قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة: 67].
وقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: 3].
نزلت هاتان الآيتان، كما يقول أكثر المفسِّرين، في اليوم الثَّامن عشر من ذي الحجَّة، وهو يوم الغدير، في منطقة تسمَّى غدير خمّ.
قصَّةُ الغدير
وقصَّة هذه المسألة، كما يرويها المفسِّرون والمؤرّخون، أنَّ رسول الله (ص) حجَّ حجَّة الوداع وعاد إلى المدينة، وفي الطَّريق قريباً من الجحفة، نزل عليه الوحي بهذه الآية: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، نزل بها الرّوح الأمين جبرائيل على النَّبيّ (ص) من قبل الله سبحانه وتعالى، من أجل أن يؤكِّد الولاية لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب من بعده، كنصٍّ إلهيٍّ، وتكليفٍ للمسلمين جميعاً.
ونزل النّبيّ (ص) في ذلك المكان، وكان الوقتُ شديدَ الحرّ، كان وقت الظّهيرة، حيث لا ظلَّ هناك، وتعجَّب المسلمون من ذلك، كما يقال، ونُصِبَ له منبرٌ من أهداجِ الإبل، وخطب خطبةً قال فيها، كما يرويها صاحب كتاب "الغدير": "انظروا كيفَ تخلّفوني في الثّقلين، فنادى منادٍ: وما الثّقلانِ يا رسولَ الله؟ قالَ: كتابُ الله؛ طرفٌ بيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وطرفٌ بأيديكم، وهو الَّذي بلغَكم، فتمسَّكوا به لا تضلّوا، والآخرُ عترتي، وإنَّ اللَّطيفَ الخبيرَ نبَّأني أنَّهما لنْ يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوضَ، فسألْتُ ذلكَ لهما ربِّي، فلا تقدِّموهما فتهلكُوا، ولا تقصرُوا عنهما فتهلكُوا".
وهنا أكَّد النَّبيّ (ص) مسألة العترة إلى جانب الكتاب، وبيَّن أنَّه في كلِّ عصر، هناك الكتاب، وهناك شخص من العترة يبشِّر به ويفسِّره ويبيِّن حقائقه للنَّاس.
"ثمَّ أخذ بيد عليّ (ع)، فرفعها حتَّى رُؤيَ بياض آباطهما، وعرفه القوم أجمعون، فقال: أيَّها النَّاس، من أولى النّاسِ بالمؤمنين من أنفسهم؟ - يعني من الَّذي يمثِّل سلطة الحكم على النَّاس، بحيث يملك منهم ما لا يملكون من أنفسهم؛ من هو؟ - قالوا: الله ورسوله أعلم. قالَ: إنَّ اللهَ مولايَ، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم مِنْ أنفسِهم، فمَنْ كنْتُ مولاه، فعليٌّ مولاه، يقولُها ثلاثَ مرَّاتٍ، وفي لفظِ أحمدَ إمامِ الحنابلةِ: أربعَ مرَّاتٍ. ثمَّ قالَ: اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه، وعَادِ مَنْ عاداهُ، وأَحِبَّ مَنْ أَحَبَّهُ، وأَبْغِضْ مَنْ أبغضَهُ، وانصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، واخذُلْ مَنْ خذلَهُ، وأَدِرِ الحقَّ معَهُ حيثُ دارَ، ألا فليبلِّغِ الشَّاهدُ الغائبَ - بحيث حمَّلهم مسؤوليَّة الدَّعوة إلى ذلك - ثمَّ لم يتفرَّقوا، حتَّى نزل أمين وحي الله بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، فقال رسول الله (ص): "اللهُ أكبرُ على إكمالِ الدِّينِ، وإتمامِ النِّعمةِ، ورضا الرَّبِّ برسالتي، والولايةِ لعليٍّ مِنْ بَعْدي"، وسلَّم عليه القوم بإمرة المؤمنين آنذاك.
تحريفُ معنى الحديث
تلك هي قصَّة الغدير. ومسألة الغدير ليست من المسائل القابلة للتَّشكيك، فقد ذكر صاحب كتاب "الغدير"، أنَّ رواة الغدير من الصَّحابة بلغوا 110، ومن التَّابعين 84 شخصاً، وطبقات الرّواة من العلماء 360 شخصاً، وقد كُتِبَ الكثيرُ في ذلك.
لذلك، ليس هناك أيّ إشكال في سند الغدير، فقد روي من قبل السنَّة والشّيعة في كتب التَّفسير، والمسألة لم تكن موضع شكّ في سند، بل إنَّ البعض حاول أن يتصرَّف بالمعنى، فقال إنَّ كلمة "المولى" في قول الرَّسول (ص): "مَنْ كنْتُ مولاه فعليٌّ مولاه"، تطلق على عدَّة معان، فقد تطلق على النَّاصر، وقد تطلق على المحبّ، يعني: من كنت محبَّه فعليّ محبّه، وهكذا بدأوا يتصرَّفون في المعنى بما لا تحتمله الكلمة.
ولكن إذا أردنا أن ندرس المسألة بطريقة علميَّة، فهل من المعقول أن ينزل النَّبيّ (ص) في هذا المكان اللَّاهب بعد حجَّة الوداع الَّتي نعيت فيها إلى النَّبيِّ نفسُهُ، وكان يكرِّر: "يوشَكُ أن أُدعَى فأجيب"، فهل من المعقول أن يجمعَ النَّاسَ كلَّهم حتَّى يقول لهم: مَنْ أنا أحبُّهُ فعليٌّ يحبُّه، أو من أنا أنصرُهُ فعليٌّ ينصرُهُ؟ هل يمكن أن تكون المسألة هكذا؟ إذا كانت هكذا، فقد تحدَّث النَّبيُّ (ص) عن الإمام عليّ (ع) منذ أن كان في مكَّة إلى آخر حياته، بما لم يتحدَّث به عن أيِّ صحابي آخر. النَّبيّ (ص) هو مَنْ قال: "أنا مدينةُ العلمِ وعليٌّ بابُها"، وقالَ: "عليٌّ معَ الحقِّ، والحقُّ معَ عليٍّ"، وهو قال له: "أما ترضى أن تكونَ منِّي بمنزلةِ هارونَ مِنْ موسى، إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي؟!"، يعني هل من المعقول أن يجمع النَّاسَ فقط ليقول لهم مَنْ أحبّه فعليّ يحبّه؟ هذا عبث ولا معنى له.
الولايةُ والحاكميَّة
وهناك نقطة ثانية، وهي أنَّ النَّبيَّ (ص) هو مَنْ فسَّر كلمة "مولى" بما تحدَّث به: "مَنْ أولى بالمؤمنينَ مِنْ أنفسِهم؟". فكلمة "أولى من أنفسهم" هي كلمة الحاكميَّة، {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}[الأحزاب: 6]، أي أنَّ النَّبيَّ بصفتِهِ الحاكمَ يمونُ على النَّاسِ أكثرَ مما يمونون على أنفسِهم - إذا أردنا أن نستعملَ اللَّهجةَ الشَّعبيَّةَ - ولذلك يقولون إنَّ هذه الآية تدلّ على أنَّ النَّبيَّ له صفتان؛ صفة أنَّه رسول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}[الأحزاب: 45- 46]، وصفة الحاكميَّة، والَّتي جاءت من كلمة {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}، فهذه أعطت صفة الحاكميَّة.
ولذلك، عندما قال لهم: "ألسْتُ أولى بالمؤمنين من أنفسِهم؟"، في رواية قالوا: بلى، وفي رواية ثانية قالوا: الله ورسوله أعلم، معنى ذلك أنَّه أراد أن يقول لهم إنَّني جعلت لعليٍّ هذه المرتبة الَّتي لي، فمرتبة أنّي الحاكم للمسلمين، جعلتها لعليٍّ، يعني مَنْ كنْتُ أولى به من نفسه، فعليٌّ أولى به من نفسه. صحيحٌ أنَّ الكلمةَ تحتمل عدَّة معان، لكنَّ طبيعة الجوِّ وطبيعةَ ما قبلَها، يعيِّن هذا المعنى، وهو الولاية بمعنى الحاكميَّة.
قضيّةٌ بحجمِ الرِّسالةِ
النّقطة الثَّالثة، أنَّ الآية الكريمة فيها دلالة واضحة أنَّ المسألة الّتي يراد للنَّبيّ (ص) أن يعالجها، هي مسألة تتَّصل بسلامة الإسلام كلِّه، وأنَّها من المسائل الَّتي تثير الجدل وتثير الاتهامات ضدَّ النَّبيّ (ص)، لأنَّ الآية نزلت في حجَّة الوداع، أي في آخر سنة من حياة النبيّ (ص)، فهي كانت في 18 ذي الحجَّة، والنَّبيُّ (ص) توفّي في 28 صفر، أي أنَّ الفاصل بينهما هو شهران وعشرة أيَّام تقريباً. فالنَّبيّ (ص) كان قد بلّغ الرّسالة كلَّها على مدار ثلاثة وعشرين عاماً، فما معنى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}؟! يعني أنَّك إن لم تبلِّغ هذه المسألة، فكأنَّك لم تفعل شيئاً، إذ ليس من المنطقيّ أن يضعَ الإنسان الأساس ويبني المشروع، ثمّ يتركه في قبضة الرّياح. لذلك، لا بدَّ من أن يكون هناك شخصٌ يحمل الرّسالة من بعده، وإن لم يكن رسولاً.
فمَنِ الشَّخص المؤهَّل لذلك؟ {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، يعني إذا صار النّاس يقولون إنَّك عيَّنت ابن عمِّك أو صهرك، فالله يعصمك منهم، فالرَّسول عنده أولاد عمّ كثر، ولكن مَنْ منهم مثل عليّ بن أبي طالب؟! وإذا قلنا إنَّ النَّبيَّ عنده بنات، كما في رأيٍ، وعندَه أيضاً أصهار، فلماذا يختار عليّاً (ع)؟ فالقضيَّة ليست القرابة والمصاهرة، ولكن كفاءة عليّ، لأنَّ عليَّاً (ع)، بشهادة كلِّ المسلمين، كان الأكثر تضحيةً في سبيل الإسلام، وعليٌّ كان الأعلم: "أنا مدينةُ العلمِ وعليٌّ بابُها"، "علَّمَني رسولُ اللهِ ألفَ بابٍ مِنَ العلمِ، يُفتَحُ لي مِنْ كلِّ بابٍ ألفُ بابٍ".
لذلك، بالنِّسبة إلى الإمام (ع)، كان علم رسول الله عنده، وكما كان رسول الله (ص) يجيب عن كلِّ سؤال، فعليّ (ع) كان يجيب عن كلِّ سؤال؛ لم ينقل عن عليّ أنَّه احتاج أن يسأل أحداً، ولم ينقل عن عليّ أنَّه توقَّف عن الإجابة عن أيّ سؤال، ولذلك قال الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو مخترع علم العروض، عندما سئل: لم قدَّمت عليّاً على غيره؟ قال: "احتياجُ الكلِّ إليْهِ، واستغناؤُهُ عنِ الكلِّ، دليلٌ على أنَّهُ إمامُ الكلِّ".هذا هو الأساس في هذا المجال.
وقد ورد عن رسول الله (ص): "أقضاكم عليٌّ"، ووردت عنه كلمات كثيرة كان يهيِّئ فيها الأمَّة لأن تعتبر أنَّ عليّاً هو المتعيّن في ذلك.
وهكذا، أراد الله للرسول (ص) أن لا يصل إلى المدينة، إلَّا وقد عرَّف المسلمين الَّذين كانوا معه في مكَّة بالأمر، وقد بلغ عددهم، على بعض الروايات، 120 ألف رجل، حتَّى يبلّغوا ذلك إلى كلِّ أهاليهم عندما يرجعون إليهم.
تحريفُ وصيَّةِ الرَّسولِ (ص)
والنقطة الرَّابعة الّتي تدلّ على الموضوع، هي أنَّ النَّبيّ (ص) نصب لعليّ (ع) خيمةً ليسلِّم عليه النَّاس بإمرة المسلمين، أن يقولوا له: السَّلام عليك يا أمير المؤمنين، حتّى إنَّ بعض كبار الصَّحابة جاءه وقال له: "بخٍ بخٍ لكَ يا عليّ، أصبحْتَ مولايَ ومولى كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ"، ثمَّ نزلت الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، لأنَّ الدّين بدأ بالتّوحيد والنّبوَّة، وانتهى بالولاية، وكما كانت النّبوَّة ترعى هذا الدّين، فإنَّ الولاية تكمل الطَّريق لترعى هذا الدّين من بعد رسول الله (ص).
لذلك، أيُّها الأحبَّة، نحن عندما نتولَّى عليّا ً(ع) كإمامٍ للمسلمين، وكخليفةٍ لرسولِ الله بلا فصل، لا نتولَّاه عصبيّةً ولا تقليداً، ولكنَّنا نتولَّاه من خلال كلام الله وكلام رسوله.
ونحن نعرف أنَّ الأمور اختلطت واتَّجهت في غير الاتّجاه الصَّحيح، وأنَّ الكثيرين من النَّاس، ممن يحاولون أن يحرِّفوا الكلام عن مواضعه، ويحاولون أن يبعدوا القافلة عن مسيرها واتجاهها الصَّحيح، لعبوا بالأمر، وأبعدوا المسألة عن الواقع، حتَّى كأنَّ النَّاس لم يسمعوا ذلك، ما جعل النَّبيَّ (ص) في مرضه الَّذي توفّي فيه يقول: "ائتوني بكتفٍ أكتبْ لكم كتاباً، لا تضلُّوا بعدَهُ أبداً"، لأنَّ النَّبيَّ لاحظ أنَّ الكثير من النَّاس لعبوا بالكلمات وبالألفاظ وبأبعاد القضيَّة، فاختلفوا، وقال بعضهم إنَّ النَّبيَّ ليهجر، أو إنَّه قد غلبه الوجع، حتّى يبطل تأثير كلامه.
بعد ذلك، قالوا: يا رسول الله، هل نأتيك بالكتف والدّواة؟ قال: "أبعد الَّذي قلتم؟"، كنت أريد أن أكتب كتاباً، حتَّى إذا قرأه النَّاس عرفوا الحقيقة، ولكن بعد الَّذي قلتم، سيقولون إنَّ النَّبيَّ كتب ذلك ولم يكن بوعيه.
إخلاصُ عليٍّ (ع) للرّسالةِ
ولكنَّ عليّا ً(ع)، بالرغم من ضياع حقِّه، بقي مخلصاً للإسلام، وقد تحدَّث عن حقِّه أكثرَ من مرَّة، كما في الخطبة الشَّقشقيَّة، عندما قال وهو يشير إلى الَّذي تقدَّمه: "وإنَّه لَيَعْلَمُ أنَّ محلِّي منها محلُّ القُطْبِ منَ الرَّحَى، ينحدرُ عنِّي السَّيلُ، ولا يرقَى إليَّ الطَّيرُ".
ولكنَّ المسألة أنَّه لم يكن من الممكن الوصول إلى الحقّ، ولذلك بعد ذلك قال (ع) في آخر الخطبة، بعد أن تحدَّث عن كلّ التجربة الصَّعبة: "لولا حضورُ الحاضرِ، وقيامُ الحجَّةِ بوجودِ النَّاصرِ، وما أخذَ اللهُ على العلماءِ أن لا يقارُّوا على كظَّة ظالمٍ، ولا سغَبِ مظلومٍ، لألقيْتُ حبلَها على غاربِها، ولسقيْتُ آخرَها بكأسِ أوَّلِها، ولألفيْتُم دنياكم هذهِ أزهدَ عندي منْ عفطةِ عنزٍ".
لم يكن الحكم طموحَ عليّ من خلال ذاته، فقد باع (ع) نفسه لله، ونزلت الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: 207]. وقد قال لابن عبَّاس، وهو يشير إلى نعله، وكان يخصفها بعد أن انقطعت، وقال له ابن عبَّاس اتركها إلى بعض معاونيك، فقال (ع): "ما قيمةُ هذه النَّعل؟ فقلت: لا قيمة لها. فقال: واللهِ لهي أحبُّ إليَّ من إمرتِكم، إلَّا أن أقيم حقّاً، أو أدفعَ باطلاً"، إنَّ حياتي كلّها من أجل الحقّ، ولذلك كلّ ما أريده من الدّنيا هو أن أكون مع الحقّ دائماً، وقد قال: "ما تركَ ليَ الحقُّ مِنْ صاحبٍ"، لأنَّ عليّاً (ع) لم يكن يجامل النَّاس على حساب الحقّ، كان يقول كلمة الحقِّ لأنّها كلمة الله، وكان يقول للنَّاس مِنْ حوله: "لَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً؛ إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ"، وقد قال: "لأسالمَنَّ ما سلِمَتْ أمورُ المسلمين، ولم يكنْ بها جورٌ إلَّا عليَّ خاصَّةً"، أن أكونَ المظلومَ فلا مشكلة، المهمّ أن لا يُظلَمَ المسلمون.
هذا هو أفق عليّ (ع)؛ أن تبقى للإسلام قوَّته، أن تبقى للإسلام عزَّته، أن يبقى للإسلام موقعه، أن ينطلق المسلمون من أجل أن يكونوا صفّاً واحداً أمام كلِّ تحدّيات الكفر والشّرك.
ولذلك، أيّها الأحبَّة، ونحن في ذكرى يوم الغدير، علينا أن نلتزم عليّاً بكلِّه، لأنَّ عليَّاً التزم محمَّداً بكلِّه، والتزم الإسلام بكلِّه، والتزم القرآن بكلِّه، وعاش لله وأخلص له بكلِّه. ولذلك، فإنَّ مسألة أن نلتزم عليَّاً ليست مسألة مذهبيَّة، وليست مسألة طائفيَّة، ولكنَّها مسألة إسلاميَّة تنطلق من كتاب الله وسنَّته، ومن خلال عليّ في كلِّ سيرته.
الالتزامُ بنهجِ الأئمَّةِ (ع)
وعندما نتحدَّث عن عليّ (ع)، فإنَّ علينا أن نتحدَّث عن الأئمَّة الأحَدَ عشرَ من ولده، لأنَّهم أهل بيت النبوَّة، وموضع الرّسالة، ومختلف الملائكة، هم أوصياء رسول الله، وهم خلفاؤه، وهم الّذين يؤدّون عن رسول الله، وهم الّذين انطلقوا في خطِّ رسول الله في منهج عليّ (ع)، ولذلك علينا أن نلتزمهم في كلِّ ما قدَّموه من تعاليم ووصايا وأحكام ومناهج، وبذلك ينطلق خطُّ أهل البيت (ع) من أجل أن يكون الخطَّ الأصيل في وعي الإسلام وفهم الإسلام. ونحن عندما نلتزم عليّاً والأئمَّة الطَّاهرين من أهل بيته، فإنَّنا نلتزم الحقّ كلَّه والإسلام كلَّه.
وهذا ما ينبغي لنا، أيُّها الأحبَّة، أن نتحرَّك فيه؛ أن لا نأخذ الأئمَّة مجرَّد أسماء نهتف بها، ولكن علينا أن نأخذ الأئمَّة خطّاً ننتهجه ونسير عليه في كلِّ المواقع، وقد قال عليّ (ع) وهو يتحدَّث مع أصحابه، وكلنا أصحابه، لأنَّ أصحاب عليّ ليسوا هم الَّذين عاشوا معه، بل إنَّ أصحابه هم كلّ الَّذين ساروا في خطّه ونهجه والتزموا ولايته: "ألا وإنَّ لكلِّ مأمومٍ إماماً يقتدي به ويستضيءُ بنورِ علمِه، ألا وإنَّ إمامَكم قد اكتفى من دنياه بطمريْهِ، ومن طعمِهِ بقرصيْهِ، ألا وإنَّكم لا تقدرونَ على ذلكَ، ولكنْ أعينوني بورعٍ واجتهادٍ، وعفَّةٍ وسدادٍ".
عندما تقفون غداً مع عليٍّ وهو على الحوض، فعليكم أن تقدِّموا إليه إسلامكم الَّذي التزمتموه في عقولكم وقلوبكم وفي كلِّ حياتكم، كما قدَّم عليٌّ إسلامه إلى الله ورسوله: "لأعطينَّ الرَّايةَ غداً رجلاً يحبُّ اللهَ ورسولَهُ، ويحبُّهُ اللهُ ورسولُهُ، كرّاراً غيرَ فرَّارٍ، لا يرجعُ حتَّى يفتحَ اللهُ على يديْهِ".
لذلك، ليكن لنا فتحُ عليّ، وليكن لنا جهادُ عليّ، وليكن لنا سيرةُ عليّ واستقامةُ عليّ وإخلاصُ عليّ لله ولرسوله.
وهذا، أيُّها الأحبَّة، ما ينبغي لنا أن نتحسَّسه في عيد الغدير، لقد أعطى عليّ كلَّ طاقته للإسلام، عندما كان التحدّي كبيراً وخطيراً، والتحدّي للإسلام الآن كبير وخطير، فعلينا أن نعطي كلّ طاقتنا للإسلام، وعلينا أن نلتقي عند عليّ، أن نتوحَّد به وبرسول الله وبالله، أن لا نتفرَّق أحزاباً يكفِّر بعضنا بعضاً، ويلعن بعضنا بعضاً، أن لا نتفرَّق شيعاً ونتفرّق فئات هنا وهناك.
انطلقوا مع عليّ وحدةً في الفكر، ووحدةً في السّيرة، ووحدةً في الجهاد، ووحدةً في الإسلام كلِّه.
أيُّها الأحبَّة، لا تمزّقوا بعضكم بعضاً، لا تتباغضوا، ولا تتحاقدوا {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46].
هذا نداء عليّ (ع)، وهو نداء الإسلام.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثّانية
عباد الله، اتَّقوا الله في كلِّ أموركم، وانطلقوا في خطِّ الوحدة الإسلاميَّة الَّتي هي أساس القوَّة للمسلمين جميعاً في العالم، وإذا كان المسلمون يختلفون في كثير من الشّؤون، فقد عرَّفنا الله كيف نتصرَّف حيالَ هذه الاختلافات، فقال سبحانه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النِّساء: 59]، وفيما يعيشُه المسلمون من مشاكلَ، أرادَ اللهُ سبحانَه وتعالى لهم أن يقفوا صفّاً كالبنيان المرصوص: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}[الصّفّ: 4]، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا}[آل عمران: 103].
لذلك، أيُّها الأحبَّة، نحن نعرف أنَّ هناك بين المسلمين أكثر من خلاف؛ هناك اختلافات في مسألة الخلافة والإمامة، هناك اختلافات في المسائل الفقهيَّة، وفي بعض القضايا الكلاميَّة، ولكنَّ التَّحاقد والتَّنابذ والتَّنازع والتَّعادي وحرب بعضنا بعضاً، لن يظهر الحقّ، إنَّ الحقَّ يظهر بالحوار، وبالجدال بالَّتي هي أحسن، وقول الَّتي هي أحسن.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، هناك قضايا مشتركة بيننا وبين المسلمين الآخرين، هناك أسس مشتركة، وهي التَّوحيد، والنّبوَّة، والإيمان باليوم الآخر، والقرآن الكريم الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، والعبادات، وما أكثر ما يلتقي عليه المسلمون! ولذلك، علينا أن نلتقي فيما اتَّفقنا فيه، وأن نحاور بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
كما أنَّ هناك قضايا إسلاميَّة تعيش في ساحة الصِّراع مع الاستكبار العالميّ ومع الكفر العالميّ، لا بدَّ لنا أن نلتقي عليها؛ أن نقف صفّاً واحداً في مقابل الكفر وفي مقابل الاستكبار، وأن نستفيد من كلِّ تاريخنا، حيث عمل الاستعمار بكلِّ فئاته وبكلِّ قوَّته على أن يمزِّقنا، وأن يفرِّق بعضنا عن بعض، وأن يثير الخلافات المذهبيَّة والطائفيَّة بطريقة متخلِّفة، وأن يمنع بعضنا من لقاء بعض.
لذلك، لا تعيشوا الانفعال، ولكن عليكم أن تعيشوا العقلانيَّة الَّتي تبصر الواقع بكلِّ مشاكله وتحدِّياته بكلِّ وعي. لذلك، لا تستسلموا لأيِّ دعوة للتحرّك بالطَّريقة الَّتي يدخل فيها المسلمون في مشاكل وفتن ومنازعات، لأنَّ الهيكل سوف يسقط على رؤوس الجميع.
لن ينتصر أحدنا بالسّباب ولا بالشَّتائم لا باللَّعن؛ إنَّ الانتصار يكون بالعقل، وبالإيمان، وبالحوار، والله يقول: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصِّلت: 34]. حوِّل أعداءك إلى أصدقاء، فكيف بنا ونحن نحوِّل أصدقاءنا إلى أعداء؟!
أيُّها الأحبَّة، ليس معنى الوحدة الإسلاميَّة الَّتي ندعو إليها أن يترك الشّيعيّ التزامه الفكريّ، أو أن يترك السنّي التزامه الفكريّ، بل أن نلتقي على الإسلام الَّذي يجمعنا، وأن يحاورَ بعضنا بعضاً فيما نختلف فيه من شؤون الإسلام، حتَّى نستطيعَ أن نواجهَ الكفرَ والاستكبارَ من موقف واحد.
ونحن عندما نطلق هذه الدَّعوة، فإنَّنا نريد للمسلمين، ولا سيَّما في هذا البلد، أن يستفيدوا من كلِّ تجارب الماضي، وهذا ما يمكن أن نعيشه أمام بعض الذكريات القاسية.
ذكرى الحربِ الأهليَّة
مرَّت على لبنان ذكرى بداية الحرب اللّبنانيّة الداخليّة في 13 نيسان، الَّتي خطَّطت لها أمريكا من خلال وزير خارجيَّتها آنذاك هنري كيسنجر، من أجل تحقيق أكثر من مشروع متَّصل بالقضيَّة الفلسطينيَّة والواقع العربي، لمصلحة التَّحالف الأمريكي الصّهيوني، وقد اندفع اللّبنانيّون إلى المحرقة الَّتي أُعِدَّت لهم، من دون حسابٍ دقيقٍ لحركة المخابرات الأمريكيَّة، في استغلال نقاط الضّعف الطَّائفيَّة والسياسيَّة المتحركة في نطاق الذّهنيَّة الانفعاليَّة، ما أدَّى إلى تدمير البلد كلِّه، حجراً وبشراً، وصنع أكثر من ثغرةٍ في الواقع النَّفسيّ للشَّعب كلِّه.
كان المسيحيّون في البلد يعتقدون أنَّ مشكلتهم هي المسلمون، وكان المسلمون في البلد يعتقدون أنَّ مشكلتهم هي المسيحيّون، ولكنَّهم عرفوا بعد التجربة المرَّة، وبعد 17 سنة من الحرب، أنَّ مشكلة الجميع هي أمريكا وإسرائيل، وأنَّ المسلمين والمسيحيّين في هذا البلد محكومون بأن يعيشوا معاً، وأن يدبّروا أمورهم معاً، وأنَّ أحدهم ليس مشكلةً للآخر، بل إنَّنا نعيش مشاكل مشتركة في اقتصادٍ متدهورٍ، وفي وطنٍ محتلٍّ، وفي سياسياتٍ متحركة.
لذلك، مشكلتنا أنَّنا كنَّا نتحرَّك بعقليَّة فوضويَّة انفعاليَّة، ولم نتحرَّك بالعقل كلِّه. وقد عرفنا من خلال تلك التَّجربة القاسية، أنَّ الحرب الدَّاخليَّة لا يمكن أن تحلَّ مشكلة وطنيَّة، بل إنَّها تعقِّدها، وأنَّ السِّلم الأهليَّ هو السَّبيل لتحقيق أكثر من حلٍّ، بفعل الحوار الموضوعيّ، والوعي المنفتح على المصلحة الوطنيَّة العليا، ودراسة القضايا بروحيَّة الحلّ، لا بذهنيَّة التَّعقيد. وعلينا أن نأخذ العبرة من كلِّ النَّتائج السَّلبيَّة الَّتي عشناها، وذلك بالبعد عن كلِّ ألوان الإثارة الطَّائفيَّة والاستهلاك السياسيّ، وعن الخضوع للشخصانيَّة والفئويَّة، ليكون الجميع في هذا الوطن وحدةً شاملةً لقضايا الوطن كلِّه، في حركة الحاضر نحو المستقبل، من أجل الوصول إلى الواقع الَّذي يعيش فيه النَّاس روح التَّعاون والتَّكامل، بدلاً من التَّنافر والتَّقاطع، ويحدِّق الجميع في حاجاتهم بدلاً من التحديق في حاجات الآخرين.
ذكرى مجزرةِ قانا
وليس بعيداً من نطاق الذكرى، تمرّ علينا الذكرى الثّانية لمجزرة قانا، الَّتي تعتبر واحدة من أبشع المجازر في التَّاريخ، وهي الصّورة الأوضح للوجه الحقيقي للصهيونيّة الَّتي تعيش الحقد العنصريَّ على الإنسان كلّه، ولا سيَّما الإنسان العربيّ المسلم. وإنَّنا إذ نستعيد هذه الذكرى، نقف أمام العبرة التاريخيَّة في استحالة التعايش في المنطقة بين العرب واليهود، من خلال طبيعة عمق الصِّراع بينهما، على أساس اغتصاب الأرض، وتدمير الواقع السياسي والاقتصادي والأمني للمنطقة كلِّها.
وفي هذا الجوّ، نقف أمام السياسة الأمريكيَّة الَّتي وقفت مع العدوّ لتغطية هذه المجزرة البشعة، وتحميل الضَّحايا مسؤوليَّتها بدلاً من المجرم، ما يوحي بأنَّ أمريكا مستعدَّة لدعم أيّ مجزرة إسرائيليّة ضدّ العرب، ولا سيَّما الفلسطينيّين واللّبنانيّين، مهما كانت بشاعتها ونتائجها، لأنَّها لا تحترم في المنطقة إلَّا اليهوديّ.
لقد هُزِمَ العدوّ في حملة "عناقيد الغضب"، وانتصر لبنان بمقاومته الصَّامدة الباسلة، وبوحدته الوطنيَّة، وصموده أمام الغزو على المستوى السياسيّ، ولم يستطع العدوُّ الصّهيوني إسقاطَ المقاومة، بل إنَّها ازدادَتْ قوَّةً وخبرةً وصموداً ووعياً للواقع السياسيّ، واستطاعَتْ أن تحصل على إنتاج التَّفاعل الشَّعبيّ معها، على مستوى الواقع العربيّ والإسلاميّ كلِّه.
إنَّ درس قانا هو التَّخطيط لمواجهة العدوّ، بدراسة كلِّ خططه السياسيَّة والأمنيَّة والاقتصاديَّة، ومجابهته بكلِّ الوسائل التي لا بدَّ لنا من تطويرها لحساب الأهداف الكبرى للأمَّة.
القرارُ 425 والجدلُ المستمرّ
ولا يزالُ الجدل السياسيّ حول القرار 425 الَّذي تقود فيه إسرائيل حرباً سياسيَّة ضدَّ لبنان وسوريا، وقد لاحظنا أنّها اجتذبت الموقف الأمريكي الَّذي يرى أنَّ العرض الإسرائيليَّ جدّيّ، ولا يتعارض مع عمليّة السَّلام، حسب تعبيرها، ما يعني الدَّعم لكلِّ الوسائل السياسيّة والأمنيَّة الَّتي قد تعتمدها إسرائيل لإنجاح مشروعها، وربما كانت أمريكا تتحرَّك للضَّغط على لبنان وسوريا، للقبول بالعرض الإسرائيليّ دبلوماسياً في السَّاحة الدّوليَّة، واقتصاديّاً بمنع الدّول من مساعدة لبنان.
ونلاحظ أنَّ الموقف الفرنسيَّ يؤكِّد ضرورة التَّقارب مع الأمين العام للأمم المتَّحدة، والتَّعامل معه بإيجابيَّة علنيّة، مع القبول المبدئيّ الإسرائيلي، مع العلم أنَّ الأمم المتَّحدة لا تملك قوَّة فاعلة لتنفيذ قراراتها، بفعل الهيمنة الأمريكيّة عليها، ما قد يؤدِّي إلى تفريغ القرار 425 من كلِّ مضمونه.
إنَّ مهمَّة الأمين العام هي أن يتحرَّك من أجل تنفيذ قرارات الأمم المتَّحدة، لا أن يخضع للضّغوط الإسرائيليَّة الأمريكيَّة لإدخال شروط جديدة عليها. وعلى السلطة اللّبنانيَّة أن تواجه هذه الحربَ السياسيَّةَ الدّبلوماسيَّةَ، بالتَّنسيق مع سوريا ومع البلاد العربيَّة الَّتي لا تزال تقف بحذرٍ ووعيٍ أمام المشاريع الصهيونيَّة في إخضاع العالم العربيّ لنفوذها في المنطقة.
وعلى العرب أن يعرفوا أنَّ ضعف الموقف اللّبناني السوريّ أمام إسرائيل، سوف يتحوَّل إلى ضعفٍ لأيِّ موقع عربيٍّ في السَّاحة السياسيَّة، ما يفرض على الجميع أن ينظروا بجدّيَّة إلى المرحلة الصَّعبة الَّتي يخوضها اللّبنانيون والسوريّون والفلسطينيّون في الواقع السياسيّ الأمنيّ، لأنَّ التاريخ لن يرحم الَّذين يلعبون بقضاياه المصيريَّة.
وفي هذا الإطار، نرحِّب بالقمَّة المصريّة – السوريّة الأخيرة، والقمَّة السوريَّة - اللّبنانيّة الموسَّعة، كبادرة لدراسة الأخطار الَّتي يواجهها الجميع في هذه الحرب السياسيَّة الدبلوماسيَّة الجديدة، الَّتي تعمل إسرائيل على أن تربحها باجتذاب الرأي العالميّ إلى مشاريعها السياسيَّة.
اعتداءاتٌ متواصلةٌ من العدوّ
ولا يزال العدوّ يمارس القصف المتواصل ضدّ المدنيّين، ولا تزال لجنة تفاهم نيسان حائط المبكى الَّذي ينتج التوصيات التقليديَّة من دون نتيجة، بفعل الضّغط الأمريكي الَّذي يمنع أيّ قرارات فاعلة ضدّ العدوّ.
وإنَّنا نقف مع كلِّ أبنائنا وبناتنا في المعتقلات الصهيونيَّة في لبنان وفلسطين، سواء الَّذين اعتقلوا قديماً أو حديثاً ونتذكَّر في الآونة الأخيرة الاعتقالات التعسفيَّة في عيتا الشَّعب، وندعو إلى وقوف اللّبنانيّين جميعاً إلى جانبهم، ونطالب السّلطة بأن تبذل كلَّ جهدها في هذا الاتجاه.
إنَّنا نتطلع في هذه المرحلة الصَّعبة إلى ما يحدث في داخل فلسطين، من حركة السلطة الفلسطينيَّة ضدّ حركة المقاومة الإسلاميَّة حماس، وإثارة الفتنة الدَّاخليَّة، بالاتهامات الباطلة، والاعتقالات الظَّالمة، مما يدخل في ترتيب المخطَّط الصّهيونيّ الأمريكيّ السَّاعي للقضاء على الانتفاضة حاضراً ومستقبلاً، وتصفية أيِّ حركة جهاديَّة. وقد لاحظنا أنَّ رئيس حكومة العدوّ يشيد بهذه الإنجازات الأمنيَّة، ويطالب سلطة الحكم الذَّاتي بالمزيد من ملاحقة المجاهدين واغتيالهم.
إنَّنا نحذِّر هذه السلطة من النَّتائج السلبيَّة لهذه التصرّفات، كما نحذِّر الجميع من الدّخول في لعبة الحرب الدَّاخليَّة الفلسطينيَّة، لأنَّ ذلك لن يكون في مصلحة الشَّعب الفلسطيني، بل يبقى في مصلحة إسرائيل جملةً وتفصيلاً، ولن يبقى لما يسمَّى سلطة الحكم الذَّاتي إلَّا الخزي والعار والسّقوط أمام شعبها والعالم.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 17/04/1998م.
قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[المائدة: 67].
وقال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}[المائدة: 3].
نزلت هاتان الآيتان، كما يقول أكثر المفسِّرين، في اليوم الثَّامن عشر من ذي الحجَّة، وهو يوم الغدير، في منطقة تسمَّى غدير خمّ.
قصَّةُ الغدير
وقصَّة هذه المسألة، كما يرويها المفسِّرون والمؤرّخون، أنَّ رسول الله (ص) حجَّ حجَّة الوداع وعاد إلى المدينة، وفي الطَّريق قريباً من الجحفة، نزل عليه الوحي بهذه الآية: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، نزل بها الرّوح الأمين جبرائيل على النَّبيّ (ص) من قبل الله سبحانه وتعالى، من أجل أن يؤكِّد الولاية لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب من بعده، كنصٍّ إلهيٍّ، وتكليفٍ للمسلمين جميعاً.
ونزل النّبيّ (ص) في ذلك المكان، وكان الوقتُ شديدَ الحرّ، كان وقت الظّهيرة، حيث لا ظلَّ هناك، وتعجَّب المسلمون من ذلك، كما يقال، ونُصِبَ له منبرٌ من أهداجِ الإبل، وخطب خطبةً قال فيها، كما يرويها صاحب كتاب "الغدير": "انظروا كيفَ تخلّفوني في الثّقلين، فنادى منادٍ: وما الثّقلانِ يا رسولَ الله؟ قالَ: كتابُ الله؛ طرفٌ بيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وطرفٌ بأيديكم، وهو الَّذي بلغَكم، فتمسَّكوا به لا تضلّوا، والآخرُ عترتي، وإنَّ اللَّطيفَ الخبيرَ نبَّأني أنَّهما لنْ يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوضَ، فسألْتُ ذلكَ لهما ربِّي، فلا تقدِّموهما فتهلكُوا، ولا تقصرُوا عنهما فتهلكُوا".
وهنا أكَّد النَّبيّ (ص) مسألة العترة إلى جانب الكتاب، وبيَّن أنَّه في كلِّ عصر، هناك الكتاب، وهناك شخص من العترة يبشِّر به ويفسِّره ويبيِّن حقائقه للنَّاس.
"ثمَّ أخذ بيد عليّ (ع)، فرفعها حتَّى رُؤيَ بياض آباطهما، وعرفه القوم أجمعون، فقال: أيَّها النَّاس، من أولى النّاسِ بالمؤمنين من أنفسهم؟ - يعني من الَّذي يمثِّل سلطة الحكم على النَّاس، بحيث يملك منهم ما لا يملكون من أنفسهم؛ من هو؟ - قالوا: الله ورسوله أعلم. قالَ: إنَّ اللهَ مولايَ، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم مِنْ أنفسِهم، فمَنْ كنْتُ مولاه، فعليٌّ مولاه، يقولُها ثلاثَ مرَّاتٍ، وفي لفظِ أحمدَ إمامِ الحنابلةِ: أربعَ مرَّاتٍ. ثمَّ قالَ: اللَّهمَّ والِ مَنْ والاه، وعَادِ مَنْ عاداهُ، وأَحِبَّ مَنْ أَحَبَّهُ، وأَبْغِضْ مَنْ أبغضَهُ، وانصُرْ مَنْ نَصَرَهُ، واخذُلْ مَنْ خذلَهُ، وأَدِرِ الحقَّ معَهُ حيثُ دارَ، ألا فليبلِّغِ الشَّاهدُ الغائبَ - بحيث حمَّلهم مسؤوليَّة الدَّعوة إلى ذلك - ثمَّ لم يتفرَّقوا، حتَّى نزل أمين وحي الله بقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا}، فقال رسول الله (ص): "اللهُ أكبرُ على إكمالِ الدِّينِ، وإتمامِ النِّعمةِ، ورضا الرَّبِّ برسالتي، والولايةِ لعليٍّ مِنْ بَعْدي"، وسلَّم عليه القوم بإمرة المؤمنين آنذاك.
تحريفُ معنى الحديث
تلك هي قصَّة الغدير. ومسألة الغدير ليست من المسائل القابلة للتَّشكيك، فقد ذكر صاحب كتاب "الغدير"، أنَّ رواة الغدير من الصَّحابة بلغوا 110، ومن التَّابعين 84 شخصاً، وطبقات الرّواة من العلماء 360 شخصاً، وقد كُتِبَ الكثيرُ في ذلك.
لذلك، ليس هناك أيّ إشكال في سند الغدير، فقد روي من قبل السنَّة والشّيعة في كتب التَّفسير، والمسألة لم تكن موضع شكّ في سند، بل إنَّ البعض حاول أن يتصرَّف بالمعنى، فقال إنَّ كلمة "المولى" في قول الرَّسول (ص): "مَنْ كنْتُ مولاه فعليٌّ مولاه"، تطلق على عدَّة معان، فقد تطلق على النَّاصر، وقد تطلق على المحبّ، يعني: من كنت محبَّه فعليّ محبّه، وهكذا بدأوا يتصرَّفون في المعنى بما لا تحتمله الكلمة.
ولكن إذا أردنا أن ندرس المسألة بطريقة علميَّة، فهل من المعقول أن ينزل النَّبيّ (ص) في هذا المكان اللَّاهب بعد حجَّة الوداع الَّتي نعيت فيها إلى النَّبيِّ نفسُهُ، وكان يكرِّر: "يوشَكُ أن أُدعَى فأجيب"، فهل من المعقول أن يجمعَ النَّاسَ كلَّهم حتَّى يقول لهم: مَنْ أنا أحبُّهُ فعليٌّ يحبُّه، أو من أنا أنصرُهُ فعليٌّ ينصرُهُ؟ هل يمكن أن تكون المسألة هكذا؟ إذا كانت هكذا، فقد تحدَّث النَّبيُّ (ص) عن الإمام عليّ (ع) منذ أن كان في مكَّة إلى آخر حياته، بما لم يتحدَّث به عن أيِّ صحابي آخر. النَّبيّ (ص) هو مَنْ قال: "أنا مدينةُ العلمِ وعليٌّ بابُها"، وقالَ: "عليٌّ معَ الحقِّ، والحقُّ معَ عليٍّ"، وهو قال له: "أما ترضى أن تكونَ منِّي بمنزلةِ هارونَ مِنْ موسى، إلَّا أنَّه لا نبيَّ بعدي؟!"، يعني هل من المعقول أن يجمع النَّاسَ فقط ليقول لهم مَنْ أحبّه فعليّ يحبّه؟ هذا عبث ولا معنى له.
الولايةُ والحاكميَّة
وهناك نقطة ثانية، وهي أنَّ النَّبيَّ (ص) هو مَنْ فسَّر كلمة "مولى" بما تحدَّث به: "مَنْ أولى بالمؤمنينَ مِنْ أنفسِهم؟". فكلمة "أولى من أنفسهم" هي كلمة الحاكميَّة، {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}[الأحزاب: 6]، أي أنَّ النَّبيَّ بصفتِهِ الحاكمَ يمونُ على النَّاسِ أكثرَ مما يمونون على أنفسِهم - إذا أردنا أن نستعملَ اللَّهجةَ الشَّعبيَّةَ - ولذلك يقولون إنَّ هذه الآية تدلّ على أنَّ النَّبيَّ له صفتان؛ صفة أنَّه رسول: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا}[الأحزاب: 45- 46]، وصفة الحاكميَّة، والَّتي جاءت من كلمة {النَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}، فهذه أعطت صفة الحاكميَّة.
ولذلك، عندما قال لهم: "ألسْتُ أولى بالمؤمنين من أنفسِهم؟"، في رواية قالوا: بلى، وفي رواية ثانية قالوا: الله ورسوله أعلم، معنى ذلك أنَّه أراد أن يقول لهم إنَّني جعلت لعليٍّ هذه المرتبة الَّتي لي، فمرتبة أنّي الحاكم للمسلمين، جعلتها لعليٍّ، يعني مَنْ كنْتُ أولى به من نفسه، فعليٌّ أولى به من نفسه. صحيحٌ أنَّ الكلمةَ تحتمل عدَّة معان، لكنَّ طبيعة الجوِّ وطبيعةَ ما قبلَها، يعيِّن هذا المعنى، وهو الولاية بمعنى الحاكميَّة.
قضيّةٌ بحجمِ الرِّسالةِ
النّقطة الثَّالثة، أنَّ الآية الكريمة فيها دلالة واضحة أنَّ المسألة الّتي يراد للنَّبيّ (ص) أن يعالجها، هي مسألة تتَّصل بسلامة الإسلام كلِّه، وأنَّها من المسائل الَّتي تثير الجدل وتثير الاتهامات ضدَّ النَّبيّ (ص)، لأنَّ الآية نزلت في حجَّة الوداع، أي في آخر سنة من حياة النبيّ (ص)، فهي كانت في 18 ذي الحجَّة، والنَّبيُّ (ص) توفّي في 28 صفر، أي أنَّ الفاصل بينهما هو شهران وعشرة أيَّام تقريباً. فالنَّبيّ (ص) كان قد بلّغ الرّسالة كلَّها على مدار ثلاثة وعشرين عاماً، فما معنى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}؟! يعني أنَّك إن لم تبلِّغ هذه المسألة، فكأنَّك لم تفعل شيئاً، إذ ليس من المنطقيّ أن يضعَ الإنسان الأساس ويبني المشروع، ثمّ يتركه في قبضة الرّياح. لذلك، لا بدَّ من أن يكون هناك شخصٌ يحمل الرّسالة من بعده، وإن لم يكن رسولاً.
فمَنِ الشَّخص المؤهَّل لذلك؟ {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}، يعني إذا صار النّاس يقولون إنَّك عيَّنت ابن عمِّك أو صهرك، فالله يعصمك منهم، فالرَّسول عنده أولاد عمّ كثر، ولكن مَنْ منهم مثل عليّ بن أبي طالب؟! وإذا قلنا إنَّ النَّبيَّ عنده بنات، كما في رأيٍ، وعندَه أيضاً أصهار، فلماذا يختار عليّاً (ع)؟ فالقضيَّة ليست القرابة والمصاهرة، ولكن كفاءة عليّ، لأنَّ عليَّاً (ع)، بشهادة كلِّ المسلمين، كان الأكثر تضحيةً في سبيل الإسلام، وعليٌّ كان الأعلم: "أنا مدينةُ العلمِ وعليٌّ بابُها"، "علَّمَني رسولُ اللهِ ألفَ بابٍ مِنَ العلمِ، يُفتَحُ لي مِنْ كلِّ بابٍ ألفُ بابٍ".
لذلك، بالنِّسبة إلى الإمام (ع)، كان علم رسول الله عنده، وكما كان رسول الله (ص) يجيب عن كلِّ سؤال، فعليّ (ع) كان يجيب عن كلِّ سؤال؛ لم ينقل عن عليّ أنَّه احتاج أن يسأل أحداً، ولم ينقل عن عليّ أنَّه توقَّف عن الإجابة عن أيّ سؤال، ولذلك قال الخليل بن أحمد الفراهيدي، وهو مخترع علم العروض، عندما سئل: لم قدَّمت عليّاً على غيره؟ قال: "احتياجُ الكلِّ إليْهِ، واستغناؤُهُ عنِ الكلِّ، دليلٌ على أنَّهُ إمامُ الكلِّ".هذا هو الأساس في هذا المجال.
وقد ورد عن رسول الله (ص): "أقضاكم عليٌّ"، ووردت عنه كلمات كثيرة كان يهيِّئ فيها الأمَّة لأن تعتبر أنَّ عليّاً هو المتعيّن في ذلك.
وهكذا، أراد الله للرسول (ص) أن لا يصل إلى المدينة، إلَّا وقد عرَّف المسلمين الَّذين كانوا معه في مكَّة بالأمر، وقد بلغ عددهم، على بعض الروايات، 120 ألف رجل، حتَّى يبلّغوا ذلك إلى كلِّ أهاليهم عندما يرجعون إليهم.
تحريفُ وصيَّةِ الرَّسولِ (ص)
والنقطة الرَّابعة الّتي تدلّ على الموضوع، هي أنَّ النَّبيّ (ص) نصب لعليّ (ع) خيمةً ليسلِّم عليه النَّاس بإمرة المسلمين، أن يقولوا له: السَّلام عليك يا أمير المؤمنين، حتّى إنَّ بعض كبار الصَّحابة جاءه وقال له: "بخٍ بخٍ لكَ يا عليّ، أصبحْتَ مولايَ ومولى كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ"، ثمَّ نزلت الآية {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، لأنَّ الدّين بدأ بالتّوحيد والنّبوَّة، وانتهى بالولاية، وكما كانت النّبوَّة ترعى هذا الدّين، فإنَّ الولاية تكمل الطَّريق لترعى هذا الدّين من بعد رسول الله (ص).
لذلك، أيُّها الأحبَّة، نحن عندما نتولَّى عليّا ً(ع) كإمامٍ للمسلمين، وكخليفةٍ لرسولِ الله بلا فصل، لا نتولَّاه عصبيّةً ولا تقليداً، ولكنَّنا نتولَّاه من خلال كلام الله وكلام رسوله.
ونحن نعرف أنَّ الأمور اختلطت واتَّجهت في غير الاتّجاه الصَّحيح، وأنَّ الكثيرين من النَّاس، ممن يحاولون أن يحرِّفوا الكلام عن مواضعه، ويحاولون أن يبعدوا القافلة عن مسيرها واتجاهها الصَّحيح، لعبوا بالأمر، وأبعدوا المسألة عن الواقع، حتَّى كأنَّ النَّاس لم يسمعوا ذلك، ما جعل النَّبيَّ (ص) في مرضه الَّذي توفّي فيه يقول: "ائتوني بكتفٍ أكتبْ لكم كتاباً، لا تضلُّوا بعدَهُ أبداً"، لأنَّ النَّبيَّ لاحظ أنَّ الكثير من النَّاس لعبوا بالكلمات وبالألفاظ وبأبعاد القضيَّة، فاختلفوا، وقال بعضهم إنَّ النَّبيَّ ليهجر، أو إنَّه قد غلبه الوجع، حتّى يبطل تأثير كلامه.
بعد ذلك، قالوا: يا رسول الله، هل نأتيك بالكتف والدّواة؟ قال: "أبعد الَّذي قلتم؟"، كنت أريد أن أكتب كتاباً، حتَّى إذا قرأه النَّاس عرفوا الحقيقة، ولكن بعد الَّذي قلتم، سيقولون إنَّ النَّبيَّ كتب ذلك ولم يكن بوعيه.
إخلاصُ عليٍّ (ع) للرّسالةِ
ولكنَّ عليّا ً(ع)، بالرغم من ضياع حقِّه، بقي مخلصاً للإسلام، وقد تحدَّث عن حقِّه أكثرَ من مرَّة، كما في الخطبة الشَّقشقيَّة، عندما قال وهو يشير إلى الَّذي تقدَّمه: "وإنَّه لَيَعْلَمُ أنَّ محلِّي منها محلُّ القُطْبِ منَ الرَّحَى، ينحدرُ عنِّي السَّيلُ، ولا يرقَى إليَّ الطَّيرُ".
ولكنَّ المسألة أنَّه لم يكن من الممكن الوصول إلى الحقّ، ولذلك بعد ذلك قال (ع) في آخر الخطبة، بعد أن تحدَّث عن كلّ التجربة الصَّعبة: "لولا حضورُ الحاضرِ، وقيامُ الحجَّةِ بوجودِ النَّاصرِ، وما أخذَ اللهُ على العلماءِ أن لا يقارُّوا على كظَّة ظالمٍ، ولا سغَبِ مظلومٍ، لألقيْتُ حبلَها على غاربِها، ولسقيْتُ آخرَها بكأسِ أوَّلِها، ولألفيْتُم دنياكم هذهِ أزهدَ عندي منْ عفطةِ عنزٍ".
لم يكن الحكم طموحَ عليّ من خلال ذاته، فقد باع (ع) نفسه لله، ونزلت الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}[البقرة: 207]. وقد قال لابن عبَّاس، وهو يشير إلى نعله، وكان يخصفها بعد أن انقطعت، وقال له ابن عبَّاس اتركها إلى بعض معاونيك، فقال (ع): "ما قيمةُ هذه النَّعل؟ فقلت: لا قيمة لها. فقال: واللهِ لهي أحبُّ إليَّ من إمرتِكم، إلَّا أن أقيم حقّاً، أو أدفعَ باطلاً"، إنَّ حياتي كلّها من أجل الحقّ، ولذلك كلّ ما أريده من الدّنيا هو أن أكون مع الحقّ دائماً، وقد قال: "ما تركَ ليَ الحقُّ مِنْ صاحبٍ"، لأنَّ عليّاً (ع) لم يكن يجامل النَّاس على حساب الحقّ، كان يقول كلمة الحقِّ لأنّها كلمة الله، وكان يقول للنَّاس مِنْ حوله: "لَيْسَ أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ وَاحِداً؛ إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ، وَأَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ"، وقد قال: "لأسالمَنَّ ما سلِمَتْ أمورُ المسلمين، ولم يكنْ بها جورٌ إلَّا عليَّ خاصَّةً"، أن أكونَ المظلومَ فلا مشكلة، المهمّ أن لا يُظلَمَ المسلمون.
هذا هو أفق عليّ (ع)؛ أن تبقى للإسلام قوَّته، أن تبقى للإسلام عزَّته، أن يبقى للإسلام موقعه، أن ينطلق المسلمون من أجل أن يكونوا صفّاً واحداً أمام كلِّ تحدّيات الكفر والشّرك.
ولذلك، أيّها الأحبَّة، ونحن في ذكرى يوم الغدير، علينا أن نلتزم عليّاً بكلِّه، لأنَّ عليَّاً التزم محمَّداً بكلِّه، والتزم الإسلام بكلِّه، والتزم القرآن بكلِّه، وعاش لله وأخلص له بكلِّه. ولذلك، فإنَّ مسألة أن نلتزم عليَّاً ليست مسألة مذهبيَّة، وليست مسألة طائفيَّة، ولكنَّها مسألة إسلاميَّة تنطلق من كتاب الله وسنَّته، ومن خلال عليّ في كلِّ سيرته.
الالتزامُ بنهجِ الأئمَّةِ (ع)
وعندما نتحدَّث عن عليّ (ع)، فإنَّ علينا أن نتحدَّث عن الأئمَّة الأحَدَ عشرَ من ولده، لأنَّهم أهل بيت النبوَّة، وموضع الرّسالة، ومختلف الملائكة، هم أوصياء رسول الله، وهم خلفاؤه، وهم الّذين يؤدّون عن رسول الله، وهم الّذين انطلقوا في خطِّ رسول الله في منهج عليّ (ع)، ولذلك علينا أن نلتزمهم في كلِّ ما قدَّموه من تعاليم ووصايا وأحكام ومناهج، وبذلك ينطلق خطُّ أهل البيت (ع) من أجل أن يكون الخطَّ الأصيل في وعي الإسلام وفهم الإسلام. ونحن عندما نلتزم عليّاً والأئمَّة الطَّاهرين من أهل بيته، فإنَّنا نلتزم الحقّ كلَّه والإسلام كلَّه.
وهذا ما ينبغي لنا، أيُّها الأحبَّة، أن نتحرَّك فيه؛ أن لا نأخذ الأئمَّة مجرَّد أسماء نهتف بها، ولكن علينا أن نأخذ الأئمَّة خطّاً ننتهجه ونسير عليه في كلِّ المواقع، وقد قال عليّ (ع) وهو يتحدَّث مع أصحابه، وكلنا أصحابه، لأنَّ أصحاب عليّ ليسوا هم الَّذين عاشوا معه، بل إنَّ أصحابه هم كلّ الَّذين ساروا في خطّه ونهجه والتزموا ولايته: "ألا وإنَّ لكلِّ مأمومٍ إماماً يقتدي به ويستضيءُ بنورِ علمِه، ألا وإنَّ إمامَكم قد اكتفى من دنياه بطمريْهِ، ومن طعمِهِ بقرصيْهِ، ألا وإنَّكم لا تقدرونَ على ذلكَ، ولكنْ أعينوني بورعٍ واجتهادٍ، وعفَّةٍ وسدادٍ".
عندما تقفون غداً مع عليٍّ وهو على الحوض، فعليكم أن تقدِّموا إليه إسلامكم الَّذي التزمتموه في عقولكم وقلوبكم وفي كلِّ حياتكم، كما قدَّم عليٌّ إسلامه إلى الله ورسوله: "لأعطينَّ الرَّايةَ غداً رجلاً يحبُّ اللهَ ورسولَهُ، ويحبُّهُ اللهُ ورسولُهُ، كرّاراً غيرَ فرَّارٍ، لا يرجعُ حتَّى يفتحَ اللهُ على يديْهِ".
لذلك، ليكن لنا فتحُ عليّ، وليكن لنا جهادُ عليّ، وليكن لنا سيرةُ عليّ واستقامةُ عليّ وإخلاصُ عليّ لله ولرسوله.
وهذا، أيُّها الأحبَّة، ما ينبغي لنا أن نتحسَّسه في عيد الغدير، لقد أعطى عليّ كلَّ طاقته للإسلام، عندما كان التحدّي كبيراً وخطيراً، والتحدّي للإسلام الآن كبير وخطير، فعلينا أن نعطي كلّ طاقتنا للإسلام، وعلينا أن نلتقي عند عليّ، أن نتوحَّد به وبرسول الله وبالله، أن لا نتفرَّق أحزاباً يكفِّر بعضنا بعضاً، ويلعن بعضنا بعضاً، أن لا نتفرَّق شيعاً ونتفرّق فئات هنا وهناك.
انطلقوا مع عليّ وحدةً في الفكر، ووحدةً في السّيرة، ووحدةً في الجهاد، ووحدةً في الإسلام كلِّه.
أيُّها الأحبَّة، لا تمزّقوا بعضكم بعضاً، لا تتباغضوا، ولا تتحاقدوا {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}[الأنفال: 46].
هذا نداء عليّ (ع)، وهو نداء الإسلام.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الخطبة الثّانية
عباد الله، اتَّقوا الله في كلِّ أموركم، وانطلقوا في خطِّ الوحدة الإسلاميَّة الَّتي هي أساس القوَّة للمسلمين جميعاً في العالم، وإذا كان المسلمون يختلفون في كثير من الشّؤون، فقد عرَّفنا الله كيف نتصرَّف حيالَ هذه الاختلافات، فقال سبحانه: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}[النِّساء: 59]، وفيما يعيشُه المسلمون من مشاكلَ، أرادَ اللهُ سبحانَه وتعالى لهم أن يقفوا صفّاً كالبنيان المرصوص: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ}[الصّفّ: 4]، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا}[آل عمران: 103].
لذلك، أيُّها الأحبَّة، نحن نعرف أنَّ هناك بين المسلمين أكثر من خلاف؛ هناك اختلافات في مسألة الخلافة والإمامة، هناك اختلافات في المسائل الفقهيَّة، وفي بعض القضايا الكلاميَّة، ولكنَّ التَّحاقد والتَّنابذ والتَّنازع والتَّعادي وحرب بعضنا بعضاً، لن يظهر الحقّ، إنَّ الحقَّ يظهر بالحوار، وبالجدال بالَّتي هي أحسن، وقول الَّتي هي أحسن.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، هناك قضايا مشتركة بيننا وبين المسلمين الآخرين، هناك أسس مشتركة، وهي التَّوحيد، والنّبوَّة، والإيمان باليوم الآخر، والقرآن الكريم الَّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، والعبادات، وما أكثر ما يلتقي عليه المسلمون! ولذلك، علينا أن نلتقي فيما اتَّفقنا فيه، وأن نحاور بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.
كما أنَّ هناك قضايا إسلاميَّة تعيش في ساحة الصِّراع مع الاستكبار العالميّ ومع الكفر العالميّ، لا بدَّ لنا أن نلتقي عليها؛ أن نقف صفّاً واحداً في مقابل الكفر وفي مقابل الاستكبار، وأن نستفيد من كلِّ تاريخنا، حيث عمل الاستعمار بكلِّ فئاته وبكلِّ قوَّته على أن يمزِّقنا، وأن يفرِّق بعضنا عن بعض، وأن يثير الخلافات المذهبيَّة والطائفيَّة بطريقة متخلِّفة، وأن يمنع بعضنا من لقاء بعض.
لذلك، لا تعيشوا الانفعال، ولكن عليكم أن تعيشوا العقلانيَّة الَّتي تبصر الواقع بكلِّ مشاكله وتحدِّياته بكلِّ وعي. لذلك، لا تستسلموا لأيِّ دعوة للتحرّك بالطَّريقة الَّتي يدخل فيها المسلمون في مشاكل وفتن ومنازعات، لأنَّ الهيكل سوف يسقط على رؤوس الجميع.
لن ينتصر أحدنا بالسّباب ولا بالشَّتائم لا باللَّعن؛ إنَّ الانتصار يكون بالعقل، وبالإيمان، وبالحوار، والله يقول: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصِّلت: 34]. حوِّل أعداءك إلى أصدقاء، فكيف بنا ونحن نحوِّل أصدقاءنا إلى أعداء؟!
أيُّها الأحبَّة، ليس معنى الوحدة الإسلاميَّة الَّتي ندعو إليها أن يترك الشّيعيّ التزامه الفكريّ، أو أن يترك السنّي التزامه الفكريّ، بل أن نلتقي على الإسلام الَّذي يجمعنا، وأن يحاورَ بعضنا بعضاً فيما نختلف فيه من شؤون الإسلام، حتَّى نستطيعَ أن نواجهَ الكفرَ والاستكبارَ من موقف واحد.
ونحن عندما نطلق هذه الدَّعوة، فإنَّنا نريد للمسلمين، ولا سيَّما في هذا البلد، أن يستفيدوا من كلِّ تجارب الماضي، وهذا ما يمكن أن نعيشه أمام بعض الذكريات القاسية.
ذكرى الحربِ الأهليَّة
مرَّت على لبنان ذكرى بداية الحرب اللّبنانيّة الداخليّة في 13 نيسان، الَّتي خطَّطت لها أمريكا من خلال وزير خارجيَّتها آنذاك هنري كيسنجر، من أجل تحقيق أكثر من مشروع متَّصل بالقضيَّة الفلسطينيَّة والواقع العربي، لمصلحة التَّحالف الأمريكي الصّهيوني، وقد اندفع اللّبنانيّون إلى المحرقة الَّتي أُعِدَّت لهم، من دون حسابٍ دقيقٍ لحركة المخابرات الأمريكيَّة، في استغلال نقاط الضّعف الطَّائفيَّة والسياسيَّة المتحركة في نطاق الذّهنيَّة الانفعاليَّة، ما أدَّى إلى تدمير البلد كلِّه، حجراً وبشراً، وصنع أكثر من ثغرةٍ في الواقع النَّفسيّ للشَّعب كلِّه.
كان المسيحيّون في البلد يعتقدون أنَّ مشكلتهم هي المسلمون، وكان المسلمون في البلد يعتقدون أنَّ مشكلتهم هي المسيحيّون، ولكنَّهم عرفوا بعد التجربة المرَّة، وبعد 17 سنة من الحرب، أنَّ مشكلة الجميع هي أمريكا وإسرائيل، وأنَّ المسلمين والمسيحيّين في هذا البلد محكومون بأن يعيشوا معاً، وأن يدبّروا أمورهم معاً، وأنَّ أحدهم ليس مشكلةً للآخر، بل إنَّنا نعيش مشاكل مشتركة في اقتصادٍ متدهورٍ، وفي وطنٍ محتلٍّ، وفي سياسياتٍ متحركة.
لذلك، مشكلتنا أنَّنا كنَّا نتحرَّك بعقليَّة فوضويَّة انفعاليَّة، ولم نتحرَّك بالعقل كلِّه. وقد عرفنا من خلال تلك التَّجربة القاسية، أنَّ الحرب الدَّاخليَّة لا يمكن أن تحلَّ مشكلة وطنيَّة، بل إنَّها تعقِّدها، وأنَّ السِّلم الأهليَّ هو السَّبيل لتحقيق أكثر من حلٍّ، بفعل الحوار الموضوعيّ، والوعي المنفتح على المصلحة الوطنيَّة العليا، ودراسة القضايا بروحيَّة الحلّ، لا بذهنيَّة التَّعقيد. وعلينا أن نأخذ العبرة من كلِّ النَّتائج السَّلبيَّة الَّتي عشناها، وذلك بالبعد عن كلِّ ألوان الإثارة الطَّائفيَّة والاستهلاك السياسيّ، وعن الخضوع للشخصانيَّة والفئويَّة، ليكون الجميع في هذا الوطن وحدةً شاملةً لقضايا الوطن كلِّه، في حركة الحاضر نحو المستقبل، من أجل الوصول إلى الواقع الَّذي يعيش فيه النَّاس روح التَّعاون والتَّكامل، بدلاً من التَّنافر والتَّقاطع، ويحدِّق الجميع في حاجاتهم بدلاً من التحديق في حاجات الآخرين.
ذكرى مجزرةِ قانا
وليس بعيداً من نطاق الذكرى، تمرّ علينا الذكرى الثّانية لمجزرة قانا، الَّتي تعتبر واحدة من أبشع المجازر في التَّاريخ، وهي الصّورة الأوضح للوجه الحقيقي للصهيونيّة الَّتي تعيش الحقد العنصريَّ على الإنسان كلّه، ولا سيَّما الإنسان العربيّ المسلم. وإنَّنا إذ نستعيد هذه الذكرى، نقف أمام العبرة التاريخيَّة في استحالة التعايش في المنطقة بين العرب واليهود، من خلال طبيعة عمق الصِّراع بينهما، على أساس اغتصاب الأرض، وتدمير الواقع السياسي والاقتصادي والأمني للمنطقة كلِّها.
وفي هذا الجوّ، نقف أمام السياسة الأمريكيَّة الَّتي وقفت مع العدوّ لتغطية هذه المجزرة البشعة، وتحميل الضَّحايا مسؤوليَّتها بدلاً من المجرم، ما يوحي بأنَّ أمريكا مستعدَّة لدعم أيّ مجزرة إسرائيليّة ضدّ العرب، ولا سيَّما الفلسطينيّين واللّبنانيّين، مهما كانت بشاعتها ونتائجها، لأنَّها لا تحترم في المنطقة إلَّا اليهوديّ.
لقد هُزِمَ العدوّ في حملة "عناقيد الغضب"، وانتصر لبنان بمقاومته الصَّامدة الباسلة، وبوحدته الوطنيَّة، وصموده أمام الغزو على المستوى السياسيّ، ولم يستطع العدوُّ الصّهيوني إسقاطَ المقاومة، بل إنَّها ازدادَتْ قوَّةً وخبرةً وصموداً ووعياً للواقع السياسيّ، واستطاعَتْ أن تحصل على إنتاج التَّفاعل الشَّعبيّ معها، على مستوى الواقع العربيّ والإسلاميّ كلِّه.
إنَّ درس قانا هو التَّخطيط لمواجهة العدوّ، بدراسة كلِّ خططه السياسيَّة والأمنيَّة والاقتصاديَّة، ومجابهته بكلِّ الوسائل التي لا بدَّ لنا من تطويرها لحساب الأهداف الكبرى للأمَّة.
القرارُ 425 والجدلُ المستمرّ
ولا يزالُ الجدل السياسيّ حول القرار 425 الَّذي تقود فيه إسرائيل حرباً سياسيَّة ضدَّ لبنان وسوريا، وقد لاحظنا أنّها اجتذبت الموقف الأمريكي الَّذي يرى أنَّ العرض الإسرائيليَّ جدّيّ، ولا يتعارض مع عمليّة السَّلام، حسب تعبيرها، ما يعني الدَّعم لكلِّ الوسائل السياسيّة والأمنيَّة الَّتي قد تعتمدها إسرائيل لإنجاح مشروعها، وربما كانت أمريكا تتحرَّك للضَّغط على لبنان وسوريا، للقبول بالعرض الإسرائيليّ دبلوماسياً في السَّاحة الدّوليَّة، واقتصاديّاً بمنع الدّول من مساعدة لبنان.
ونلاحظ أنَّ الموقف الفرنسيَّ يؤكِّد ضرورة التَّقارب مع الأمين العام للأمم المتَّحدة، والتَّعامل معه بإيجابيَّة علنيّة، مع القبول المبدئيّ الإسرائيلي، مع العلم أنَّ الأمم المتَّحدة لا تملك قوَّة فاعلة لتنفيذ قراراتها، بفعل الهيمنة الأمريكيّة عليها، ما قد يؤدِّي إلى تفريغ القرار 425 من كلِّ مضمونه.
إنَّ مهمَّة الأمين العام هي أن يتحرَّك من أجل تنفيذ قرارات الأمم المتَّحدة، لا أن يخضع للضّغوط الإسرائيليَّة الأمريكيَّة لإدخال شروط جديدة عليها. وعلى السلطة اللّبنانيَّة أن تواجه هذه الحربَ السياسيَّةَ الدّبلوماسيَّةَ، بالتَّنسيق مع سوريا ومع البلاد العربيَّة الَّتي لا تزال تقف بحذرٍ ووعيٍ أمام المشاريع الصهيونيَّة في إخضاع العالم العربيّ لنفوذها في المنطقة.
وعلى العرب أن يعرفوا أنَّ ضعف الموقف اللّبناني السوريّ أمام إسرائيل، سوف يتحوَّل إلى ضعفٍ لأيِّ موقع عربيٍّ في السَّاحة السياسيَّة، ما يفرض على الجميع أن ينظروا بجدّيَّة إلى المرحلة الصَّعبة الَّتي يخوضها اللّبنانيون والسوريّون والفلسطينيّون في الواقع السياسيّ الأمنيّ، لأنَّ التاريخ لن يرحم الَّذين يلعبون بقضاياه المصيريَّة.
وفي هذا الإطار، نرحِّب بالقمَّة المصريّة – السوريّة الأخيرة، والقمَّة السوريَّة - اللّبنانيّة الموسَّعة، كبادرة لدراسة الأخطار الَّتي يواجهها الجميع في هذه الحرب السياسيَّة الدبلوماسيَّة الجديدة، الَّتي تعمل إسرائيل على أن تربحها باجتذاب الرأي العالميّ إلى مشاريعها السياسيَّة.
اعتداءاتٌ متواصلةٌ من العدوّ
ولا يزال العدوّ يمارس القصف المتواصل ضدّ المدنيّين، ولا تزال لجنة تفاهم نيسان حائط المبكى الَّذي ينتج التوصيات التقليديَّة من دون نتيجة، بفعل الضّغط الأمريكي الَّذي يمنع أيّ قرارات فاعلة ضدّ العدوّ.
وإنَّنا نقف مع كلِّ أبنائنا وبناتنا في المعتقلات الصهيونيَّة في لبنان وفلسطين، سواء الَّذين اعتقلوا قديماً أو حديثاً ونتذكَّر في الآونة الأخيرة الاعتقالات التعسفيَّة في عيتا الشَّعب، وندعو إلى وقوف اللّبنانيّين جميعاً إلى جانبهم، ونطالب السّلطة بأن تبذل كلَّ جهدها في هذا الاتجاه.
إنَّنا نتطلع في هذه المرحلة الصَّعبة إلى ما يحدث في داخل فلسطين، من حركة السلطة الفلسطينيَّة ضدّ حركة المقاومة الإسلاميَّة حماس، وإثارة الفتنة الدَّاخليَّة، بالاتهامات الباطلة، والاعتقالات الظَّالمة، مما يدخل في ترتيب المخطَّط الصّهيونيّ الأمريكيّ السَّاعي للقضاء على الانتفاضة حاضراً ومستقبلاً، وتصفية أيِّ حركة جهاديَّة. وقد لاحظنا أنَّ رئيس حكومة العدوّ يشيد بهذه الإنجازات الأمنيَّة، ويطالب سلطة الحكم الذَّاتي بالمزيد من ملاحقة المجاهدين واغتيالهم.
إنَّنا نحذِّر هذه السلطة من النَّتائج السلبيَّة لهذه التصرّفات، كما نحذِّر الجميع من الدّخول في لعبة الحرب الدَّاخليَّة الفلسطينيَّة، لأنَّ ذلك لن يكون في مصلحة الشَّعب الفلسطيني، بل يبقى في مصلحة إسرائيل جملةً وتفصيلاً، ولن يبقى لما يسمَّى سلطة الحكم الذَّاتي إلَّا الخزي والعار والسّقوط أمام شعبها والعالم.
* خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 17/04/1998م.