محاضرات
19/10/2024

دعمُ الانتفاضةِ والقضيَّةِ الفلسطينيَّةِ واجبٌ يرتبطُ بالمصير

دعمُ الانتفاضةِ والقضيَّةِ الفلسطينيَّةِ واجبٌ يرتبطُ بالمصير

ربَّما يصاب الإنسان الَّذي يريد أن يتحدَّث في موضوع استهلكَ كلَّ الحديث، وأكاد أقول إنَّه استهلكَ أكثرَ الفكر، لأنَّ الفكرَ لا يُستهلَك، يبقى متجدِّداً يجدِّد الحياةَ ويتجدَّدُ بها. أخشى أن أقولَ إنَّ الإنسان يصابُ بإحباطِ الكلمات، لأنَّه قد يشعرُ بأنَّ الكلمة أصبحت لا تعني شيئاً عندَ قائلِها أو عندَ سامعِها، لفرطِ ما زُيِّفت لدى الطَّرفين معاً. ولكن ماذا نفعلُ عندما نريدُ أن نفكِّرَ بصوتٍ مسموعٍ؛ هل هناك إلَّا الكلمة؟ نحن لا نريد أن نحتقرَها، فهي قصَّةُ الحياةِ كلِّها، في كلِّ رسالاتها، ولكنَّنا نريدُ أن نحملَ مسؤوليَّتها.
العلاقةُ بينَ القضيَّةِ والأرض
في هذا الجوِّ من مرحلة الانتفاضة، قد نحتاجُ أن نطلَّ على الحقيقةِ الأولى في ولادةِ إسرائيل، والَّتي واجهتْها حقيقةٌ أولى في الدَّائرةِ الفلسطينيَّةِ عندما انطلقَتِ الانتفاضة. هناك نوعٌ من الثَّوراتِ في العالم، ومن الحركاتِ في العالم، يتحرَّك بدونِ أرض، وعندَ ذلك، لا يستطيعُ أن يفرضَ نفسَه إلَّا في الجدلِ الفكريّ الَّذي يُثار. ومن هنا، لم يستطع اليهودُ أن يحوِّلوا ما يسمَّى الفكرَ اليهوديَّ إلى ذهنيَّة سياسيّة عالميّة، وإنَّما أعطوا العنوانَ الكبيرَ الغائم الضَّبابيَّ الّذي يتصوَّره النَّاس من خلال ما كانوا يقرأونه في العهدِ القديم، وفي بعض الأبحاث، ركَّزوا على المأساة، وكانوا يخطِّطون لأن يكون لهم أرضٌ في فلسطين، ليواجهوا العالمَ بأرضٍ تفسح المجال للفكر، لا لفكرٍ يمكن أن يصنع للأرض معناها في البداية.
وهكذا بدأت إسرائيل منذ بدأ حجمُ الأرضِ يأخذُ مجالَهُ، وبدأت في كلِّ تمثيليَّة الحرب العربيَّة اليهوديَّة، تعطي لمعنى الأرضِ معنى الاستقلالِ لحسابها، وعاشَ العربُ مدّةً طويلةً خارج الأرض، حتَّى والأرض في أيديهم. كانت الحكومات العربيَّة لا تسمحُ للفلسطينيّين بأن يتحركوا في أرضهم فلسطينيّاً.. الحكم الَّذي حكمَ فلسطينَ ما قبلَ 1967، الحكمُ العربيّ، كان يضطهدُ الفلسطينيَّ الَّذي يقاوم، ولذلك كانَتِ المسألةُ هي أنَّ هناكَ أرضاً لا يرادُ لها أن تحملَ قضيّةً، وأنَّ هناك قضيّةً لا يراد لها أن تتحرَّك في الأرض.
وهذا ما لاحظناه من أنَّ العالم كان يلاحق هذا الجوَّ الخارجيَّ للقضيَّة، لأنَّه ليس هناك جوٌّ في الدَّاخل، واستطاع أن ينتصر عليه.
ثورةٌ تتجذَّر في أرض
عندما انطلقت الحركة الفدائيَّة - ونحن نحترمُ العمليَّات الَّتي حصلت في بدايتها - انطلقت في الخارج، ولم تستمرّ في الدَّاخل، لم تستطع أن تتحوَّل إلى ظاهرة وإلى حركة، فضلاً عن أن تتحوَّل إلى ثورة، حتى جاءت الانتفاضة، فكانت هناك أرض تبحث عن ثورة، وثورة تتجذَّر في أرض.
من خلال هذه النَّقطة، نحاول أن نفكِّر - أيُّها الإخوة - بعيداً من كلِّ هذا الاستهلاك الكلاميّ الَّذي نعيشه، أنَّ لدينا بقيَّةً من أرض، فلنفكِّر، أوَّلاً، كيفَ يمكنُ أن نحافظَ عليها، بأيِّ طريق، لا على أساس تقديم التَّنازلات، لأنَّنا نفكِّر أنَّ مسألة أن تبقى الأرض للفلسطينيِّين هي مسألة أساسيّة جدّاً، يجب أن نحرِّك الفكر السياسيّ في اتجاه البحث عن المنطلقات الَّتي يمكن أن تجذِّر هذه النّقطة. ويحضرني في هذا المجال بعض الأبيات الَّتي قالها الشَّاعر الفلسطيني المبدع إبراهيم طوقان، عندما كان يخاطب الَّذين يخطبون ويتحركون بأساليب غير منتجة:
أيُّها المخلصون للوطنيَّةْ
أيُّها الحاملون عبءَ القضيَّةْ...
إلى أن يقول:
في يديْنا بقيَّةٌ من بلادٍ
فاستريحوا كيلا تطيرَ البقيَّةْ
أن تبقى لنا أرض، وهذا ما تعمل إسرائيل على أن لا يكون، من خلال سياسة المستوطنات، ومن خلال كلِّ أساليبها التعسّفيّة.
إنَّنا نلاحظ نقطة، أنَّ الفلسطينيّين الَّذين يعيشون في حيفا ويافا وغير هذه المناطق، فيما يسمَّى الآن بدولة إسرائيل، لم يفقدوا إيمانهم بكلِّ قضيَّتهم، حتَّى وهم يُعتبرون من النَّاحية القانونيَّة خارج فلسطين الهويَّة السياسيَّة، لكنَّ فلسطين الأرض كانت تمدّهم يومياً حتَّى يولد الطّفل فلسطينياً. ولعلَّكم قرأتم قبل سنة أو سنتين، ما تحدَّث به الإعلام عن أنَّ طلّاباً فلسطينيّين في المراحل الابتدائيَّة، عندما كانوا يُسأَلون، كانوا يعبِّرون عن عداوتهم لليهود، وعن إصرارهم على فلسطينيَّتهم، وهم لم يستهلكوا أيَّ نظريَّة من كلِّ هذه النظريَّات الَّتي لم تستطع أن تتحرَّك في الأرض بعمق، بالرَّغم من أنَّنا نعيش مشكلةَ كيف نجمع بينها، وكيف نبحثُ عن قواسم مشتركة. مسألة إنسانيَّتك الَّتي تغتني بالأرض وبالهواء، تجعلُك تتنفَّس دائماً معنى الحريَّة في كيانِكَ.
لهذا، علينا أن نصرَّ على الانتفاضة، لا الانتفاضة في الضفَّة الغربيَّة وغزَّة، ولكن أن نصرَّ على انتفاضة جنينيَّة ونعمل لها في داخل كلِّ فلسطين.
ولذلك، أتصوَّر أنَّ علينا أن نبحث عن الوسائل الواقعيَّة لذلك، وقد يكون الدَّعم الدَّاخلي يمثِّل شيئاً أساسياً في هذا المجال، حتَّى لا تستعبِدَ النَّاسَ في الدَّاخل حاجاتُهم، لأنَّ مشكلة كلِّ المستضعفين على مستوى الشَّعب أمام حاكمه، وعلى مستوى الدّول المستضعفة أمام الدّول المستكبرة، إنَّ مشكلتهم هي أنَّ حاجاتهم استعبدتهم، النَّاسُ عبيدُ الحاجات، ولذلك نجد أنَّ الاستكبار العالميّ يخلق لنا حاجات جديدة، ويجعلنا نلهث نحو الحصول على حاجاتنا من خلال اقتصاده، ليكون اقتصادُنا جزءاً من اقتصاده. هذه نقطة.
الدَّورُ السَّلبيّ للإعلام
النّقطة الثَّانية الَّتي أحبُّ أن أثيرها في خطابنا السياسي، أو بشكل أدقّ في خطابنا الإعلاميّ، هي أنّنا نلاحظ من خلال كلِّ ما نقرأه يوميّاً، حديثاً متنوّعاً حول مسألة نقاط الضّعف فينا ونقاط القوَّة في العدوّ؛ إنّنا نتحدَّث دائماً عن نقاط ضعفنا، عن التخلّف فينا، عن الجهل فينا، عن الهزيمة، عن التمزّق، عن كلِّ ذلك... بينما نتحدَّث في المقابل، حتَّى حديثاً غير واقعيّ، عن نقاط القوّة في العدوّ، وأنّه يعيش الوحدة، ويعيش الانفتاح على العصر كلِّه، ويملكُ أعلى درجةٍ من التقنيَّةِ ومن العلمِ وما إلى ذلك!... هذا حديثٌ عندما يذكره البعض، يقول إنَّه الحديث الَّذي قد يجرح، ولكنَّه يجعلنا نفهم الواقع، لأنَّه مرَّ علينا وقتٌ كنَّا ممنوعين من أن نقرأ العدوَّ في نقاط قوَّته!
صحيحٌ أنَّنا لا بدَّ من أن نقارن دائماً بين نقاط الضّعف ونقاط القوَّة، لكن لماذا يخيَّل إلينا ونحن نقرأ كلَّ هذا الإعلام ونتابعه، أنَّنا لا نملك عنصر قوَّة؟ حتَّى عندما نثير مسألة الانتفاضة في فلسطين، ومسألة المقاومة في لبنان، صحيح أنَّنا نعلِّق: الانتفاضة أعطت، ولكنَّنا نردف بأنَّ لديها نقطة ضعف هنا، ونقطة ضعف هناك، ومشكلة هنا، وتخلّف هناك، وما إلى ذلك، حتَّى لا تبقى لنا من خلال الانتفاضة أيّ إشراقة في الرّوح يمكن أن تؤكِّد لنا أنَّ لنا وجوداً في ما هو معنى القوَّة في الوجود! وحتَّى عندما نتحدَّث عن المقاومة، في كلِّ فصائل المقاومة، عندما نتحدَّث عنها، نجد أنَّ هناك حديثاً عن سلبيَّات المقاومة أكثر من الحديث عن إيجابيَّاتها، ومحاولة لإيجادِ جوٍّ نفسيٍّ بالتَّفاهة وباللا معنى وباللا فائدة فيما نتحرَّك به!
هذا إعلام لا يقتصر - أيُّها الأحبَّة - على كلامٍ استهلاكيٍّ يستهلكه بعض الخطباء الَّذين لا يملكون الحسَّ السياسيَّ والوعيَ السياسيّ، ولكنَّه ينطلق حتى في حركاتنا أو في تطلّعاتنا الوطنيّة والقوميّة والإسلاميّة.
هذا المعنى لا بدَّ لنا - وأقولها للَّذين يحركون الإعلام، والَّذين يتحركون في أجوائه – من أن ندرس خطاباً إعلاميَّاً يملك المفردات السياسيَّة الواقعيَّة الّتي يمكن أن تطلَّ بنا على نقاط الضّعف، بحيث تبقى نقاط القوَّة مع نقاطِ الضّعف، حتَّى نستطيع أن نواجه المسألة بتوازن نفسي، لأنَّ بعض مشكلتنا الَّتي نعيش، هي أنَّ هناك فاصلاً بين ما هو الفكر فيما نفكِّر، وبين ما هو النَّفس والإحساس والشّعور والتطلّع فيما نحسّ ونشعر ونتطلَّع؛ نفكّر ثوريّاً، ونحسّ انهزامياً. هذا الفاصل هو الَّذي استطاع أن يصنع لدينا كلَّ هذا النَّوع من التحرّك نحو السّكون، ولا أريد أن أقول السّقوط.
مشكلةُ الانهزامِ الفكريّ
هناك ملاحظة في هذا الاتجاه قد تكون أبعد من مسألة القضيَّة الفلسطينيَّة، ولكنَّها تتَّصل بها اتّصالاً مباشراً، وهذه المسألة هي أنَّ التطوَّرات الَّتي حدثت في العالم؛ من سقوط الاتحاد السّوفياتي، ومعه أوروبَّا الشَّرقيَّة، ومعه حرب الخليج، ومعه كلُّ نقاط الضّعف المتناثرة في العالم، كيف واجهناها، فيما يتَّصل بنا على الأقلّ؟ واجهناها بالرّعب الفكريّ الَّذي يطلّ على الرّعب النَّفسي والروحيّ، [نبرِّر بأن] لا فائدة، وبأنَّ أمريكا أصبحت سيِّدة العالم، وأنَّ النّظام الدَّولي أصبح نظاما ًأحاديّاً، ولا بدَّ أن نسير مع النّظام الدَّولي...! وانطلقت الفلسفة الواقعيَّة السياسيَّة لتؤكِّد نفسها من خلال كلِّ هذا الواقع الجديد، ليثبتَ أنَّ على العالم أن يستسلم، وإلَّا...! وقد استخدمها وزير خارجيَّة الولايات المتَّحدة الأمريكيّة، عندما كان يحاور الفلسطينيّين في دخولهم المفاوضات؛ إمَّا أن تدخلوا المفاوضات، وإلَّا ستكونون أكثر الخاسرين. وصدَّقوا ذلك، وهذا هو الَّذي أثَّر في قرارات المجلس الوطني الفلسطيني، أو في خلفيَّة هذه القرارات.
إنَّ المسألة أنّه ينبغي أن يكون هناك بعض الواقعيَّة فيما هو الحديث عن حجم القوَّة، لأنَّ هناك فكراً يُنكِر المطلق، وهناك الَّذين يؤمنون بالمطلق ويرون أنَّ الله وحده هو المطلق، وأنَّ كلَّ نقطة ضعف فيها شيء من القوَّة، وأنَّ كلَّ نقطة قوَّة فيها شيء من الضّعف.
لماذا لا نحاول، ونحن نقول إنَّ أمريكا أصبحت قوَّة، أن نتحدَّث عن نقاط الضّعف في داخل أمريكا، وأن نتحدَّث عن بعض نقاط القوَّة الموجودة المتناثرة في العالم؟ هل تحوَّلت أوروبَّا إلى عالمٍ ثالث؟ وهل تحوَّلت اليابان إلى عالمٍ ثالث؟ وهل فقد الصِّراع معناه على المستوى السياسيِّ والاقتصاديّ؟ وحتَّى الاتحاد السّوفياتي الَّذي سقط، هل معناه أنَّه سقط نهائيّاً؟ من الممكن أن تنطلق روسيا لتكون دولةً تفكِّر بطريقة وبأخرى في صنع القوَّة.
لا أريد أن أدخل في هذه المفردات، لكنّي أريد أن أقول: لماذا نتحدَّث عن المطلق في عالمٍ سياسيٍّ ليس فيه شيء من المطلق؟ لماذا عندما نتحدَّث عن قضايانا، نتحدَّث عن الحدود، حتَّى الحاجز بين غرفة النَّوم وبين الصَّالون، وعندما نتحدَّث عن الآخرين، نتحدَّث عن المطلق، تماماً كما لو لم تكن هناك قوَّة؟!
هذه مسألة في طبيعة الإعلام الَّذي نعيشه هي المسؤولة عن السّؤال الَّذي وجِّه، أنَّه لماذا لم تستطع الانتفاضة أن تنفتح على الواقع الشَّعبيّ، ليكون لدينا شعب الانتفاضة السياسي، من خلال شعب الانتفاضة الجهاديّ؟ الجواب هو أنَّ كلَّ شعوبنا، أو أكثر شعوبنا العربيَّة والإسلاميَّة، تتحرَّك على أساس أن تتغدَّى وتتعشَّى بالإعلام الَّذي يشعرها باللا معنى واللا قوَّة واللا وجود. كان هناك ضعف اختزنته من خلال إسرائيل، فأصبح هناك ضعف بدأت تختزنه من خلال أمريكا، ولا سيَّما عندما نقول إنَّ أمريكا كانت ولا تزال هي الرَّاعية لإسرائيل، لذلك فلا بدَّ لنا من نسلِّم تسليماً مطلقاً. هذا من جهة.
شعبٌ عربيٌّ مصادَر
ومن جهة ثانية، هناك نقطة، وهي - تعليقاً على مسألة الشّعوب -: كم من بلد عربيّ نستطيع أن نقيم فيه مؤتمراً لدعم الانتفاضة، أو أن يُكتَبَ كلامٌ مسؤولٌ في صحفه عن الانتفاضة، حتى الّذين يتصدَّقون على الانتفاضة ببعض أموال نفطهم؟!
هناك نقطة يجب أن نفهمها، وهي أنَّ الشَّعب العربيَّ مصادَر، لا يستطيع أن يخرج بمظاهرة إلَّا إذا صدر مرسوم بهذه المظاهرة، وإذا كان يتحدَّث عن الحريَّة، فإنَّه لا بدَّ أن تكون الحريَّة في دائرة القانون الَّذي لا يؤمن بالحريَّة، حتَّى لو أعطى عنوانها.
هذا - أيّها الأحبَّة - هو المسؤول، الشَّعب العربي يسمع الإذاعات، وممنوع في كثير من البلاد العربيَّة والإسلاميَّة، وربما بلدان العالم الثَّالث، ممنوع حتّى أن يسمع الإذاعة الّتي يحبّ، لا حريَّة له، لأنَّ أجهزة التَّشويش تمنع من أن يسمع خبراً، فضلاً عن أن يسمع تعليقاً.
المسألة في هذه، هي أنَّ الانتفاضة صنعت حدثاً كبيراً في الأمَّة، وشقَّت الطَّريق، ولكنَّ الأمَّة ممنوعة من أن تقف أمام الانتفاضة لتدعمها، ولتعيش معها، ولتدخل ذهنيَّة الانتفاضة، على الأقلّ، في ذهنيَّتها.
مشكلةُ المثاليَّةِ الفكريَّة
ثمَّ إنَّ هذا الأداء الفكريّ لمسألة التنوّع الفكريّ، كان يمثِّلُ المثاليَّةَ الفكريَّة، حتَّى في الأفكار الواقعيَّة... أظنّ - ولا أريد أن أقفَ موقف المتَّهم، لأنَّنا قد نكون بعض المتَّهمين في المسألة - أنَّنا عندما كنَّا نقرأ مصادر فكرنا، كنّا نقرأها في الكتب ولا نقرأها في الواقع، ولذلك، كنَّا ننقل التَّجربة من موقعٍ مختلفٍ عن مواقعنا، باعتبار أنَّ هذه التَّجربة تمثِّل تجربةً ناجحةً في موقعٍ آخر، فلا نعطي لأنفسنا دور حركيَّة التَّجربة، ودور العناصر الواقعيَّة الَّتي تؤطِّر التَّجربة، وتعطيها مضمونها، المهمّ أنّها تجربة قوم نلتقي معهم، فلننقلها!
وهكذا كانت عمليَّة الاستيراد والتَّصدير حتَّى في الفكر. أذكر أنَّ بعض التَّجارب في عهد أحمد بن بلَّة في الجزائر، نقلت التَّجربة اليوغسلافيّة في المجال الزّراعي نقلاً حرفيّاً، وبهذا بدأ الانهيار الاقتصادي الزّراعي. لا أقول إنَّ هذا هو فقط السَّبب، ولكن قد تكون هذه إحدى عوامله، لأنَّ المسألة هي أنَّنا اشتراكيّون، ويجب أن ننقل التَّجربة الاشتراكيَّة، ولكنَّ يوغسلافيا شيء، والجزائر شيء، والمناطق الأخرى شيء آخر. قد تؤمن بخطٍّ عريضٍ للفكرة، ولكنَّ الخطوط التَّفصيليَّة أساسيَّة لنجاح الخطِّ العريض أو لفشله.
لقد كنَّا مثاليِّين في دراستنا لأفكارنا، ونحن نعرفُ أنَّ كلَّ فكرٍ عندما يؤكِّدُ القواعدَ العامَّة، يعتبرُ أنَّ لكلِّ قاعدةٍ استثناءً، وأنَّ الاستثناءاتِ في كلِّ القواعدِ الَّتي يعبِّرُ عنها الأصوليّون بكلمةِ "ما من عامّ إلَّا وقد خُصَّ"، هذه الاستثناءات من أين انطلقت؟ انطلقت من خلالِ أنَّ الَّذين صنعوا القاعدةَ، رأوا أنَّ القاعدةَ ليست واقعيَّة، وليست إنسانيَّة في جميعِ المجالاتِ، فاحتاطوا للواقعيَّةِ والإنسانيَّةِ بالاستثناءاتِ الَّتي وضعوها للقاعدة، ولهذا افترقنا: وطنيّ، وقوميّ وإسلاميّ... وبدأنا نحدِّد الفواصلَ بين هذه [الاتّجاهات]، حتَّى حاولنا أن نوحي للإنسان الوطنيّ بأنَّه لا يمكن أن يكون قوميّاً، وللإنسان القوميّ بأنه لا يمكن أن يكون إسلاميّاً.. قد تكون له وطنيَّة منفتحة، ولكنَّ الأداء في الصِّراع الفكري بهذه الطَّريقة المثاليَّة، يجعله ينغلق على كلِّ مواقع الانفتاح، تماماً كما حدث عندنا في لبنان، حيث تعني الوطنيَّة انعزالاً عن المنطقة كلِّها، عربيَّة أو إسلاميَّة. ولذلك، فقد يكون من الهرطقة والزَّندقة السياسية اللّبنانيّة، أن تطالب بالوحدة العربيَّة التي تضمّ لبنان، وطبعاً الكفر العظيم، أن تطالب بالوحدة الإسلاميَّة الّتي تضمّ لبنان.
بينَ الوطنيَّةِ والانفتاح
لماذا ذلك، أيُّها الأحبَّة؟ المسألة هي أنَّ هناك قواسم مشتركة بين الأشياء، فعندما أكون وطنيّاً، هل معنى الوطنيَّة أن أتَّخذ الوطنَ صنماً؟ أن استغرقَ في جباله وفي أرزه وفي بحره، لتكون هذه كلَّ معنى الوطن، بحيث لا يكون للإنسان دور؟ ربما في لبنان نلاحظ أنَّ الأرزة تتقدَّم على كلِّ معنى إنسانيّ في الوطن، لأنَّ المسألة هي أنّه يُرادُ صنميَّة الوطن الَّتي يستغرق فيها الإنسان فيبتعد عن إنسانيَّته. أنت تستطيع أن تكون وطنياً، تدافع عن أرضك بالمعنى الواقعيّ للوطنيَّة، من دون أن تحملها كإيديولوجيا تعلِّب فكرك، أن تكون حالة طبيعيَّة، وكما يقول الشَّاعر ابن الرومي:
ولي وطنٌ آليْتُ ألَّا أبيعَهُ                     وألَّا أرى غيري له الدَّهرَ مالكا
هذا المعنى العفويّ الَّذي يفهمه الشَّعب؛ وطنك في بيتك، في قريتك، في النَّاس...
وهكذا، عندما تعيش مشكلة الواقع العربيّ، ليس من الضَّروريّ أن تحوِّل عروبتك إلى إيديولوجيا تتحدَّث عن الفواصل بين العروبة والإسلام، هناك عناق بين العروبة والإسلام، في المعنى الإنسانيّ للعروبة، وفي المعنى الإنسانيّ للإسلام، ولكن عندما تأخذ معنى فكريّاً آخر، وتجعله في داخل العروبة، فالَّذين يناقشونك لا يناقشون العروبة، بل يناقشون المعنى الَّذي استعرْته للعروبة ووضعته في داخله. لذلك، كانت المسألة حوار طرشان بين القوميّين والإسلاميّين.
أنا لا أريد أن أميِّع القضيَّة وأبسِّطها وأعتبر أنَّه ليست هناك فواصل، وليست هناك فوارق فكريّة.. حتَّى في المسألة القوميَّة، هناك فواصل بين فكر وفكر للقوميَّة. لكني أريد أن أقول إنَّ هناك فرقاً بين أن تكون هناك فواصل، وبين أن تكون هناك جدران عالية لا تجعل أحداً يطلُّ على الآخر.
الالتقاءُ على إرادةِ المواجهة
ثمَّ هبْنا نختلف في المنحى الوطنيّ، وفي المنحى القوميّ، وفي المنحى الإسلاميّ، ولكن مسألة أن تبقى لي أرض؛ أنا أعيش معك، أيُّها الوطني والقومي والماركسي وأيّ شيء آخر، أنا أعيش معك في الجنوب، سواء كان في بنت جبيل أو مرجعيون أو في أيِّ منطقة أخرى، أنا أعيش معك، بيتي مجاورٌ لبيتك؛ هل يحتاجُ دفاعي عن بيتي وبيتكَ أن نبحثَ ما هي الأسس الفكريَّة الَّتي يمكن أن تجمع بين هذا الاتجاه الفكري والاتجاه هناك؟ الفكرُ هناك هو البندقيَّة وإرادةُ المواجهة.. المقاومة في لبنان، لا في الجنوب فحسب، والانتفاضة في فلسطين، ربما إنّ الكثيرين من هؤلاء المقاومين لم يقرأوا أيَّ كتابٍ، لا في النظريَّة الوطنيّة، ولا الماركسيّة، ولا القوميَّة، ولا الإسلاميَّة، ولكنَّهم شعروا بأنَّ هناك عدوّاً، وأنَّ عداوته تفرض عليهم أن ينطلقوا معاً، وربما كان للمعنى الإسلاميّ في هذه الحركيَّة قوَّة، لأنَّه لا ينطلق من حالة طارئة، وإنَّما ينطلق من حالة عميقة في الوجدان الرّوحي الَّذي يجعل الإنسان يجاهد كما لو كان يصلِّي.
لذلك، فلننزلْ، أيُّها المفكِّرون الَّذين تختلفون في الصَّالونات إلى أرض الواقع.. ونحن لا نريد أن نعفي الفكر من العمق ونبسِّط المسألة الفكريَّة، لكن أقول إنَّ هناك فرقاً بين الفكر في التَّجريد وبين الفكر في حركة الواقع. ركِّزوا قواعد الفكر، ولتنطلق الحركة على أساس الفكر، ولكن لا تخلطوا بين التَّجريد وبين الواقع في مسألة الفكر.
غيابُ الدَّعمِ للانتفاضة
أمام كلِّ هذا الجوّ الَّذي يريد أن يسقطنا تماماً، أمامنا نقطتان في السَّاحة؛ هي نقطة الانتفاضة والمقاومة في الخطِّ الواقعيّ الحركيّ الجهاديّ، وهناك نقطة الرَّفض للاستكبار العالميّ، أيّاً كانت قواعد هذا الرَّفض. لماذا لا نحاول أن ننزلَ إلى الأرضِ لنقفَ كقوَّةِ رفضٍ تؤمن بالمقاومة والانتفاضة؟ على الأقلِّ هذا ما نقوله، ولا ندري هل نحن من الَّذين يقولون شيئاً: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقرة: 14]؟!
الإنسان يحمل على الصحَّة على الصِّدق... إنَّني ألاحظ أنَّ الحركة الوطنيَّة والقوميَّة والإسلاميَّة، كلّ هذه الحركات بشكل عامّ، ليست في مستوى الدَّعم السياسيّ للمقاومة وللانتفاضة.. هناك بعض الوطنيّين والقوميّين، وبعض الَّذين يقولون عن أنفسهم إنَّهم إسلاميّون من خلال الواجهة واللّافتة، هناك من يعملون على أن يسقطوا القضيَّة الكبيرة تحت تأثير المسألة المحليَّة. فلنجرِ استفتاءً لدى كثير من الأجواء السياسيَّة، عن موقفهم العمليِّ الَّذي يتحوَّل إلى موقفٍ حتَّى في المفردات السياسيَّة الَّتي تعيش في لبنان أو في غير لبنان، مما له صلة بالمقاومة أو الانتفاضة: لو تعارضَ الأمرُ بينَ المحلّيّ والقوميّ، بين المحلّيّ والإسلاميّ، فكم في المئة من يغلِّب الشَّأن القوميَّ والإسلاميَّ على الشَّأن المحلّي؟ أنا لا أريد أن أدخل في إحصاءات، لكنّي أخشى أن أقول إنّنا قد لا نستطيع أن نصل إلى العشرة في المئة، وأتكلَّمها بكلام مسؤول. لا أريد أن أتَّهم النَّاس بكلمات الخيانة، ولكنّي أقول إنّي أتّهم نفسي وأتّهم كثيراً من النَّاس في بعض هذه المواقف بالضّعف؛ نحن نضعف أمام حاجاتنا، وأمام الأجهزة الَّتي نعمل فيها، وأمام الصّحف الَّتي نعمل فيها، وما إلى ذلك.
ثمَّ، تُطرَحُ مسألة وحدة قوى الرَّفض، ويُتحدَّث دائماً عن المشاكل، وأنَّ علينا أن نمتدَّ طويلاً حتَّى نبحث ونعقد المؤتمرات لذلك. أنا أقول لكم أنا ضدّ الحديث عن الوحدة، لست ضدَّها من خلال المبدأ، ولكن ضدّ أن نجعلها هي القضيَّة الّتي نتجمَّد عندها.
إنَّ مسألة الوحدة نسبيَّة؛ إذا كان هناك ثلاث قوى للرَّفض، أربع قوى، فلتتَّحد، وننتظر الباقي. لنبدأ من أيِّ وحدة؛ نتحرَّك اثنين أو ثلاثة، على أساس أنَّ هذه الوحدة يمكن أن تعطينا معنى من القوَّة نستطيع أن نتزوَّد بها من خلال حركيَّة قوَّة أخرى.
حتَّى لا تسقطَ القضيّة
أيُّها الإخوة، ما نخشاه، هو أنَّ القضيَّة تسقط عندنا لتبقى التَّفاصيل؛ القضيَّة الإسلاميَّة، القضيَّة القوميّة، حتَّى القضيَّة الوطنيَّة، تتعلَّب في المجال الطائفيّ وفي المجال الضّيعوي وما إلى ذلك، حتى الأحزاب أصبحت عندنا أوطاناً، وحتى الحركات أصبحت عندنا حدوداً. لا أتحدَّث معكم حديث الواعظ، ولكن، كما قلت، لنفكّر بصوت مسموع.
أيُّها الأحبَّة، الاستحقاق كبيرٌ كبير، والقضيَّة الآن ليست كيف تُصنَعُ التَّسوية.. يجب أن نعملَ بالطَّريقة الَّتي إذا لم تسقط التَّسوية، فلا بدَّ أن تضعفها، ولكن ماذا بعد التّسوية؟ ماذا عن شعبنا الَّذي قد تحتويه إسرائيل سلاماً، بعد أن لم تستطع أن تحتويه حرباً؟ نحن نفكِّر الآن بدعم الانتفاضة، وهو حقٌّ كبير، ولكن من خلال روح الانتفاضة وإطلالتها على قضايا الحريَّة، لماذا لا نفكِّر بكلِّ شعوبنا هذه المقهورة في إرادتها وفي كلمتها وفي كلِّ شيء؟ أخشى أنَّ الشَّعب عندما يتحرَّك بعد التَّسوية، ويتحدَّث ويقرأ في القرآن: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ}[المائدة: 82]، سوف تأتيه المخابرات قبلَ الفجر، تماماً كما جاءت المخابرات في بعض الأنظمة العربيَّة، عندما تظاهرَ بعضُ النَّاس أو تحدَّثوا عن رفض التَّسوية.
لذلك، كما نقول، لا بدَّ أن ننفتح على الانتفاضة.. في أيدينا بقيَّة من كرامة، وبقيَّة من حريَّة، وبقيَّة من شخصيَّة، فلنعمل.. لا أقولها نداءً للاستهلاك، ولكنّي أقولها كنداء للتَّفكير، فلنحاولْ أن نفكِّر كيف هو المستقبل لو حدثت التَّسوية، وكيف هي مسألتنا أمام كلِّ قضايانا؛ هل نبقى في خطِّ الأمر الواقع، ننسحب من قضيَّة إلى قضيَّة إلى قضيَّة، حتَّى لا تبقى لنا هناك قضيَّة نفكِّر في الانسحاب منها، أو يفكِّر الآخرون في الضَّغط للانسحاب منها؟
لا بدَّ أن نواجه المسألة بشكلٍ أساسيّ، لأنَّ القضيَّة من القضايا الَّتي تتَّصل بالمصير كلِّه، وقضيَّة المصير من القضايا الَّتي لا تخضع للمجاملة، ولا تخضع للاسترخاء، ولا تخضع لأيِّ شي مما اعتدنا عليه مما يسقط قضايانا.
أعتذر إليكم على هذه الإطالة، وأشكركم على الاستماع، والحمد لله ربِّ العالمين، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* كلمة لسماحته ألقيت في المؤتمر الثَّالث لدعم الانتفاضة - فندق الكارلتون، بتاريخ: 25/12/1991.
ربَّما يصاب الإنسان الَّذي يريد أن يتحدَّث في موضوع استهلكَ كلَّ الحديث، وأكاد أقول إنَّه استهلكَ أكثرَ الفكر، لأنَّ الفكرَ لا يُستهلَك، يبقى متجدِّداً يجدِّد الحياةَ ويتجدَّدُ بها. أخشى أن أقولَ إنَّ الإنسان يصابُ بإحباطِ الكلمات، لأنَّه قد يشعرُ بأنَّ الكلمة أصبحت لا تعني شيئاً عندَ قائلِها أو عندَ سامعِها، لفرطِ ما زُيِّفت لدى الطَّرفين معاً. ولكن ماذا نفعلُ عندما نريدُ أن نفكِّرَ بصوتٍ مسموعٍ؛ هل هناك إلَّا الكلمة؟ نحن لا نريد أن نحتقرَها، فهي قصَّةُ الحياةِ كلِّها، في كلِّ رسالاتها، ولكنَّنا نريدُ أن نحملَ مسؤوليَّتها.
العلاقةُ بينَ القضيَّةِ والأرض
في هذا الجوِّ من مرحلة الانتفاضة، قد نحتاجُ أن نطلَّ على الحقيقةِ الأولى في ولادةِ إسرائيل، والَّتي واجهتْها حقيقةٌ أولى في الدَّائرةِ الفلسطينيَّةِ عندما انطلقَتِ الانتفاضة. هناك نوعٌ من الثَّوراتِ في العالم، ومن الحركاتِ في العالم، يتحرَّك بدونِ أرض، وعندَ ذلك، لا يستطيعُ أن يفرضَ نفسَه إلَّا في الجدلِ الفكريّ الَّذي يُثار. ومن هنا، لم يستطع اليهودُ أن يحوِّلوا ما يسمَّى الفكرَ اليهوديَّ إلى ذهنيَّة سياسيّة عالميّة، وإنَّما أعطوا العنوانَ الكبيرَ الغائم الضَّبابيَّ الّذي يتصوَّره النَّاس من خلال ما كانوا يقرأونه في العهدِ القديم، وفي بعض الأبحاث، ركَّزوا على المأساة، وكانوا يخطِّطون لأن يكون لهم أرضٌ في فلسطين، ليواجهوا العالمَ بأرضٍ تفسح المجال للفكر، لا لفكرٍ يمكن أن يصنع للأرض معناها في البداية.
وهكذا بدأت إسرائيل منذ بدأ حجمُ الأرضِ يأخذُ مجالَهُ، وبدأت في كلِّ تمثيليَّة الحرب العربيَّة اليهوديَّة، تعطي لمعنى الأرضِ معنى الاستقلالِ لحسابها، وعاشَ العربُ مدّةً طويلةً خارج الأرض، حتَّى والأرض في أيديهم. كانت الحكومات العربيَّة لا تسمحُ للفلسطينيّين بأن يتحركوا في أرضهم فلسطينيّاً.. الحكم الَّذي حكمَ فلسطينَ ما قبلَ 1967، الحكمُ العربيّ، كان يضطهدُ الفلسطينيَّ الَّذي يقاوم، ولذلك كانَتِ المسألةُ هي أنَّ هناكَ أرضاً لا يرادُ لها أن تحملَ قضيّةً، وأنَّ هناك قضيّةً لا يراد لها أن تتحرَّك في الأرض.
وهذا ما لاحظناه من أنَّ العالم كان يلاحق هذا الجوَّ الخارجيَّ للقضيَّة، لأنَّه ليس هناك جوٌّ في الدَّاخل، واستطاع أن ينتصر عليه.
ثورةٌ تتجذَّر في أرض
عندما انطلقت الحركة الفدائيَّة - ونحن نحترمُ العمليَّات الَّتي حصلت في بدايتها - انطلقت في الخارج، ولم تستمرّ في الدَّاخل، لم تستطع أن تتحوَّل إلى ظاهرة وإلى حركة، فضلاً عن أن تتحوَّل إلى ثورة، حتى جاءت الانتفاضة، فكانت هناك أرض تبحث عن ثورة، وثورة تتجذَّر في أرض.
من خلال هذه النَّقطة، نحاول أن نفكِّر - أيُّها الإخوة - بعيداً من كلِّ هذا الاستهلاك الكلاميّ الَّذي نعيشه، أنَّ لدينا بقيَّةً من أرض، فلنفكِّر، أوَّلاً، كيفَ يمكنُ أن نحافظَ عليها، بأيِّ طريق، لا على أساس تقديم التَّنازلات، لأنَّنا نفكِّر أنَّ مسألة أن تبقى الأرض للفلسطينيِّين هي مسألة أساسيّة جدّاً، يجب أن نحرِّك الفكر السياسيّ في اتجاه البحث عن المنطلقات الَّتي يمكن أن تجذِّر هذه النّقطة. ويحضرني في هذا المجال بعض الأبيات الَّتي قالها الشَّاعر الفلسطيني المبدع إبراهيم طوقان، عندما كان يخاطب الَّذين يخطبون ويتحركون بأساليب غير منتجة:
أيُّها المخلصون للوطنيَّةْ
أيُّها الحاملون عبءَ القضيَّةْ...
إلى أن يقول:
في يديْنا بقيَّةٌ من بلادٍ
فاستريحوا كيلا تطيرَ البقيَّةْ
أن تبقى لنا أرض، وهذا ما تعمل إسرائيل على أن لا يكون، من خلال سياسة المستوطنات، ومن خلال كلِّ أساليبها التعسّفيّة.
إنَّنا نلاحظ نقطة، أنَّ الفلسطينيّين الَّذين يعيشون في حيفا ويافا وغير هذه المناطق، فيما يسمَّى الآن بدولة إسرائيل، لم يفقدوا إيمانهم بكلِّ قضيَّتهم، حتَّى وهم يُعتبرون من النَّاحية القانونيَّة خارج فلسطين الهويَّة السياسيَّة، لكنَّ فلسطين الأرض كانت تمدّهم يومياً حتَّى يولد الطّفل فلسطينياً. ولعلَّكم قرأتم قبل سنة أو سنتين، ما تحدَّث به الإعلام عن أنَّ طلّاباً فلسطينيّين في المراحل الابتدائيَّة، عندما كانوا يُسأَلون، كانوا يعبِّرون عن عداوتهم لليهود، وعن إصرارهم على فلسطينيَّتهم، وهم لم يستهلكوا أيَّ نظريَّة من كلِّ هذه النظريَّات الَّتي لم تستطع أن تتحرَّك في الأرض بعمق، بالرَّغم من أنَّنا نعيش مشكلةَ كيف نجمع بينها، وكيف نبحثُ عن قواسم مشتركة. مسألة إنسانيَّتك الَّتي تغتني بالأرض وبالهواء، تجعلُك تتنفَّس دائماً معنى الحريَّة في كيانِكَ.
لهذا، علينا أن نصرَّ على الانتفاضة، لا الانتفاضة في الضفَّة الغربيَّة وغزَّة، ولكن أن نصرَّ على انتفاضة جنينيَّة ونعمل لها في داخل كلِّ فلسطين.
ولذلك، أتصوَّر أنَّ علينا أن نبحث عن الوسائل الواقعيَّة لذلك، وقد يكون الدَّعم الدَّاخلي يمثِّل شيئاً أساسياً في هذا المجال، حتَّى لا تستعبِدَ النَّاسَ في الدَّاخل حاجاتُهم، لأنَّ مشكلة كلِّ المستضعفين على مستوى الشَّعب أمام حاكمه، وعلى مستوى الدّول المستضعفة أمام الدّول المستكبرة، إنَّ مشكلتهم هي أنَّ حاجاتهم استعبدتهم، النَّاسُ عبيدُ الحاجات، ولذلك نجد أنَّ الاستكبار العالميّ يخلق لنا حاجات جديدة، ويجعلنا نلهث نحو الحصول على حاجاتنا من خلال اقتصاده، ليكون اقتصادُنا جزءاً من اقتصاده. هذه نقطة.
الدَّورُ السَّلبيّ للإعلام
النّقطة الثَّانية الَّتي أحبُّ أن أثيرها في خطابنا السياسي، أو بشكل أدقّ في خطابنا الإعلاميّ، هي أنّنا نلاحظ من خلال كلِّ ما نقرأه يوميّاً، حديثاً متنوّعاً حول مسألة نقاط الضّعف فينا ونقاط القوَّة في العدوّ؛ إنّنا نتحدَّث دائماً عن نقاط ضعفنا، عن التخلّف فينا، عن الجهل فينا، عن الهزيمة، عن التمزّق، عن كلِّ ذلك... بينما نتحدَّث في المقابل، حتَّى حديثاً غير واقعيّ، عن نقاط القوّة في العدوّ، وأنّه يعيش الوحدة، ويعيش الانفتاح على العصر كلِّه، ويملكُ أعلى درجةٍ من التقنيَّةِ ومن العلمِ وما إلى ذلك!... هذا حديثٌ عندما يذكره البعض، يقول إنَّه الحديث الَّذي قد يجرح، ولكنَّه يجعلنا نفهم الواقع، لأنَّه مرَّ علينا وقتٌ كنَّا ممنوعين من أن نقرأ العدوَّ في نقاط قوَّته!
صحيحٌ أنَّنا لا بدَّ من أن نقارن دائماً بين نقاط الضّعف ونقاط القوَّة، لكن لماذا يخيَّل إلينا ونحن نقرأ كلَّ هذا الإعلام ونتابعه، أنَّنا لا نملك عنصر قوَّة؟ حتَّى عندما نثير مسألة الانتفاضة في فلسطين، ومسألة المقاومة في لبنان، صحيح أنَّنا نعلِّق: الانتفاضة أعطت، ولكنَّنا نردف بأنَّ لديها نقطة ضعف هنا، ونقطة ضعف هناك، ومشكلة هنا، وتخلّف هناك، وما إلى ذلك، حتَّى لا تبقى لنا من خلال الانتفاضة أيّ إشراقة في الرّوح يمكن أن تؤكِّد لنا أنَّ لنا وجوداً في ما هو معنى القوَّة في الوجود! وحتَّى عندما نتحدَّث عن المقاومة، في كلِّ فصائل المقاومة، عندما نتحدَّث عنها، نجد أنَّ هناك حديثاً عن سلبيَّات المقاومة أكثر من الحديث عن إيجابيَّاتها، ومحاولة لإيجادِ جوٍّ نفسيٍّ بالتَّفاهة وباللا معنى وباللا فائدة فيما نتحرَّك به!
هذا إعلام لا يقتصر - أيُّها الأحبَّة - على كلامٍ استهلاكيٍّ يستهلكه بعض الخطباء الَّذين لا يملكون الحسَّ السياسيَّ والوعيَ السياسيّ، ولكنَّه ينطلق حتى في حركاتنا أو في تطلّعاتنا الوطنيّة والقوميّة والإسلاميّة.
هذا المعنى لا بدَّ لنا - وأقولها للَّذين يحركون الإعلام، والَّذين يتحركون في أجوائه – من أن ندرس خطاباً إعلاميَّاً يملك المفردات السياسيَّة الواقعيَّة الّتي يمكن أن تطلَّ بنا على نقاط الضّعف، بحيث تبقى نقاط القوَّة مع نقاطِ الضّعف، حتَّى نستطيع أن نواجه المسألة بتوازن نفسي، لأنَّ بعض مشكلتنا الَّتي نعيش، هي أنَّ هناك فاصلاً بين ما هو الفكر فيما نفكِّر، وبين ما هو النَّفس والإحساس والشّعور والتطلّع فيما نحسّ ونشعر ونتطلَّع؛ نفكّر ثوريّاً، ونحسّ انهزامياً. هذا الفاصل هو الَّذي استطاع أن يصنع لدينا كلَّ هذا النَّوع من التحرّك نحو السّكون، ولا أريد أن أقول السّقوط.
مشكلةُ الانهزامِ الفكريّ
هناك ملاحظة في هذا الاتجاه قد تكون أبعد من مسألة القضيَّة الفلسطينيَّة، ولكنَّها تتَّصل بها اتّصالاً مباشراً، وهذه المسألة هي أنَّ التطوَّرات الَّتي حدثت في العالم؛ من سقوط الاتحاد السّوفياتي، ومعه أوروبَّا الشَّرقيَّة، ومعه حرب الخليج، ومعه كلُّ نقاط الضّعف المتناثرة في العالم، كيف واجهناها، فيما يتَّصل بنا على الأقلّ؟ واجهناها بالرّعب الفكريّ الَّذي يطلّ على الرّعب النَّفسي والروحيّ، [نبرِّر بأن] لا فائدة، وبأنَّ أمريكا أصبحت سيِّدة العالم، وأنَّ النّظام الدَّولي أصبح نظاما ًأحاديّاً، ولا بدَّ أن نسير مع النّظام الدَّولي...! وانطلقت الفلسفة الواقعيَّة السياسيَّة لتؤكِّد نفسها من خلال كلِّ هذا الواقع الجديد، ليثبتَ أنَّ على العالم أن يستسلم، وإلَّا...! وقد استخدمها وزير خارجيَّة الولايات المتَّحدة الأمريكيّة، عندما كان يحاور الفلسطينيّين في دخولهم المفاوضات؛ إمَّا أن تدخلوا المفاوضات، وإلَّا ستكونون أكثر الخاسرين. وصدَّقوا ذلك، وهذا هو الَّذي أثَّر في قرارات المجلس الوطني الفلسطيني، أو في خلفيَّة هذه القرارات.
إنَّ المسألة أنّه ينبغي أن يكون هناك بعض الواقعيَّة فيما هو الحديث عن حجم القوَّة، لأنَّ هناك فكراً يُنكِر المطلق، وهناك الَّذين يؤمنون بالمطلق ويرون أنَّ الله وحده هو المطلق، وأنَّ كلَّ نقطة ضعف فيها شيء من القوَّة، وأنَّ كلَّ نقطة قوَّة فيها شيء من الضّعف.
لماذا لا نحاول، ونحن نقول إنَّ أمريكا أصبحت قوَّة، أن نتحدَّث عن نقاط الضّعف في داخل أمريكا، وأن نتحدَّث عن بعض نقاط القوَّة الموجودة المتناثرة في العالم؟ هل تحوَّلت أوروبَّا إلى عالمٍ ثالث؟ وهل تحوَّلت اليابان إلى عالمٍ ثالث؟ وهل فقد الصِّراع معناه على المستوى السياسيِّ والاقتصاديّ؟ وحتَّى الاتحاد السّوفياتي الَّذي سقط، هل معناه أنَّه سقط نهائيّاً؟ من الممكن أن تنطلق روسيا لتكون دولةً تفكِّر بطريقة وبأخرى في صنع القوَّة.
لا أريد أن أدخل في هذه المفردات، لكنّي أريد أن أقول: لماذا نتحدَّث عن المطلق في عالمٍ سياسيٍّ ليس فيه شيء من المطلق؟ لماذا عندما نتحدَّث عن قضايانا، نتحدَّث عن الحدود، حتَّى الحاجز بين غرفة النَّوم وبين الصَّالون، وعندما نتحدَّث عن الآخرين، نتحدَّث عن المطلق، تماماً كما لو لم تكن هناك قوَّة؟!
هذه مسألة في طبيعة الإعلام الَّذي نعيشه هي المسؤولة عن السّؤال الَّذي وجِّه، أنَّه لماذا لم تستطع الانتفاضة أن تنفتح على الواقع الشَّعبيّ، ليكون لدينا شعب الانتفاضة السياسي، من خلال شعب الانتفاضة الجهاديّ؟ الجواب هو أنَّ كلَّ شعوبنا، أو أكثر شعوبنا العربيَّة والإسلاميَّة، تتحرَّك على أساس أن تتغدَّى وتتعشَّى بالإعلام الَّذي يشعرها باللا معنى واللا قوَّة واللا وجود. كان هناك ضعف اختزنته من خلال إسرائيل، فأصبح هناك ضعف بدأت تختزنه من خلال أمريكا، ولا سيَّما عندما نقول إنَّ أمريكا كانت ولا تزال هي الرَّاعية لإسرائيل، لذلك فلا بدَّ لنا من نسلِّم تسليماً مطلقاً. هذا من جهة.
شعبٌ عربيٌّ مصادَر
ومن جهة ثانية، هناك نقطة، وهي - تعليقاً على مسألة الشّعوب -: كم من بلد عربيّ نستطيع أن نقيم فيه مؤتمراً لدعم الانتفاضة، أو أن يُكتَبَ كلامٌ مسؤولٌ في صحفه عن الانتفاضة، حتى الّذين يتصدَّقون على الانتفاضة ببعض أموال نفطهم؟!
هناك نقطة يجب أن نفهمها، وهي أنَّ الشَّعب العربيَّ مصادَر، لا يستطيع أن يخرج بمظاهرة إلَّا إذا صدر مرسوم بهذه المظاهرة، وإذا كان يتحدَّث عن الحريَّة، فإنَّه لا بدَّ أن تكون الحريَّة في دائرة القانون الَّذي لا يؤمن بالحريَّة، حتَّى لو أعطى عنوانها.
هذا - أيّها الأحبَّة - هو المسؤول، الشَّعب العربي يسمع الإذاعات، وممنوع في كثير من البلاد العربيَّة والإسلاميَّة، وربما بلدان العالم الثَّالث، ممنوع حتّى أن يسمع الإذاعة الّتي يحبّ، لا حريَّة له، لأنَّ أجهزة التَّشويش تمنع من أن يسمع خبراً، فضلاً عن أن يسمع تعليقاً.
المسألة في هذه، هي أنَّ الانتفاضة صنعت حدثاً كبيراً في الأمَّة، وشقَّت الطَّريق، ولكنَّ الأمَّة ممنوعة من أن تقف أمام الانتفاضة لتدعمها، ولتعيش معها، ولتدخل ذهنيَّة الانتفاضة، على الأقلّ، في ذهنيَّتها.
مشكلةُ المثاليَّةِ الفكريَّة
ثمَّ إنَّ هذا الأداء الفكريّ لمسألة التنوّع الفكريّ، كان يمثِّلُ المثاليَّةَ الفكريَّة، حتَّى في الأفكار الواقعيَّة... أظنّ - ولا أريد أن أقفَ موقف المتَّهم، لأنَّنا قد نكون بعض المتَّهمين في المسألة - أنَّنا عندما كنَّا نقرأ مصادر فكرنا، كنّا نقرأها في الكتب ولا نقرأها في الواقع، ولذلك، كنَّا ننقل التَّجربة من موقعٍ مختلفٍ عن مواقعنا، باعتبار أنَّ هذه التَّجربة تمثِّل تجربةً ناجحةً في موقعٍ آخر، فلا نعطي لأنفسنا دور حركيَّة التَّجربة، ودور العناصر الواقعيَّة الَّتي تؤطِّر التَّجربة، وتعطيها مضمونها، المهمّ أنّها تجربة قوم نلتقي معهم، فلننقلها!
وهكذا كانت عمليَّة الاستيراد والتَّصدير حتَّى في الفكر. أذكر أنَّ بعض التَّجارب في عهد أحمد بن بلَّة في الجزائر، نقلت التَّجربة اليوغسلافيّة في المجال الزّراعي نقلاً حرفيّاً، وبهذا بدأ الانهيار الاقتصادي الزّراعي. لا أقول إنَّ هذا هو فقط السَّبب، ولكن قد تكون هذه إحدى عوامله، لأنَّ المسألة هي أنَّنا اشتراكيّون، ويجب أن ننقل التَّجربة الاشتراكيَّة، ولكنَّ يوغسلافيا شيء، والجزائر شيء، والمناطق الأخرى شيء آخر. قد تؤمن بخطٍّ عريضٍ للفكرة، ولكنَّ الخطوط التَّفصيليَّة أساسيَّة لنجاح الخطِّ العريض أو لفشله.
لقد كنَّا مثاليِّين في دراستنا لأفكارنا، ونحن نعرفُ أنَّ كلَّ فكرٍ عندما يؤكِّدُ القواعدَ العامَّة، يعتبرُ أنَّ لكلِّ قاعدةٍ استثناءً، وأنَّ الاستثناءاتِ في كلِّ القواعدِ الَّتي يعبِّرُ عنها الأصوليّون بكلمةِ "ما من عامّ إلَّا وقد خُصَّ"، هذه الاستثناءات من أين انطلقت؟ انطلقت من خلالِ أنَّ الَّذين صنعوا القاعدةَ، رأوا أنَّ القاعدةَ ليست واقعيَّة، وليست إنسانيَّة في جميعِ المجالاتِ، فاحتاطوا للواقعيَّةِ والإنسانيَّةِ بالاستثناءاتِ الَّتي وضعوها للقاعدة، ولهذا افترقنا: وطنيّ، وقوميّ وإسلاميّ... وبدأنا نحدِّد الفواصلَ بين هذه [الاتّجاهات]، حتَّى حاولنا أن نوحي للإنسان الوطنيّ بأنَّه لا يمكن أن يكون قوميّاً، وللإنسان القوميّ بأنه لا يمكن أن يكون إسلاميّاً.. قد تكون له وطنيَّة منفتحة، ولكنَّ الأداء في الصِّراع الفكري بهذه الطَّريقة المثاليَّة، يجعله ينغلق على كلِّ مواقع الانفتاح، تماماً كما حدث عندنا في لبنان، حيث تعني الوطنيَّة انعزالاً عن المنطقة كلِّها، عربيَّة أو إسلاميَّة. ولذلك، فقد يكون من الهرطقة والزَّندقة السياسية اللّبنانيّة، أن تطالب بالوحدة العربيَّة التي تضمّ لبنان، وطبعاً الكفر العظيم، أن تطالب بالوحدة الإسلاميَّة الّتي تضمّ لبنان.
بينَ الوطنيَّةِ والانفتاح
لماذا ذلك، أيُّها الأحبَّة؟ المسألة هي أنَّ هناك قواسم مشتركة بين الأشياء، فعندما أكون وطنيّاً، هل معنى الوطنيَّة أن أتَّخذ الوطنَ صنماً؟ أن استغرقَ في جباله وفي أرزه وفي بحره، لتكون هذه كلَّ معنى الوطن، بحيث لا يكون للإنسان دور؟ ربما في لبنان نلاحظ أنَّ الأرزة تتقدَّم على كلِّ معنى إنسانيّ في الوطن، لأنَّ المسألة هي أنّه يُرادُ صنميَّة الوطن الَّتي يستغرق فيها الإنسان فيبتعد عن إنسانيَّته. أنت تستطيع أن تكون وطنياً، تدافع عن أرضك بالمعنى الواقعيّ للوطنيَّة، من دون أن تحملها كإيديولوجيا تعلِّب فكرك، أن تكون حالة طبيعيَّة، وكما يقول الشَّاعر ابن الرومي:
ولي وطنٌ آليْتُ ألَّا أبيعَهُ                     وألَّا أرى غيري له الدَّهرَ مالكا
هذا المعنى العفويّ الَّذي يفهمه الشَّعب؛ وطنك في بيتك، في قريتك، في النَّاس...
وهكذا، عندما تعيش مشكلة الواقع العربيّ، ليس من الضَّروريّ أن تحوِّل عروبتك إلى إيديولوجيا تتحدَّث عن الفواصل بين العروبة والإسلام، هناك عناق بين العروبة والإسلام، في المعنى الإنسانيّ للعروبة، وفي المعنى الإنسانيّ للإسلام، ولكن عندما تأخذ معنى فكريّاً آخر، وتجعله في داخل العروبة، فالَّذين يناقشونك لا يناقشون العروبة، بل يناقشون المعنى الَّذي استعرْته للعروبة ووضعته في داخله. لذلك، كانت المسألة حوار طرشان بين القوميّين والإسلاميّين.
أنا لا أريد أن أميِّع القضيَّة وأبسِّطها وأعتبر أنَّه ليست هناك فواصل، وليست هناك فوارق فكريّة.. حتَّى في المسألة القوميَّة، هناك فواصل بين فكر وفكر للقوميَّة. لكني أريد أن أقول إنَّ هناك فرقاً بين أن تكون هناك فواصل، وبين أن تكون هناك جدران عالية لا تجعل أحداً يطلُّ على الآخر.
الالتقاءُ على إرادةِ المواجهة
ثمَّ هبْنا نختلف في المنحى الوطنيّ، وفي المنحى القوميّ، وفي المنحى الإسلاميّ، ولكن مسألة أن تبقى لي أرض؛ أنا أعيش معك، أيُّها الوطني والقومي والماركسي وأيّ شيء آخر، أنا أعيش معك في الجنوب، سواء كان في بنت جبيل أو مرجعيون أو في أيِّ منطقة أخرى، أنا أعيش معك، بيتي مجاورٌ لبيتك؛ هل يحتاجُ دفاعي عن بيتي وبيتكَ أن نبحثَ ما هي الأسس الفكريَّة الَّتي يمكن أن تجمع بين هذا الاتجاه الفكري والاتجاه هناك؟ الفكرُ هناك هو البندقيَّة وإرادةُ المواجهة.. المقاومة في لبنان، لا في الجنوب فحسب، والانتفاضة في فلسطين، ربما إنّ الكثيرين من هؤلاء المقاومين لم يقرأوا أيَّ كتابٍ، لا في النظريَّة الوطنيّة، ولا الماركسيّة، ولا القوميَّة، ولا الإسلاميَّة، ولكنَّهم شعروا بأنَّ هناك عدوّاً، وأنَّ عداوته تفرض عليهم أن ينطلقوا معاً، وربما كان للمعنى الإسلاميّ في هذه الحركيَّة قوَّة، لأنَّه لا ينطلق من حالة طارئة، وإنَّما ينطلق من حالة عميقة في الوجدان الرّوحي الَّذي يجعل الإنسان يجاهد كما لو كان يصلِّي.
لذلك، فلننزلْ، أيُّها المفكِّرون الَّذين تختلفون في الصَّالونات إلى أرض الواقع.. ونحن لا نريد أن نعفي الفكر من العمق ونبسِّط المسألة الفكريَّة، لكن أقول إنَّ هناك فرقاً بين الفكر في التَّجريد وبين الفكر في حركة الواقع. ركِّزوا قواعد الفكر، ولتنطلق الحركة على أساس الفكر، ولكن لا تخلطوا بين التَّجريد وبين الواقع في مسألة الفكر.
غيابُ الدَّعمِ للانتفاضة
أمام كلِّ هذا الجوّ الَّذي يريد أن يسقطنا تماماً، أمامنا نقطتان في السَّاحة؛ هي نقطة الانتفاضة والمقاومة في الخطِّ الواقعيّ الحركيّ الجهاديّ، وهناك نقطة الرَّفض للاستكبار العالميّ، أيّاً كانت قواعد هذا الرَّفض. لماذا لا نحاول أن ننزلَ إلى الأرضِ لنقفَ كقوَّةِ رفضٍ تؤمن بالمقاومة والانتفاضة؟ على الأقلِّ هذا ما نقوله، ولا ندري هل نحن من الَّذين يقولون شيئاً: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}[البقرة: 14]؟!
الإنسان يحمل على الصحَّة على الصِّدق... إنَّني ألاحظ أنَّ الحركة الوطنيَّة والقوميَّة والإسلاميَّة، كلّ هذه الحركات بشكل عامّ، ليست في مستوى الدَّعم السياسيّ للمقاومة وللانتفاضة.. هناك بعض الوطنيّين والقوميّين، وبعض الَّذين يقولون عن أنفسهم إنَّهم إسلاميّون من خلال الواجهة واللّافتة، هناك من يعملون على أن يسقطوا القضيَّة الكبيرة تحت تأثير المسألة المحليَّة. فلنجرِ استفتاءً لدى كثير من الأجواء السياسيَّة، عن موقفهم العمليِّ الَّذي يتحوَّل إلى موقفٍ حتَّى في المفردات السياسيَّة الَّتي تعيش في لبنان أو في غير لبنان، مما له صلة بالمقاومة أو الانتفاضة: لو تعارضَ الأمرُ بينَ المحلّيّ والقوميّ، بين المحلّيّ والإسلاميّ، فكم في المئة من يغلِّب الشَّأن القوميَّ والإسلاميَّ على الشَّأن المحلّي؟ أنا لا أريد أن أدخل في إحصاءات، لكنّي أخشى أن أقول إنّنا قد لا نستطيع أن نصل إلى العشرة في المئة، وأتكلَّمها بكلام مسؤول. لا أريد أن أتَّهم النَّاس بكلمات الخيانة، ولكنّي أقول إنّي أتّهم نفسي وأتّهم كثيراً من النَّاس في بعض هذه المواقف بالضّعف؛ نحن نضعف أمام حاجاتنا، وأمام الأجهزة الَّتي نعمل فيها، وأمام الصّحف الَّتي نعمل فيها، وما إلى ذلك.
ثمَّ، تُطرَحُ مسألة وحدة قوى الرَّفض، ويُتحدَّث دائماً عن المشاكل، وأنَّ علينا أن نمتدَّ طويلاً حتَّى نبحث ونعقد المؤتمرات لذلك. أنا أقول لكم أنا ضدّ الحديث عن الوحدة، لست ضدَّها من خلال المبدأ، ولكن ضدّ أن نجعلها هي القضيَّة الّتي نتجمَّد عندها.
إنَّ مسألة الوحدة نسبيَّة؛ إذا كان هناك ثلاث قوى للرَّفض، أربع قوى، فلتتَّحد، وننتظر الباقي. لنبدأ من أيِّ وحدة؛ نتحرَّك اثنين أو ثلاثة، على أساس أنَّ هذه الوحدة يمكن أن تعطينا معنى من القوَّة نستطيع أن نتزوَّد بها من خلال حركيَّة قوَّة أخرى.
حتَّى لا تسقطَ القضيّة
أيُّها الإخوة، ما نخشاه، هو أنَّ القضيَّة تسقط عندنا لتبقى التَّفاصيل؛ القضيَّة الإسلاميَّة، القضيَّة القوميّة، حتَّى القضيَّة الوطنيَّة، تتعلَّب في المجال الطائفيّ وفي المجال الضّيعوي وما إلى ذلك، حتى الأحزاب أصبحت عندنا أوطاناً، وحتى الحركات أصبحت عندنا حدوداً. لا أتحدَّث معكم حديث الواعظ، ولكن، كما قلت، لنفكّر بصوت مسموع.
أيُّها الأحبَّة، الاستحقاق كبيرٌ كبير، والقضيَّة الآن ليست كيف تُصنَعُ التَّسوية.. يجب أن نعملَ بالطَّريقة الَّتي إذا لم تسقط التَّسوية، فلا بدَّ أن تضعفها، ولكن ماذا بعد التّسوية؟ ماذا عن شعبنا الَّذي قد تحتويه إسرائيل سلاماً، بعد أن لم تستطع أن تحتويه حرباً؟ نحن نفكِّر الآن بدعم الانتفاضة، وهو حقٌّ كبير، ولكن من خلال روح الانتفاضة وإطلالتها على قضايا الحريَّة، لماذا لا نفكِّر بكلِّ شعوبنا هذه المقهورة في إرادتها وفي كلمتها وفي كلِّ شيء؟ أخشى أنَّ الشَّعب عندما يتحرَّك بعد التَّسوية، ويتحدَّث ويقرأ في القرآن: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ}[المائدة: 82]، سوف تأتيه المخابرات قبلَ الفجر، تماماً كما جاءت المخابرات في بعض الأنظمة العربيَّة، عندما تظاهرَ بعضُ النَّاس أو تحدَّثوا عن رفض التَّسوية.
لذلك، كما نقول، لا بدَّ أن ننفتح على الانتفاضة.. في أيدينا بقيَّة من كرامة، وبقيَّة من حريَّة، وبقيَّة من شخصيَّة، فلنعمل.. لا أقولها نداءً للاستهلاك، ولكنّي أقولها كنداء للتَّفكير، فلنحاولْ أن نفكِّر كيف هو المستقبل لو حدثت التَّسوية، وكيف هي مسألتنا أمام كلِّ قضايانا؛ هل نبقى في خطِّ الأمر الواقع، ننسحب من قضيَّة إلى قضيَّة إلى قضيَّة، حتَّى لا تبقى لنا هناك قضيَّة نفكِّر في الانسحاب منها، أو يفكِّر الآخرون في الضَّغط للانسحاب منها؟
لا بدَّ أن نواجه المسألة بشكلٍ أساسيّ، لأنَّ القضيَّة من القضايا الَّتي تتَّصل بالمصير كلِّه، وقضيَّة المصير من القضايا الَّتي لا تخضع للمجاملة، ولا تخضع للاسترخاء، ولا تخضع لأيِّ شي مما اعتدنا عليه مما يسقط قضايانا.
أعتذر إليكم على هذه الإطالة، وأشكركم على الاستماع، والحمد لله ربِّ العالمين، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* كلمة لسماحته ألقيت في المؤتمر الثَّالث لدعم الانتفاضة - فندق الكارلتون، بتاريخ: 25/12/1991.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية