هل هناك في مرحلتنا الحاضرة الَّتي تهتزّ فيها كلُّ قضايانا في المنطقة، وكلُّ قضايا الإنسان في العالم، أمام التطوّرات السياسيَّة والأمنيَّة والاقتصاديَّة، هل هناك مجالٌ لحديث الفكر؟!
بعضنا ممَّن تُسقِطُ موقعَه الهزَّات، يحاول أن يتحدَّث عن الفكر بطريقةٍ سلبيَّة في مراحل الأزمات. ولذلك، فإنَّ الأزمة في كلِّ مفرداتها، تنطلق من دون عقلٍ، لتكون الغرائزُ كلَّ ما يغنيها وكلَّ ما يغذِّيها.
قصَّة الفكر قصَّتك، حتّى والبندقيَّةُ في يدك وأنت تواجه بندقيَّةً أخرى، إنّ بندقيَّةً لا تنفتح على فكر يعرف كيف يحرّك رصاصته، هي بندقيَّة تنفتح على الفراغ، وقد تخطئ طريقها.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، أن نفكِّر دائما ًفيما نتنوَّع فيه، عندما تكون المسألة الفكريَّة مسألةً في حركة العقل، أو فيما نختلف فيه، عندما تكون المسألة الفكريَّة حركةً في ساحة الواقع.
القضيَّة هي أن نعرف كيف نفكِّر، أن نخرج من التَّجريد الَّذي يُدخِلنا في المتاهات، وأن نزاوجَ بين حركة العقل في الذَّات، وبين حركة الواقع في السَّاحة، حتَّى نستطيع أن نعطي العقل شيئاً من واقعيَّة الطَّرح، ونعطي الواقع شيئاً من عقلانيَّة الحركة.
بينَ العروبةِ والإسلامِ فكريّاً
لماذا نتحدَّث الآنَ عن مسألةِ العروبةِ والإسلامِ من الزَّاوية الفكريَّة؟
هناك نقطتان قد تفرضان علينا هذا الحديث:
النّقطة الأولى: هي أنَّ انطلاقتنا في الحياة هي حركة أفكارنا في الأفق الَّذي ننطلق نحوه: {ِإنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]. حركتك هي أنت، هي مفردات فكرك عندما تنطلق في ساحة الواقع، من خلال ما تعطيها من كلِّ ذاتك عقلاً وشعوراً وحركةً. لذلك، نحن لا نستطيع أن نفصل بين الواقع الّذي يتحرَّك فيه الإنسان وبين إنسان الواقع، حتَّى الفكر الَّذي نتنوَّع فيه، ليست مسألته فقط هي مسألة مفرداته، ولكن طريقة تمثّله فينا. بعض النَّاس يمثِّل الفكرُ بالنّسبة إليه نسخةَ كتابٍ يضعه في مكتبة عقله، ولا يمثِّل بالنِّسبة إليه حركةً في أسلوب حياة. لذلك، هناك مفكِّرون يستغرقون في فكرهم، دون أن ينفتحوا على ما حولهم في تطلّعات الفكر. لذا، فإنَّ واقعنا هو صورة أفكارنا، فعندما يتحرَّك الفكر في تجرببته في كلِّ مفرداته، ويفشل أو ينجح، فذلك دليلٌ على أنَّه صالح لأن يستمرَّ في الواقع أو لا يستمرّ.
النّقطة الثَّانية: إنَّ مشكلتنا أنَّنا عندما اختلفنا فكراً؛ الفكر القومي والفكر الدَّيني، الإسلام والعروبة، وانطلقنا في خصوصيَّة هذا الاتجاه وذاك الاتجاه، واستغرقنا في داخله بعيداً من كلِّ الآفاق الَّتي يتحرَّك فيها، أمكن للآخرين أن يوظِّفوا هذا الاختلافَ الفكريَّ في إسقاط كلِّ قضايانا في الواقع.
الخلافُ بين الإسلامِ والعروبةِ، صنعَ لنا مشكلةً كبيرةً في العالم العربيِّ، عندما كان العالم العربيُّ يواجه التحدّيَ الاستكباريَّ الأوروبيَّ والأمريكيَّ، وكان من الممكن أن يلتقي الإسلام الحركيّ المنفتح مع العروبة الحركيَّة المنفتحة، في مواجهة هذا الاستكبار ومواجهة مواقعه، ولكنَّ الاستغراق في الخصوصيَّة هنا وهناك، والتركيز على نقاط الخلاف بدلاً من نقاط اللِّقاء، هو الَّذي فتح المعركة بين القوميَّة العربيَّة وبين الإسلام، وبين عبد الناصر وبين الإسلاميّين.
ولا تزال كلّ خطط الدِّراسات الاستراتيجيَّة لدى أجهزة المخابرات الدوليَّة في العالم، تدرس مسألة الاستفادة من هذا التَّمايز بين العروبة والإسلام، أو هذا التنوّع أو الاختلاف بين الاتجاه القومي وبين الاتجاه الدّيني، من أجلِ إيجادِ جوٍّ من الصِّراع الَّذي إذا كانت له مبرّراته الفكريَّة في المطلق، فإنَّه لا يملك مبرّراته الواقعيَّة في السَّاحة، ولو على مستوى المرحلة، لأنَّ مسألة أن يكون الإسلام هو صورة السَّاحة، أو تكون القوميَّة هي صورة السَّاحة، هي مسألةٌ تفرض عليك أن تملك السَّاحة، أمَّا إذا كانت السَّاحة ليست بيدك، سواء السَّاحة في بعدها الجغرافيّ، أو في بعدها السياسيّ، أو ما إلى ذلك، فإنَّ القضيَّة عند ذلك هي أن تنطلق المسألة القوميَّة لتعرف دورها في السَّاحة الَّذي تتكامل فيه مع المسألة الإسلاميَّة، والعكس صحيح.
من هنا، نحبُّ، أيُّها الإخوة، في هذه الإطلالة الفكريَّة على الموضوع، ولا أسميها البحث الفكريّ، أن نحدِّد الكلمات، لأنَّ بعض ما يثقلنا في الحوار الفكريّ، أنَّنا قومٌ نستهلك الكلمات دون أن نحدِّدها، وبذلك قد نكتشفُ في ساحةِ الحوارِ، أنَّ كلَّ إنسانٍ يفهمُ الكلمةَ على طريقتِهِ الخاصَّة، فينفي هذا ما لا يُثبِته ذاك، ويُثبِتُ هذا ما لا ينفيه ذاك.
تحديدُ معنى الإسلام
هناك كلمات: الإسلام، العروبة، القوميَّة... بالنِّسبة إلى "الإسلام"، هناك عدَّة تصوّرات لهذه الكلمة، فهناك التصوّر الَّذي يعطي الإسلام مدلوله الذَّاتي، بأنَّه وحي الله الَّذي ينطلق من فكرٍ كانت مفرداته في كلِّ مجالاتِ الكونِ والحياةِ تمثِّلُ الحقيقة، وإن كان الاجتهادُ يتنوَّعُ في فهم هذه الحقيقة، فهو يمثِّل العقيدة والشَّريعة والأسلوب والمنهج والحركة، ولكلِّ واحدةٍ من هذه تفاصيل.. هو مسألة فكريَّة تتحدَّد مفرداتها بطريقةٍ موضوعيَّةٍ واقعيَّة.
وهذا الإسلام في تصوُّر بعض النَّاس، يمثِّل حركةً في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني، بحيث يمكن أن يطرح نفسه على أساس أن يكون صورةَ الحياة، أو تكون الحياةُ على صورته، في أسلوبٍ حركيٍّ يدرس طبيعةَ هذه الحركةِ في مفاصلِها، بينَ عنفٍ يواجهُ عنفاً، وبينَ رفقٍ ينفتحُ على كلِّ مواقع الرّفق في الحياة، وما إلى ذلك.. هو الإسلام الحركيّ الَّذي يدخل السَّاحة السياسيَّة المنفتحة على كلِّ مواقع السَّاحات الأخرى للتَّنظيم الاجتماعيّ من أوسع أبوابه.
هناك بعض النَّاس يفكِّرون بهذه الطَّريقة، ويتصوَّرون أنَّ هذا هو الإسلام، من خلال طبيعة الاجتهاد في فهمه، ومن خلال طبيعة التَّجربة الحركيَّة في عهد الدَّعوة الأولى، وما إلى ذلك.. كان هناك إسلام حركيّ، حتى الصَّلاة كانت تضجّ بالحركيَّة في داخل المصلَّى، وحتَّى المسجد كان ساحة السِّلاح، كما هو ساحة الإعداد للسِّلاح وتجميع السِّلاح، كما هو ساحة الموعظة والصَّلاة والنَّصيحة، وما إلى ذلك، لأنَّ المسجد هو صورة الإنسان، والإنسان ليس بعداً واحداً، ففي الإنسان تطلّعات الروح، وفيه حاجةُ المادَّة، وفيه حركةُ الصِّراع، وفيه كلُّ مفرداتِ الحياة الَّتي ينطلقُ فيها. لذلك، كان المسجدُ على صورةِ الإنسانِ؛ صلاةً، وحديثا ًعن كلِّ قضايا الإنسان اليوميَّة وقضاياه العامَّة، وحديثاً عن الجهاد، وحديثاً عن الحكم وعن حركة الواقع.
الإسلامُ كمسألةِ إيمان
بعضُ النَّاس يتصوَّرون الإسلامَ بهذه الطَّريقة، وبعضُهم قد لا يتصوَّره هكذا، فالتَّجربة عندَ هؤلاء - كما يقولون - ليسَتْ هي الخطَّ الاستمراريّ، بل إنّها كانت نتيجة ظروف، ولم تكن خطّاً يتحرَّك في المطلقِ في ساحةِ الحياة.. الإسلام – عند هؤلاء - هو مسألةُ إيمانِ، ومسألة مظهرٍ لهذا الإيمان، ومسألة ذهنيَّة تنفتح على النَّاس وعلى الحياة بأخلاقيَّاتها.. لذلك، ليست هناك علاقة بين الإسلام وبين الحكم، وليست هناك علاقة بين الإسلام وبين حركة الاقتصاد، وما إلى ذلك من تنوّعات حاجات الإنسان وجوانبه في الحياة.
بعض النَّاس يرتاحون إلى هذه الفكرة، لأنَّها تجنّبهم الصِّراع، وتجعلهم يعيشون حياتهم باسترخاء، وينطلقون من هروبٍ إلى هروب، وربَّما ينطلق بعضهم ليحرِّم الجهاد، وربَّما ينطلق بعضهم ليقول بأنَّ القوَّة عندما تكون كبيرة، فالله يقول: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. وهذه مواقع عرفناها في كثيرٍ من مواقع الإفتاء في عالمنا الإسلامي من وعَّاظ السَّلاطين.
الإسلام كحالةٍ حضاريَّة
وهناك مصطلح عن الإسلام بأنَّه حالة حضاريَّة في الأمَّة، أنَّ الإسلام هو هذا الهيكل المركَّب من ذهنيَّة الغيبيَّة في مسألة الإيمان، والمركَّب من تجربة الإنسان في اتجاه حركة هذه الذّهنيَّة في الواقع، ومن التَّفاعل الَّذي عاشه الإنسان بين تجاربه الفكريَّة الثَّقافيَّة وتجارب الآخرين في مسألة المعرفة، حيث كوَّنت ذهنيَّةً حضاريَّة عاش فيها كلّ النَّاس الذين عاشوا في المجتمع الإسلاميّ، بحيث أصبح المسيحيُّ حضاريَّاً مسلماً، وأصبح اليهوديُّ حضاريّاً مسلماً، وأصبح هناك الكثيرون ممن لا يدينون حتَّى بالله، مسلمين حضاريَّاً. بعض الناس يتحدَّث عن الإسلام الحضارة بعيداً عمَّا هو الحديث عن الإسلام الانتماء والالتزام والممارسة والحركة في اتجاه محدَّد.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما نريد أن نطرح الحديث عن أيِّ نوعٍ من أنواع المقارنة بين الإسلام وبينَ غيره، فلا بدَّ لنا أن نتحدَّث عمَّا نريده بكلمة الإسلام. بعضُ النَّاسِ الَّذين يتحدَّثون عن الدِّين، ويشملون الإسلام فيما يشملونه والسِّياسة، إنّما يتحدَّثون عن مفهومٍ للدِّين قد يختلف عن مفهومٍ آخر، هو مفهومُ العلاقة بين الإنسان وربِّه...
وهكذا نجد الَّذين يتحدَّثون عن الصِّراع بين الدّين وبين العلم، قد يتحدَّثون عن حالة تاريخيَّة عاشها الدّين في بعض مراحل التخلّف، من خلال ما تبنَّاه بعض رجال الدِّين في هذا الموقع أو ذاك من أفكار فرضوها على الدّين.
مشكلة الكثيرين من النَّاس، ولا سيَّما من المثقَّفين، أنَّهم أخذوا مفهومهم عن الدِّين فيما درسوه في جامعات الغرب. أنا أعرف كثيراً من المثقَّفين، وقد يكون بعضهم مثقَّفاً إسلاميّاً، ينطلقون في مصادر المعرفة لديهم في فهمهم للإسلام من خلال مصادر الاستشراق، أو المصادر الأخرى المكتوبة بلغة غير عربيَّة من مفكّرين غربيّين، وتراه وهو عربيّ، إذا أراد أن يقرأ آيةً قرآنيّةً، يقرأها مترجمة بالفرنسيَّة أو بالإنكليزيَّة، ولا يكلِّف نفسه أن يقرأها في القرآن.
لذلك، قد تكون المسألة أنَّنا بحاجة إلى نحدِّد مفهومنا للدِّين وللإسلام، قبل أن نطلق الحكم الكلّيّ سلباً أو إيجاباً، حتَّى لا نغرق في اللَّاعلميَّة ونحن نتحدَّث بلغة علميَّة.
مفهومُ العروبة
أمَّا "العروبة"، فهناك نوعان من الفهم لمسألة العروبة.
العروبة هي حالة إنسانيَّة ككلِّ الحالات الإنسانيَّة الأخرى، كالزّنوجة، أو الفارسيَّة، أو التركيَّة، أو أيّ حالة إنسانيَّة تنطلق من خلال عنصر اللّغة في الواجهة، وعنصر الأرض، مع بعض المزيج من العادات والتَّقاليد والذّهنيَّات وشيء من التَّاريخ الموحَّد، هي حالة إنسانيَّة تملك خصائص معيَّنة، قد تكون إيجابيَّة في بعض مواقع هذه الحالات، وقد تكون سلبيَّة، ولكنَّها تنفتح على المسألة الإنسانيَّة في طبيعة انتمائها للإنسان، باعتبار أنَّها خصوصيَّة من خصوصيَّاته. ونحن نعرف أنَّ الخصوصيّة لا تنفي العموميَّة، وإنما تؤكّدها عندما تتجمَّع في عدة مواقع للعموميَّة.
وهذه المسألة من الوجهة الإسلاميَّة هي مسألةٌ ينفتح عليها الفكر الإسلاميّ، ويتكاملُ معها كما يتكامل مع غيرها.
العروبةُ كحالة إنسانيَّة، هي هذا الإنسان الَّذي يعيش ضمن عناصر متنوّعة، وينفتح على الفكر في أيِّ مجال من المجالات، لينتمي إليه، أو لينفتح عليه، أو ما إلى ذلك.. إنَّ القرآن الكريم يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[الحجرات: 13]، أي أنَّ الإسلام يعترف بأنَّ هناك شعوباً، فالإنسان ليس واحداً، وتعدّديّة الشّعوب هي تعدّديّة الخصائص، وهكذا تعدّديَّة القبائل.
إنَّ الإسلام لا يلغي للإنسان خصوصيَّته.. أنت فرد، لك حالاتك الذَّاتيَّة فيما تتجمَّع من عناصر الذَّات، أنت ابن عائلة، أنت شيء في الجغرافيا، أنت شيء في الهيكل السياسيّ، أنت جزءٌ من أمَّة، أنت جزءٌ من إنسان... إنَّ كلَّ هذه الخصوصيَّات هي روافد الإنسانيَّة الَّتي تنفتح على البحر الكبير، ويستمدُّ منها البحر الكبير كلَّ ما هناك.
لذلك، الإسلام لا يلغي خصوصيَّتك، أن تتحسَّس إنسانيَّتك كعربيّ، حتَّى الخصوصيَّة الوطنيَّة لا يلغيها، أن تتحسَّس خصوصيَّتك كلبناني، كسوريّ... بعيداً من كلِّ هذه الحدود، وأقصد خصوصيَّة الأرض الَّتي تعيش فيها، بعيداً من مسألة اعترافك بهذه الصّيغة الرسميَّة أو تلك الصّيغة الرّسميّة.
العروبة، في هذا المجال، تمثِّل بالنِّسبة إلى الإسلام عمقاً في التَّاريخ، فالتَّاريخ العربيّ في أغلب مواقعه وحركته، هو تاريخ الإسلام، كما أنَّ العروبةَ تجد أنَّ تاريخ الإسلام هو تاريخها في مجملِ حركتها.
وهكذا عندما نتحدَّث عن ذهنيَّة الإنسان العربي، فإنَّنا نجد أنَّه في إحساسه الحضاريّ، وفي مفردات هذه الذّهنيَّة، تعتبر في عمقها ذهنيَّة إسلاميَّة، حتَّى بالطَّريقة اللاشعورية، حتَّى المسيحي العربيّ ربما يختزن في ذاته أفكاراً إسلاميَّة، في إحساسه الَّذي يمتصُّ هذه الأفكار امتصاصاً، بقطع النَّظر عن المعادلات الفكريَّة في هذا المجال.
قد يفهم النَّاس العروبةَ بهذه الطّريقة، وهي الَّتي تمثّل المضمون الإنسانيّ الطبيعيّ لمسألة العروبة.
العروبةُ في الفكرِ القوميّ
وربما ينطلق بعض النَّاس ليفهموا قضيَّة العروبة قضيَّةً في الإيديولوجيا، في الفكرة؛ إنَّها الّتي تمثِّل الفكر القوميَّ في خصوصيَّة العروبة، كما هو الفكر القوميّ في خصوصيّات أخرى.
ومن الطبيعيّ أنَّ الفكر القوميَّ في أيّ موقع من مواقعه، لم ينطلق من الدّين، فهو في قاعدته الفكريَّة فكر علمانيّ، لا يحمل عناصر الدّين في أسسه، وإن كان قد يلتقي بالدّين في بعض ساحاته. قد يعتبر أنَّ هذا الدِّين أو ذاك يمثِّل بعض عناصر الشخصيَّة القوميَّة، أو بعض مؤثِّرات الشخصيَّة القوميَّة، ولكنَّه لا ينطلق منها.
ثمَّ عندما ينفتح هذا الفكرُ القوميُّ من خلال الإحساس القوميّ الَّذي يستغرق في الأرض، ويستغرق في هذه العناصر استغراقاً، قد ينحرف بعض القوميِّين، ليبتعدوا عن الإحساس بالإنسان الَّذي يعيش في حركة هذا الواقع، في تطلّعاته، وفي أفكاره، وفي مجالاته العمليَّة، لأنَّ هناك استغراقاً في العناصر الَّتي يتألَّف منها هذا الوجود القوميّ في الإنسان، أكثر من الاستغراق في المسار الفكريّ الَّذي يتحرَّك فيه الإنسان، أو الجوانب الشّعوريَّة الَّتي يختزنها هذا الإنسان.
إنَّ هذه المسألة تعتبر مسألة مهمَّة، لأنَّ مسألة أن تفكِّر بطريقةٍ قوميَّةٍ مختنقة، تستهدي فيها خطوطَ الفكر القوميِّ في العالم، وتنسى خصوصيَّة النَّاس الَّذين يمثِّلون قوميَّتك في السَّاحة، إنَّكَ بذلكَ تنقلُ تجاربَ أخرى في حركةِ الفكرِ القوميِّ أو في حركةِ الممارسةِ القوميَّة، إلى موقعٍ لا يتناسبُ معَ هذه التَّجربة، لأنَّك عندما تنظرُ إلى مواقعِ اللِّقاءِ بينَ النَّاسِ في العناصرِ القوميَّة، فعليكَ أن تنظرَ، وأنتَ تخطِّطُ في عناصر مواقع اللِّقاء أو الخلاف، في العناصر الفكريَّة والشعوريّة والعمليَّة، إذا صحَّ التَّعبير في هذا المجال، لترى فيها مسألةً لا بدَّ أن تضعها في حساباتك، عندما تريد أن تنطلق من موقع الفكر القوميّ، أو من موقع قوميَّتك في التَّخطيط لحياة هذا الإنسان في الواقع.
هناك أناسٌ ينطلقون في المسألة القوميَّة ربما بعيداً من المسألة الإنسانيَّة، فقيمة قضايا الإنسان في العالم بقدر ما ترتبط بالمصلحة القوميَّة، أمَّا عندما لا ترتبط هذه المسألة بالمسألة القوميَّة، فإنَّ القضيَّة قد تكون لدى بعض هؤلاء النَّاس شعوراً باللامبالاة أمام تلك المسألة.
ولهذا، لا بدَّ أن نفكِّر في هذا المجال في مصطلح القوميَّة وفي مصطلح العروبة، لنرى أيَّ مصطلح نختار عندما نريد أن نتحدَّث عن العروبة والإسلام، وعن القوميَّة والإسلام، فقد نكتشف أنَّ هناك فرقاً أساسيّاً بين القاعدة الفكريَّة الَّتي ينطلق منها الفكر القوميّ، والقاعدة الفكريَّة الَّتي ينطلق منها الفكر الإسلاميّ أو الفكر الدّيني.. والاختلاف في القاعدة الفكريَّة، فيما هي الأسس الّتي تركِّز هيكليَّة الفكر هنا وهيكليَّة الفكر هناك، لا تمنع من وجود لقاءاتٍ في هذا الجانب وفي ذلك الجانب.
أزمةُ الأقلّيّات
ثم إنَّ هناك نقاطاً لا بدَّ أن نثيرها في هذا المجال، وقد قلت في بداية حديثي إنَّنا نحاول أن نقوم بإطلالة فكريَّة على ساحة هذا التنوّع، ولسنا في مجال بحثٍ فكريٍّ يحاول أن يثير الحجج في السَّلبيَّات والإيجابيَّات هنا..
هناك نقاط لا بدَّ أن تثار في السَّاحة في حركة هذا الحوار، وهي أنَّ الفكر القوميَّ في كثير من الحالات، في منطقة من المناطق، كما هو الفكر الإسلاميّ، قد يسجِّل كلُّ فريقٍ على الآخر نقطةً بأنَّه يلغي الأقليَّات في داخله.. الَّذين يفكِّرون قومياً، في المنطقة العربيَّة على الأقلّ، يعتبرون أنَّ في طرح الإسلام مشكلةً، وهي مسألة الأقليَّات الدّينيَّة في الواقع الإسلاميِّ في المنطقة الإسلاميَّة أو العربيَّة، ولذلك، فإنَّ مسألة الأقليَّات التي لا ترى لها موقعاً في مراكز القيادة، إذا كانت ترى لنفسها مواقعَ في المجالات الأخرى، قد يبعدُها عن التَّفاعل مع القضايا العامَّة للأمَّة، وبذلك تخسر الأمَّة - ونقصد الأمَّة العربيَّة - فريقاً من داخل مجتمعها لا يتعاطف معها، بل ربما يسخَّر لضرب قضاياها، باعتبار أنَّ قضاياها العربيَّة وقضاياها الإسلاميَّة لا تهمُّ غير المسلمين.
إنَّ هذه المسألة الَّتي تدعو بعض الَّذين يفكِّرون قوميّاً للانطلاق في المسألة القوميَّة على حساب المسألة الإسلاميَّة، قد يلتقون فيها أيضاً كقوميّين العرب، كما يلتقون الآن في الأقلّيات القوميَّة، فهناك في بلاد العرب أكراد، والقوميَّة الكرديَّة تعتبر من القوميَّات الكبرى الَّتي بدأت تهزُّ الواقع العربيّ، سواء من خلال الدَّاخل أو الخارج، وهناك التركمان، وهناك الأشوريُّون، وهناك فئاتٌ أخرى غير عربيَّة موجودة في الواقع العربيّ... إنَّ القوميَّة العربيَّة الَّتي هربَتْ من مشكلةِ الأقليَّات الدِّينيَّة من طرح الإسلام، تلتقي في مشكلة الأقليَّات القوميَّة.
في هذا المجال، لا بدَّ من الدّخول في حوارٍ موضوعيٍّ هادئٍ في هذا المجال عن مشكلة الأقليّات، ونحن نعرف أنَّ مشكلة الأقلّيات مشكلة عالميَّة ومشكلة إنسانيَّة في كلِّ مجتمع فيه أكثريّة وأقليّة، سواء كانت هناك أكثريَّة وأقليَّة على المستوى السّياسيّ - وهذا لا يمثِّل مشكلة كبيرة في العالم، على الأقلّ في غير العالم الثَّالث - أو على المستويات الأخرى.
وهناك مشكلة أقليَّات موجودة في العالم؛ أقليَّات عرقيَّة وقوميَّة ودينيَّة، وما إلى ذلك، فعندما لا نستطيعُ إيجادَ مجتمعٍ صافٍ يملكُ صفاءَ الدَّمِ وصفاءَ العرقِ واللَّونِ والفكرِ، فكيفَ يمكنُ أن نُوجِدَ مجتمعاً؟! إنَّ علينا أن نواجه المشكلة، بأن نهربَ منها إلى أن نوزِّع العالم دولاً متعدِّدة تبعاً للتنوّع الموجود في داخلها... إنّها مشكلة تواجه الإسلاميّين والقوميّين، كما تواجه كثيراً من دول العالم الَّتي تضع لنفسها عنواناً يمكن أن لا ينسجم في لونه أو صفته مع بعض العناوين الموجودة في الواقع.
الاعترافُ بالاختلافِ الفكريّ
إنَّ المسألة، أيُّها الأحبَّة، هي أنَّ علينا أن نحدِّد المفردات، وأن لا نبحث عن التَّوفيقيَّة غير الواقعيَّة. فعندما نختلف في قاعدة الفكر، فعلينا أن نعترف بالخلاف، لأنَّك قد تستطيع أن تقوم بعمليَّة تكاذب في السّياسة، ولكن لا معنى لأن تكون هناك عمليَّة تكاذب في الفكر.. لا بدَّ لنا عندما نريد أن نبحثَ التنوّعَ الفكريَّ، أن نبحثَ عن قاعدتِهِ هنا وهناك، ومن خلالِ القاعدة، نُطلُّ على الدَّرب، ونُطلُّ على الإنسان، ونُطلُّ على الأفق، وعلى كلِّ مواقع اللِّقاء ومواقع الخلاف، لأنَّ القضايا الَّتي لا تنطلق من وعيِ القاعدة، أو من وعيِ الإنسان لقاعدتِهِ، تجعلُ حركتَهُ تنطلقُ من الحالات الطَّارئة الَّتي يمكن أن تتبدَّلَ بينَ وقتٍ وآخر.
هذه المسألة قد تعفينا من كثيرٍ من الجدلِ البيزنطي، ومن كثيرٍ من حالةِ اللاتفاهم المنطلقةِ منْ حالةِ عدمِ الفهم، لا من حالةِ عدمِ التوصّل إلى إقناع بعضنا لبعض.
إنَّ المسألة الَّتي تلحُّ علينا بعد هذه الإطلالة على المفردات الفكريَّة، هي أنَّ علينا أن نعترف بأنَّ هناك اتجاهين في العالم العربيّ والإسلامي على الأقلّ، هو الاتجاه العروبيّ المنطلق من الحالة الإنسانيَّة العامَّة، أو الاتجاه العروبيّ المنطلق من الفكر القوميّ المرتكز على أسس معيَّنة، وأنَّ هناك اتجاهاً إسلاميّاً يبحث عن السَّاحة لتكون السَّاحةُ صورةً له، كما تبحث القوميَّة عن السَّاحة لتكون السَّاحةُ صورةً لها. هذا واقع نعيشه؛ نعيشه في طريقتنا في التَّفكير، ونعيشه في طريقتنا في التَّخطيط السياسي والحركة السياسيَّة.
المسألة الّتي تطرح نفسها في هذا المجال، أنَّ الغرق في الجدل الفكريّ، بحيث يكون هو الأساس في عمليَّة الانفتاح أو عمليَّة الحركة، يعني أنَّنا سنبقى في الغرف المغلقة، أو في مواقع الإعلام، نتحدَّث ونتحدَّث، ويبقى الحديثُ ينتظر مائة سنة حتَّى نقتنع أو لا نقتنع، لأنَّ المسألة ليست هي خصوصيَّة الفكرِ الإسلاميِّ أو الفكرِ الدِّيني أو الفكرِ القوميِّ، ولكنَّها خصوصيَّةُ الفكرِ الإنسانيِّ الَّذي يعيشُهُ الإنسان، بحيث قد لا تستطيع أن تجد هناك مجالاً لوحدة إنسانيَّة في الفكر.
الفكرُ الإنسانيّ
وفي هذه المناسبة، أحبّ أن أعلِّق على نقطة، في ما درجنا عليه من التَّعبير.. هناك حديث عن فكر عربيّ، أو عن فكر قوميّ، أو عن فكر فارسيّ، أو عن فكر غربيّ... إنَّنا نربط الفكر بالقوميَّة، أو نربط الفكر بالأرض.
الواقع، لا معنى لأن يكون هناك فكرٌ قوميٌّ أو فكرٌ جغرافيٌّ وطنيٌّ أو إقليميٌّ أو ما إلى ذلك، هناك فكرٌ إنسانيّ، وحتّى الفكر الإسلاميّ، فيما يفكِّر به المسلم، هو فكرٌ إنسانيّ، باعتبار أنَّه ينطلق من خلال ذاتيَّات اجتهاده، أو من خلال موضوعيَّة مفردات الاجتهاد عندَه، من أجلِ أن يفهمَ الإسلامَ بهذه الطَّريقة أو بتلك الطَّريقة.
وهكذا، هناكَ قضيَّة الفكرِ الَّتي تنطلق من خلالِ تأمّلاتِ الإنسانِ، والعربيُّ عندما يتأمَّلُ، لا يتأمَّلُ بعروبته، ولكنَّه يتأمَّلُ بإنسانيَّته، من خلالِ تفاعلِ فكرِهِ الإنسانيِّ مع فكرٍ آخر.
قد تكونُ بعضُ مفرداتِ الواقعِ مجالاً لأن يفكِّر فيها هذا الإنسان أو ذاك الإنسان، قد يفكِّر الإنسان العربيّ من خلال تأثّره بفكرٍ غربيّ، أو من خلال تأثّره بفكرٍ إسلاميّ أو مسيحيّ، أو ما إلى ذلك، باعتبار ما تعيشه مفردات الفكر هنا وهناك.
لذلك، أن نتحدَّث عن عقلٍ عربيّ فيما هي خصوصيَّة العقل، فهذا كلام غير صحيح؛ هناك عقل العرب عندما يتأثَّرون، وهناك عقل الفرس، وهناك عقل الترك، وما إلى ذلك.. ليس هناك عقل عربيّ، هناك عقلٌ إنساني قد تدخل فيه بعض الخصائص الموجودة في الواقع العربي أو في التّراث العربي المستمدَّة من أفكارٍ أخرى، أو من حضاراتٍ أخرى، أو أوضاعٍ أخرى.
هذه ملاحظةٌ أحببْتُ أو أوردَها، كما كنْتُ دائماً أردِّد الحديث عن رفضِ الكلامِ عن المبادئِ المستوردة.. كانوا يتحدَّثون عن الماركسيَّة أنَّها مبدأ مستورد، وعن الاشتراكيَّة أنَّها مبدأ مستورد، وعن الوجوديَّة، وما إلى ذلك... أنا لا أفهم أن تنطلق المبادئ في مجال الاستيراد والتَّصدير؛ المبادئ، كلُّ المبادئ في العالم، هي مبادئ تنطلق من إنسانيَّات، المبدأ ليس شيئاً يمكن أن يضمَّه مكانٌ أو يحصره زمانٌ، ولكنَّها كلمات استهلكناها في استهلاكنا السياسي.
عقليَّةُ تبريرِ الهزيمة
إنَّنا، أيُّها الأحبَّة، في الواقع القوميِّ، وفي الواقع الإسلاميّ الّذي نعيشه، قد نختلف في أساسِ الفكر، وقد نختلف في تفسيرِ التَّاريخ، وقد نختلف في نظرتنا إلى مسألة النّبوَّة والوحي والعبادات واليوم الآخر، وما إلى ذلك، تماماً كما هي اختلافات الفلسفة والاجتماع وما إلى ذلك، لكنَّنا في الواقع الَّذي نعيشه، نشعر بأنَّ هناك أرضاً عربيَّةً تهتزُّ بكلِّ النَّاس الَّذين يعيشون في داخلها؛ تهتزُّ بالنَّاس الَّذين يختلفون في قوميّاتهم إلى جانب القوميَّة العربيَّة، وتهتزّ بالنَّاس الذين يعيشون أديانهم إلى جانب الدّين الإسلامي، بحيث إنَّك لا تجد هناك أيَّ حالة من الثَّبات، أو أيّ حالة من الاستقرار.. هناك نوع من أنواع الهزيمة النفسيَّة الَّتي تفرض على الواقع، وهناك مفكِّرون في هذا الجانب وفي ذلك الجانب، يعملون لإنتاج السلبيَّات من خلال تأكيد السلبيَّات، وإعطائها الحجم الأكبر أمام الواقع الَّذي يطلُّ علينا في السَّاحة الدّوليَّة أو في أيِّ ساحة أخرى.
أذكر عندما هُزِمَ العربُ سنة 67، انطلق الكثيرون من المفكِّرين الَّذين يعيشون في الأبراج العاجيَّة، دون أن يكلِّفوا أنفسهم فَهْمَ الواقعِ بطبيعته وبعفويَّته، أصبحت القضيَّة بيننا وبين إسرائيل، أنّنا هزمنا لأنَّ الإيجابيَات الموجودة في الشخصيَّة اليهوديَّة من النَّاحية العلميَّة ومن النَّاحية الفكريَّة ومن كلِّ النَّواحي، هي الّتي جعلتنا ننهزم..
بعض النّاس كانوا يركِّزون حتَّى على التَّفكير الدّيني، أنَّه لونٌ من ألوان الإيحاء بالهزيمة، لأنَّ العرب أو المسلمين أو المسيحيّين يفكِّرون غيبياً، ولذلك لا يرتبطون بالواقع.. ولم ينتبه هؤلاء إلى أنَّ اليهود انطلقوا أيضاً من فكر دينيّ يتحدَّث عن الغيب فيما يتحدَّث عنه، كما يتحدَّث عن الواقع، ولم ينتبهوا أنَّ هناك شعوباً لا تملك حضاريَّة الشّعوب المعتدية أو الجهات المعتدية، استطاعت أن تنتصر.. إنَّهم ينسون الحديثَ عن فيتنام أمام أمريكا، أو ينسون الحديثَ عن الشّعوب الَّتي انتصرت أمام أوروبَّا، عندما حاولت أوروبَّا أن تستعمرها، وانتصرت عليها.
هناك نوع من أنواع الإيحاء بالسلبيَّات، من خلال إعطائها حجماً أكبر، من خلال إنتاج سلبيَّات جديدة.. أنا لست ضدَّ الحديث عن السَّلبيَّات، الحديث عن السلبيَّات أمر أساسيّ، ونحن نقرأ في الأديان والإسلام الحديثَ عن محاسبةِ النَّفسِ، هذا الَّتي نطلقُ عليها اسم النَّقد الذاتي.
إنَّ المسألة ليست في أن لا تذكر سلبيَّاتك، بل يجب أن تؤكِّد سلبيَّاتك، لكن يجب أن تفهم الحجم الطّبيعيَّ لسلبيَّاتك، كما تحاول أن تفهم إيجابيَّاتك، وتنظر إلى الظّروف الموضوعيَّة الَّتي تقهرُك.. إنَّ هناك عمليَّة إسقاط للرّوحيَّة الَّتي يعيشها الإنسان، سواء كان في الدَّائرة العربيَّة أو في غيرها، أو في الدّائرة الإسلاميَّة أو في غيرها.. هناك نوعٌ من أنواع إسقاط إنسانيَّتنا، وأعتقد أنَّ هذه هي المشكلة الَّتي تواجهنا في السَّاحة.
إني أتساءل، ونحن نتحدَّث عن القوميَّة العربيَّة، إلى جانب الحديثِ عن الحركةِ الإسلاميَّة: أين هي القوميَّة العربيَّة الحركيّة الآن؟ أنا لا أتحدَّث عن النَّدوات الفكريَّة الَّتي تنتج لنا في كلِّ مرحلة كتاباً في التَّنظير القوميّ، ولكنّي أتحدَّث عن الأرض؛ أين هي القوميَّة العربيَّة في حركة الإنسان العربي، وفي التحدّيات الَّتي تواجه الإنسانَ العربيّ؟ أين هو الصّوت العربي الَّذي يستعيد لنا صوت عبد النَّاصر؟ أنا لا أتحدَّث حماساً، ولكن نريد أن نسمِّي الأشياء بأسمائها، بقطع النَّظر عن دراسة خلفيَّات ما يفسِّره هذا الفريق أو ذاك.. أين هو؟
إنَّنا نواجه عملاً تبريريّاً لكلِّ هزائمنا، وعملاً تبريريّاً لكلِّ الواقع الَّذي يطبق علينا، وأصبحت المسألة أنَّ الواقعيَّة هي النَّهج الَّذي ننتهجه في دراستنا لكلِّ تطوّرات الواقع من حولنا.
مواجهةُ الاستكبارِ الأمريكيّ
إنَّ الحديث عن النِّظام العالميّ الجديد، يتحرَّك في واقعنا العربيّ أكثر مما يتحرَّك في أيِّ واقع آخر.. ربَّما يُتَحدَّثُ عن النِّظام العالميِّ الجديد في بعض المواقع الأخرى، كما يُتحدَّث عن مشروعٍ مرتَقب، عن فكرةٍ طارئةٍ، عن اقتراحٍ، عن سيناريو... ولكنَّنا نتحدَّث عن النّظام العالميِّ الجديد كما لو كان حقيقةً واقعةً استطاعَتْ أن تنفذَ إلى كلِّ أعصاب مفاصل السياسة في العالم، بحيث أصبحت الشّعوب خاضعةً لهذا النظام العالميّ الجديد الَّذي هو الإله الجديد في الكون!
إنَّنا عندما نريد أن نفكِّر في المسألة العربيَّة في الواقع العربيّ، كما نفكِّر في المسألة الإسلاميَّة في الواقع الإسلاميّ الَّذي يُعتبَر الواقعُ العربيُّ جزءاً منه، علينا أن نفكِّر في المسألة الّتي تمثِّل موقع الثَّبات في المسألة السياسيَّة كما هي في المسألة الجغرافيّة.
إنَّنا نواجه الآنَ مسألةَ الاستكبار العالميّ، وبالتَّحديد الاستكبار العالمي الأمريكيّ، بعيداً من كلِّ الشّعارات، الّذي يعمل من أجل استكمال سيطرته على كلِّ مواقع الوجود العربي، إضافةً إلى كلِّ مواقع الشَّرق الأوسط والعالم الثَّالث.
نحن نعرف أنَّ هناك معركةً تقودُها أمريكا في العالم من أجلِ إسقاطِ هذا الواقع، ونحن نعتبر أنَّ سقوط الواقع العربيّ يمثّل انهياراً في الواقع الإسلاميّ، وكلُّ من يظنُّ أنَّ انهيار الواقع العربيِّ سياسياً واقتصادياً، يمكن أن يلتقي مع قوَّة الموقع الإسلاميّ، فهو مخطئ.
إنَّنا عندما نواجه هذا الواقع، فالمسألة الَّتي تفرض نفسها علينا، ما هو موقفنا من الاستكبار الأمريكيّ في المنطقة؟! هناك مشاكل كثيرة في العالم، فلماذا هذه الغيرة الأمريكيَّة على الكويت تارةً، وعلى الصّومال أخرى؟! لماذا هذا الإلحاح على الخصوصيَّة العربيَّة في المسألة الإنسانيَّة الأمريكيَّة؟! هذا أمرٌ ينبغي لنا أن نثير السؤال حوله.
تساؤلٌ حولَ حركةِ التحرّر
ثمَّ لو أردنا أن ننطلق مع كلِّ مسار المثقَّفين الَّذين يكتبون في الصّحف، والّذين يحاضرون، فإنَّني أتساءل: كم هي الهوَّة بين الاتجاه الثَّقافي السياسيّ في مسألة واقع التحرّر في المنطقة العربيَّة بين الخمسينات والستّينات، وربما السَّبعينات، وبين التّسعينات؟ كنّا نتحدَّث عن حركة التحرّر، فهل كنَّا نتحدَّث عنها لأنَّنا نؤمن بها، أو كنَّا نتحدّث عنها لأنَّ هناك محورا ًدولياً كبيرا ًيحركها؟ أخشى أن تكون المسألة هي أنَّ مسألة التحرّر في الواقع العربيّ، انطلقت كنتيجةٍ لوجود الاتحاد السوفياتي الَّذي كان يدير حركة التحرّر في العالم، ومنه العالم العربيّ، من خلال الحرب الباردة الَّتي كان يخوضها، وكنا نفكِّر من خلاله ولا نفكِّر معه. أخشى أن يكون ذلك، لسْتُ في موقع الحكم، ولكنّي في موقع التَّساؤل.
لماذا أتساءل؟ لأنَّنا نلاحظ أنَّه بعدَ سقوطِ الاتّحادِ السّوفياتي، أصبحَتْ مسألةُ التحرّرِ في كتاباتِ كثيرٍ من إعلاميّينا ومن مثقَّفينا الَّذين يحلِّلون والَّذين ينظِّرون، أصبحت نكتةً سخيفةً تدلُّ على السَّذاجةِ العربيَّةِ، السَّذاجة القوميَّة، أو الطّفولة القوميّة، أو الطّفولة الإسلاميَّة، تماماً كما كان لينين يتحدَّث عن الطّفولة اليساريَّة.. أصبحت مسألة التحرّك نكتةً يضحكُ منها القومُ على هؤلاء الَّذين يحاولون أن يحركوا طواحين الهواء من دون أيِّ نتيجة، حتَّى النَّتيجة الَّتي تعطيها طواحين الهواء.
لست في موقع الإنسان الَّذي يريد أن يدير الاتهامات، لكن، أيَّها الأحبَّة، نحن نريد أن نفهم ماذا هناك.. لا نريد أن نكون ديَّانين لفريق، ولكنَّنا نريد أن نقول كيف هي ذهنيَّتنا الآن أمام هذه التحدّيات..
الواقعيّةُ والسّيطرةُ الأمريكيّة
ماذا بعد؟ الواقعيَّة هي أن نسقط أمريكيَّاً، أن تكون أمريكا هي الحليفَ الأوحدَ، وقصَّة الحليف والعميل والسيِّد والعبد، وما إلى ذلك، كلماتٌ نستطيع أن نغيِّرها بين مكانٍ ومكان، لأنَّ اللّغة العربيّة واسعة، تستطيع أن تجعل لكلِّ كلمة موقعاً يختلف عن موقعٍ آخر، على طريقة بدويّ الجبل الَّذي كان يقول: تأنَّقَ الذّلُّ حتّى صار غفرانا.
المسألة هي أنّنا وقفنا مع أمريكا، أو سقطنا أمام أمريكا، وأصبحت المنطقة أمريكيَّةً في بترولها، وأمريكيَّةً في اقتصادها بشكلٍ عامّ، وفي سياستها، وما إلى ذلك، واستطعْنا أن نتعاونَ مع أمريكا في طردِ آخر أوروبيّ من بلاد العرب، لتبقى أمريكا هي الدَّولة الجديدة الَّتي تنطلق فيها، باعتبار أنّ أمريكا لا تنطلق من عمقٍ حضاريٍّ مضادٍّ لحضارتنا، لأنَّ أمريكا من دون حضارة، بينما أوروبَّا تنطلق من عمق حضاريّ يختلف عن حضارتنا!..
ماذا بعد؟ هل هناك هدفٌ آخر؟ هل يمكن أن نتحدَّث، مع هذه السَّيطرة الأمريكيَّة، عن الوحدة العربيَّة؟ هل يمكن أن نتحدَّث عن تضامن عربيّ؟ أنا أزعم، أيُّها الأحبّة - قد يكون تشاؤماً، وقد تكون أفكاراً في الهواء - أنَّ أمريكا الَّتي تريد أن تسيطر على المنطقة، لن تسمح بتضامن عربيّ حتَّى في دائرة نفوذها، لأنَّ التَّضامن العربيّ قد يجتذب الأصالة والعمق، وقد يكتشف العربُ في غفلةٍ من الرَّقابة الأمريكيَّة، أنَّهم يفكِّرون على أساس وحدتهم.
لذلك، لن يسمحوا بتضامنٍ عربيّ، وهذا ما نلاحظه في الواقع، على مستوى الأنظمة على الأقلِّ، كلّ الأنظمة أمريكيَّة، حتَّى إنَّ صدَّام حسين ينطلق في الخطِّ الأمريكيّ، بشرط أن يستكمل الشّروط الأمريكيَّة للقبول به، وهناك الكثيرون كصدَّام حسين.. القليلون جدّاً هم الَّذين لم يسقطوا بالضَّربة القاضية تحت تأثير النّفوذ الأمريكيّ.
غيابُ الجامعةِ العربيَّة
لذلك، المسألة أين هي الجامعة العربيَّة؟ الجامعة العربيَّة لن يُسمَحَ لها أن تكونَ عضواً مراقباً في المفاوضات في مؤتمر مدريد، مع أنَّها هي المعنيَّة بشكلٍ أساسيّ بالقضيَّة الفلسطينيَّة، وهي وُلِدَتْ على أساس هذه القضيَّة، أو كانت في مشارف القضيَّة الفلسطينيَّة بالعنوان الكبير.
لقد سُمِحَ للاتّحاد المغاربي بصفته المغاربيَّة بالمشاركة.. ما دوره بصفته المغاربيَّة في القضيَّة الفلسطينيَّة؟ سُمِحَ لمجلس التعاون الخليجي بصفته الخليجيَّة.. ما دور الخليج بالصّفة الخليجيَّة في المسألة الفلسطينيَّة؟ المسألة هي أنّه وداعاً للعالم العربيّ... أن تذهب الجامعة العربيَّة، ويذهب التَّضامن العربي، ليذهب العالم العربي.. أن لا يكون هناك عالم عربي.
المشكلة في العالم العربيّ في كثيرٍ من مواقعه، هي مشكلة حدود.. المشكلة في العالم العربيّ، أنَّ فريقاً يتَّهم فريقاً آخر في التدخّل في شؤونه الداخليَّة، مع أنَّنا إذا كنَّا نعيش عالماً عربيّاً، وننطلق في تدخّلنا في هذا البلد من القضيَّة العربيَّة، فأيّ معنى للشّؤون الداخليَّة في هذا المجال؟
إني أتساءل: عندما تطبق أمريكا - ولم تطبق حتّى الآن - على الواقع كلّه.. لا أتحدَّث عن الشعوب، أتحدَّث عن الأنظمة، فماذا بعد ذلك؟ ما معنى العروبة بعد ذلك؟ ما هي قضاياها؟ ما هي تطلّعاتها؛ الحريَّة؟ العدالة؟ فلسطين؟ أيّ شيء؟ أمريكيّاً لا شيء.. قد تشغلنا ببعض هذه العناوين، ولكن لنتقاتل، لا لننسِّق، ولا لنتوحَّد.
الإسلاميّونَ وذهنيَّةُ التَّغيير
لذلك، أيُّها الأحبَّة، الإسلاميّون لا يدَّعون لأنفسهم احتكار المواجهة للنّفوذ الأمريكيّ في المنطقة، أو لأيِّ نفوذٍ آخر، لكنَّ الإسلاميِّين يقولون: أيُّها النَّاس، هذا إنسانٌ عربيٌّ ينفتح على كلِّ النَّاس الَّذين يعيشون في البلاد العربيَّة، وهذا إنسان مسلم ينفتح على كلِّ النّاس الَّذين يعيشون في المنطقة الإسلاميَّة، ليتكاملَ معهم في إنسانيَّتهم وقضاياهم.. تعالوا، أيُّها النَّاس بعيداً من الإيديولوجيات، ومن كلّ الاختلافات الطَّارئة هنا وهناك، تعالوا من أجل أن لا يسقط هذا الإنسان فينا، أن تشعر حتَّى وأنت في الزنزانة أنّك حرّ، أن لا تنطلق المسألة ليدخل الاحتلال الأمريكي إلى عقولنا وقلوبنا.
إنَّ المعركة الَّتي تخوضها أمريكا الآن، هي أنّها تحاول أن تحتلَّ عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا، وقد استطاعت أن تحتلَّ أجواءنا حتَّى في غرف النَّوم، أصبحت أجواؤنا أمريكيَّة حتَّى في المسائل الحميميَّة على الطريقة الأمريكيَّة.
المسألة هي هذه؛ لماذا لا نفكِّر من موقع الإنسان العربيّ المسلم الَّذي يعيش معه الإنسان المسيحيّ، وحتى الإنسان اليهوديّ، لأنّه لا مشكلة لنا مع اليهودي، من خلال أنّهم أهل كتاب في أصولهم اليهوديَّة.. مشكلتنا مع المسار التَّاريخي اليهوديّ الَّذي حوَّل اليهوديَّة إلى حالة عنصريَّة تحاولُ أن تعيشَ عدوانيَّتها على الإنسان.. تلك هي المسألة. ولذلك يتحدَّث الإسلام عن تاريخ اليهود وتاريخ بني إسرائيل السَّلبيّ، من موقع أنَّهم يتمرَّدون حتّى على العناوين الَّتي ينتمون إليها.
هذا اقتراح؛ أن ننطلق حتَّى لو لم تكن هناك قوَّة، وأنا أزعم أنَّ هناك قوَّة في السّاحة، ولكنَّنا نحبّ الراحة، ونحبّ الاسترخاء، ونكره أن نعيش المشاكل الَّتي يمكن أن تكون نتيجة أيّ حركة.
نحن نعلم أنَّ الأنظمة بشكلٍ عامّ صادرت الشَّعب العربيّ، وصادرت الشَّعب الإسلاميّ، صادرته لأنَّها لم تسمح له بأن يفكِّر بحريَّة، لم تسمح له بأن يتحرَّك في مجال تقرير مصيره، ليس الآخرون من يمنعوننا من تقرير المصير، ليست إسرائيل فقط هي الَّتي تمنعنا من تقرير المصير، إنَّ كثيراً من حكَّام العرب وحكَّام العالم الثَّالث يمنعوننا من تقرير المصير، يمنعوننا فلسطينيّاً وعربيّاً وإسلاميّاً، يمنعوننا بالسياسة وبالمخابرات، ويمنعوننا حتَّى بالضغط الاقتصاديّ بين وقتٍ وآخر.
تلك هي المسألة في واقعها، لكن الَّذين يفكِّرون بعقليَّة التَّغيير وذهنيَّته، هم الَّذين يفكّرون بأنَّ الجراح هي شغلهم، وأنَّ الشَّهادة هي طريقهم، وأنَّ الآلام هي إنسانيَّتهم...
لماذا كان الكثيرون الَّذين يتحركون في السياسة بذهنيَّة التَّغيير، سكَّانَ السّجون، والآن لا يحبّون السّجون؟ لماذا ذلك؟ هل لأنَّنا تعبنا، قوميّين واشتراكيّين وماركسيّين ومسلمين، إلى آخر القائمة الَّتي يمكن أن تزيد مفرداتها بينَ وقتٍ وآخرَ.. لماذا أصبحنا نخاف السّجون؟
إنَّني أتساءل: الإسلاميّون الآنَ يطارَدُون ويُسْجَنون ويُقتَلون ويُشرَّدون في أكثر من موقع عربي، وهناك فئات أخرى.. قد تناقش بعض الإسلاميّين هنا وهناك في أنَّ طريقتهم في فهم الديمقراطيَّة قد تكون خاطئة، أو أنَّ طريقتهم في طرح الإسلام قد لا تكون موضوعيَّة ودقيقة، وما إلى ذلك.. قد تناقشهم وأنت قوميّ، أو وأنت ماركسي، وقد تناقشهم حتَّى وأنت إسلامي... لكنَّ هؤلاء النَّاس يتحركون من أجل أنَّ هناك ظلماً، يتحركون من أجل أنَّ هناك سيطرة صهيونيَّة على هذا البلد المسلم العربيّ أو ذاك، ينطلقون على أساس فقدان العدالة هنا وهناك.. فهل أصبحت مسألة العدالة وقضيَّة الحريَّة، بقطع النَّظر عن مفرداتها، هل أصبحت مجرَّد مسألةٍ هامشيَّةٍ في حياتنا إلّا إذا كانت لحسابنا الخاصّ؟!
"أُكلْتُ يومَ أُكِلَ الثَّورُ الأبيض".. فهل نفهمُ هذه المسألةَ جيِّداً؟ بعضُ الأنظمة تتعاون مع بعض الاتّجاهات ضدَّ الإسلاميّين.. كما قلت، أنا لا أريد أن أتحدَّث عن الإسلاميِّين أنَّ الإيجابيّات تمثّل كلّ حركتهم، لكنَّ المسألة أنَّ هناك إيجابيّات كبيرة يلتقون فيها مع الاتجاهات الأخرى، فعلى الأقلّ هم يمثّلون الصَّوت الَّذي كنَّا نسمعه في الخمسينات والستّينات والسَّبعينات، الصَّوت نفسه الّذي كنّا نسمعه هنا وهناك نسمعه الآن، فلماذا خفَتَ الصَّوتُ الآخر؟
كيف يمكن أن نكون قوَّة إذا استطاعت الأنظمة أن تقضي على هذا الفريق اليوم أو ذاك الفريق غداً؟ نحن لا نحبُّ الاهتزاز لبلادنا، نحن نرى أنَّ الاستقرار لبلادنا مهمٌّ جداً، ولكنَّ المسألة هي أنَّ الأنظمة الّتي تتحرَّك من خلال أجهزة المخابرات الدَّوليَّة، والأمريكيَّة بالتَّحديد، هي الَّتي وُظِّفت من أجل أن تهزَّ الاستقرار باسم الحفاظ على الاستقرار، لأنَّهم لا يريدونَ حتَّى لعملائهم، وحتَّى لجماعتهم، أن يبنوا اقتصادهم وأمنهم وواقعهم وواقع النَّاس من حولهم بالطَّريقة الَّتي يمكن أن يتحوَّلوا فيها إلى قوَّة.
هذه نقطة أحبُّ أن نفكِّر فيها أيُّها الإخوة.
المفاوضات من موقعِ الهزيمة
ونقطتنا الأساسيَّة، ولم نتبعدْ في حديثنا عن نقطتنا الأساسيَّة، وهي فلسطين، لأنَّ فلسطين تختصرُ كلَّ تاريخ المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة في المسألة السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة، وحتَّى في المسألة الثَّقافيَّة الحركيَّة.
إنَّ القضيَّة الَّتي نواجهها الآن، هي أنَّ هناك مفاوضات، وأنَّ هذه المفاوضات وُلِدَتْ من خلال نتائج الهزيمة في حربِ الخليج.. لم تنطلق المسألة فيما كان يطالبُ به العربُ أمريكا في الضَّغط قبلَ ذلك، كانَ العربُ يمثِّلون بعض القوَّة، ولكن في حرب الخليج، سقطت القوَّة العربيَّة، حتَّى الَّذين يحسبون أنفسهم أنّهم كانوا المنتصرين فيها، لقد كانوا أوَّل المهزومين، وما يزالون.
المسألة هي أنَّ المفاوضات انطلقت من موقع الهزيمة، والمطلوب هو استكمال الهزيمة.. المسألة المطروحة الآن هي أنَّ إسرائيل أخذت الأرض كلَّها؛ فلسطين، وبعض ما هو خارج فلسطين، وبقيت ورقة الطَّابو.. المطلوب الآن أن يوقِّع العرب، وفي مقدَّمهم الفلسطينيّون، على ورقة الطَّابو، وورقة الطّابو تمثِّل ورقتين؛ الورقة الأولى هي التَّوقيع، والورقة الثَّانية هي الإنسان الفلسطيني، المطلوب أن يسقط الإنسان الفلسطيني.
بعض النَّاس في بلدنا يتحدَّثون عن التَّوطين، ويحاولون أن يجعلوا منه قضيَّة، ويجعلوا منه مشكلة لبنانيَّة لبنانيَّة، ولبنانيَّة فلسطينيَّة، على حسب الطَّريقة التي يديرونها.
إنني أتصوَّر أنَّ المستقبل ليس للتَّوطين، المستقبل هو للتَّهجير؛ أن لا يبقى هناك مجتمع فلسطينيّ، لأنَّ المجتمع الفلسطينيّ عندما ينطلق، فستحدِّث الأمُّ طفلها، والجدُّ حفيده، كانت لنا أرض هنا وكانت لنا أرض هناك، ويستمدّ من آلامه المستقبليَّة الكثير من أحلامه المستقبليَّة. لذلك، قد لا يكون التَّوطين هو المسألة، ولكن التَّفتيت والتَّهجير والتَّشريد.
رفضُ المفاوضات
لذلك، المسألة التي لا بدَّ أن نواجهها الآن، أن ينطلق موقف عربيّ إسلاميّ واحد: لا للمفاوضات.. ليس كلاماً نقولُهُ الآنَ ويُنشَرُ في الصّحف، ولكنَّها "لا" الَّتي تتحرَّك في الواقع، "لا" الَّتي تمثِّل عقلَنا الرَّافض، "لا" الَّتي تمثِّل وجداننا الرَّافض، "لا" الّتي تمثِّل حركتنا الرّافضة.
أن ننتج هذه المسألة.. وإذا كان بعض النَّاس يتحدَّث عن صعوبة هذا الإنتاج، عن صعوبة أن نُنتِجَ مسألة الحريَّة في عمقِ الإنسانِ العربيِّ أو الإنسان المسلم في البلاد العربيَّة، فإنَّنا نقول لهم إنَّ المقاومين المجاهدين في لبنان، والمجاهدين المنتفضين في فلسطين، هم الدَّليل الحيّ على أنَّ الأمَّة لا تتعب عندما تعيش أصالتها، وعندما تخلص لربّها، وعندما تنفتح على قضاياها ومستقبلها، وعندما تحدِّق في التَّحدِّيات وفي الَّذين يتحدَّونها بواقعيَّة وصدق.
واقعيّةُ مواجهةِ إسرائيل
أنا معكم، أيُّها الأحبَّة، في مسألة الواقعيَّة.. ولكنَّنا نختلف في فهم حركة الواقعيَّة في وجداننا.. بعضنا يفسِّر الواقعيَّة أن نسقطَ أمامَ الأمرِ الواقعِ، لكن أنا أقول لكم، إنَّ الواقعيَّة هي أنَّ اليهوديَّ قد يقتلُهُ إنسانٌ عربيٌّ أو فلسطينيّ، أنّ الموقعَ اليهوديَّ قد يسقطه مجاهدون هنا ومجاهدون هناك، وبالتَّالي، إنَّ واقعيَّة أن تسقط موقعاً يهوديّاً واحداً، أو تقتلَ إنساناً يهوديّاً واحداً بسلاحك الَّذي لا يمثِّل شيئاً أمامَ سلاحِهِ الّذي يمثِّلُ أقوى سلاحٍ في المنطقة، إنَّ هذه الواقعيَّة تقولُ لكَ إنَّ حكمَ الأمثالِ فيما يجوزُ ولا يجوزُ واحدٌ.. هذه الفكرة الفلسفيَّة؛ أن تكون المسألة أنَّكَ إن كنت تستطيع أن تربحَ شبراً، فمعنى ذلك أنَّك تستطيعُ أن تربحَ ميلاً.. إذا استطعْتَ أن تستجمع عناصر ربحك الشّبر في حركة الميل..
ولكنَّنا متفرّجون؛ نتفرَّج على الانتفاضة، ونخطب ونصرّح ونحتجّ... نتفرَّج على المجاهدين، ولسنا مستعدّين أن نكون منهم أو معهم، حذراً من مشكلة طائفيَّة هنا، ومشكلةٍ سياسيّة هناك، ونافذٍ سياسيِّ هنا وهناك، وما إلى ذلك.
المقاومةُ تحمي القضيَّة
أيّها الأحبَّة، إذا سقطت فلسطين، وأقصد سقطت ورقة الطَّابو الفلسطينيَّة، إذا سقط الرَّفض العربيّ والرّفض الإسلاميّ لفلسطين، إذا سقط الرَّفض الفلسطيني لفلسطين، فسوف لن يبقى هناك شيء، سوف تجدون عالما ًعربيّا ًآخر، لا مجال فيه لكلمات الحريَّة والعدالة والجهاد والكفاح وكلّ هذه الكلمات، لأنَّهم من خلال تجربتهم لا يريدون للذَّاكرة أن تعود.
إنَّ القضيَّة هي أنَّ كلَّ الأجهزة العربيّة الّتي تدير الكثيرَ منها أجهزةُ المخابرات الأمريكيّة، وأنَّ الكثير من الرموز العربيَّة ورموز العالم الثَّالث الَّتي تديرها المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة، سوف تمنع كلَّ حريّة.
لذلك، قبل فوات الأوان، لا تزال هناك ثغرات، لا يزال هناك مجال للصَّوت أن ينطلق ما دامت البندقيَّة تتحرّك الآن، البندقيَّة هنا والبندقيَّة هناك هي الَّتي تنتج لنا مسألة الحريَّة في حياتنا، ومسألة الأصالة في وجودنا. فإذا سقطت هذه البندقيَّة - لا سمح الله - فلن تبقى هناك حريّة.. لا أقول في المطلق، ولكن أقول على طريقة الآية القرآنيَّة: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}[محمَّد: 38]، الَّذين يصنعون الهزيمة لا يمكن أن يصنعوا النَّصر، والَّذين يعيشون فكر الهزيمة لا يمكن أن يبدعوا فكر النَّصر، والَّذين يعملون على التَّراجع، كيف يمكن أن ينطلقوا نحو التقدّم؟
أيُّها الأحبَّة، علينا أن نحتفظَ بهاتين النّقطتين المضيئتين في كلِّ عالمنا المظلم؛ الانتفاضة في فلسطين، والمقاومة في لبنان.
إنَّني أدعو كلَّ الذين يفكّرون في التَّغيير والتَّحرير، أن ينطلقوا ليكونوا قوَّة في السَّاحة الجهاديَّة والسياسيَّة للانتفاضة وللمقاومة، حتى لا يتحدَّث النَّاس عن المقاومة أنَّها ميليشيا، وحتَّى لا يتحدَّث النَّاس عن الانتفاضة أنَّها إرهاب.
لننطلق جميعاً كأمَّة، لأنَّ المشكلة عندنا أنّنا بدأنا نتحرَّك كأحزاب وكحركات، كلٌّ يختنق داخل حزبيَّته وداخل حركته وداخل منظَّمته.. إنَّني أتساءل في المسألة الفلسطينيَّة والمسألة العربيَّة والمسألة الإسلاميَّة: لماذا عشرٌ هناك، وخمسٌ هناك، وستٌّ هناك؟ لماذا يشعر كلُّ واحدٍ منّا بأنَّ الحدودَ بينَه وبينَ الآخر هي أكثر تعقيداً بين بلد وبلد آخر... الجمارك الموجودة بين حركة وحركة؛ وطنيَّة وفلسطينيَّة وعربيَّة وإسلاميَّة، هي أكثر من الجمارك الموجودة بين بلدٍ وبلدٍ آخر.. نتحدَّث عن وحدة فلسطينيَّة، ونعمل على أن ندمِّرها من الداخل، وعن وحدة عربيَّة، ونحاول أن نثقلها بكلِّ خصوصياتنا الإقليميّة والذاتيّة والحزبيّة.. وعن وحدة إسلاميَّة، ونحاول أن نحطّمها بكلّ مذهبيَّاتنا وخلافاتنا.
التَّخطيطُ لتحقيقِ الهدف
أيّها الأحبَّة، جلسة مع الذات، وجلسة مع الله، لنكون نحن نحن، لا أن نكون الآخرين، لنكون عبادَ الله المخلصين الَّذين يوحِّدون الله وحده، ويرفضون أيَّ إله يُدعَى من دونِ الله.. أن ننطلق من إنسانيَّتنا، من أصالتنا، من عفويَّتنا، عفويَّة أن نفهم ما هو العدوّ، ومَنْ هو العدوّ، هي الأساس..
لنرتفع أيُّها المنظّرون، أيُّها المثقَّفون الَّذين تملأون البلاد نظريَّات وتصاريح، ارتفعوا إلى مستوى وعي الطّفل الفلسطينيّ للمسألة الإسرائيليَّة واليهوديَّة، هو يختزن في حسِّه وفي لمعات عينيه معنى أن يكون الإسرائيلي عدوّاً، ومعنى أن تبقى له أرضه، وأن تعود له أرضه.
إنَّ مسألة الإحساس بالعدوّ، الإحساس بالصَّديق، الإحساس بالتحدّي، هو تماماً كالإحساس بالعطر، وكالإحساس بالجيف.. لو أتيت بإنسانٍ ينظِّم ألف قصيدة في العطر، هل تستطيع أن تفهم العطر بمقدار ما تشمّ وردة بشكل سريع؟! لن تستطيع ذلك.. لقد تعلَّمنا الفكر، ولكنَّنا لم نتعلَّم الحسّ؛ الحسّ الاجتماعيّ، الحسّ السياسيّ، الحسّ الجهاديّ.
أيّها الإخوة: إلى المزيد من الحسّ، وإلى المزيد من الانفتاح، إلى المزيد من العودة إلى السَّاحة، من أجل عودة الروح، وعودة فلسطين وغير فلسطين، إذا أردنا.
أخشى أنَّنا لا نريد ذلك، لأنَّ الطريق إلى فلسطين طويل، ونحن أناس لا نرتاح للدّروب الطّويلة، ولا سيَّما إذا كانت مليئةً بالحفر والأخاديد والأحجار، ولكنَّ الصّعود إلى الجبل، يحتاج إلى إرادة وعضلات وخطَّة، وإلى طموحٍ كبيرٍ ينطلق نحو القمَّة، فإمَّا في السّفوح نبقى، وسننزل إلى الوديان بعد ذلك، أو ننطلق إلى القمَّة.. هذا خيارنا، لا في الكلمات، ولكن في المواقع.
علينا أن ننطلق عرباً ومسلمين في الاتجاه العربي والإسلامي، في مواجهة الهجمة الأمريكيَّة الَّتي هي هجمة إسرائيليَّة، وننطلق على أساس أن نخطِّط الآن لنصل إلى الهدف ولو بعد مئة سنة.
"اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً".
والحمد لله ربّ العالمين.
*كلمة سماحته في المؤتمر الرَّابع لدعم الانتفاضة، بتاريخ: 15/12/1992.
هل هناك في مرحلتنا الحاضرة الَّتي تهتزّ فيها كلُّ قضايانا في المنطقة، وكلُّ قضايا الإنسان في العالم، أمام التطوّرات السياسيَّة والأمنيَّة والاقتصاديَّة، هل هناك مجالٌ لحديث الفكر؟!
بعضنا ممَّن تُسقِطُ موقعَه الهزَّات، يحاول أن يتحدَّث عن الفكر بطريقةٍ سلبيَّة في مراحل الأزمات. ولذلك، فإنَّ الأزمة في كلِّ مفرداتها، تنطلق من دون عقلٍ، لتكون الغرائزُ كلَّ ما يغنيها وكلَّ ما يغذِّيها.
قصَّة الفكر قصَّتك، حتّى والبندقيَّةُ في يدك وأنت تواجه بندقيَّةً أخرى، إنّ بندقيَّةً لا تنفتح على فكر يعرف كيف يحرّك رصاصته، هي بندقيَّة تنفتح على الفراغ، وقد تخطئ طريقها.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، أن نفكِّر دائما ًفيما نتنوَّع فيه، عندما تكون المسألة الفكريَّة مسألةً في حركة العقل، أو فيما نختلف فيه، عندما تكون المسألة الفكريَّة حركةً في ساحة الواقع.
القضيَّة هي أن نعرف كيف نفكِّر، أن نخرج من التَّجريد الَّذي يُدخِلنا في المتاهات، وأن نزاوجَ بين حركة العقل في الذَّات، وبين حركة الواقع في السَّاحة، حتَّى نستطيع أن نعطي العقل شيئاً من واقعيَّة الطَّرح، ونعطي الواقع شيئاً من عقلانيَّة الحركة.
بينَ العروبةِ والإسلامِ فكريّاً
لماذا نتحدَّث الآنَ عن مسألةِ العروبةِ والإسلامِ من الزَّاوية الفكريَّة؟
هناك نقطتان قد تفرضان علينا هذا الحديث:
النّقطة الأولى: هي أنَّ انطلاقتنا في الحياة هي حركة أفكارنا في الأفق الَّذي ننطلق نحوه: {ِإنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]. حركتك هي أنت، هي مفردات فكرك عندما تنطلق في ساحة الواقع، من خلال ما تعطيها من كلِّ ذاتك عقلاً وشعوراً وحركةً. لذلك، نحن لا نستطيع أن نفصل بين الواقع الّذي يتحرَّك فيه الإنسان وبين إنسان الواقع، حتَّى الفكر الَّذي نتنوَّع فيه، ليست مسألته فقط هي مسألة مفرداته، ولكن طريقة تمثّله فينا. بعض النَّاس يمثِّل الفكرُ بالنّسبة إليه نسخةَ كتابٍ يضعه في مكتبة عقله، ولا يمثِّل بالنِّسبة إليه حركةً في أسلوب حياة. لذلك، هناك مفكِّرون يستغرقون في فكرهم، دون أن ينفتحوا على ما حولهم في تطلّعات الفكر. لذا، فإنَّ واقعنا هو صورة أفكارنا، فعندما يتحرَّك الفكر في تجرببته في كلِّ مفرداته، ويفشل أو ينجح، فذلك دليلٌ على أنَّه صالح لأن يستمرَّ في الواقع أو لا يستمرّ.
النّقطة الثَّانية: إنَّ مشكلتنا أنَّنا عندما اختلفنا فكراً؛ الفكر القومي والفكر الدَّيني، الإسلام والعروبة، وانطلقنا في خصوصيَّة هذا الاتجاه وذاك الاتجاه، واستغرقنا في داخله بعيداً من كلِّ الآفاق الَّتي يتحرَّك فيها، أمكن للآخرين أن يوظِّفوا هذا الاختلافَ الفكريَّ في إسقاط كلِّ قضايانا في الواقع.
الخلافُ بين الإسلامِ والعروبةِ، صنعَ لنا مشكلةً كبيرةً في العالم العربيِّ، عندما كان العالم العربيُّ يواجه التحدّيَ الاستكباريَّ الأوروبيَّ والأمريكيَّ، وكان من الممكن أن يلتقي الإسلام الحركيّ المنفتح مع العروبة الحركيَّة المنفتحة، في مواجهة هذا الاستكبار ومواجهة مواقعه، ولكنَّ الاستغراق في الخصوصيَّة هنا وهناك، والتركيز على نقاط الخلاف بدلاً من نقاط اللِّقاء، هو الَّذي فتح المعركة بين القوميَّة العربيَّة وبين الإسلام، وبين عبد الناصر وبين الإسلاميّين.
ولا تزال كلّ خطط الدِّراسات الاستراتيجيَّة لدى أجهزة المخابرات الدوليَّة في العالم، تدرس مسألة الاستفادة من هذا التَّمايز بين العروبة والإسلام، أو هذا التنوّع أو الاختلاف بين الاتجاه القومي وبين الاتجاه الدّيني، من أجلِ إيجادِ جوٍّ من الصِّراع الَّذي إذا كانت له مبرّراته الفكريَّة في المطلق، فإنَّه لا يملك مبرّراته الواقعيَّة في السَّاحة، ولو على مستوى المرحلة، لأنَّ مسألة أن يكون الإسلام هو صورة السَّاحة، أو تكون القوميَّة هي صورة السَّاحة، هي مسألةٌ تفرض عليك أن تملك السَّاحة، أمَّا إذا كانت السَّاحة ليست بيدك، سواء السَّاحة في بعدها الجغرافيّ، أو في بعدها السياسيّ، أو ما إلى ذلك، فإنَّ القضيَّة عند ذلك هي أن تنطلق المسألة القوميَّة لتعرف دورها في السَّاحة الَّذي تتكامل فيه مع المسألة الإسلاميَّة، والعكس صحيح.
من هنا، نحبُّ، أيُّها الإخوة، في هذه الإطلالة الفكريَّة على الموضوع، ولا أسميها البحث الفكريّ، أن نحدِّد الكلمات، لأنَّ بعض ما يثقلنا في الحوار الفكريّ، أنَّنا قومٌ نستهلك الكلمات دون أن نحدِّدها، وبذلك قد نكتشفُ في ساحةِ الحوارِ، أنَّ كلَّ إنسانٍ يفهمُ الكلمةَ على طريقتِهِ الخاصَّة، فينفي هذا ما لا يُثبِته ذاك، ويُثبِتُ هذا ما لا ينفيه ذاك.
تحديدُ معنى الإسلام
هناك كلمات: الإسلام، العروبة، القوميَّة... بالنِّسبة إلى "الإسلام"، هناك عدَّة تصوّرات لهذه الكلمة، فهناك التصوّر الَّذي يعطي الإسلام مدلوله الذَّاتي، بأنَّه وحي الله الَّذي ينطلق من فكرٍ كانت مفرداته في كلِّ مجالاتِ الكونِ والحياةِ تمثِّلُ الحقيقة، وإن كان الاجتهادُ يتنوَّعُ في فهم هذه الحقيقة، فهو يمثِّل العقيدة والشَّريعة والأسلوب والمنهج والحركة، ولكلِّ واحدةٍ من هذه تفاصيل.. هو مسألة فكريَّة تتحدَّد مفرداتها بطريقةٍ موضوعيَّةٍ واقعيَّة.
وهذا الإسلام في تصوُّر بعض النَّاس، يمثِّل حركةً في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأمني، بحيث يمكن أن يطرح نفسه على أساس أن يكون صورةَ الحياة، أو تكون الحياةُ على صورته، في أسلوبٍ حركيٍّ يدرس طبيعةَ هذه الحركةِ في مفاصلِها، بينَ عنفٍ يواجهُ عنفاً، وبينَ رفقٍ ينفتحُ على كلِّ مواقع الرّفق في الحياة، وما إلى ذلك.. هو الإسلام الحركيّ الَّذي يدخل السَّاحة السياسيَّة المنفتحة على كلِّ مواقع السَّاحات الأخرى للتَّنظيم الاجتماعيّ من أوسع أبوابه.
هناك بعض النَّاس يفكِّرون بهذه الطَّريقة، ويتصوَّرون أنَّ هذا هو الإسلام، من خلال طبيعة الاجتهاد في فهمه، ومن خلال طبيعة التَّجربة الحركيَّة في عهد الدَّعوة الأولى، وما إلى ذلك.. كان هناك إسلام حركيّ، حتى الصَّلاة كانت تضجّ بالحركيَّة في داخل المصلَّى، وحتَّى المسجد كان ساحة السِّلاح، كما هو ساحة الإعداد للسِّلاح وتجميع السِّلاح، كما هو ساحة الموعظة والصَّلاة والنَّصيحة، وما إلى ذلك، لأنَّ المسجد هو صورة الإنسان، والإنسان ليس بعداً واحداً، ففي الإنسان تطلّعات الروح، وفيه حاجةُ المادَّة، وفيه حركةُ الصِّراع، وفيه كلُّ مفرداتِ الحياة الَّتي ينطلقُ فيها. لذلك، كان المسجدُ على صورةِ الإنسانِ؛ صلاةً، وحديثا ًعن كلِّ قضايا الإنسان اليوميَّة وقضاياه العامَّة، وحديثاً عن الجهاد، وحديثاً عن الحكم وعن حركة الواقع.
الإسلامُ كمسألةِ إيمان
بعضُ النَّاس يتصوَّرون الإسلامَ بهذه الطَّريقة، وبعضُهم قد لا يتصوَّره هكذا، فالتَّجربة عندَ هؤلاء - كما يقولون - ليسَتْ هي الخطَّ الاستمراريّ، بل إنّها كانت نتيجة ظروف، ولم تكن خطّاً يتحرَّك في المطلقِ في ساحةِ الحياة.. الإسلام – عند هؤلاء - هو مسألةُ إيمانِ، ومسألة مظهرٍ لهذا الإيمان، ومسألة ذهنيَّة تنفتح على النَّاس وعلى الحياة بأخلاقيَّاتها.. لذلك، ليست هناك علاقة بين الإسلام وبين الحكم، وليست هناك علاقة بين الإسلام وبين حركة الاقتصاد، وما إلى ذلك من تنوّعات حاجات الإنسان وجوانبه في الحياة.
بعض النَّاس يرتاحون إلى هذه الفكرة، لأنَّها تجنّبهم الصِّراع، وتجعلهم يعيشون حياتهم باسترخاء، وينطلقون من هروبٍ إلى هروب، وربَّما ينطلق بعضهم ليحرِّم الجهاد، وربَّما ينطلق بعضهم ليقول بأنَّ القوَّة عندما تكون كبيرة، فالله يقول: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}. وهذه مواقع عرفناها في كثيرٍ من مواقع الإفتاء في عالمنا الإسلامي من وعَّاظ السَّلاطين.
الإسلام كحالةٍ حضاريَّة
وهناك مصطلح عن الإسلام بأنَّه حالة حضاريَّة في الأمَّة، أنَّ الإسلام هو هذا الهيكل المركَّب من ذهنيَّة الغيبيَّة في مسألة الإيمان، والمركَّب من تجربة الإنسان في اتجاه حركة هذه الذّهنيَّة في الواقع، ومن التَّفاعل الَّذي عاشه الإنسان بين تجاربه الفكريَّة الثَّقافيَّة وتجارب الآخرين في مسألة المعرفة، حيث كوَّنت ذهنيَّةً حضاريَّة عاش فيها كلّ النَّاس الذين عاشوا في المجتمع الإسلاميّ، بحيث أصبح المسيحيُّ حضاريَّاً مسلماً، وأصبح اليهوديُّ حضاريّاً مسلماً، وأصبح هناك الكثيرون ممن لا يدينون حتَّى بالله، مسلمين حضاريَّاً. بعض الناس يتحدَّث عن الإسلام الحضارة بعيداً عمَّا هو الحديث عن الإسلام الانتماء والالتزام والممارسة والحركة في اتجاه محدَّد.
لذلك، أيُّها الأحبَّة، عندما نريد أن نطرح الحديث عن أيِّ نوعٍ من أنواع المقارنة بين الإسلام وبينَ غيره، فلا بدَّ لنا أن نتحدَّث عمَّا نريده بكلمة الإسلام. بعضُ النَّاسِ الَّذين يتحدَّثون عن الدِّين، ويشملون الإسلام فيما يشملونه والسِّياسة، إنّما يتحدَّثون عن مفهومٍ للدِّين قد يختلف عن مفهومٍ آخر، هو مفهومُ العلاقة بين الإنسان وربِّه...
وهكذا نجد الَّذين يتحدَّثون عن الصِّراع بين الدّين وبين العلم، قد يتحدَّثون عن حالة تاريخيَّة عاشها الدّين في بعض مراحل التخلّف، من خلال ما تبنَّاه بعض رجال الدِّين في هذا الموقع أو ذاك من أفكار فرضوها على الدّين.
مشكلة الكثيرين من النَّاس، ولا سيَّما من المثقَّفين، أنَّهم أخذوا مفهومهم عن الدِّين فيما درسوه في جامعات الغرب. أنا أعرف كثيراً من المثقَّفين، وقد يكون بعضهم مثقَّفاً إسلاميّاً، ينطلقون في مصادر المعرفة لديهم في فهمهم للإسلام من خلال مصادر الاستشراق، أو المصادر الأخرى المكتوبة بلغة غير عربيَّة من مفكّرين غربيّين، وتراه وهو عربيّ، إذا أراد أن يقرأ آيةً قرآنيّةً، يقرأها مترجمة بالفرنسيَّة أو بالإنكليزيَّة، ولا يكلِّف نفسه أن يقرأها في القرآن.
لذلك، قد تكون المسألة أنَّنا بحاجة إلى نحدِّد مفهومنا للدِّين وللإسلام، قبل أن نطلق الحكم الكلّيّ سلباً أو إيجاباً، حتَّى لا نغرق في اللَّاعلميَّة ونحن نتحدَّث بلغة علميَّة.
مفهومُ العروبة
أمَّا "العروبة"، فهناك نوعان من الفهم لمسألة العروبة.
العروبة هي حالة إنسانيَّة ككلِّ الحالات الإنسانيَّة الأخرى، كالزّنوجة، أو الفارسيَّة، أو التركيَّة، أو أيّ حالة إنسانيَّة تنطلق من خلال عنصر اللّغة في الواجهة، وعنصر الأرض، مع بعض المزيج من العادات والتَّقاليد والذّهنيَّات وشيء من التَّاريخ الموحَّد، هي حالة إنسانيَّة تملك خصائص معيَّنة، قد تكون إيجابيَّة في بعض مواقع هذه الحالات، وقد تكون سلبيَّة، ولكنَّها تنفتح على المسألة الإنسانيَّة في طبيعة انتمائها للإنسان، باعتبار أنَّها خصوصيَّة من خصوصيَّاته. ونحن نعرف أنَّ الخصوصيّة لا تنفي العموميَّة، وإنما تؤكّدها عندما تتجمَّع في عدة مواقع للعموميَّة.
وهذه المسألة من الوجهة الإسلاميَّة هي مسألةٌ ينفتح عليها الفكر الإسلاميّ، ويتكاملُ معها كما يتكامل مع غيرها.
العروبةُ كحالة إنسانيَّة، هي هذا الإنسان الَّذي يعيش ضمن عناصر متنوّعة، وينفتح على الفكر في أيِّ مجال من المجالات، لينتمي إليه، أو لينفتح عليه، أو ما إلى ذلك.. إنَّ القرآن الكريم يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[الحجرات: 13]، أي أنَّ الإسلام يعترف بأنَّ هناك شعوباً، فالإنسان ليس واحداً، وتعدّديّة الشّعوب هي تعدّديّة الخصائص، وهكذا تعدّديَّة القبائل.
إنَّ الإسلام لا يلغي للإنسان خصوصيَّته.. أنت فرد، لك حالاتك الذَّاتيَّة فيما تتجمَّع من عناصر الذَّات، أنت ابن عائلة، أنت شيء في الجغرافيا، أنت شيء في الهيكل السياسيّ، أنت جزءٌ من أمَّة، أنت جزءٌ من إنسان... إنَّ كلَّ هذه الخصوصيَّات هي روافد الإنسانيَّة الَّتي تنفتح على البحر الكبير، ويستمدُّ منها البحر الكبير كلَّ ما هناك.
لذلك، الإسلام لا يلغي خصوصيَّتك، أن تتحسَّس إنسانيَّتك كعربيّ، حتَّى الخصوصيَّة الوطنيَّة لا يلغيها، أن تتحسَّس خصوصيَّتك كلبناني، كسوريّ... بعيداً من كلِّ هذه الحدود، وأقصد خصوصيَّة الأرض الَّتي تعيش فيها، بعيداً من مسألة اعترافك بهذه الصّيغة الرسميَّة أو تلك الصّيغة الرّسميّة.
العروبة، في هذا المجال، تمثِّل بالنِّسبة إلى الإسلام عمقاً في التَّاريخ، فالتَّاريخ العربيّ في أغلب مواقعه وحركته، هو تاريخ الإسلام، كما أنَّ العروبةَ تجد أنَّ تاريخ الإسلام هو تاريخها في مجملِ حركتها.
وهكذا عندما نتحدَّث عن ذهنيَّة الإنسان العربي، فإنَّنا نجد أنَّه في إحساسه الحضاريّ، وفي مفردات هذه الذّهنيَّة، تعتبر في عمقها ذهنيَّة إسلاميَّة، حتَّى بالطَّريقة اللاشعورية، حتَّى المسيحي العربيّ ربما يختزن في ذاته أفكاراً إسلاميَّة، في إحساسه الَّذي يمتصُّ هذه الأفكار امتصاصاً، بقطع النَّظر عن المعادلات الفكريَّة في هذا المجال.
قد يفهم النَّاس العروبةَ بهذه الطّريقة، وهي الَّتي تمثّل المضمون الإنسانيّ الطبيعيّ لمسألة العروبة.
العروبةُ في الفكرِ القوميّ
وربما ينطلق بعض النَّاس ليفهموا قضيَّة العروبة قضيَّةً في الإيديولوجيا، في الفكرة؛ إنَّها الّتي تمثِّل الفكر القوميَّ في خصوصيَّة العروبة، كما هو الفكر القوميّ في خصوصيّات أخرى.
ومن الطبيعيّ أنَّ الفكر القوميَّ في أيّ موقع من مواقعه، لم ينطلق من الدّين، فهو في قاعدته الفكريَّة فكر علمانيّ، لا يحمل عناصر الدّين في أسسه، وإن كان قد يلتقي بالدّين في بعض ساحاته. قد يعتبر أنَّ هذا الدِّين أو ذاك يمثِّل بعض عناصر الشخصيَّة القوميَّة، أو بعض مؤثِّرات الشخصيَّة القوميَّة، ولكنَّه لا ينطلق منها.
ثمَّ عندما ينفتح هذا الفكرُ القوميُّ من خلال الإحساس القوميّ الَّذي يستغرق في الأرض، ويستغرق في هذه العناصر استغراقاً، قد ينحرف بعض القوميِّين، ليبتعدوا عن الإحساس بالإنسان الَّذي يعيش في حركة هذا الواقع، في تطلّعاته، وفي أفكاره، وفي مجالاته العمليَّة، لأنَّ هناك استغراقاً في العناصر الَّتي يتألَّف منها هذا الوجود القوميّ في الإنسان، أكثر من الاستغراق في المسار الفكريّ الَّذي يتحرَّك فيه الإنسان، أو الجوانب الشّعوريَّة الَّتي يختزنها هذا الإنسان.
إنَّ هذه المسألة تعتبر مسألة مهمَّة، لأنَّ مسألة أن تفكِّر بطريقةٍ قوميَّةٍ مختنقة، تستهدي فيها خطوطَ الفكر القوميِّ في العالم، وتنسى خصوصيَّة النَّاس الَّذين يمثِّلون قوميَّتك في السَّاحة، إنَّكَ بذلكَ تنقلُ تجاربَ أخرى في حركةِ الفكرِ القوميِّ أو في حركةِ الممارسةِ القوميَّة، إلى موقعٍ لا يتناسبُ معَ هذه التَّجربة، لأنَّك عندما تنظرُ إلى مواقعِ اللِّقاءِ بينَ النَّاسِ في العناصرِ القوميَّة، فعليكَ أن تنظرَ، وأنتَ تخطِّطُ في عناصر مواقع اللِّقاء أو الخلاف، في العناصر الفكريَّة والشعوريّة والعمليَّة، إذا صحَّ التَّعبير في هذا المجال، لترى فيها مسألةً لا بدَّ أن تضعها في حساباتك، عندما تريد أن تنطلق من موقع الفكر القوميّ، أو من موقع قوميَّتك في التَّخطيط لحياة هذا الإنسان في الواقع.
هناك أناسٌ ينطلقون في المسألة القوميَّة ربما بعيداً من المسألة الإنسانيَّة، فقيمة قضايا الإنسان في العالم بقدر ما ترتبط بالمصلحة القوميَّة، أمَّا عندما لا ترتبط هذه المسألة بالمسألة القوميَّة، فإنَّ القضيَّة قد تكون لدى بعض هؤلاء النَّاس شعوراً باللامبالاة أمام تلك المسألة.
ولهذا، لا بدَّ أن نفكِّر في هذا المجال في مصطلح القوميَّة وفي مصطلح العروبة، لنرى أيَّ مصطلح نختار عندما نريد أن نتحدَّث عن العروبة والإسلام، وعن القوميَّة والإسلام، فقد نكتشف أنَّ هناك فرقاً أساسيّاً بين القاعدة الفكريَّة الَّتي ينطلق منها الفكر القوميّ، والقاعدة الفكريَّة الَّتي ينطلق منها الفكر الإسلاميّ أو الفكر الدّيني.. والاختلاف في القاعدة الفكريَّة، فيما هي الأسس الّتي تركِّز هيكليَّة الفكر هنا وهيكليَّة الفكر هناك، لا تمنع من وجود لقاءاتٍ في هذا الجانب وفي ذلك الجانب.
أزمةُ الأقلّيّات
ثم إنَّ هناك نقاطاً لا بدَّ أن نثيرها في هذا المجال، وقد قلت في بداية حديثي إنَّنا نحاول أن نقوم بإطلالة فكريَّة على ساحة هذا التنوّع، ولسنا في مجال بحثٍ فكريٍّ يحاول أن يثير الحجج في السَّلبيَّات والإيجابيَّات هنا..
هناك نقاط لا بدَّ أن تثار في السَّاحة في حركة هذا الحوار، وهي أنَّ الفكر القوميَّ في كثير من الحالات، في منطقة من المناطق، كما هو الفكر الإسلاميّ، قد يسجِّل كلُّ فريقٍ على الآخر نقطةً بأنَّه يلغي الأقليَّات في داخله.. الَّذين يفكِّرون قومياً، في المنطقة العربيَّة على الأقلّ، يعتبرون أنَّ في طرح الإسلام مشكلةً، وهي مسألة الأقليَّات الدّينيَّة في الواقع الإسلاميِّ في المنطقة الإسلاميَّة أو العربيَّة، ولذلك، فإنَّ مسألة الأقليَّات التي لا ترى لها موقعاً في مراكز القيادة، إذا كانت ترى لنفسها مواقعَ في المجالات الأخرى، قد يبعدُها عن التَّفاعل مع القضايا العامَّة للأمَّة، وبذلك تخسر الأمَّة - ونقصد الأمَّة العربيَّة - فريقاً من داخل مجتمعها لا يتعاطف معها، بل ربما يسخَّر لضرب قضاياها، باعتبار أنَّ قضاياها العربيَّة وقضاياها الإسلاميَّة لا تهمُّ غير المسلمين.
إنَّ هذه المسألة الَّتي تدعو بعض الَّذين يفكِّرون قوميّاً للانطلاق في المسألة القوميَّة على حساب المسألة الإسلاميَّة، قد يلتقون فيها أيضاً كقوميّين العرب، كما يلتقون الآن في الأقلّيات القوميَّة، فهناك في بلاد العرب أكراد، والقوميَّة الكرديَّة تعتبر من القوميَّات الكبرى الَّتي بدأت تهزُّ الواقع العربيّ، سواء من خلال الدَّاخل أو الخارج، وهناك التركمان، وهناك الأشوريُّون، وهناك فئاتٌ أخرى غير عربيَّة موجودة في الواقع العربيّ... إنَّ القوميَّة العربيَّة الَّتي هربَتْ من مشكلةِ الأقليَّات الدِّينيَّة من طرح الإسلام، تلتقي في مشكلة الأقليَّات القوميَّة.
في هذا المجال، لا بدَّ من الدّخول في حوارٍ موضوعيٍّ هادئٍ في هذا المجال عن مشكلة الأقليّات، ونحن نعرف أنَّ مشكلة الأقلّيات مشكلة عالميَّة ومشكلة إنسانيَّة في كلِّ مجتمع فيه أكثريّة وأقليّة، سواء كانت هناك أكثريَّة وأقليَّة على المستوى السّياسيّ - وهذا لا يمثِّل مشكلة كبيرة في العالم، على الأقلّ في غير العالم الثَّالث - أو على المستويات الأخرى.
وهناك مشكلة أقليَّات موجودة في العالم؛ أقليَّات عرقيَّة وقوميَّة ودينيَّة، وما إلى ذلك، فعندما لا نستطيعُ إيجادَ مجتمعٍ صافٍ يملكُ صفاءَ الدَّمِ وصفاءَ العرقِ واللَّونِ والفكرِ، فكيفَ يمكنُ أن نُوجِدَ مجتمعاً؟! إنَّ علينا أن نواجه المشكلة، بأن نهربَ منها إلى أن نوزِّع العالم دولاً متعدِّدة تبعاً للتنوّع الموجود في داخلها... إنّها مشكلة تواجه الإسلاميّين والقوميّين، كما تواجه كثيراً من دول العالم الَّتي تضع لنفسها عنواناً يمكن أن لا ينسجم في لونه أو صفته مع بعض العناوين الموجودة في الواقع.
الاعترافُ بالاختلافِ الفكريّ
إنَّ المسألة، أيُّها الأحبَّة، هي أنَّ علينا أن نحدِّد المفردات، وأن لا نبحث عن التَّوفيقيَّة غير الواقعيَّة. فعندما نختلف في قاعدة الفكر، فعلينا أن نعترف بالخلاف، لأنَّك قد تستطيع أن تقوم بعمليَّة تكاذب في السّياسة، ولكن لا معنى لأن تكون هناك عمليَّة تكاذب في الفكر.. لا بدَّ لنا عندما نريد أن نبحثَ التنوّعَ الفكريَّ، أن نبحثَ عن قاعدتِهِ هنا وهناك، ومن خلالِ القاعدة، نُطلُّ على الدَّرب، ونُطلُّ على الإنسان، ونُطلُّ على الأفق، وعلى كلِّ مواقع اللِّقاء ومواقع الخلاف، لأنَّ القضايا الَّتي لا تنطلق من وعيِ القاعدة، أو من وعيِ الإنسان لقاعدتِهِ، تجعلُ حركتَهُ تنطلقُ من الحالات الطَّارئة الَّتي يمكن أن تتبدَّلَ بينَ وقتٍ وآخر.
هذه المسألة قد تعفينا من كثيرٍ من الجدلِ البيزنطي، ومن كثيرٍ من حالةِ اللاتفاهم المنطلقةِ منْ حالةِ عدمِ الفهم، لا من حالةِ عدمِ التوصّل إلى إقناع بعضنا لبعض.
إنَّ المسألة الَّتي تلحُّ علينا بعد هذه الإطلالة على المفردات الفكريَّة، هي أنَّ علينا أن نعترف بأنَّ هناك اتجاهين في العالم العربيّ والإسلامي على الأقلّ، هو الاتجاه العروبيّ المنطلق من الحالة الإنسانيَّة العامَّة، أو الاتجاه العروبيّ المنطلق من الفكر القوميّ المرتكز على أسس معيَّنة، وأنَّ هناك اتجاهاً إسلاميّاً يبحث عن السَّاحة لتكون السَّاحةُ صورةً له، كما تبحث القوميَّة عن السَّاحة لتكون السَّاحةُ صورةً لها. هذا واقع نعيشه؛ نعيشه في طريقتنا في التَّفكير، ونعيشه في طريقتنا في التَّخطيط السياسي والحركة السياسيَّة.
المسألة الّتي تطرح نفسها في هذا المجال، أنَّ الغرق في الجدل الفكريّ، بحيث يكون هو الأساس في عمليَّة الانفتاح أو عمليَّة الحركة، يعني أنَّنا سنبقى في الغرف المغلقة، أو في مواقع الإعلام، نتحدَّث ونتحدَّث، ويبقى الحديثُ ينتظر مائة سنة حتَّى نقتنع أو لا نقتنع، لأنَّ المسألة ليست هي خصوصيَّة الفكرِ الإسلاميِّ أو الفكرِ الدِّيني أو الفكرِ القوميِّ، ولكنَّها خصوصيَّةُ الفكرِ الإنسانيِّ الَّذي يعيشُهُ الإنسان، بحيث قد لا تستطيع أن تجد هناك مجالاً لوحدة إنسانيَّة في الفكر.
الفكرُ الإنسانيّ
وفي هذه المناسبة، أحبّ أن أعلِّق على نقطة، في ما درجنا عليه من التَّعبير.. هناك حديث عن فكر عربيّ، أو عن فكر قوميّ، أو عن فكر فارسيّ، أو عن فكر غربيّ... إنَّنا نربط الفكر بالقوميَّة، أو نربط الفكر بالأرض.
الواقع، لا معنى لأن يكون هناك فكرٌ قوميٌّ أو فكرٌ جغرافيٌّ وطنيٌّ أو إقليميٌّ أو ما إلى ذلك، هناك فكرٌ إنسانيّ، وحتّى الفكر الإسلاميّ، فيما يفكِّر به المسلم، هو فكرٌ إنسانيّ، باعتبار أنَّه ينطلق من خلال ذاتيَّات اجتهاده، أو من خلال موضوعيَّة مفردات الاجتهاد عندَه، من أجلِ أن يفهمَ الإسلامَ بهذه الطَّريقة أو بتلك الطَّريقة.
وهكذا، هناكَ قضيَّة الفكرِ الَّتي تنطلق من خلالِ تأمّلاتِ الإنسانِ، والعربيُّ عندما يتأمَّلُ، لا يتأمَّلُ بعروبته، ولكنَّه يتأمَّلُ بإنسانيَّته، من خلالِ تفاعلِ فكرِهِ الإنسانيِّ مع فكرٍ آخر.
قد تكونُ بعضُ مفرداتِ الواقعِ مجالاً لأن يفكِّر فيها هذا الإنسان أو ذاك الإنسان، قد يفكِّر الإنسان العربيّ من خلال تأثّره بفكرٍ غربيّ، أو من خلال تأثّره بفكرٍ إسلاميّ أو مسيحيّ، أو ما إلى ذلك، باعتبار ما تعيشه مفردات الفكر هنا وهناك.
لذلك، أن نتحدَّث عن عقلٍ عربيّ فيما هي خصوصيَّة العقل، فهذا كلام غير صحيح؛ هناك عقل العرب عندما يتأثَّرون، وهناك عقل الفرس، وهناك عقل الترك، وما إلى ذلك.. ليس هناك عقل عربيّ، هناك عقلٌ إنساني قد تدخل فيه بعض الخصائص الموجودة في الواقع العربي أو في التّراث العربي المستمدَّة من أفكارٍ أخرى، أو من حضاراتٍ أخرى، أو أوضاعٍ أخرى.
هذه ملاحظةٌ أحببْتُ أو أوردَها، كما كنْتُ دائماً أردِّد الحديث عن رفضِ الكلامِ عن المبادئِ المستوردة.. كانوا يتحدَّثون عن الماركسيَّة أنَّها مبدأ مستورد، وعن الاشتراكيَّة أنَّها مبدأ مستورد، وعن الوجوديَّة، وما إلى ذلك... أنا لا أفهم أن تنطلق المبادئ في مجال الاستيراد والتَّصدير؛ المبادئ، كلُّ المبادئ في العالم، هي مبادئ تنطلق من إنسانيَّات، المبدأ ليس شيئاً يمكن أن يضمَّه مكانٌ أو يحصره زمانٌ، ولكنَّها كلمات استهلكناها في استهلاكنا السياسي.
عقليَّةُ تبريرِ الهزيمة
إنَّنا، أيُّها الأحبَّة، في الواقع القوميِّ، وفي الواقع الإسلاميّ الّذي نعيشه، قد نختلف في أساسِ الفكر، وقد نختلف في تفسيرِ التَّاريخ، وقد نختلف في نظرتنا إلى مسألة النّبوَّة والوحي والعبادات واليوم الآخر، وما إلى ذلك، تماماً كما هي اختلافات الفلسفة والاجتماع وما إلى ذلك، لكنَّنا في الواقع الَّذي نعيشه، نشعر بأنَّ هناك أرضاً عربيَّةً تهتزُّ بكلِّ النَّاس الَّذين يعيشون في داخلها؛ تهتزُّ بالنَّاس الَّذين يختلفون في قوميّاتهم إلى جانب القوميَّة العربيَّة، وتهتزّ بالنَّاس الذين يعيشون أديانهم إلى جانب الدّين الإسلامي، بحيث إنَّك لا تجد هناك أيَّ حالة من الثَّبات، أو أيّ حالة من الاستقرار.. هناك نوع من أنواع الهزيمة النفسيَّة الَّتي تفرض على الواقع، وهناك مفكِّرون في هذا الجانب وفي ذلك الجانب، يعملون لإنتاج السلبيَّات من خلال تأكيد السلبيَّات، وإعطائها الحجم الأكبر أمام الواقع الَّذي يطلُّ علينا في السَّاحة الدّوليَّة أو في أيِّ ساحة أخرى.
أذكر عندما هُزِمَ العربُ سنة 67، انطلق الكثيرون من المفكِّرين الَّذين يعيشون في الأبراج العاجيَّة، دون أن يكلِّفوا أنفسهم فَهْمَ الواقعِ بطبيعته وبعفويَّته، أصبحت القضيَّة بيننا وبين إسرائيل، أنّنا هزمنا لأنَّ الإيجابيَات الموجودة في الشخصيَّة اليهوديَّة من النَّاحية العلميَّة ومن النَّاحية الفكريَّة ومن كلِّ النَّواحي، هي الّتي جعلتنا ننهزم..
بعض النّاس كانوا يركِّزون حتَّى على التَّفكير الدّيني، أنَّه لونٌ من ألوان الإيحاء بالهزيمة، لأنَّ العرب أو المسلمين أو المسيحيّين يفكِّرون غيبياً، ولذلك لا يرتبطون بالواقع.. ولم ينتبه هؤلاء إلى أنَّ اليهود انطلقوا أيضاً من فكر دينيّ يتحدَّث عن الغيب فيما يتحدَّث عنه، كما يتحدَّث عن الواقع، ولم ينتبهوا أنَّ هناك شعوباً لا تملك حضاريَّة الشّعوب المعتدية أو الجهات المعتدية، استطاعت أن تنتصر.. إنَّهم ينسون الحديثَ عن فيتنام أمام أمريكا، أو ينسون الحديثَ عن الشّعوب الَّتي انتصرت أمام أوروبَّا، عندما حاولت أوروبَّا أن تستعمرها، وانتصرت عليها.
هناك نوع من أنواع الإيحاء بالسلبيَّات، من خلال إعطائها حجماً أكبر، من خلال إنتاج سلبيَّات جديدة.. أنا لست ضدَّ الحديث عن السَّلبيَّات، الحديث عن السلبيَّات أمر أساسيّ، ونحن نقرأ في الأديان والإسلام الحديثَ عن محاسبةِ النَّفسِ، هذا الَّتي نطلقُ عليها اسم النَّقد الذاتي.
إنَّ المسألة ليست في أن لا تذكر سلبيَّاتك، بل يجب أن تؤكِّد سلبيَّاتك، لكن يجب أن تفهم الحجم الطّبيعيَّ لسلبيَّاتك، كما تحاول أن تفهم إيجابيَّاتك، وتنظر إلى الظّروف الموضوعيَّة الَّتي تقهرُك.. إنَّ هناك عمليَّة إسقاط للرّوحيَّة الَّتي يعيشها الإنسان، سواء كان في الدَّائرة العربيَّة أو في غيرها، أو في الدّائرة الإسلاميَّة أو في غيرها.. هناك نوعٌ من أنواع إسقاط إنسانيَّتنا، وأعتقد أنَّ هذه هي المشكلة الَّتي تواجهنا في السَّاحة.
إني أتساءل، ونحن نتحدَّث عن القوميَّة العربيَّة، إلى جانب الحديثِ عن الحركةِ الإسلاميَّة: أين هي القوميَّة العربيَّة الحركيّة الآن؟ أنا لا أتحدَّث عن النَّدوات الفكريَّة الَّتي تنتج لنا في كلِّ مرحلة كتاباً في التَّنظير القوميّ، ولكنّي أتحدَّث عن الأرض؛ أين هي القوميَّة العربيَّة في حركة الإنسان العربي، وفي التحدّيات الَّتي تواجه الإنسانَ العربيّ؟ أين هو الصّوت العربي الَّذي يستعيد لنا صوت عبد النَّاصر؟ أنا لا أتحدَّث حماساً، ولكن نريد أن نسمِّي الأشياء بأسمائها، بقطع النَّظر عن دراسة خلفيَّات ما يفسِّره هذا الفريق أو ذاك.. أين هو؟
إنَّنا نواجه عملاً تبريريّاً لكلِّ هزائمنا، وعملاً تبريريّاً لكلِّ الواقع الَّذي يطبق علينا، وأصبحت المسألة أنَّ الواقعيَّة هي النَّهج الَّذي ننتهجه في دراستنا لكلِّ تطوّرات الواقع من حولنا.
مواجهةُ الاستكبارِ الأمريكيّ
إنَّ الحديث عن النِّظام العالميّ الجديد، يتحرَّك في واقعنا العربيّ أكثر مما يتحرَّك في أيِّ واقع آخر.. ربَّما يُتَحدَّثُ عن النِّظام العالميِّ الجديد في بعض المواقع الأخرى، كما يُتحدَّث عن مشروعٍ مرتَقب، عن فكرةٍ طارئةٍ، عن اقتراحٍ، عن سيناريو... ولكنَّنا نتحدَّث عن النّظام العالميِّ الجديد كما لو كان حقيقةً واقعةً استطاعَتْ أن تنفذَ إلى كلِّ أعصاب مفاصل السياسة في العالم، بحيث أصبحت الشّعوب خاضعةً لهذا النظام العالميّ الجديد الَّذي هو الإله الجديد في الكون!
إنَّنا عندما نريد أن نفكِّر في المسألة العربيَّة في الواقع العربيّ، كما نفكِّر في المسألة الإسلاميَّة في الواقع الإسلاميّ الَّذي يُعتبَر الواقعُ العربيُّ جزءاً منه، علينا أن نفكِّر في المسألة الّتي تمثِّل موقع الثَّبات في المسألة السياسيَّة كما هي في المسألة الجغرافيّة.
إنَّنا نواجه الآنَ مسألةَ الاستكبار العالميّ، وبالتَّحديد الاستكبار العالمي الأمريكيّ، بعيداً من كلِّ الشّعارات، الّذي يعمل من أجل استكمال سيطرته على كلِّ مواقع الوجود العربي، إضافةً إلى كلِّ مواقع الشَّرق الأوسط والعالم الثَّالث.
نحن نعرف أنَّ هناك معركةً تقودُها أمريكا في العالم من أجلِ إسقاطِ هذا الواقع، ونحن نعتبر أنَّ سقوط الواقع العربيّ يمثّل انهياراً في الواقع الإسلاميّ، وكلُّ من يظنُّ أنَّ انهيار الواقع العربيِّ سياسياً واقتصادياً، يمكن أن يلتقي مع قوَّة الموقع الإسلاميّ، فهو مخطئ.
إنَّنا عندما نواجه هذا الواقع، فالمسألة الَّتي تفرض نفسها علينا، ما هو موقفنا من الاستكبار الأمريكيّ في المنطقة؟! هناك مشاكل كثيرة في العالم، فلماذا هذه الغيرة الأمريكيَّة على الكويت تارةً، وعلى الصّومال أخرى؟! لماذا هذا الإلحاح على الخصوصيَّة العربيَّة في المسألة الإنسانيَّة الأمريكيَّة؟! هذا أمرٌ ينبغي لنا أن نثير السؤال حوله.
تساؤلٌ حولَ حركةِ التحرّر
ثمَّ لو أردنا أن ننطلق مع كلِّ مسار المثقَّفين الَّذين يكتبون في الصّحف، والّذين يحاضرون، فإنَّني أتساءل: كم هي الهوَّة بين الاتجاه الثَّقافي السياسيّ في مسألة واقع التحرّر في المنطقة العربيَّة بين الخمسينات والستّينات، وربما السَّبعينات، وبين التّسعينات؟ كنّا نتحدَّث عن حركة التحرّر، فهل كنَّا نتحدَّث عنها لأنَّنا نؤمن بها، أو كنَّا نتحدّث عنها لأنَّ هناك محورا ًدولياً كبيرا ًيحركها؟ أخشى أن تكون المسألة هي أنَّ مسألة التحرّر في الواقع العربيّ، انطلقت كنتيجةٍ لوجود الاتحاد السوفياتي الَّذي كان يدير حركة التحرّر في العالم، ومنه العالم العربيّ، من خلال الحرب الباردة الَّتي كان يخوضها، وكنا نفكِّر من خلاله ولا نفكِّر معه. أخشى أن يكون ذلك، لسْتُ في موقع الحكم، ولكنّي في موقع التَّساؤل.
لماذا أتساءل؟ لأنَّنا نلاحظ أنَّه بعدَ سقوطِ الاتّحادِ السّوفياتي، أصبحَتْ مسألةُ التحرّرِ في كتاباتِ كثيرٍ من إعلاميّينا ومن مثقَّفينا الَّذين يحلِّلون والَّذين ينظِّرون، أصبحت نكتةً سخيفةً تدلُّ على السَّذاجةِ العربيَّةِ، السَّذاجة القوميَّة، أو الطّفولة القوميّة، أو الطّفولة الإسلاميَّة، تماماً كما كان لينين يتحدَّث عن الطّفولة اليساريَّة.. أصبحت مسألة التحرّك نكتةً يضحكُ منها القومُ على هؤلاء الَّذين يحاولون أن يحركوا طواحين الهواء من دون أيِّ نتيجة، حتَّى النَّتيجة الَّتي تعطيها طواحين الهواء.
لست في موقع الإنسان الَّذي يريد أن يدير الاتهامات، لكن، أيَّها الأحبَّة، نحن نريد أن نفهم ماذا هناك.. لا نريد أن نكون ديَّانين لفريق، ولكنَّنا نريد أن نقول كيف هي ذهنيَّتنا الآن أمام هذه التحدّيات..
الواقعيّةُ والسّيطرةُ الأمريكيّة
ماذا بعد؟ الواقعيَّة هي أن نسقط أمريكيَّاً، أن تكون أمريكا هي الحليفَ الأوحدَ، وقصَّة الحليف والعميل والسيِّد والعبد، وما إلى ذلك، كلماتٌ نستطيع أن نغيِّرها بين مكانٍ ومكان، لأنَّ اللّغة العربيّة واسعة، تستطيع أن تجعل لكلِّ كلمة موقعاً يختلف عن موقعٍ آخر، على طريقة بدويّ الجبل الَّذي كان يقول: تأنَّقَ الذّلُّ حتّى صار غفرانا.
المسألة هي أنّنا وقفنا مع أمريكا، أو سقطنا أمام أمريكا، وأصبحت المنطقة أمريكيَّةً في بترولها، وأمريكيَّةً في اقتصادها بشكلٍ عامّ، وفي سياستها، وما إلى ذلك، واستطعْنا أن نتعاونَ مع أمريكا في طردِ آخر أوروبيّ من بلاد العرب، لتبقى أمريكا هي الدَّولة الجديدة الَّتي تنطلق فيها، باعتبار أنّ أمريكا لا تنطلق من عمقٍ حضاريٍّ مضادٍّ لحضارتنا، لأنَّ أمريكا من دون حضارة، بينما أوروبَّا تنطلق من عمق حضاريّ يختلف عن حضارتنا!..
ماذا بعد؟ هل هناك هدفٌ آخر؟ هل يمكن أن نتحدَّث، مع هذه السَّيطرة الأمريكيَّة، عن الوحدة العربيَّة؟ هل يمكن أن نتحدَّث عن تضامن عربيّ؟ أنا أزعم، أيُّها الأحبّة - قد يكون تشاؤماً، وقد تكون أفكاراً في الهواء - أنَّ أمريكا الَّتي تريد أن تسيطر على المنطقة، لن تسمح بتضامن عربيّ حتَّى في دائرة نفوذها، لأنَّ التَّضامن العربيّ قد يجتذب الأصالة والعمق، وقد يكتشف العربُ في غفلةٍ من الرَّقابة الأمريكيَّة، أنَّهم يفكِّرون على أساس وحدتهم.
لذلك، لن يسمحوا بتضامنٍ عربيّ، وهذا ما نلاحظه في الواقع، على مستوى الأنظمة على الأقلِّ، كلّ الأنظمة أمريكيَّة، حتَّى إنَّ صدَّام حسين ينطلق في الخطِّ الأمريكيّ، بشرط أن يستكمل الشّروط الأمريكيَّة للقبول به، وهناك الكثيرون كصدَّام حسين.. القليلون جدّاً هم الَّذين لم يسقطوا بالضَّربة القاضية تحت تأثير النّفوذ الأمريكيّ.
غيابُ الجامعةِ العربيَّة
لذلك، المسألة أين هي الجامعة العربيَّة؟ الجامعة العربيَّة لن يُسمَحَ لها أن تكونَ عضواً مراقباً في المفاوضات في مؤتمر مدريد، مع أنَّها هي المعنيَّة بشكلٍ أساسيّ بالقضيَّة الفلسطينيَّة، وهي وُلِدَتْ على أساس هذه القضيَّة، أو كانت في مشارف القضيَّة الفلسطينيَّة بالعنوان الكبير.
لقد سُمِحَ للاتّحاد المغاربي بصفته المغاربيَّة بالمشاركة.. ما دوره بصفته المغاربيَّة في القضيَّة الفلسطينيَّة؟ سُمِحَ لمجلس التعاون الخليجي بصفته الخليجيَّة.. ما دور الخليج بالصّفة الخليجيَّة في المسألة الفلسطينيَّة؟ المسألة هي أنّه وداعاً للعالم العربيّ... أن تذهب الجامعة العربيَّة، ويذهب التَّضامن العربي، ليذهب العالم العربي.. أن لا يكون هناك عالم عربي.
المشكلة في العالم العربيّ في كثيرٍ من مواقعه، هي مشكلة حدود.. المشكلة في العالم العربيّ، أنَّ فريقاً يتَّهم فريقاً آخر في التدخّل في شؤونه الداخليَّة، مع أنَّنا إذا كنَّا نعيش عالماً عربيّاً، وننطلق في تدخّلنا في هذا البلد من القضيَّة العربيَّة، فأيّ معنى للشّؤون الداخليَّة في هذا المجال؟
إني أتساءل: عندما تطبق أمريكا - ولم تطبق حتّى الآن - على الواقع كلّه.. لا أتحدَّث عن الشعوب، أتحدَّث عن الأنظمة، فماذا بعد ذلك؟ ما معنى العروبة بعد ذلك؟ ما هي قضاياها؟ ما هي تطلّعاتها؛ الحريَّة؟ العدالة؟ فلسطين؟ أيّ شيء؟ أمريكيّاً لا شيء.. قد تشغلنا ببعض هذه العناوين، ولكن لنتقاتل، لا لننسِّق، ولا لنتوحَّد.
الإسلاميّونَ وذهنيَّةُ التَّغيير
لذلك، أيُّها الأحبَّة، الإسلاميّون لا يدَّعون لأنفسهم احتكار المواجهة للنّفوذ الأمريكيّ في المنطقة، أو لأيِّ نفوذٍ آخر، لكنَّ الإسلاميِّين يقولون: أيُّها النَّاس، هذا إنسانٌ عربيٌّ ينفتح على كلِّ النَّاس الَّذين يعيشون في البلاد العربيَّة، وهذا إنسان مسلم ينفتح على كلِّ النّاس الَّذين يعيشون في المنطقة الإسلاميَّة، ليتكاملَ معهم في إنسانيَّتهم وقضاياهم.. تعالوا، أيُّها النَّاس بعيداً من الإيديولوجيات، ومن كلّ الاختلافات الطَّارئة هنا وهناك، تعالوا من أجل أن لا يسقط هذا الإنسان فينا، أن تشعر حتَّى وأنت في الزنزانة أنّك حرّ، أن لا تنطلق المسألة ليدخل الاحتلال الأمريكي إلى عقولنا وقلوبنا.
إنَّ المعركة الَّتي تخوضها أمريكا الآن، هي أنّها تحاول أن تحتلَّ عقولنا وقلوبنا ومشاعرنا، وقد استطاعت أن تحتلَّ أجواءنا حتَّى في غرف النَّوم، أصبحت أجواؤنا أمريكيَّة حتَّى في المسائل الحميميَّة على الطريقة الأمريكيَّة.
المسألة هي هذه؛ لماذا لا نفكِّر من موقع الإنسان العربيّ المسلم الَّذي يعيش معه الإنسان المسيحيّ، وحتى الإنسان اليهوديّ، لأنّه لا مشكلة لنا مع اليهودي، من خلال أنّهم أهل كتاب في أصولهم اليهوديَّة.. مشكلتنا مع المسار التَّاريخي اليهوديّ الَّذي حوَّل اليهوديَّة إلى حالة عنصريَّة تحاولُ أن تعيشَ عدوانيَّتها على الإنسان.. تلك هي المسألة. ولذلك يتحدَّث الإسلام عن تاريخ اليهود وتاريخ بني إسرائيل السَّلبيّ، من موقع أنَّهم يتمرَّدون حتّى على العناوين الَّتي ينتمون إليها.
هذا اقتراح؛ أن ننطلق حتَّى لو لم تكن هناك قوَّة، وأنا أزعم أنَّ هناك قوَّة في السّاحة، ولكنَّنا نحبّ الراحة، ونحبّ الاسترخاء، ونكره أن نعيش المشاكل الَّتي يمكن أن تكون نتيجة أيّ حركة.
نحن نعلم أنَّ الأنظمة بشكلٍ عامّ صادرت الشَّعب العربيّ، وصادرت الشَّعب الإسلاميّ، صادرته لأنَّها لم تسمح له بأن يفكِّر بحريَّة، لم تسمح له بأن يتحرَّك في مجال تقرير مصيره، ليس الآخرون من يمنعوننا من تقرير المصير، ليست إسرائيل فقط هي الَّتي تمنعنا من تقرير المصير، إنَّ كثيراً من حكَّام العرب وحكَّام العالم الثَّالث يمنعوننا من تقرير المصير، يمنعوننا فلسطينيّاً وعربيّاً وإسلاميّاً، يمنعوننا بالسياسة وبالمخابرات، ويمنعوننا حتَّى بالضغط الاقتصاديّ بين وقتٍ وآخر.
تلك هي المسألة في واقعها، لكن الَّذين يفكِّرون بعقليَّة التَّغيير وذهنيَّته، هم الَّذين يفكّرون بأنَّ الجراح هي شغلهم، وأنَّ الشَّهادة هي طريقهم، وأنَّ الآلام هي إنسانيَّتهم...
لماذا كان الكثيرون الَّذين يتحركون في السياسة بذهنيَّة التَّغيير، سكَّانَ السّجون، والآن لا يحبّون السّجون؟ لماذا ذلك؟ هل لأنَّنا تعبنا، قوميّين واشتراكيّين وماركسيّين ومسلمين، إلى آخر القائمة الَّتي يمكن أن تزيد مفرداتها بينَ وقتٍ وآخرَ.. لماذا أصبحنا نخاف السّجون؟
إنَّني أتساءل: الإسلاميّون الآنَ يطارَدُون ويُسْجَنون ويُقتَلون ويُشرَّدون في أكثر من موقع عربي، وهناك فئات أخرى.. قد تناقش بعض الإسلاميّين هنا وهناك في أنَّ طريقتهم في فهم الديمقراطيَّة قد تكون خاطئة، أو أنَّ طريقتهم في طرح الإسلام قد لا تكون موضوعيَّة ودقيقة، وما إلى ذلك.. قد تناقشهم وأنت قوميّ، أو وأنت ماركسي، وقد تناقشهم حتَّى وأنت إسلامي... لكنَّ هؤلاء النَّاس يتحركون من أجل أنَّ هناك ظلماً، يتحركون من أجل أنَّ هناك سيطرة صهيونيَّة على هذا البلد المسلم العربيّ أو ذاك، ينطلقون على أساس فقدان العدالة هنا وهناك.. فهل أصبحت مسألة العدالة وقضيَّة الحريَّة، بقطع النَّظر عن مفرداتها، هل أصبحت مجرَّد مسألةٍ هامشيَّةٍ في حياتنا إلّا إذا كانت لحسابنا الخاصّ؟!
"أُكلْتُ يومَ أُكِلَ الثَّورُ الأبيض".. فهل نفهمُ هذه المسألةَ جيِّداً؟ بعضُ الأنظمة تتعاون مع بعض الاتّجاهات ضدَّ الإسلاميّين.. كما قلت، أنا لا أريد أن أتحدَّث عن الإسلاميِّين أنَّ الإيجابيّات تمثّل كلّ حركتهم، لكنَّ المسألة أنَّ هناك إيجابيّات كبيرة يلتقون فيها مع الاتجاهات الأخرى، فعلى الأقلّ هم يمثّلون الصَّوت الَّذي كنَّا نسمعه في الخمسينات والستّينات والسَّبعينات، الصَّوت نفسه الّذي كنّا نسمعه هنا وهناك نسمعه الآن، فلماذا خفَتَ الصَّوتُ الآخر؟
كيف يمكن أن نكون قوَّة إذا استطاعت الأنظمة أن تقضي على هذا الفريق اليوم أو ذاك الفريق غداً؟ نحن لا نحبُّ الاهتزاز لبلادنا، نحن نرى أنَّ الاستقرار لبلادنا مهمٌّ جداً، ولكنَّ المسألة هي أنَّ الأنظمة الّتي تتحرَّك من خلال أجهزة المخابرات الدَّوليَّة، والأمريكيَّة بالتَّحديد، هي الَّتي وُظِّفت من أجل أن تهزَّ الاستقرار باسم الحفاظ على الاستقرار، لأنَّهم لا يريدونَ حتَّى لعملائهم، وحتَّى لجماعتهم، أن يبنوا اقتصادهم وأمنهم وواقعهم وواقع النَّاس من حولهم بالطَّريقة الَّتي يمكن أن يتحوَّلوا فيها إلى قوَّة.
هذه نقطة أحبُّ أن نفكِّر فيها أيُّها الإخوة.
المفاوضات من موقعِ الهزيمة
ونقطتنا الأساسيَّة، ولم نتبعدْ في حديثنا عن نقطتنا الأساسيَّة، وهي فلسطين، لأنَّ فلسطين تختصرُ كلَّ تاريخ المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة في المسألة السياسيَّة والاقتصاديَّة والأمنيَّة، وحتَّى في المسألة الثَّقافيَّة الحركيَّة.
إنَّ القضيَّة الَّتي نواجهها الآن، هي أنَّ هناك مفاوضات، وأنَّ هذه المفاوضات وُلِدَتْ من خلال نتائج الهزيمة في حربِ الخليج.. لم تنطلق المسألة فيما كان يطالبُ به العربُ أمريكا في الضَّغط قبلَ ذلك، كانَ العربُ يمثِّلون بعض القوَّة، ولكن في حرب الخليج، سقطت القوَّة العربيَّة، حتَّى الَّذين يحسبون أنفسهم أنّهم كانوا المنتصرين فيها، لقد كانوا أوَّل المهزومين، وما يزالون.
المسألة هي أنَّ المفاوضات انطلقت من موقع الهزيمة، والمطلوب هو استكمال الهزيمة.. المسألة المطروحة الآن هي أنَّ إسرائيل أخذت الأرض كلَّها؛ فلسطين، وبعض ما هو خارج فلسطين، وبقيت ورقة الطَّابو.. المطلوب الآن أن يوقِّع العرب، وفي مقدَّمهم الفلسطينيّون، على ورقة الطَّابو، وورقة الطّابو تمثِّل ورقتين؛ الورقة الأولى هي التَّوقيع، والورقة الثَّانية هي الإنسان الفلسطيني، المطلوب أن يسقط الإنسان الفلسطيني.
بعض النَّاس في بلدنا يتحدَّثون عن التَّوطين، ويحاولون أن يجعلوا منه قضيَّة، ويجعلوا منه مشكلة لبنانيَّة لبنانيَّة، ولبنانيَّة فلسطينيَّة، على حسب الطَّريقة التي يديرونها.
إنني أتصوَّر أنَّ المستقبل ليس للتَّوطين، المستقبل هو للتَّهجير؛ أن لا يبقى هناك مجتمع فلسطينيّ، لأنَّ المجتمع الفلسطينيّ عندما ينطلق، فستحدِّث الأمُّ طفلها، والجدُّ حفيده، كانت لنا أرض هنا وكانت لنا أرض هناك، ويستمدّ من آلامه المستقبليَّة الكثير من أحلامه المستقبليَّة. لذلك، قد لا يكون التَّوطين هو المسألة، ولكن التَّفتيت والتَّهجير والتَّشريد.
رفضُ المفاوضات
لذلك، المسألة التي لا بدَّ أن نواجهها الآن، أن ينطلق موقف عربيّ إسلاميّ واحد: لا للمفاوضات.. ليس كلاماً نقولُهُ الآنَ ويُنشَرُ في الصّحف، ولكنَّها "لا" الَّتي تتحرَّك في الواقع، "لا" الَّتي تمثِّل عقلَنا الرَّافض، "لا" الَّتي تمثِّل وجداننا الرَّافض، "لا" الّتي تمثِّل حركتنا الرّافضة.
أن ننتج هذه المسألة.. وإذا كان بعض النَّاس يتحدَّث عن صعوبة هذا الإنتاج، عن صعوبة أن نُنتِجَ مسألة الحريَّة في عمقِ الإنسانِ العربيِّ أو الإنسان المسلم في البلاد العربيَّة، فإنَّنا نقول لهم إنَّ المقاومين المجاهدين في لبنان، والمجاهدين المنتفضين في فلسطين، هم الدَّليل الحيّ على أنَّ الأمَّة لا تتعب عندما تعيش أصالتها، وعندما تخلص لربّها، وعندما تنفتح على قضاياها ومستقبلها، وعندما تحدِّق في التَّحدِّيات وفي الَّذين يتحدَّونها بواقعيَّة وصدق.
واقعيّةُ مواجهةِ إسرائيل
أنا معكم، أيُّها الأحبَّة، في مسألة الواقعيَّة.. ولكنَّنا نختلف في فهم حركة الواقعيَّة في وجداننا.. بعضنا يفسِّر الواقعيَّة أن نسقطَ أمامَ الأمرِ الواقعِ، لكن أنا أقول لكم، إنَّ الواقعيَّة هي أنَّ اليهوديَّ قد يقتلُهُ إنسانٌ عربيٌّ أو فلسطينيّ، أنّ الموقعَ اليهوديَّ قد يسقطه مجاهدون هنا ومجاهدون هناك، وبالتَّالي، إنَّ واقعيَّة أن تسقط موقعاً يهوديّاً واحداً، أو تقتلَ إنساناً يهوديّاً واحداً بسلاحك الَّذي لا يمثِّل شيئاً أمامَ سلاحِهِ الّذي يمثِّلُ أقوى سلاحٍ في المنطقة، إنَّ هذه الواقعيَّة تقولُ لكَ إنَّ حكمَ الأمثالِ فيما يجوزُ ولا يجوزُ واحدٌ.. هذه الفكرة الفلسفيَّة؛ أن تكون المسألة أنَّكَ إن كنت تستطيع أن تربحَ شبراً، فمعنى ذلك أنَّك تستطيعُ أن تربحَ ميلاً.. إذا استطعْتَ أن تستجمع عناصر ربحك الشّبر في حركة الميل..
ولكنَّنا متفرّجون؛ نتفرَّج على الانتفاضة، ونخطب ونصرّح ونحتجّ... نتفرَّج على المجاهدين، ولسنا مستعدّين أن نكون منهم أو معهم، حذراً من مشكلة طائفيَّة هنا، ومشكلةٍ سياسيّة هناك، ونافذٍ سياسيِّ هنا وهناك، وما إلى ذلك.
المقاومةُ تحمي القضيَّة
أيّها الأحبَّة، إذا سقطت فلسطين، وأقصد سقطت ورقة الطَّابو الفلسطينيَّة، إذا سقط الرَّفض العربيّ والرّفض الإسلاميّ لفلسطين، إذا سقط الرَّفض الفلسطيني لفلسطين، فسوف لن يبقى هناك شيء، سوف تجدون عالما ًعربيّا ًآخر، لا مجال فيه لكلمات الحريَّة والعدالة والجهاد والكفاح وكلّ هذه الكلمات، لأنَّهم من خلال تجربتهم لا يريدون للذَّاكرة أن تعود.
إنَّ القضيَّة هي أنَّ كلَّ الأجهزة العربيّة الّتي تدير الكثيرَ منها أجهزةُ المخابرات الأمريكيّة، وأنَّ الكثير من الرموز العربيَّة ورموز العالم الثَّالث الَّتي تديرها المخابرات المركزيَّة الأمريكيَّة، سوف تمنع كلَّ حريّة.
لذلك، قبل فوات الأوان، لا تزال هناك ثغرات، لا يزال هناك مجال للصَّوت أن ينطلق ما دامت البندقيَّة تتحرّك الآن، البندقيَّة هنا والبندقيَّة هناك هي الَّتي تنتج لنا مسألة الحريَّة في حياتنا، ومسألة الأصالة في وجودنا. فإذا سقطت هذه البندقيَّة - لا سمح الله - فلن تبقى هناك حريّة.. لا أقول في المطلق، ولكن أقول على طريقة الآية القرآنيَّة: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}[محمَّد: 38]، الَّذين يصنعون الهزيمة لا يمكن أن يصنعوا النَّصر، والَّذين يعيشون فكر الهزيمة لا يمكن أن يبدعوا فكر النَّصر، والَّذين يعملون على التَّراجع، كيف يمكن أن ينطلقوا نحو التقدّم؟
أيُّها الأحبَّة، علينا أن نحتفظَ بهاتين النّقطتين المضيئتين في كلِّ عالمنا المظلم؛ الانتفاضة في فلسطين، والمقاومة في لبنان.
إنَّني أدعو كلَّ الذين يفكّرون في التَّغيير والتَّحرير، أن ينطلقوا ليكونوا قوَّة في السَّاحة الجهاديَّة والسياسيَّة للانتفاضة وللمقاومة، حتى لا يتحدَّث النَّاس عن المقاومة أنَّها ميليشيا، وحتَّى لا يتحدَّث النَّاس عن الانتفاضة أنَّها إرهاب.
لننطلق جميعاً كأمَّة، لأنَّ المشكلة عندنا أنّنا بدأنا نتحرَّك كأحزاب وكحركات، كلٌّ يختنق داخل حزبيَّته وداخل حركته وداخل منظَّمته.. إنَّني أتساءل في المسألة الفلسطينيَّة والمسألة العربيَّة والمسألة الإسلاميَّة: لماذا عشرٌ هناك، وخمسٌ هناك، وستٌّ هناك؟ لماذا يشعر كلُّ واحدٍ منّا بأنَّ الحدودَ بينَه وبينَ الآخر هي أكثر تعقيداً بين بلد وبلد آخر... الجمارك الموجودة بين حركة وحركة؛ وطنيَّة وفلسطينيَّة وعربيَّة وإسلاميَّة، هي أكثر من الجمارك الموجودة بين بلدٍ وبلدٍ آخر.. نتحدَّث عن وحدة فلسطينيَّة، ونعمل على أن ندمِّرها من الداخل، وعن وحدة عربيَّة، ونحاول أن نثقلها بكلِّ خصوصياتنا الإقليميّة والذاتيّة والحزبيّة.. وعن وحدة إسلاميَّة، ونحاول أن نحطّمها بكلّ مذهبيَّاتنا وخلافاتنا.
التَّخطيطُ لتحقيقِ الهدف
أيّها الأحبَّة، جلسة مع الذات، وجلسة مع الله، لنكون نحن نحن، لا أن نكون الآخرين، لنكون عبادَ الله المخلصين الَّذين يوحِّدون الله وحده، ويرفضون أيَّ إله يُدعَى من دونِ الله.. أن ننطلق من إنسانيَّتنا، من أصالتنا، من عفويَّتنا، عفويَّة أن نفهم ما هو العدوّ، ومَنْ هو العدوّ، هي الأساس..
لنرتفع أيُّها المنظّرون، أيُّها المثقَّفون الَّذين تملأون البلاد نظريَّات وتصاريح، ارتفعوا إلى مستوى وعي الطّفل الفلسطينيّ للمسألة الإسرائيليَّة واليهوديَّة، هو يختزن في حسِّه وفي لمعات عينيه معنى أن يكون الإسرائيلي عدوّاً، ومعنى أن تبقى له أرضه، وأن تعود له أرضه.
إنَّ مسألة الإحساس بالعدوّ، الإحساس بالصَّديق، الإحساس بالتحدّي، هو تماماً كالإحساس بالعطر، وكالإحساس بالجيف.. لو أتيت بإنسانٍ ينظِّم ألف قصيدة في العطر، هل تستطيع أن تفهم العطر بمقدار ما تشمّ وردة بشكل سريع؟! لن تستطيع ذلك.. لقد تعلَّمنا الفكر، ولكنَّنا لم نتعلَّم الحسّ؛ الحسّ الاجتماعيّ، الحسّ السياسيّ، الحسّ الجهاديّ.
أيّها الإخوة: إلى المزيد من الحسّ، وإلى المزيد من الانفتاح، إلى المزيد من العودة إلى السَّاحة، من أجل عودة الروح، وعودة فلسطين وغير فلسطين، إذا أردنا.
أخشى أنَّنا لا نريد ذلك، لأنَّ الطريق إلى فلسطين طويل، ونحن أناس لا نرتاح للدّروب الطّويلة، ولا سيَّما إذا كانت مليئةً بالحفر والأخاديد والأحجار، ولكنَّ الصّعود إلى الجبل، يحتاج إلى إرادة وعضلات وخطَّة، وإلى طموحٍ كبيرٍ ينطلق نحو القمَّة، فإمَّا في السّفوح نبقى، وسننزل إلى الوديان بعد ذلك، أو ننطلق إلى القمَّة.. هذا خيارنا، لا في الكلمات، ولكن في المواقع.
علينا أن ننطلق عرباً ومسلمين في الاتجاه العربي والإسلامي، في مواجهة الهجمة الأمريكيَّة الَّتي هي هجمة إسرائيليَّة، وننطلق على أساس أن نخطِّط الآن لنصل إلى الهدف ولو بعد مئة سنة.
"اعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنَّك تموت غداً".
والحمد لله ربّ العالمين.
*كلمة سماحته في المؤتمر الرَّابع لدعم الانتفاضة، بتاريخ: 15/12/1992.