الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة أن تتحرَّك من أجل تعميق الرّفض للسياسة الأمريكيَّة المتحالفة مع إسرائيل في المنطقة، تماماً كحركتها ضدّ العدوان على العراق، والتحدّي للصَّمت الرسمي العربي أو الإسلامي في أكثر من موقف للمسؤولين في الأنظمة، لينطلق الصَّوت واحداً: لا لأمريكا، ولا لإسرائيل في الوحشيَّة العدوانيَّة ضدّ الواقع العربي والإسلامي على أكثر من صعيد.
إنَّ أمريكا وإسرائيل قد تتحركان كما تحركتا لتغطية مشاكلهما الداخليَّة، بالعدوان على العالم العربيّ والمسلمين، وعلينا أن نمنعهما من ذلك بكلّ ما نملك من قوَّة، كما أنَّ علينا أن نبقى على الحذر من أيّ مغامرة جديدة للعدوّ، ولكن من دون أن نسقط أمام تهديداته، لأنَّ الظروف السياسيَّة والميدانيَّة، كما قلنا، تمنعه من أيّ عمل كبير.
مسؤوليّة السلطة الفلسطينيّة
وفي هذا الجوّ، فإنَّنا نرحّب برفع الإقامة الجبريَّة عن الشيخ أحمد ياسين، ونأمل أن تتحرَّك السلطة الفلسطينيَّة في خطوات تعود فيها إلى شعبها الفلسطيني، ولا سيَّما فريق الانتفاضة من الإسلاميّين المجاهدين، لأنَّ ذلك هو الذي يعطي القضية الفلسطينيَّة دفعاً في المعركة المستمرَّة مع العدوّ، ما يجعل من الوحدة الشعبيَّة الفلسطينيَّة، ولملمة الجراح، وحلّ مشاكله الداخليَّة بالتفاهم والحوار، يجعل لذلك كلّه الدور الأكبر. إنّ التراجع عن أسلوب التنازل الَّذي قامت به السلطة الفلسطينيَّة للعدوّ، هو الَّذي يعيد إلى القضية الفلسطينيَّة قوّتها وعنفوانها التاريخي الكبير.
العهدُ الجديد.. والثّقةُ المفقودة
أمَّا على المستوى اللبناني الداخلي، فإننا نتابع الخطوات العمليَّة الجادَّة في حركة العهد الجديد، ولا سيَّما في القرارات الأخيرة، وأبرزها إباحة التّظاهر، وإعادة فتح بعض الملفّات كملفّ الإعلام، ما يؤمِّن فرصة لعودة الحقوق المشروعة إلى أصحابها.
إنَّ من شأن هذه القرارات أن تعيد شيئاً من الثقة المفقودة بين المواطن والمسؤول، ولكن لا بدَّ أن تقرن بتعاطٍ إيجابي، بحيث يأخذ المواطن حقَّه في الممارسة كما يأخذه في القوانين.
إنَّ اللبنانيين جميعاً ينتظرون قيام ورشة عامَّة من المعارضة والدَّولة معاً، لإعادة بناء البلد اقتصادياً وسياسياً، وإن بشكلٍ تدريجيّ، لأنَّ ذلك يمثّل رسالة كبيرة نردّ فيها من الدَّاخل كشعب ودولة، على الرسائل الصهيونيَّة المدعومة من أمريكا، ونحضّر البلد أكثر للوقوف في وجه الهزَّات السياسيَّة والاقتصاديَّة الآتية من المنطقة، كما نضعه على سكَّة المواجهة الصَّحيحة للاحتلال، حيث تلتقي وحدة الصّفّ الدَّاخلي مع سعي المقاومة لطرد الاحتلال وتحرير البلد، مع تقديرنا لموقف الحكومة من العدوان الإسرائيليّ، فقد دلَّل على وعي عميق أكثر للمرحلة، وعلى تأكيد الموقف اللّبناني دولةً وشعباً في خطّ مواجهة العدوّ، وتأكيد الحقّ أمام العالم في إزالة الاحتلال.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريح: 25/12/1998م.
يحتفل العالم في هذا اليوم بذكرى ميلاد السيّد المسيح (ع)، ولا نريد أن ندخل في جدل حول هل إنَّ هذا التاريخ هو التاريخ الصَّحيح لميلاده (ع)، أو أنَّ هناك تاريخاً غيره، لأنَّه جدل لا فائدة فيه، ولكنَّنا نريد أن نستوحي السيّد المسيح (ع) في كلّ القيم الَّتي عاشها في إخلاصه لله، وفي انفتاحه في رسالته على المحبَّة؛ محبَّة الإنسان لله، ومحبَّة الإنسان للإنسان، وعلى السَّلام الَّذي ينطلق من عمق السَّلام الروحي في نفس الإنسان المؤمن الَّذي يعيش السَّلام مع الله ومع نفسه ومع النَّاس، ليتحوَّل السَّلام إلى حركة في واقع النَّاس من خلال علاقات بعضهم ببعض، في كلّ ما يتَّفقون عليه ويختلفون فيه.
إنَّنا نقف أمام ذكرى السيّد المسيح (ع) الَّذي تحدَّث عنه القرآن في أكثر من آية، بما تميَّز به عن كلّ البشر، بأنَّ الله أظهر قدرته فيه، بعد أن أظهر قدرته في آدم، وأظهر قدرته في خلق النَّاس كلّهم {إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ۖ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[آل عمران: 59].
ونحن، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ لنا في هذا الموقف أن نحدّثكم من خلال القرآن عن صورة عيسى (ع) في القرآن؛ ما هي صفته وما هي صورته، لأنَّ هناك خلافاً عقائدياً بين المسلمين والنَّصارى، فيما هو المعروف المشهور عند النصارى، وإن كان لبعضهم رأي آخر يختلف عن الرأي المشهور، فنحن نعرف أنَّ الرأي المعروف لديهم، والَّذي يتكرَّر في كلماتهم، أنَّ عيسى (ع) يمثِّل التجسيد لله، ولذلك يتحدَّثون عن عيسى كربّ وكإله، وأنَّ الله تجسَّد فيه ليتحمَّل الآلام ليعفو عن خطايا النَّاس، فهو عندهم في موقع الربوبيَّة وليس فيه موقع النبوَّة والرسالة، وهم مع ذلك يقولون بالتَّوحيد، فهم يقولون: باسم الأب والابن والروح القدس إلهاً واحداً، حيث يرون أنَّ الأقانيم تتوحَّد، وإن كانوا يختلفون في فلسفة ذلك.
نحن لسنا في مجال الجدل؛ هل إنَّ العقيدة النّصرانيّة في السيّد المسيح صحيحة أم لا، ولكنَّنا نريد أن نبيِّن الفارق في التصوّر بين العقيدة الإسلاميَّة والعقيدة المسيحيَّة، حتَّى لا يختلط الأمر علينا، لنعرف عقيدتنا في الأنبياء وفي كلّ الأمور كما شرحها القرآن، فهم، كما قلنا، يرون في عيسى (ع) التجسيد لله، ويرون أنَّه قُتِل وصُلب ودفن ثمَّ قام بعد ذلك، أمَّا القرآن، فله حديث آخر.
سنحاول في البداية أن نقرأ بعض آيات الله في سورة آل عمران الَّتي يحدِّثنا فيها عن عيسى (ع) من حين ولادته إلى أن رفعه الله. تعالوا نستمع إلى القرآن، ثمَّ نفصّل بعض الحديث في هذا الموضوع.
البشارةُ بالمسيح (ع)
يقول تعالى في كتابه الكريم: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ - والكلمة هنا، كما ورد عندنا، هي قول الله {كُنْ}، فالله سبحانه وتعالى خلقه بإرادته، وليس معنى ذلك أنَّ الله يقول له (كُنْ)، بل كما قال الإمام زين العابدين (ع) في دعائه: "فَهِيَ بِمَشِيَّتِكَ دُونَ قَوْلِكَ مُؤْتَمِرَةٌ"، فالأشياء تحصل بإرادة الله، وكلمة (كُنْ) تعبير عن إرادة الله - اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا - له وجاهة الرّسالة، ووجاهة الرّوحانيَّة، ووجاهة الدَّعوة والإخلاص لله ولعباده، فسوف يكون له في الدنيا شأن كبير عند النَّاس – وَالْآخِرَةِ – وشأنه في الآخرة كبير - وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[آل عمران: 45] الّذين يعيشون القرب من الله سبحانه وتعالى.
{وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ - {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ۖ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}[مريم: 29 - 30] – وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ}[آل عمران: 46]، فهو يجسّد الصَّلاح في كلّ عقله وقلبه وكلّ حياته مع الناس.
{قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ - وقضيَّة أن تلد المرأة، هي قضيّة تخضع للسنَّة الإلهيَّة التي أودعها الله في الإنسان، في لقاء الرَّجل بالمرأة ليكون هناك ولد.
- قَالَ كَذَٰلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ - إنَّ الله هو الَّذي خلق الإنسان بهذه الطَّريقة، وخلق أب الإنسان، وهو آدم، من دون أب وأمّ، فالقادر على هذا وذاك، قادر على أن يخلق ولداً بدون أب؛ إنَّها قدرة الله، ولا يعجز اللهَ شيءٌ – إِذَا قَضَىٰ أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[آل عمران: 47].
رسالةُ المسيح (ع)
ويتابع القرآن الحديثَ عن كيف ينمِّي الله عيسى (ع): {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ - الذي أنزله على أنبيائه ورسله – وَالْحِكْمَةَ - الَّتي تجعل له عقلاً يواجه كلَّ شيء ليضعه في موضعه، فلا ينحرف عن موضعه الطبيعي - وَالتَّوْرَاةَ - الَّتي أنزلها الله على موسى - وَالْإِنجِيلَ}[آل عمران: 48]، لأنَّ عيسى (ع) عندما جاء برسالته، لم ينسخ التَّوراة، بل قال: "جئت لأكمل النَّاموس"، فهو جاء مكمّلاً ولم يأت ناسخاً.
{وَرَسُولًا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ - فهو رسول ونبيّ وليس إلهاً، ولم يتجسَّد الإله فيه، بل هو عبد الله {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ}[مريم: 30]، عاش العبوديَّة لله، وعاش إنسانيَّته كما يعيش أيّ إنسان في حياته الخاصَّة، وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم في آية أخرى: {مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ}[المائدة: 75]، كما يأكل بقيَّة البشر الطَّعام، من دون أيّ فرق بينه وبينهم في الجانب البشريّ، {لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْدًا لِّلَّهِ وَلَا ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ ٱلْمُقَرَّبُونَ ۚ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِۦ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا}[النّساء: 172].
- أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ - تعرفون من خلالها أنَّ الله سبحانه وتعالى اختارني نبيّاً، وأنّ لي صلة بالله تعالى - أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ - فهو لم يخلق الطَّير، بل خلق المثال. فهو (ع) يقول إنّي أصنع لكم طيراً من هذا الطّين - فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ - لست أنا الَّذي أدخل فيه الرّوح، ولا أنا الَّذي أحييه، ولكنَّ الله يجعل في نفختي سرَّ الحياة بقدرته، كما جعل نفخة جبرائيل أو هذا الرّوح الَّذي أرسله إلى مريم، جعل فيها سرَّ وجودي وسرَّ حياتي.
- وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ – الأعمى - وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ - أعرّفكم وأنا في بيتي ماذا تأكلون في بيوتكم، دون أن يكون قد جاءني خبر من ذلك، وما تدَّخرون من مؤنة وغير مؤنة - إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}[آل عمران: 49]، تقنعكم بأنَّني رسول من قبل الله سبحانه وتعالى، وأنَّني أتحرَّك في كلِّ ما آتي به بإذن الله وبأمره، فليس لي قدرة ذاتيَّة فيما يصدر عني من هذه الآيات، ولكنَّها قدرة ربَّانيَّة تتحرَّك فيَّ من خلال الله الَّذي كانت قدرتي مستمدَّة من قدرته.
{وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ - فلم آت ناسخاً للتّوراة، بل أتيت معترفاً بها، وداعياً إلى العمل بها، ولكن مع أمور جديدة في الإنجيل تكمِّل ما اقتضاه الزَّمن مما يحتاج إلى أشياء جديدة.
- وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ - والتَّحريم والتَّحليل بيد الله، فالله يحلّل شيئاً في وقت وقد يحرِّمه في وقت آخر، أو يحرّم شيئاً في وقت ويحلّله في وقت آخر، ولذلك ربما كانت هناك بعض التَّشريعات التي حرَّمت على بني إسرائيل بعض الأشياء، ربما كانت ناتجة من العقوبة الَّتي أراد الله أن ينزلها بهم، وقد ارتفع ذلك برسالة عيسى (ع) وبنبوَّته، فأمره الله أن يحلّل لهم بعض ما حُرِّم عليهم.
إشكاليّةُ زواجِ أولادِ آدمَ (ع)
وهذه نقطة، أيُّها الأحبَّة، يجب أن تفهموها جيّداً، وخصوصاً في الجدل الّذي يدور دائماً حول بدء الخليقة، أنّه لم يكن هناك إلّا آدم وحوّاء، وكان أولادهم إخوة، فكيف تناسل النَّاس؟
هناك روايات مختلفة في ذلك، بعض الرّوايات تقول إنَّ الله أنزل حوريَّة أو جنيَّة أو ما أشبه ذلك ليتمّ الزواج، ولكن العلَّامة الطبطبائي في "الميزان" يقول إنَّ الآية الكريمة تقول: {يَا أيُّها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا ونِسَاءً}[النّساء: 1]، وهناك رواية عن الإمام زين العابدين (ع) في كتاب "الاحتجاج"، أنَّ الله أمر آدم أن يزوِّج الأخ من أخته، وكان هذا حلالاً، ثمَّ بعد أن تكاثر النَّاس، وصار هناك عمّ وابن عمّ وخال وابن خال.. حرَّم الله هذا التّشريع حتّى تتوازن القضايا.
نعم، اليوم علاقة الأخ بأخته غير شرعيَّة، ولكن في زمن آدم كانت شرعيَّة، لأنَّ الَّذي يملك التَّشريع هو الله، والله يعرف المصلحة، فقد يحلّل شيئاً ثمَّ يحرّمه، وقد يحرّم شيئاً ثمّ يحلّله، وهذا ما نقرأه: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}.
المسيحُ يؤكِّد عبوديّته لله
- وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ - في كلّ ما آمركم به في الرّسالة - وَأَطِيعُونِ}[آل عمران: 50]، ليس بصفتي الشَّخصيَّة، ولكن بصفتي الرساليَّة، لأنَّ الله يقول في كتابه الكريم: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}[النّساء: 80]، لأنَّ الرَّسول لا ينطق بشخصه، وإنّما ينطق باسم الله وبكلمته في كلّ الرّسل والرّسالات.
{إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ - فقد أراد (ع) أن يؤكِّد أنّه مربوب لله، وعبد له، ومخلوق له، كما أنّهم مربوبون لله ومخلوقون له وعباد له، فهو (ع) يقول لهم: ليس هناك فرق بيني وبينكم في العبوديَّة، فالله ربي والله ربّكم، لا تتَّخذوني إلهاً من دون الله بأيّ طريقة كانت الألوهيّة، باعتبار أنّي أقوم بعمل لا يستطيع البشر أن يقوموا به، لأنَّ ما قمت به إنما هو من خلال الله سبحانه وتعالى، وليس من خلال قدرتي الخاصَّة - فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}[آل عمران: 51]، فعبادة الله وطاعته وتوحيده هي الصِّراط المستقيم الَّذي يؤدّي بكم إلى رضوان الله وجنّته.
الحواريّون يؤازرون عيسى (ع)
{فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ - فعندما رأى عيسى (ع) منهم الكفر، عرف أنّ هناك معركة، وأنَّ هناك صراعاً، وأنَّ هناك قوماً سوف يواجهونه في مسيرته ويضطهدونه، فدعا إلى أن يكون له أنصار يساعدونه في المعركة الثقافيّة أو الاجتماعيّة، أو أيّ نوع من أنواع المعارك، فيما كانت تتَّصف به المعارك في تلك الفترة.
- قَالَ الْحَوَارِيُّونَ - هؤلاء الَّذين آمنوا به - نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ - آمنّا بالله، وأسلمنا أمرنا إليه، وإذا أسلم الإنسان أمره إلى الله، فمعنى ذلك أن يكون خيار الله هو خياره، وأن يكون أمر الله هو أمره، ونهيه هو ما ينتهي عنه، فلا كلمة له أمام كلمة الله، ولا موقف له أمام ما يريده الله من موقف. وهذا ما نستلهمه، أيُّها الأحبَّة، من كلمة عيسى (ع)، لأنَّها الكلمة الرساليَّة، ومن كلّ كلمات القرآن في رسالة النّبيّ (ص)، أنَّ الإنسان عندما يقف أمام الله، فهو عبد مملوك له لا يقدر على شيء، فلا أحد يستطيع أن يقول أمام الله أنا حرّ! لا لست حرّاً، أنت عبدٌ لله؛ كلّ جسدك ووجودك عبد لله، لأنَّ عبوديَّتك لله نشأت من خلال خلقه لك. نعم، إذا قال لك شخصٌ تعال افعل كذا أو لا تفعل، يمكن أن تقول له لا أنا لست عبدك، وأنا حرّ، أمَّا عندما يقول لك الله أمراً، ويقول لك الرّسول الَّذي ينطق بكلام الله أمراً، فأنت لست حرّاً، وعليك أن تحني رأسك {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم}[الأحزاب: 36].
فلتبقَ هذه الحقيقة في أذهانكم، لأنَّ هناك الكثير من النَّاس يمكن أن تتضخَّم شخصيّتهم وتنتفخ لأنّهم يملكون المال أو الوجاهة؛ أنا فلان الوجيه، أو أنا الّذي أملك موقعاً في المجتمع أو في الدّولة، كيف أركع، وكيف أسجد؟ ولكنّك مهما كنت، فأنت ضعيف أمام الله سبحانه وتعالى، لا تملك لنفسك نفعاً ولا ضرّاً إلَّا بالله، والله الَّذي أعطاك المال قادر أن يعيدك إلى نقطة الصّفر، والله الَّذي أعطاك القوَّة، قادر بخربشة صغيرة على الدّماغ، أن يجعلك لا تعقل شيئاً ولا تتكلَّم. لذلك، لا تتكبَّر أمام الله، فأمامه أنت لا شيء. لذلك علينا أن نعرف الله جيّداً أنّه {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}[الزّمر: 67]، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}[النّازعات: 40 - 41]، أن نعرف مقام الله، ونعرف حجمنا، حتَّى لا نغترَّ بما نصل إليه من حجم مالي أو اجتماعي أو سياسي، وكلّه من الله {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[النّحل: 53].
- وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 52]، وهذا معنى الإسلام، فالإسلام يعني أن لا موقف لك أمام الله {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}[الأنعام: 162 - 163]، {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[البقرة: 131]، كما يقال في العاميّة: أرفع له العشرة. البعض يرفع العشرة لبعض النَّاس، ولكن عندما يكون أمام الله، فليس مستعدّاً أن يرفع له العشرة {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ - من زعماء ورؤساء وصغار وكبار - عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}[الأعراف: 194] مثلك مثله، فلماذا تخضع له؟!
ثمَّ يكمل الحواريّون كلامهم - وعلينا، أيُّها الأحبَّة، أن نتبنَّى منطق الحواريّين، لأنَّ منطقهم منطق المؤمنين المسلمين - {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}[آل عمران: 53] الَّذين يشهدون على أمَّتهم عندما تستقيم أو تنحرف.
هل صُلِب عيسى (ع)؟!
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[آل عمران: 54]، مكروا، وأرادوا أن يقتلوه ويصلبوه، ووضعوا كلَّ الخطط، ووضع الله الخطَّة، ونجحت خطَّة الله وفشلت خططهم.
{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ - بعض النَّاس يستشكل على كلمة "متوفّيك"، فيفترضون أنّها تعني أنّه مات. هنا الوفاة تعني أنَّ الشَّيء بلغ حدَّه، فتقول، مثلاً، هذا وزنٌ وافٍ، يعني بالغٌ حدَّه، فالإنسان له حدّ في هذه الحياة، فتارةً يجعل له الله حدَّه بالموت، وتارة يرفعه إليه، والله سبحانه وتعالى قال {مُتَوَفِّيكَ}، يعني أبلغ بك الحدّ الّذي جعلته لك في الدنيا، بمعنى أخذت حقَّك وافياً فيما لك في الدّنيا، ثمَّ أرفعك إليّ - وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[آل عمران: 55]، والذي يتبع عيسى (ع) هو الَّذي يتبع محمّداً (ص)، وهذا ما حدَّثنا القرآن عنه: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ}[الصّفّ: 6].
وهكذا يحدّثنا الله عن الَّذين قالوا إنَّه صُلِب: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ – وعبارة (شُبِّه لهم) لها تفسيران؛ الأوَّل أنّه ألقى شبهه على شخص وصُلِب ذاك الشَّخص، والثاني أنّه خيِّل إليهم أنهم صلبوه ولكنَّهم لم يصلبوه حقيقة - وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النّساء: 156 - 157].
العقيدةُ الإسلاميّةُ في المسيح
أيُّها الأحبَّة، هذه هي سورة عيسى (ع) في القرآن.
إذاً، نحن نعتقد أنّ عيسى (ع) ليس فيه شيء من الألوهيّة، لا ربع إله، ولا نصف إله، ولا كلّ إله، هو عبد لله، يعيش العبوديّة له كأفضل ما يعيشها عبد في موقع العبوديَّه لله، وهو رسول الله، آتاه الكتاب وجعله نبيّاً، وأوصاه بالصَّلاة والزكاة في كلِّ حياته، وأراد له أن يبرَّ والدته، ولم يجعله جبّاراً شقيّاً، وأنَّه لم يُقتَل ولم يُصلَب، بل رفعه الله إليه.
هذه هي عقيدتنا الإسلاميَّة في هذا المجال. وفي ضوء هذا، فمن كان مسلماً، عليه أن يعتقد هذا الاعتقاد. الآخرون عندهم عقيدتهم، وهم مقتنعون بها، ونحن نقول دائماً، إنَّ علينا عندما نختلف في الجوانب العقائدية، وخصوصاً في هذه القضايا الَّتي لها جانب فلسفي، أن لا نتَّخذ أسلوب المهاترات، وأسلوب الشَّتائم والسّباب، وما إلى ذلك، بل أن نعيش في علاقات إنسانيَّة يحترم الإنسان فيها الإنسان الآخر، ودليل الاحترام هو أن تحاور الآخر وتسمح له بأن يحاورك، لأنَّ السباب والشّتائم وكلّ أساليب التَّكفير والتَّضليل لا تحلّ مشكلة، ولا تقنع أحداً، ولكنَّها تزيد الإنسان حقداً وعداوة. وقد علَّمنا الله سبحانه وتعالى في آدابه الَّتي أدَّبنا بها في القرآن، أن لا نسبَّ حتَّى الَّذين يشركون بالله، لا لأنَّهم لا يستحقّون ذلك، ولكن لأنَّ السبَّ يحوِّل الموقف إلى ردّ فعل لسبّ الله {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ – يعني الّذين يشركون بالله - فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ كَذَٰلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}[الأنعام: 108]، بمعنى أنّ كلّ جهة تفترض أنّها على صواب.
لذلك، علينا أن نتّبع أسلوب القرآن: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[العنكبوت: 46]، {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النّحل: 125]، {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصّلت: 34]
فليقف كلّ واحد منَّا على عقيدته ويؤكّدها، ولكنَّ هناك قيماً مشتركة؛ الصّدق والأمانة والعفّة واحترام الآخر والحوار والإنسانيَّة وما إلى ذلك، ليس هناك صدق مسيحي يختلف عن صدق إسلامي، ولا أمانة مسيحيّة تختلف عن أمانة إسلاميّة، ولا عفّة مسيحيّة تختلف عن عفّة إسلاميّة، لأنَّ القيم الإنسانيَّة التي جاءت بها التَّوراة والإنجيل وصحف إبراهيم والقرآن كلّها واحدة، فعيسى (ع) جاء مصدّقاً لما بين يديه من التَّوراة، كذلك النبيّ محمّد (ص) جاء مصدّقاً لما بين يديه من الكتب.
فالقيم مشتركة؛ القيم الروحيَّة، القيم الأخلاقيَّة، القيم الإنسانيَّة، وعلينا عندما نعيش مع المسيحيّين، أن نعيش معهم في القيم المشتركة الَّتي نؤمن بها في كتابنا، ويؤمنون بها في كتابهم، وأن ننطلق مع أهل الكتاب بالكلمة السواء {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا - فلنقف من أجل أن نتحرَّك في العالم ضدّ الإلحاد، ونعمل على أساس توحيد لله، وإن اختلفنا في معنى التوحيد هنا وهناك - وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}[آل عمران: 64]، أن نقف ضدّ المستكبرين الذين يعتبرون أنفسهم أرباباً للنَّاس من دون الله، لتنطلق المسيرة الإسلاميَّة الكتابيَّة من أجل العمل المشترك في خطّ توحيد الله، وتوحيد الإنسانيَّة؛ أن لا يكون الإنسان ربّاً للإنسان.
وهكذا، أيُّها الأحبّة، عندما نعيش في بلد واحد كلبنان، ولنا مصالح مشتركة، وقضايا مشتركة، وتحديات مشتركة، وأرض مشتركة، فإنَّ علينا أن نعمل بأن نتكامل في كلّ ما نشترك فيه وما نتساوى فيه، وأن تكون المسألة هي أن يعيش النَّاس في لبنان متساوين في الحقوق وفي الواجبات، من أجل أن نصنع هذا البلد على صورة القيم الرساليَّة الإنسانيَّة الروحيَّة، لأنَّ ذلك هو الذي يبعد هذا البلد وغيره من البلدان عن كلّ المشاكل الكبيرة والصغيرة، وهو الذي يجمع الناس للوقوف أمام كلّ التحديات، ولا سيَّما تحديات الاستكبار والاحتلال والظّلم في الداخل.
الارتقاءُ إلى مستوى الرّسالة
لذلك، في مولد السيّد المسيح (ع)، علينا أن نرتفع إلى مستوى هذا الصَّفاء الروحي، وهذه المحبّة الواسعة، وهذه الرساليَّة التي تعبد الله سبحانه وتعالى في خطِّ رسالته، علينا أن نلتقي في ذلك الخطّ.
وعلينا، أيُّها الأحبَّة - وقد كرّرناها أكثر من مرَّة - أن لا نتَّخذ ذكرى ميلاد السيِّد المسيح، أو ما نستقبله من ذكرى السنة الميلاديَّة، أساساً للعبث واللَّهو، ولأن نسفك العفَّة والطَّهارة، بل أن نخشع في ذكرى هذا الإنسان العظيم الكريم الَّذي كرَّمه الله، وأن نخشع أمام الله من خلال ما نتحرَّك به من مسؤوليَّاتنا العامَّة والخاصَّة.

الخطبة الثّانية
 
عباد الله، لتكن تقوى الله سبحانه وتعالى في كلّ وجدانكم، من أجل أن تجسِّدوا عبادة الله في كلِّ حياتكم، لتكون حياتكم صورة للعبوديَّة التي أراد الله لعباده أن يتمثَّلوها، ليخلصوا له، وليطيعوه في كلِّ ما أمر به ونهى عنه. لتكن تقوى الله شاملةً في حياتكم، لتواجهوا كلَّ المواقف التي تتحرَّك في حياتكم بالمسؤوليَّة الكاملة، سواء كان موقفاً يختصّ بكم كـأفراد أو كجماعة أو كأمَّة، لأنَّ الله سبحانه وتعالى حمَّلنا مسؤوليَّة إدارة حياتنا الفرديَّة في خصوصيَّاتنا ومسؤوليّاتنا الخاصَّة، وأراد لنا أن نحفظ المجتمع من أنفسنا ومن الآخرين، وأن نحفظ الأمَّة من أنفسنا ومن الآخرين، وأن نعيش هموم الأمَّة كما نعيش هموم العائلة، وأن نواجه الموقف بكلِّ ما نستطيعه من طاقات، لأنَّ الله أراد لنا أن نكون الأعزَّاء، ولم يقبل لنا أن نكون الأذلَّاء، وأراد لنا أن نكون الأقوياء، ولم يرد لنا أن نكون الضّعفاء، وأرادنا أن نواجه الموقف على أساس الآية الكريمة {وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا}[النّساء: 141]، وعلينا أن نعمل أن لا نجعل لكلِّ هؤلاء المستكبرين الكافرين سبيلاً علينا من أجل أن يحكمونا أو يحتلّونا، أو من أجل أن يحاربونا ويسرقوا ثرواتنا وما إلى ذلك.
تلك مسؤوليَّتنا كأمَّة، ولن نستطيع أن نحقّق هذه المسؤوليَّة إلَّا إذا توحَّدنا واجتمعنا، وقد سمعتم آيات الله {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...}، فإذا كان ذلك مع أهل الكتاب، أفلا يقول بعضنا لبعض قل يا أهل القرآن تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم؟! لماذا نثير الخلافات المذهبيَّة في الدَّائرة الإسلاميَّة الواسعة، ليقف السنّي ليحارب الشيعي أو ليكفّره، أو ليقف الشيعي ليحارب السنّي ويكفّره، أو ننطلق حتى في الدائرة الشيعية أو في الدائرة السنية، ليحارب الشيعيُّ الشيعيَّ أو يكفّره إذا اختلف معه في بعض الحالات، أو ليحارب السنّيُّ السنّيَّ ليكفّره إذا اختلف معه في بعض الحالات؟! إنَّ هذا هو الَّذي جعلنا ضعفاء أمام أعدائنا، وهو الَّذي جعلنا أذلاء أمام المستكبرين.
أيُّها الأحبَّة، ارتفعوا إلى مستوى قضاياكم الكبرى، ليكن لكم وعي القضايا، لا تفكّروا في الزوايا الصَّغيرة، ولكن فكّروا في السَّاحات الكبيرة، لا يُدخِلْ كلّ واحد منكم نفسه في زنزانة تخلُّفه وجهله، إنَّ الله جعل لنا الشمس مشرقة في كلّ يوم من أجل أن نعيش صحوة النور في أفكارنا وحياتنا، وجعل لنا هذه الأرض واسعة {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ}[العنكبوت: 56] حتّى نتحرَّك في كلّ ساحاتها {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}[الملك: 15].
ونحن، أيُّها الأحبَّة، نعيش في هذه المرحلة في تحدّيات كبرى على مستوى الأمَّة والبلد، فعلينا أن نعرف كيف انطلقت التحدّيات، وكيف يجب أن نتحرَّك فيها.
الوحشيّة الأمريكيّة الإسرائيليّة
من العراق إلى فلسطين فلبنان، تتحرَّك الوحشية الأمريكية الإسرائيلية في حلفٍ يضطهد الإنسان طفلاً وامرأة وشيخاً وحجراً وبشراً، بعناوين مختلفة يتقن الاستكبار تحريكها في السَّاحة، فمن القصف الأمريكي للبنية التحتيَّة والأهداف المدنيَّة في العراق، إضافةً إلى الحصار المستمرّ على شعبه، والَّذي سيبقى إلى الأبد، كما يقول مسؤول أمريكيّ، بعنوان الحصار على نظامه وحاكمه، والخطط المشبوهة للسياسة الاستكباريَّة الأمريكيَّة التي تريد السيطرة على العراق في بتروله واستثماراته وأسواقه، وصولاً إلى السيطرة على سياسته وأمنه...
إلى المأساة الدامية المتحركة في فلسطين الَّتي ينطلق فيها الجيش الصهيوني مع المستوطنين، في عمليّة القتل والجرح والتَّدمير والإرباك اليوميّ للحياة الفلسطينيَّة بالاعتقال والملاحقة، وفرض الشروط المتعسّفة على الفلسطينيّين، في دوَّامة سياسية أمنية اقتصادية تشرف عليها أمريكا الخاضعة لليهود، بالمزيد من التَّمييع والضَّغط واحتواء الجانب الفلسطينيّ، من دون أيّ ردّ فعل عربيّ يخفّف شيئاً من هذا الواقع الصّعب...
وصولاً إلى القصف الوحشي المتحرّك في جنوب لبنان وبقاعه، الَّذي كانت قمَّة الوحشيَّة فيه، المجزرة الجديدة التي أعادت إلى الذَّاكرة مجزرة قانا، في صورة بشعة لقتل ستّة أطفال في عمر الورود مع أمِّهم، في رسالة دمويَّة إلى لبنان وسوريا، وفي ظلّ صمتٍ دوليّ مدمنٍ لأسلوب اللامبالاة أمام ما تقترفه إسرائيل ضدّ لبنان، ما أبعد المسألة عن دائرة الاهتمام الدّولي في المنطق الإنساني، لأنَّ أمريكا تعطي الغطاء السياسيَّ لكلّ هذا الواقع العدواني الإسرائيليّ، حتى إنَّها منعت لبنان من تقديم الشَّكوى إلى مجلس الأمن، مهدِّدةً بأنَّها سوف تستخدم حقّ النَّقض الفيتو لحماية إسرائيل من أيّ عمليَّة إدانة في مجلس الأمن، مهما كانت جرائمها في قتل الأطفال والنّساء والشّيوخ، لأنَّ أمريكا لا تحترم أطفال العرب، بل تبقى مع أطفال اليهود في أيّ عملية أمنية، باعتبار أنّ العرب في منطقها، لا حقّ لهم في الحياة في مجال حقوق الإنسان، ولذلك فإنها لا تلتزم أيّ نوع من أمنهم، لأنَّ الأمن عندها هو لليهود وحدهم.
لقد كان الردّ العمليّ الوحيد على هذه المجزرة الوحشيَّة، هو ما قامت به المقاومة الإسلاميّة – سلمت يداها - من قصف المستوطنات اليهوديَّة في فلسطين، التزاماً منها بحماية المدنيّين في لبنان، كرسالة إلى العدوّ بأنَّ المستوطنات اليهوديَّة لن تكون بعيدة من قصف المجاهدين، إذا تعرَّضت المناطق اللبنانية للقصف.
وهذا وحده الذي أعطى العدوّ درساً واقعيّاً لم يستطع معه أن يتوازن في تصريحاته وخططه، وإذا كان العدوّ قد هدَّد بما يسمِّيه الردَّ المناسب في الوقت المناسب، فإنَّنا نعرف أنَّ المعركة مستمرّة ومفتوحة، وشعبنا يعرف أنَّ العدوَّ الإسرائيلي سوف ينتهز الفرصة للعدوان في أيّ موقع وفي أيّ زمان، الأمر الَّذي يفرض على الجميع الوعي السياسي والأمني الَّذي يلاحق كلّ حركة العدوّ في أيّ زمان ومكان.
وعلينا أن نعرف، أيُّها الأحبَّة، أنَّ العدوّ لا يملك حريَّة الحركة في القيام بما يهدّد به، فهناك ظروف سياسية دولية وإقليمية ومحلية، وهناك ظروف أمنيّة، وظروف سياسيَّة داخليَّة في هذه الفوضى السياسيَّة، تمنعه من أن يقوم بعمل كبير. وإذا كانت بعض الصّحف تتحدَّث أنَّ نتنياهو يمكن أن يقوم بعمل كما قام سلفه شيمون بيريز في "عناقيد الغضب"، فإنَّه يعرف جيّداً - وهو يعيش المشكلة السياسيَّة الدَّاخليَّة الآن – أنَّ شيمون بيريز سقط لأنَّه خاض الحرب في لبنان، وفشل في الحصول على انتصار في هذه الحرب، وأنَّه إذا أراد أن يخوض حرباً مماثلة، فسوف يفشل كما فشل سلفه {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}[الأنفال: 30].
دورُ الشّعوبِ في المواجهة
كما أنّ على الشعوب العربيَّة والإسلاميَّة أن تتحرَّك من أجل تعميق الرّفض للسياسة الأمريكيَّة المتحالفة مع إسرائيل في المنطقة، تماماً كحركتها ضدّ العدوان على العراق، والتحدّي للصَّمت الرسمي العربي أو الإسلامي في أكثر من موقف للمسؤولين في الأنظمة، لينطلق الصَّوت واحداً: لا لأمريكا، ولا لإسرائيل في الوحشيَّة العدوانيَّة ضدّ الواقع العربي والإسلامي على أكثر من صعيد.
إنَّ أمريكا وإسرائيل قد تتحركان كما تحركتا لتغطية مشاكلهما الداخليَّة، بالعدوان على العالم العربيّ والمسلمين، وعلينا أن نمنعهما من ذلك بكلّ ما نملك من قوَّة، كما أنَّ علينا أن نبقى على الحذر من أيّ مغامرة جديدة للعدوّ، ولكن من دون أن نسقط أمام تهديداته، لأنَّ الظروف السياسيَّة والميدانيَّة، كما قلنا، تمنعه من أيّ عمل كبير.
مسؤوليّة السلطة الفلسطينيّة
وفي هذا الجوّ، فإنَّنا نرحّب برفع الإقامة الجبريَّة عن الشيخ أحمد ياسين، ونأمل أن تتحرَّك السلطة الفلسطينيَّة في خطوات تعود فيها إلى شعبها الفلسطيني، ولا سيَّما فريق الانتفاضة من الإسلاميّين المجاهدين، لأنَّ ذلك هو الذي يعطي القضية الفلسطينيَّة دفعاً في المعركة المستمرَّة مع العدوّ، ما يجعل من الوحدة الشعبيَّة الفلسطينيَّة، ولملمة الجراح، وحلّ مشاكله الداخليَّة بالتفاهم والحوار، يجعل لذلك كلّه الدور الأكبر. إنّ التراجع عن أسلوب التنازل الَّذي قامت به السلطة الفلسطينيَّة للعدوّ، هو الَّذي يعيد إلى القضية الفلسطينيَّة قوّتها وعنفوانها التاريخي الكبير.
العهدُ الجديد.. والثّقةُ المفقودة
أمَّا على المستوى اللبناني الداخلي، فإننا نتابع الخطوات العمليَّة الجادَّة في حركة العهد الجديد، ولا سيَّما في القرارات الأخيرة، وأبرزها إباحة التّظاهر، وإعادة فتح بعض الملفّات كملفّ الإعلام، ما يؤمِّن فرصة لعودة الحقوق المشروعة إلى أصحابها.
إنَّ من شأن هذه القرارات أن تعيد شيئاً من الثقة المفقودة بين المواطن والمسؤول، ولكن لا بدَّ أن تقرن بتعاطٍ إيجابي، بحيث يأخذ المواطن حقَّه في الممارسة كما يأخذه في القوانين.
إنَّ اللبنانيين جميعاً ينتظرون قيام ورشة عامَّة من المعارضة والدَّولة معاً، لإعادة بناء البلد اقتصادياً وسياسياً، وإن بشكلٍ تدريجيّ، لأنَّ ذلك يمثّل رسالة كبيرة نردّ فيها من الدَّاخل كشعب ودولة، على الرسائل الصهيونيَّة المدعومة من أمريكا، ونحضّر البلد أكثر للوقوف في وجه الهزَّات السياسيَّة والاقتصاديَّة الآتية من المنطقة، كما نضعه على سكَّة المواجهة الصَّحيحة للاحتلال، حيث تلتقي وحدة الصّفّ الدَّاخلي مع سعي المقاومة لطرد الاحتلال وتحرير البلد، مع تقديرنا لموقف الحكومة من العدوان الإسرائيليّ، فقد دلَّل على وعي عميق أكثر للمرحلة، وعلى تأكيد الموقف اللّبناني دولةً وشعباً في خطّ مواجهة العدوّ، وتأكيد الحقّ أمام العالم في إزالة الاحتلال.
*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريح: 25/12/1998م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية