تربيةُ النَّفسِ على رقابةِ الله وتعهُّدُها بالرّعايةِ والمحاسبة

تربيةُ النَّفسِ على رقابةِ الله وتعهُّدُها بالرّعايةِ والمحاسبة

يقول الله سبحانه وتعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا}[الأحزاب: 52]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النّساء: 1]، ويقول تعالى: {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}[هود: 93]، ويقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 18].
تربيةُ النَّفسِ على رقابةِ الله
في هذه الآيات وفي غيرها، يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يربِّي في داخل نفسه الإحساس برقابة الله عليه، ليكون كلّ شيء يصدر عن الناس تحت رقابة الله وعينه، بحيث يتحرَّك الإنسان من موقع شعوره بأنَّ الله الَّذي يملك كلَّ أمره، يراقبُهُ، ويعرف كلَّ شيء مما يفكّر فيه ويتكلَّم به، ومما يحمله من انطباعات في نفسه، ومما يعمله، لأنَّ ذلك هو الّذي يشكِّل الضَّابط الّذي يضبط للإنسان كلَّ أوضاعه الداخلية والخارجية، ولا سيَّما إذا كان وحده، لا رقيب عليه من هنا وهناك. وهذا هو الَّذي يربي للإنسان ضميره، لأنَّ الضَّمير ليس شيئاً مخلوقاً مع الإنسان، ولكنَّه شيء يصنعه الإنسان من خلال ما يتعلَّمه، ومن خلال ما يفكّر فيه، ومن خلال ما يلتزمه.
ولهذا، فإنَّ الله يريد منا أن نتحسَّس ذلك دائماً، وقد ورد في دعاء كميل الّذي علَّمه أمير المؤمنين (ع) لكميل بن زياد: "وَكُنْتَ اَنْتَ الرَّقيبَ عَلَيَّ مِنْ وَرائِهِمْ، وَالشّاهِدَ لِما خَفِيَ عَنْهُمْ".
فالله سبحانه وتعالى يُطلع الملكين الحافظين على ما يقوله الإنسان ويفعله، ولكنّ ما يحمله الإنسان في فكره من التزامات فكريَّة، وما يحمله في مشاعره وأحاسيسه مما تنعقد نيَّته عليه، لا تطَّلعُ عليه الملائكة، ولكنَّ الله هو الَّذي يطَّلع عليه "وَكُنْتَ اَنْتَ الرَّقيبَ عَلَيَّ مِنْ وَرائِهِمْ، وَالشّاهِدَ لِما خَفِيَ عَنْهُمْ".
مواعظُ حولَ رقابةِ الله

وهكذا ورد عندنا عن عليّ (ع) في "نهج البلاغة"، وهو يعظ النَّاس آنذاك: "اعلموا عبادَ الله، أنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ - فهناك رصد داخليّ على الإنسان من داخل جسده {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَآ أَبْصَٰرُكُمْ وَلَا جُلُودُكُم}[فصّلت: 21 - 22]. {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يس: 65].
- وَحُفَّاظَ صدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُم - {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 18] - وَعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ، لَا تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ، وَلَا يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ".
ويقول عليّ (ع)، وهو يشير إلى النَّاس الّذين يقطعون نهارهم باللَّغو فيما لا ينفعهم، وربما كان فيما يضرُّهم: "لا تقطعوا نهارَكم بكذا وكذا، وَفَعَلْنَا كذا وكذا، فإنَّ معَكم حفظةً يُحصون عليكم وعلينا".
وقد ورد في حديث أمير المؤمنين (ع)، وقد رأى شخصاً يتكلَّم كلاماً كثيراً بلا ميزان، فقال له: "يا هذا، إنَّك تُمْلي على كاتبيْكَ كتاباً إلى ربِّك – فأنت ترسل إلى الله في كلِّ يوم رسالة – فتكلَّمْ بما يعنيكَ، ودَعْ ما لا يعنيك".
وهكذا ورد عندنا عن عليّ (ع): "اِجعَلْ مِن نفسِكَ على نفسِكَ رَقيباً، واجعَلْ لِآخِرَتِكَ مِن دُنياك نَصيباً".
وكانَ فيما وَعَظَ اللّهُ تَبارَكَ وتَعالى بهِ عيسَى بنَ مريمَ (ع) أن قالَ له: "يا عيسى، كُنْ حَيثُما كُنْتَ - أينما كنت، في أيّ مكان، وفي أيّ موقع - مراقباً لي"، راقبني في كلّ أمورك وأوضاعك.
وورد عن عليّ (ع): "رحمَ اللهُ امرءاً راقبَ ربَّه، وتنكَّبَ ذنبَه، وكابرَ هواه، وكذَّبَ مناه، امرؤٌ أزمَّ نفسَه منَ التَّقوى بزمامٍ – كما زمام الفرس الّذي يمنعها من الجموح - وألجمَها منْ خشيةِ ربِّها بلجامٍ... دائمُ الفكرِ، طويلُ السَّهرِ، عزوفاً عنِ الدّنيا... قدْ وقرَ قلبَهُ ذكرُ المعاد، وطوى مهادَه، وهجرَ وسادَه، منتصباً على أطرافِهِ... خشوعٌ في السّرِّ لربِّهِ، لدمعِهِ صبيبٌ، ولقلبِهِ وجيبٌ... ".
وعنه (ع): "رحم الله عبداً راقبَ ذنبَهُ، وخافَ ربَّهُ".
شهادةُ الزّمن على الإنسان
وهكذا يريدنا الله سبحانه وتعالى من خلال ما ألقاه على لسان أوليائه وأنبيائه، أن نعرف أنَّ الزَّمن يخاطبنا، فعندما يطلع عليك النَّهار، تمثَّل نهارك يخاطبك، وقد وردَ في الحديث عن عليّ (ع)، قال: "مَا مِن يَومٍ يَأتي عَلى ابنِ آدَمَ إلَّا قَالَ ذلكَ اليَومُ: يَا بْنَ آدَمَ، أنا يَوْمٌ جَديدٌ، وأنا عَلَيكَ شَهيدٌ، فَافعَلْ بي خَيراً، وَاعمَلْ فِيَّ خَيراً، أشهَدْ لَكَ يَومَ القِيامَةِ؛ فإنَّكَ لَن تَراني بَعدَها أبَداً"، لأنَّ اليوم الّذي يمضي لا يعود أبداً. فالنَّهار يستدعيك، ويقول لك أنا ناصح لك، وأنا جزء من عمرك، وأمرُّ في حياتك كزيارة، وعندما أمضي لن أعود أبداً، وسوف أشهد عليك يوم القيامة، فافعل بي خيراً، وقل فيَّ خيراً، أشهدْ لك بذلك عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.
وقد ورد عن عليّ (ع): "أَلَا إنَّ الأيّامَ ثلاثةٌ: يَومٌ مَضى لا تَرجُوهُ، ويَومٌ بَقِيَ لا بُدَّ مِنهُ، ويَومٌ يَأتِي لا تَأمَنُهُ؛ فالأمسُ مَوعِظةٌ - فجزء من عمرك مضى، فاتّعظ بذهابه - واليَومُ غَنيمَةٌ – اغتنم يومك هذا بكلِّ ما فيه من الفرص الّتي تقرِّبك من الله - وغَدٌ لا تَدرِي مَنْ أهلُهُ"، فيمكن أن تكون من أهل الغد ويمكن أن لا تكون. لذلك، اهتمَّ بيومك هذا، حتَّى تغتنم كلَّ ما فيه من فرص.
المراقبةُ في خطٍّ تصاعديّ
ثمّ إنَّه من الأمور الّتي ينبغي للإنسان أن يراقب فيها نفسه دائماً، أنَّ الإنسان دائماً في خطّ تصاعديّ، إنَّ الله لا يريد للإنسان أن يكون يومه هذا مثل يومه السّابق، بل يريد لكلّ يوم أن يكون أفضل من اليوم السَّابق.
يقول عليٌّ (ع): "مَنِ اعتَدَلَ يَوماهُ - يعني كان يومه الحاضر كيومه الّذي مضى - فَهُو مَغبونٌ – فعندما يكون لديك رأسمال، وتكون قادراً على أن تحصّل فيه ربحاً، ولا تربح، ألا تعتبر مغبوناً؟! والغبن هو أن تبيع شيئاً بأقلّ من سعره حقّاً، أو أن تشتري شيئاً بأكثر مما يستحقّ. فهذا جزء من عمرك، ويمكن لهذا الجزء من عمرك أن تتاجر مع الله به، فتحصل على خير الدنيا والآخرة من خلال أعمالك، فإذا أهملت ذلك ولم تحركه في خطِّ الخير، فأنت مغبون، لأنَّك بعت يومك بالثَّمن البخس أو بلا ثمن.
- ومَن كانَ غَدُهُ شَرَّ يَومَيهِ فَهُو مَفتونٌ – يعني أنَّ الله اختبره وسقط في الامتحان - ومَن لَم يَتَفَقَّدِ النُّقصانَ في نَفسِهِ دامَ نَقصُهُ - الَّذي لا يتفحَّص نفسه؛ هل نقص منها علم أو تقوى أو شيء من الخبرة أو الالتزام، فواحدنا قد يكون اليوم بخير، ولكن قد يلتقي غداً بصديق سيّئ يبعده عن الله، أو أنّه عاش في بيئة سيّئة مليئة بالمعاصي والشَّهوات، ونَقُصَ شيء من دينه. فالإنسان يحتاج في كلّ يوم أن يفحص رصيده، كما يفحص رصيد محلّه كم زاد وكم نقص - ومَن دامَ نَقصُهُ فَالمَوْتُ خَيرٌ لَهُ"، فما معنى هذه الحياة الّتي كلَّما تقدَّمَتْ أكثر، تراجعَتْ أكثر؟!
الإمام زين العابدين (ع) يقول في دعاء "مكارم الأخلاق" عن العمر: "وَعَمِّرْنِي ما كانَ عُمرِيْ بِذْلَةً في طَاعَتِكَ – فطالما أنّ عمري في طاعتك يا الله، فاجعلني أعيش مائة سنة أو أكثر - فَإذَا كان عُمْرِي مَرْتَعَاً لِلشَّيْطَانِ – فلا أريده، لأنّه يزيدني بعداً عنك، ويجعلني أخسر آخرتي - فَـاقْبِضْنِي إليـك قبلَ أن يَسْبِقَ مَقْتُـكَ إلَيَّ، أو يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ".
وفي دعاء أبي حمزة الثّمالي: "واجعلْني ممَّن أطلْتَ عُمْرَه، وحَسَّنْتَ عَمَلَه".
وفي دعاء يوم الثّلاثاء: "وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لي في كُلِّ خَيْرٍ، والوفاةَ رَاحَةً لي مِن كُلِّ شَرٍّ"، فإذا كانت حياتي سيزداد الشّرّ فيها، فلا أريدها.
كيف يمكن للإنسان أن يواجه مسألة المراقبة لنفسه؟! يقول الرّسول (ص): "ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيهِ مِنَ المُؤمِنينَ كانَ في كَنَفِ اللّهِ، وأظَلَّهُ اللّهُ يَومَ القِيامَةِ في ظِلِّ عَرشِهِ، وآمَنَهُ مِن فَزَعِ اليَومِ الأَكبَرِ – يعني كان في رعاية الله سبحانه - مَن أعطَى النَّاسَ مِن نَفسِهِ ما هُوَ سائِلُهُم لِنَفسِهِ - الَّذي يعطي النَّاس من نفسه ما يطلب من النَّاس أن يعملوه معه - ورَجُلٌ لَم يُقَدِّم يَداً ولا رِجلاً حَتّى يَعلَمَ أنَّهُ في طاعَةِ اللّه قَدَّمَها أو في مَعصِيَتِهِ، ورَجُلٌ لَم يَعِبْ أخاهُ بِعَيبٍ – فالَّذي يريد أن يعيب أخاه بعيب، عليه أن ينظر إلى نفسه وإلى عيوبه - حَتّى يَترُكَ ذلِكَ العَيْبَ مِن نَفسِهِ".
أهميّةُ تنظيمِ الوقت
وهكذا ورد عندنا، أيُّها الأحبَّة، عن رسول الله (ص) في تقسيم أوقات الإنسان، هذا الّذي يحاسب نفسه ليربّيها، يقول (ص): "كان فيها – أي في صحف إبراهيم (ع) -: على العاقِلِ ما لَم يَكُن مَغلوباً على عَقلِهِ أن يكونَ لَهُ ساعاتٌ: ساعَةٌ يُناجِي فيها رَبَّهُ عزَّ وجلَّ، وساعَةٌ يُحاسِبُ نَفسَهُ، وساعَةٌ يَتَفَكَّرُ فيما صَنَعَ اللّهُ عزَّ وجلَّ إلَيهِ، وساعَةٌ يَخلُو فيها بِحَظِّ نفسِهِ مِنَ الحَلالِ؛ فإنَّ هذهِ السَّاعَةَ عَونٌ لِتلكَ السَّاعاتِ، واستِجمامٌ للقُلوبِ وتَوزِيعٌ لها".
ويحدّثنا الإمام الحسين (ع) عن أبيه (ع)، كيف كان رسول الله (ص) يقضي وقته إذا دخل إلى بيته. عن مولانا الإمام الحسين (ع)، قال: "سألْتُ أبي عنْ مدخلِ رسولِ اللهِ (ص)، فقالَ (ع): كانَ دخولُهُ (ص) لنفسِهِ مأذونٌ له في ذلك، فكانَ إذا أوى إلى منزلِه، جزَّأَ دخولَهُ ثلاثةَ أجزاءٍ: جزءاً للهِ عزَّ وجلَّ – يصلّي لله ويعبده ويدعوه - وجزءاً لأهلِهِ – يجلس مع أهله وأولاده، لا أن يأتي الرّجل من عمله إلى البيت، فيجلس مع أصحابه أو أمام التلفاز، فلا يتكلّم مع زوجته وأولاده، بل إنّ عليه أن يجلس مع أهله، أن يحدّثهم ويحدّثوه، يرشدهم وينصحهم ويعرّفوه حاجاتهم، وهكذا - وجزءاً لنفْسِهِ – كأن يريد هذا الشّخص مثلاً أن يقرأ، أو أن يتأمَّل- ثمَّ جزّأَ جُزأَه بينَهُ وبينَ النَّاسِ، فيرُدُّ ذلكَ بالخاصَّةِ على العامَّةِ – بمعنى أنَّ الجزء الّذي له يضحِّي به، فبدل أن يرتاح في هذا الجزء، يعطيه للآخرين، وبدل أن يعطي نفسه راحتها، يخصِّص هذا الوقت للآخرين - ولا يدَّخِرُ عنهم منْهُ شيئًا – يعني كان (ص) يعيش لأمَّته حتّى ولو على حساب نفسه - وكان من سيرتِهِ في جزءِ الأمَّةِ – عندما يعطي جزأه للأمَّة - إيثارُ أهلِ الفضلِ بإذنِهِ، وقسَّمَهُ على قدرِ فضلِهم في الدّين، فمنْهم ذو الحاجةِ، ومنْهم ذو الحاجتَيْن، ومنْهم ذو الحَوائجِ".
نعرف من هذا أنَّ على الإنسان أن يحاول دائماً أن يقسِّم أوقاته وينظّمها، فلا يجعل كلَّ وقته لنفسه، ولا كلّ وقته لأهله، ولا يجعل أيضاً كلَّ وقته للحلال ولذّته، بل أن يقسّم، فإنَّ لربِّك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً، ولجسدك عليك حقّاً، وللناس من حولك عليك حقّاً، حاول أن تنظِّم أوقاتك. وإذا استطعنا، أيُّها الأحبَّة، أن ننظّم أوقاتنا، فسنجد في أوقاتنا الغنى كلّ الغنى.
بعض الناس نسمعه يقول ليس عندي وقت أن أقرأ أو أتعلَّم أو أن أعمل كذا، ولكن في الواقع هو عنده وقت، ولكنَّه غير منظَّم وغير مركَّز، وإذا جرّب كلّ واحد منّا أن يقسِّم وقته من الصَّباح إلى اللَّيل تقسيماً دقيقاً على حسب وجوده، وحسب حاجته وحاجة أهله وحاجة الناس، نجد أنّنا نستطيع أن نصل إلى النَّتائج الكبرى في هذا المجال، وقد ورد في الحديث عن الإمام الكاظم (ع): "لَيسَ مِنّا مَنْ لَمْ يُحاسِبْ نَفْسَهُ كُلَّ يَومٍ، فإنْ عمِلَ حَسَناً استزادَ اللهَ، وَإِنْ عمِلَ سيّئاً استغفرَ اللهَ منْهُ وتابَ إليْهِ".
التّعهّدُ بمحاسبةِ النّفس
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، على الإنسان دائماً أن يصنع نفسه على الخير والتَّقوى والإنتاج وتحمّل المسؤوليّة في الواقع، لا يكن أحدكم كالنبتة التي تنبت في الصَّحراء من دون رعاية، ولكن حاولوا أن تتعهَّدوا أنفسكم بالمحاسبة والمراقبة، وأن يختزن الإنسان في نفسه أنَّ الله سبحانه وتعالى يراقبه في سرّه وعلانيته، وأنَّ الملكين يحفظان عليه كلَّ أقواله وأعماله، وأنَّ جوارحه تحفظ عليه كلَّ ما قام به منها. ولذلك، لا بدَّ أن يشغل الإنسان بنفسه، ليبنيها، وليكملها، وليسير بها في اتجاه الله، حتَّى إذا وقف بين يدي الله، وقيل له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: 14]، يكون قد قرأ كتابه قبل أن يموت، لأنَّه كتب كتابه من خلال الإيمان والوعي والتقوى والعمل الصَّالح.
                                                  بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
                                                            الخطبة الثّانية

عباد الله، اتَّقوا الله في وجودكم كلّه، وفي حياتكم كلّها، سواء كنتم في البيت أو في الشارع أو في مكان العمل، أو كنتم في ساحة المواجهة.. راقبوا الله في أنفسكم مراقبة دقيقة جداً، وراقبوا أنفسكم بين يدي الله سبحانه وتعالى، فلا ينطلق الإنسان في أيّ عمل إلَّا بعد أن يحرز في نفسه أنّه لله، ولا ينطلق في نيّة ينويها في علاقته بأهله أو علاقته بالناس معه، إلا إذا كانت نيَّة خير، لأنَّ الله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: 19]، {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ}[المجادلة: 7].
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ أن تراقبوا أنفسكم في كلّ مواقفكم، فيما تحبّون وفيما تكرهون، فيما تؤيّدون وفيما ترفضون، فيما تتحدَّثون وفيما لا تتحدَّثون، لا تنطلقوا في هوى أنفسكم في كلّ أحاديثكم وأوضاعكم، لا تتحركوا في خطّ عصبياتكم، سواء كانت عصبياتكم لأنفسكم، أو لعوائلكم أو لأحزابكم، أو ما إلى ذلك، لأنَّ العصبيَّة في النار، وعلى الإنسان أن ينقذ نفسه من التعصّب في ذلك.. عندما تتكلّم كلمةً فكّر؛ هل هي كلمة يرضاها الله أو لا يرضاها، وعندما تقوم بعمل فكّر؛ هل هو عمل يرضاه الله أو لا يرضاه، لتكون حساباتك مع نفسك أشدّ من محاسبة الشَّريك لشريكه، كما ورد في بعض الأحاديث.
وعلى هذا الأساس أيضاً، لا بدّ أن نحاسب أنفسنا عن مواقفنا، سواء كانت مواقف سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك، لأنَّ موقف الإنسان جزء من عمله، فلا بدَّ أن يكون موقفك في رضا الله، وعلينا أن نهتمَّ بأمور المسلمين في كلّ مكان في العالم، حتى يعرف الله منَّا أننا ننفتح على المسلمين جميعاً، باعتبار أنهم أهلنا وأمَّتنا التي أوصانا رسول الله (ص) أن نهتمَّ بها في كلِّ ما نستطيع الاهتمام به. وفي ضوء هذا، لا بدَّ أن نعرف ماذا هناك.
تمييعٌ دوليٌّ لقضيّةِ كوسوفو
في الوقت الَّذي لا يزال الاستكبار العالمي يلعب بالقضيَّة الفلسطينيَّة لإنجاح المشروع اليهوديّ في تهويد فلسطين سياسياً، تبرز قضية إقليم كوسوفو كمشكلة سياسية إنسانية جديدة، تدخل في النَّفق ذاته الَّذي دخلت فيه قضيَّة المسلمين في البوسنة والهرسك، فهناك تسويفٌ وتمييعٌ دوليّ للمسألة، يتمثَّل في الموافقة الأوروبية والأمريكية الضّمنيّة على ما يجري، لأنَّ الضحايا من المسلمين الذين لا يراد لهم أن يحصلوا على الاستقلال في أوروبا وحقّ تقرير المصير، ولو كانت هذه الأقلية يهودية لاختلف الأمر في ذلك.
إننا نتساءل إزاء هذه الجرائم وعملية الإبادة: أين العالم الإسلاميّ؟ وما دور الأمم المتحدة ومنظَّمات حقوق الإنسان أمام حرب الإبادة التي يتعرّض لها المسلمون هناك في هذا الإقليم من قبل الصّرب؟!
مأساةُ السّودان
وعلى صعيد آخر، لا بدَّ أن نتوقَّف عند الأوضاع المأساوية في المجاعة الإنسانيَّة في السودان، بفعل الحرب المستمرَّة التي يشرف عليها الاستكبار العالمي، الَّذي لا يريد لهذا البلد أن يستقرّ ليحصل على الاكتفاء الذاتي والاستقرار السياسي بفضل ثرواته الكامنة في أرضه، ولا سيَّما بعد تحوّل هذا البلد إلى دولة إسلاميَّة تعمل من أجل الدعوة الإسلامية في أفريقيا، والتحرر من سيطرة المستكبرين السياسية والاقتصادية.
إننا ندعو إلى الوقوف مع الشعب السوداني إنسانياً وسياسياً وأمنياً، من أجل إيقاف الحرب المجنونة التي تقف أمريكا وراءها بمختلف وسائلها الداخليَّة والخارجيَّة، ويتحرَّك كلّ عملائها في المنطقة وخارجها، حتَّى من بعض المسلمين في العالم الإسلامي، من أجل مساعدة المتمردين ضد السلطة الشرعيَّة على استمرار هذه الحرب.
خطّةٌ أمريكيّةٌ ضدّ إيران
وفي موازاة ذلك، لا تزال أمريكا تثير الضجَّة حول الصَّاروخ الإيراني شهاب 3، باعتبار أنَّه سيغيِّر ديناميكيَّة الاستقرار في الشرق الأوسط، كما يقول الرئيس الأمريكي، ويقول مساعد وزير الخارجيَّة الأمريكيَّة اليهودي مارتن أنديك، إنَّ إيران ستقوم في المستقبل غير البعيد بإنتاج صواريخ متوسّطة المدى، قادرة على تهديد حلفاء واشنطن في المنطقة، ومن بينهم إسرائيل والسعودية.
إنَّ هذا الحديث يوحي بأنَّ هناك خطّةً لتخريب العلاقات العربيّة الإيرانيّة، ولا سيّما السعودية، بالإيحاء بأنَّ إيران تستهدف من صاروخها الجديد تهديد السعوديّة ودول الجوار، في الوقت الذي صرَّحت إيران بأنَّه موجَّه للدّفاع عن نفسها في مواجهة إسرائيل التي لا تزال تهدِّد بين وقت وآخر بقصف إيران، كما أنَّ أمريكا لا تريد لإيران أن تملك القوَّة في الدّفاع عن نفسها ضدَّ أيّ حرب مفروضة عليها. ولهذا، فإنَّ أمريكا تعمل لفرض عقوبات على بعض الشَّركات الروسيَّة الآن التي تحتمل تقديمها بعض المساعدات العلميَّة لإيران لتطوير صواريخها كما تقول، وللضَّغط على كلّ الدول القادرة على مساعدة إيران في الخبرة العسكرية والأمنية، ولكنَّها - أمريكا - تعمل في الوقت نفسه على أن تبقى إسرائيل القوَّة الأولى في المنطقة.
إنّ على المسلمين الوقوف ضدّ هذا العدوان الأمريكي على مستقبل شعوبهم سياسياً وأمنياً واقتصادياً، واعتبار أمريكا عدوَّ المسلمين جميعاً.
المطلوب تغييرِ ذهنيَّةِ الحكم
أمَّا على المستوى اللّبناني، فلا يزال الجدل السياسي في الواقع الداخلي يتحرَّك في إطار علاقات أهل الحكم، في عملية إلهاء للمواطنين عن القضايا الحيوية في المشاكل الاقتصادية التي يتَّجه فيها البلد إلى ما يشبه الإفلاس، وإغراق الناس في الأزمات المعيشية من دون حلّ.
إنَّ المطلوب هو أن تنطلق الدولة بكلّ مسؤوليها في ورشة تخطيط لما هي صورة لبنان الغد في مواجهة الاحتلال، وفي صناعة فرص العمل لمواطنيه، وفي وقوفه أمام التحدّيات والعواصف الكبيرة التي تطلّ عليهم من أبواب المنطقة. إنَّ المسألة ليست في تغيير الأشخاص ليتحدَّث عن ذهاب رئيس ومجيء رئيس، بل في تغيير ذهنيَّة الحكم في النظرة إلى الوطن والأداء، بعيداً من المصالح الشخصيَّة التي تفرض نفسها على الخطّ السياسي والإدارة والمشاريع الإنمائيَّة.
إنَّ المرحلة تفرض تجميع النقاط لمصلحة الوطن، لا تسجيل النقاط على هذا الشخص على حساب مصلحة الشَّعب كلّه.
المقاومةُ وحدَها الرّدّ
وأخيراً، تبقى مسألة العدوان الإسرائيلي على كلّ مناطق جبل عامل والبقاع الغربي، ولا سيَّما في المواقع المدنيَّة، تفرض نفسها على الواقع، وتبرز القرارات الاستهلاكيَّة في المسألة الفلسطينيَّة واللّبنانيَّة والسوريَّة الَّتي تحكم الواقع العربيَّ والإسلاميَّ في لجنة القدس وغيرها من دون تنفيذ، وتبقى المقاومة وحدها هي الردّ على واقع العدوان والإذلال الّذي تمارسه إسرائيل ضدّ العرب والمسلمين، ونبارك للمجاهدين عمليَّاتهم البطوليَّة في كلّ يوم ضدّ الاحتلال.

*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 31/07/1998.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ رَّقِيبًا}[الأحزاب: 52]، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النّساء: 1]، ويقول تعالى: {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ}[هود: 93]، ويقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 18].
تربيةُ النَّفسِ على رقابةِ الله
في هذه الآيات وفي غيرها، يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يربِّي في داخل نفسه الإحساس برقابة الله عليه، ليكون كلّ شيء يصدر عن الناس تحت رقابة الله وعينه، بحيث يتحرَّك الإنسان من موقع شعوره بأنَّ الله الَّذي يملك كلَّ أمره، يراقبُهُ، ويعرف كلَّ شيء مما يفكّر فيه ويتكلَّم به، ومما يحمله من انطباعات في نفسه، ومما يعمله، لأنَّ ذلك هو الّذي يشكِّل الضَّابط الّذي يضبط للإنسان كلَّ أوضاعه الداخلية والخارجية، ولا سيَّما إذا كان وحده، لا رقيب عليه من هنا وهناك. وهذا هو الَّذي يربي للإنسان ضميره، لأنَّ الضَّمير ليس شيئاً مخلوقاً مع الإنسان، ولكنَّه شيء يصنعه الإنسان من خلال ما يتعلَّمه، ومن خلال ما يفكّر فيه، ومن خلال ما يلتزمه.
ولهذا، فإنَّ الله يريد منا أن نتحسَّس ذلك دائماً، وقد ورد في دعاء كميل الّذي علَّمه أمير المؤمنين (ع) لكميل بن زياد: "وَكُنْتَ اَنْتَ الرَّقيبَ عَلَيَّ مِنْ وَرائِهِمْ، وَالشّاهِدَ لِما خَفِيَ عَنْهُمْ".
فالله سبحانه وتعالى يُطلع الملكين الحافظين على ما يقوله الإنسان ويفعله، ولكنّ ما يحمله الإنسان في فكره من التزامات فكريَّة، وما يحمله في مشاعره وأحاسيسه مما تنعقد نيَّته عليه، لا تطَّلعُ عليه الملائكة، ولكنَّ الله هو الَّذي يطَّلع عليه "وَكُنْتَ اَنْتَ الرَّقيبَ عَلَيَّ مِنْ وَرائِهِمْ، وَالشّاهِدَ لِما خَفِيَ عَنْهُمْ".
مواعظُ حولَ رقابةِ الله

وهكذا ورد عندنا عن عليّ (ع) في "نهج البلاغة"، وهو يعظ النَّاس آنذاك: "اعلموا عبادَ الله، أنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ، وَعُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ - فهناك رصد داخليّ على الإنسان من داخل جسده {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَآ أَبْصَٰرُكُمْ وَلَا جُلُودُكُم}[فصّلت: 21 - 22]. {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[يس: 65].
- وَحُفَّاظَ صدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُم - {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق: 18] - وَعَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ، لَا تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ، وَلَا يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ".
ويقول عليّ (ع)، وهو يشير إلى النَّاس الّذين يقطعون نهارهم باللَّغو فيما لا ينفعهم، وربما كان فيما يضرُّهم: "لا تقطعوا نهارَكم بكذا وكذا، وَفَعَلْنَا كذا وكذا، فإنَّ معَكم حفظةً يُحصون عليكم وعلينا".
وقد ورد في حديث أمير المؤمنين (ع)، وقد رأى شخصاً يتكلَّم كلاماً كثيراً بلا ميزان، فقال له: "يا هذا، إنَّك تُمْلي على كاتبيْكَ كتاباً إلى ربِّك – فأنت ترسل إلى الله في كلِّ يوم رسالة – فتكلَّمْ بما يعنيكَ، ودَعْ ما لا يعنيك".
وهكذا ورد عندنا عن عليّ (ع): "اِجعَلْ مِن نفسِكَ على نفسِكَ رَقيباً، واجعَلْ لِآخِرَتِكَ مِن دُنياك نَصيباً".
وكانَ فيما وَعَظَ اللّهُ تَبارَكَ وتَعالى بهِ عيسَى بنَ مريمَ (ع) أن قالَ له: "يا عيسى، كُنْ حَيثُما كُنْتَ - أينما كنت، في أيّ مكان، وفي أيّ موقع - مراقباً لي"، راقبني في كلّ أمورك وأوضاعك.
وورد عن عليّ (ع): "رحمَ اللهُ امرءاً راقبَ ربَّه، وتنكَّبَ ذنبَه، وكابرَ هواه، وكذَّبَ مناه، امرؤٌ أزمَّ نفسَه منَ التَّقوى بزمامٍ – كما زمام الفرس الّذي يمنعها من الجموح - وألجمَها منْ خشيةِ ربِّها بلجامٍ... دائمُ الفكرِ، طويلُ السَّهرِ، عزوفاً عنِ الدّنيا... قدْ وقرَ قلبَهُ ذكرُ المعاد، وطوى مهادَه، وهجرَ وسادَه، منتصباً على أطرافِهِ... خشوعٌ في السّرِّ لربِّهِ، لدمعِهِ صبيبٌ، ولقلبِهِ وجيبٌ... ".
وعنه (ع): "رحم الله عبداً راقبَ ذنبَهُ، وخافَ ربَّهُ".
شهادةُ الزّمن على الإنسان
وهكذا يريدنا الله سبحانه وتعالى من خلال ما ألقاه على لسان أوليائه وأنبيائه، أن نعرف أنَّ الزَّمن يخاطبنا، فعندما يطلع عليك النَّهار، تمثَّل نهارك يخاطبك، وقد وردَ في الحديث عن عليّ (ع)، قال: "مَا مِن يَومٍ يَأتي عَلى ابنِ آدَمَ إلَّا قَالَ ذلكَ اليَومُ: يَا بْنَ آدَمَ، أنا يَوْمٌ جَديدٌ، وأنا عَلَيكَ شَهيدٌ، فَافعَلْ بي خَيراً، وَاعمَلْ فِيَّ خَيراً، أشهَدْ لَكَ يَومَ القِيامَةِ؛ فإنَّكَ لَن تَراني بَعدَها أبَداً"، لأنَّ اليوم الّذي يمضي لا يعود أبداً. فالنَّهار يستدعيك، ويقول لك أنا ناصح لك، وأنا جزء من عمرك، وأمرُّ في حياتك كزيارة، وعندما أمضي لن أعود أبداً، وسوف أشهد عليك يوم القيامة، فافعل بي خيراً، وقل فيَّ خيراً، أشهدْ لك بذلك عند الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.
وقد ورد عن عليّ (ع): "أَلَا إنَّ الأيّامَ ثلاثةٌ: يَومٌ مَضى لا تَرجُوهُ، ويَومٌ بَقِيَ لا بُدَّ مِنهُ، ويَومٌ يَأتِي لا تَأمَنُهُ؛ فالأمسُ مَوعِظةٌ - فجزء من عمرك مضى، فاتّعظ بذهابه - واليَومُ غَنيمَةٌ – اغتنم يومك هذا بكلِّ ما فيه من الفرص الّتي تقرِّبك من الله - وغَدٌ لا تَدرِي مَنْ أهلُهُ"، فيمكن أن تكون من أهل الغد ويمكن أن لا تكون. لذلك، اهتمَّ بيومك هذا، حتَّى تغتنم كلَّ ما فيه من فرص.
المراقبةُ في خطٍّ تصاعديّ
ثمّ إنَّه من الأمور الّتي ينبغي للإنسان أن يراقب فيها نفسه دائماً، أنَّ الإنسان دائماً في خطّ تصاعديّ، إنَّ الله لا يريد للإنسان أن يكون يومه هذا مثل يومه السّابق، بل يريد لكلّ يوم أن يكون أفضل من اليوم السَّابق.
يقول عليٌّ (ع): "مَنِ اعتَدَلَ يَوماهُ - يعني كان يومه الحاضر كيومه الّذي مضى - فَهُو مَغبونٌ – فعندما يكون لديك رأسمال، وتكون قادراً على أن تحصّل فيه ربحاً، ولا تربح، ألا تعتبر مغبوناً؟! والغبن هو أن تبيع شيئاً بأقلّ من سعره حقّاً، أو أن تشتري شيئاً بأكثر مما يستحقّ. فهذا جزء من عمرك، ويمكن لهذا الجزء من عمرك أن تتاجر مع الله به، فتحصل على خير الدنيا والآخرة من خلال أعمالك، فإذا أهملت ذلك ولم تحركه في خطِّ الخير، فأنت مغبون، لأنَّك بعت يومك بالثَّمن البخس أو بلا ثمن.
- ومَن كانَ غَدُهُ شَرَّ يَومَيهِ فَهُو مَفتونٌ – يعني أنَّ الله اختبره وسقط في الامتحان - ومَن لَم يَتَفَقَّدِ النُّقصانَ في نَفسِهِ دامَ نَقصُهُ - الَّذي لا يتفحَّص نفسه؛ هل نقص منها علم أو تقوى أو شيء من الخبرة أو الالتزام، فواحدنا قد يكون اليوم بخير، ولكن قد يلتقي غداً بصديق سيّئ يبعده عن الله، أو أنّه عاش في بيئة سيّئة مليئة بالمعاصي والشَّهوات، ونَقُصَ شيء من دينه. فالإنسان يحتاج في كلّ يوم أن يفحص رصيده، كما يفحص رصيد محلّه كم زاد وكم نقص - ومَن دامَ نَقصُهُ فَالمَوْتُ خَيرٌ لَهُ"، فما معنى هذه الحياة الّتي كلَّما تقدَّمَتْ أكثر، تراجعَتْ أكثر؟!
الإمام زين العابدين (ع) يقول في دعاء "مكارم الأخلاق" عن العمر: "وَعَمِّرْنِي ما كانَ عُمرِيْ بِذْلَةً في طَاعَتِكَ – فطالما أنّ عمري في طاعتك يا الله، فاجعلني أعيش مائة سنة أو أكثر - فَإذَا كان عُمْرِي مَرْتَعَاً لِلشَّيْطَانِ – فلا أريده، لأنّه يزيدني بعداً عنك، ويجعلني أخسر آخرتي - فَـاقْبِضْنِي إليـك قبلَ أن يَسْبِقَ مَقْتُـكَ إلَيَّ، أو يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ".
وفي دعاء أبي حمزة الثّمالي: "واجعلْني ممَّن أطلْتَ عُمْرَه، وحَسَّنْتَ عَمَلَه".
وفي دعاء يوم الثّلاثاء: "وَاجْعَلِ الحَيَاةَ زِيَادَةً لي في كُلِّ خَيْرٍ، والوفاةَ رَاحَةً لي مِن كُلِّ شَرٍّ"، فإذا كانت حياتي سيزداد الشّرّ فيها، فلا أريدها.
كيف يمكن للإنسان أن يواجه مسألة المراقبة لنفسه؟! يقول الرّسول (ص): "ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيهِ مِنَ المُؤمِنينَ كانَ في كَنَفِ اللّهِ، وأظَلَّهُ اللّهُ يَومَ القِيامَةِ في ظِلِّ عَرشِهِ، وآمَنَهُ مِن فَزَعِ اليَومِ الأَكبَرِ – يعني كان في رعاية الله سبحانه - مَن أعطَى النَّاسَ مِن نَفسِهِ ما هُوَ سائِلُهُم لِنَفسِهِ - الَّذي يعطي النَّاس من نفسه ما يطلب من النَّاس أن يعملوه معه - ورَجُلٌ لَم يُقَدِّم يَداً ولا رِجلاً حَتّى يَعلَمَ أنَّهُ في طاعَةِ اللّه قَدَّمَها أو في مَعصِيَتِهِ، ورَجُلٌ لَم يَعِبْ أخاهُ بِعَيبٍ – فالَّذي يريد أن يعيب أخاه بعيب، عليه أن ينظر إلى نفسه وإلى عيوبه - حَتّى يَترُكَ ذلِكَ العَيْبَ مِن نَفسِهِ".
أهميّةُ تنظيمِ الوقت
وهكذا ورد عندنا، أيُّها الأحبَّة، عن رسول الله (ص) في تقسيم أوقات الإنسان، هذا الّذي يحاسب نفسه ليربّيها، يقول (ص): "كان فيها – أي في صحف إبراهيم (ع) -: على العاقِلِ ما لَم يَكُن مَغلوباً على عَقلِهِ أن يكونَ لَهُ ساعاتٌ: ساعَةٌ يُناجِي فيها رَبَّهُ عزَّ وجلَّ، وساعَةٌ يُحاسِبُ نَفسَهُ، وساعَةٌ يَتَفَكَّرُ فيما صَنَعَ اللّهُ عزَّ وجلَّ إلَيهِ، وساعَةٌ يَخلُو فيها بِحَظِّ نفسِهِ مِنَ الحَلالِ؛ فإنَّ هذهِ السَّاعَةَ عَونٌ لِتلكَ السَّاعاتِ، واستِجمامٌ للقُلوبِ وتَوزِيعٌ لها".
ويحدّثنا الإمام الحسين (ع) عن أبيه (ع)، كيف كان رسول الله (ص) يقضي وقته إذا دخل إلى بيته. عن مولانا الإمام الحسين (ع)، قال: "سألْتُ أبي عنْ مدخلِ رسولِ اللهِ (ص)، فقالَ (ع): كانَ دخولُهُ (ص) لنفسِهِ مأذونٌ له في ذلك، فكانَ إذا أوى إلى منزلِه، جزَّأَ دخولَهُ ثلاثةَ أجزاءٍ: جزءاً للهِ عزَّ وجلَّ – يصلّي لله ويعبده ويدعوه - وجزءاً لأهلِهِ – يجلس مع أهله وأولاده، لا أن يأتي الرّجل من عمله إلى البيت، فيجلس مع أصحابه أو أمام التلفاز، فلا يتكلّم مع زوجته وأولاده، بل إنّ عليه أن يجلس مع أهله، أن يحدّثهم ويحدّثوه، يرشدهم وينصحهم ويعرّفوه حاجاتهم، وهكذا - وجزءاً لنفْسِهِ – كأن يريد هذا الشّخص مثلاً أن يقرأ، أو أن يتأمَّل- ثمَّ جزّأَ جُزأَه بينَهُ وبينَ النَّاسِ، فيرُدُّ ذلكَ بالخاصَّةِ على العامَّةِ – بمعنى أنَّ الجزء الّذي له يضحِّي به، فبدل أن يرتاح في هذا الجزء، يعطيه للآخرين، وبدل أن يعطي نفسه راحتها، يخصِّص هذا الوقت للآخرين - ولا يدَّخِرُ عنهم منْهُ شيئًا – يعني كان (ص) يعيش لأمَّته حتّى ولو على حساب نفسه - وكان من سيرتِهِ في جزءِ الأمَّةِ – عندما يعطي جزأه للأمَّة - إيثارُ أهلِ الفضلِ بإذنِهِ، وقسَّمَهُ على قدرِ فضلِهم في الدّين، فمنْهم ذو الحاجةِ، ومنْهم ذو الحاجتَيْن، ومنْهم ذو الحَوائجِ".
نعرف من هذا أنَّ على الإنسان أن يحاول دائماً أن يقسِّم أوقاته وينظّمها، فلا يجعل كلَّ وقته لنفسه، ولا كلّ وقته لأهله، ولا يجعل أيضاً كلَّ وقته للحلال ولذّته، بل أن يقسّم، فإنَّ لربِّك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً، ولجسدك عليك حقّاً، وللناس من حولك عليك حقّاً، حاول أن تنظِّم أوقاتك. وإذا استطعنا، أيُّها الأحبَّة، أن ننظّم أوقاتنا، فسنجد في أوقاتنا الغنى كلّ الغنى.
بعض الناس نسمعه يقول ليس عندي وقت أن أقرأ أو أتعلَّم أو أن أعمل كذا، ولكن في الواقع هو عنده وقت، ولكنَّه غير منظَّم وغير مركَّز، وإذا جرّب كلّ واحد منّا أن يقسِّم وقته من الصَّباح إلى اللَّيل تقسيماً دقيقاً على حسب وجوده، وحسب حاجته وحاجة أهله وحاجة الناس، نجد أنّنا نستطيع أن نصل إلى النَّتائج الكبرى في هذا المجال، وقد ورد في الحديث عن الإمام الكاظم (ع): "لَيسَ مِنّا مَنْ لَمْ يُحاسِبْ نَفْسَهُ كُلَّ يَومٍ، فإنْ عمِلَ حَسَناً استزادَ اللهَ، وَإِنْ عمِلَ سيّئاً استغفرَ اللهَ منْهُ وتابَ إليْهِ".
التّعهّدُ بمحاسبةِ النّفس
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، على الإنسان دائماً أن يصنع نفسه على الخير والتَّقوى والإنتاج وتحمّل المسؤوليّة في الواقع، لا يكن أحدكم كالنبتة التي تنبت في الصَّحراء من دون رعاية، ولكن حاولوا أن تتعهَّدوا أنفسكم بالمحاسبة والمراقبة، وأن يختزن الإنسان في نفسه أنَّ الله سبحانه وتعالى يراقبه في سرّه وعلانيته، وأنَّ الملكين يحفظان عليه كلَّ أقواله وأعماله، وأنَّ جوارحه تحفظ عليه كلَّ ما قام به منها. ولذلك، لا بدَّ أن يشغل الإنسان بنفسه، ليبنيها، وليكملها، وليسير بها في اتجاه الله، حتَّى إذا وقف بين يدي الله، وقيل له: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء: 14]، يكون قد قرأ كتابه قبل أن يموت، لأنَّه كتب كتابه من خلال الإيمان والوعي والتقوى والعمل الصَّالح.
                                                  بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
                                                            الخطبة الثّانية

عباد الله، اتَّقوا الله في وجودكم كلّه، وفي حياتكم كلّها، سواء كنتم في البيت أو في الشارع أو في مكان العمل، أو كنتم في ساحة المواجهة.. راقبوا الله في أنفسكم مراقبة دقيقة جداً، وراقبوا أنفسكم بين يدي الله سبحانه وتعالى، فلا ينطلق الإنسان في أيّ عمل إلَّا بعد أن يحرز في نفسه أنّه لله، ولا ينطلق في نيّة ينويها في علاقته بأهله أو علاقته بالناس معه، إلا إذا كانت نيَّة خير، لأنَّ الله {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر: 19]، {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَىٰ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ}[المجادلة: 7].
وهكذا، أيُّها الأحبَّة، لا بدَّ أن تراقبوا أنفسكم في كلّ مواقفكم، فيما تحبّون وفيما تكرهون، فيما تؤيّدون وفيما ترفضون، فيما تتحدَّثون وفيما لا تتحدَّثون، لا تنطلقوا في هوى أنفسكم في كلّ أحاديثكم وأوضاعكم، لا تتحركوا في خطّ عصبياتكم، سواء كانت عصبياتكم لأنفسكم، أو لعوائلكم أو لأحزابكم، أو ما إلى ذلك، لأنَّ العصبيَّة في النار، وعلى الإنسان أن ينقذ نفسه من التعصّب في ذلك.. عندما تتكلّم كلمةً فكّر؛ هل هي كلمة يرضاها الله أو لا يرضاها، وعندما تقوم بعمل فكّر؛ هل هو عمل يرضاه الله أو لا يرضاه، لتكون حساباتك مع نفسك أشدّ من محاسبة الشَّريك لشريكه، كما ورد في بعض الأحاديث.
وعلى هذا الأساس أيضاً، لا بدّ أن نحاسب أنفسنا عن مواقفنا، سواء كانت مواقف سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك، لأنَّ موقف الإنسان جزء من عمله، فلا بدَّ أن يكون موقفك في رضا الله، وعلينا أن نهتمَّ بأمور المسلمين في كلّ مكان في العالم، حتى يعرف الله منَّا أننا ننفتح على المسلمين جميعاً، باعتبار أنهم أهلنا وأمَّتنا التي أوصانا رسول الله (ص) أن نهتمَّ بها في كلِّ ما نستطيع الاهتمام به. وفي ضوء هذا، لا بدَّ أن نعرف ماذا هناك.
تمييعٌ دوليٌّ لقضيّةِ كوسوفو
في الوقت الَّذي لا يزال الاستكبار العالمي يلعب بالقضيَّة الفلسطينيَّة لإنجاح المشروع اليهوديّ في تهويد فلسطين سياسياً، تبرز قضية إقليم كوسوفو كمشكلة سياسية إنسانية جديدة، تدخل في النَّفق ذاته الَّذي دخلت فيه قضيَّة المسلمين في البوسنة والهرسك، فهناك تسويفٌ وتمييعٌ دوليّ للمسألة، يتمثَّل في الموافقة الأوروبية والأمريكية الضّمنيّة على ما يجري، لأنَّ الضحايا من المسلمين الذين لا يراد لهم أن يحصلوا على الاستقلال في أوروبا وحقّ تقرير المصير، ولو كانت هذه الأقلية يهودية لاختلف الأمر في ذلك.
إننا نتساءل إزاء هذه الجرائم وعملية الإبادة: أين العالم الإسلاميّ؟ وما دور الأمم المتحدة ومنظَّمات حقوق الإنسان أمام حرب الإبادة التي يتعرّض لها المسلمون هناك في هذا الإقليم من قبل الصّرب؟!
مأساةُ السّودان
وعلى صعيد آخر، لا بدَّ أن نتوقَّف عند الأوضاع المأساوية في المجاعة الإنسانيَّة في السودان، بفعل الحرب المستمرَّة التي يشرف عليها الاستكبار العالمي، الَّذي لا يريد لهذا البلد أن يستقرّ ليحصل على الاكتفاء الذاتي والاستقرار السياسي بفضل ثرواته الكامنة في أرضه، ولا سيَّما بعد تحوّل هذا البلد إلى دولة إسلاميَّة تعمل من أجل الدعوة الإسلامية في أفريقيا، والتحرر من سيطرة المستكبرين السياسية والاقتصادية.
إننا ندعو إلى الوقوف مع الشعب السوداني إنسانياً وسياسياً وأمنياً، من أجل إيقاف الحرب المجنونة التي تقف أمريكا وراءها بمختلف وسائلها الداخليَّة والخارجيَّة، ويتحرَّك كلّ عملائها في المنطقة وخارجها، حتَّى من بعض المسلمين في العالم الإسلامي، من أجل مساعدة المتمردين ضد السلطة الشرعيَّة على استمرار هذه الحرب.
خطّةٌ أمريكيّةٌ ضدّ إيران
وفي موازاة ذلك، لا تزال أمريكا تثير الضجَّة حول الصَّاروخ الإيراني شهاب 3، باعتبار أنَّه سيغيِّر ديناميكيَّة الاستقرار في الشرق الأوسط، كما يقول الرئيس الأمريكي، ويقول مساعد وزير الخارجيَّة الأمريكيَّة اليهودي مارتن أنديك، إنَّ إيران ستقوم في المستقبل غير البعيد بإنتاج صواريخ متوسّطة المدى، قادرة على تهديد حلفاء واشنطن في المنطقة، ومن بينهم إسرائيل والسعودية.
إنَّ هذا الحديث يوحي بأنَّ هناك خطّةً لتخريب العلاقات العربيّة الإيرانيّة، ولا سيّما السعودية، بالإيحاء بأنَّ إيران تستهدف من صاروخها الجديد تهديد السعوديّة ودول الجوار، في الوقت الذي صرَّحت إيران بأنَّه موجَّه للدّفاع عن نفسها في مواجهة إسرائيل التي لا تزال تهدِّد بين وقت وآخر بقصف إيران، كما أنَّ أمريكا لا تريد لإيران أن تملك القوَّة في الدّفاع عن نفسها ضدَّ أيّ حرب مفروضة عليها. ولهذا، فإنَّ أمريكا تعمل لفرض عقوبات على بعض الشَّركات الروسيَّة الآن التي تحتمل تقديمها بعض المساعدات العلميَّة لإيران لتطوير صواريخها كما تقول، وللضَّغط على كلّ الدول القادرة على مساعدة إيران في الخبرة العسكرية والأمنية، ولكنَّها - أمريكا - تعمل في الوقت نفسه على أن تبقى إسرائيل القوَّة الأولى في المنطقة.
إنّ على المسلمين الوقوف ضدّ هذا العدوان الأمريكي على مستقبل شعوبهم سياسياً وأمنياً واقتصادياً، واعتبار أمريكا عدوَّ المسلمين جميعاً.
المطلوب تغييرِ ذهنيَّةِ الحكم
أمَّا على المستوى اللّبناني، فلا يزال الجدل السياسي في الواقع الداخلي يتحرَّك في إطار علاقات أهل الحكم، في عملية إلهاء للمواطنين عن القضايا الحيوية في المشاكل الاقتصادية التي يتَّجه فيها البلد إلى ما يشبه الإفلاس، وإغراق الناس في الأزمات المعيشية من دون حلّ.
إنَّ المطلوب هو أن تنطلق الدولة بكلّ مسؤوليها في ورشة تخطيط لما هي صورة لبنان الغد في مواجهة الاحتلال، وفي صناعة فرص العمل لمواطنيه، وفي وقوفه أمام التحدّيات والعواصف الكبيرة التي تطلّ عليهم من أبواب المنطقة. إنَّ المسألة ليست في تغيير الأشخاص ليتحدَّث عن ذهاب رئيس ومجيء رئيس، بل في تغيير ذهنيَّة الحكم في النظرة إلى الوطن والأداء، بعيداً من المصالح الشخصيَّة التي تفرض نفسها على الخطّ السياسي والإدارة والمشاريع الإنمائيَّة.
إنَّ المرحلة تفرض تجميع النقاط لمصلحة الوطن، لا تسجيل النقاط على هذا الشخص على حساب مصلحة الشَّعب كلّه.
المقاومةُ وحدَها الرّدّ
وأخيراً، تبقى مسألة العدوان الإسرائيلي على كلّ مناطق جبل عامل والبقاع الغربي، ولا سيَّما في المواقع المدنيَّة، تفرض نفسها على الواقع، وتبرز القرارات الاستهلاكيَّة في المسألة الفلسطينيَّة واللّبنانيَّة والسوريَّة الَّتي تحكم الواقع العربيَّ والإسلاميَّ في لجنة القدس وغيرها من دون تنفيذ، وتبقى المقاومة وحدها هي الردّ على واقع العدوان والإذلال الّذي تمارسه إسرائيل ضدّ العرب والمسلمين، ونبارك للمجاهدين عمليَّاتهم البطوليَّة في كلّ يوم ضدّ الاحتلال.

*خطبة الجمعة لسماحته، بتاريخ: 31/07/1998.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية