وتفصيل أحكامه يقع في مسائل:
م - 287: لا بد في المزارعة من (عقدٍ) بين صاحب الأرض والزارع يذكر فيه مراد كل منهما وشروطه التي يرغب أن يكون العمل على أساسها، وكمال العقد أن يكون باللغة العربية وبصيغة الماضي عند إيجابه من قبل صاحب الأرض بقوله: "سلمت إليك هذه الأرض لتزرعها بالكيفية الفلانية بحصة من حاصلها مقدارها كذا"، فيقول الزارع: "قبلت"؛ ولكنه يصح بكل لفظ يدل على المزارعة، بل وبكل لغة، فلا يشترط فيه إلا استخدام ما يدل على رغبة المتعاقدين من الألفاظ إذا كان التعاقد (لفظياً)، وإلا فإنه يصح بالمعاطاة التي تتحقق بتسليم الأرض للزارع ليزرعها بكيفية خاصة واستلام الأرض من قبل الزارع قاصداً القيام بما طلب منه.
م ـ 288: يجب أن يشتمل عقد المزارعة على أمور:
الأول: أن يكون كل من المتعاقدين عاقلاً غير مجنون ورشيداً غير سفيه، وأن يكون مختاراً غير مكره، وأن يكون بالغاً، أما غير البالغ فإنه يصح عقده إذا كان مميزاً ومأذوناً من قبل الولي، وإلا لم يصح، وأن لا يكون محجوراً عليه لفلس إذا استلزم العقد تصرفه بالمال المحجور عليه، وإلا لم يمنع الحجر على المفلس من صحة عقده ومضيّه.
الثاني: تعيين قطعة بعينها من أراضي المالك المتعددة إذا كانت مختلفة في طبيعتها اختلافاً موجباً لاختلاف مستلزمات وشؤون الزراعة فيها، فإذا لم يعين الأرض في مثل هذه الحالة تبطل المزارعة، وأما مع تساوي تلك القط ع من الأرض في الصلاحية الزراعية ومستلزماتها، فلا يضر عدم التعيين بصحة العقد، وعلى الزارع - حينئذ - أن يلتزم بما يعينه له المالك.
الثالث: أن تكون الأرض قابلةً للزرع من جهة تربتها وتوفر الماء فيها أو إمكان إيصاله إليها، ولو ببذل الجهد في إصلاحها وريِّها، وكذا من جهة عدم وجود ما لا يرجى زواله من موانع الزراعة خلال فترة التعاقد، مثل وجود عدوّ فيها أو سباع أو فئران تضر بالزرع أو ما يشبه ذلك من الموانع؛ فإذا تم التعاقد على أرض لا يتوفر فيها هذا الشرط بطلت المزارعة، وكذا تبطل المزارعة إذا انكشف ذلك فيها بعد العقد ما دام لا يمكن إصلاح الأمر، أما إذا أمكن إصلاح الأمر وتحقيق القابلية بأكثر من الجهد الذي اتفق عليه - ولو ضمناً - كان للزارع خيار تخلف الشرط بالنحو الذي سنذكره لاحقاً.
الرابع: تعيين المزروع من حيث جنسه، وأنه حَبٌّ أو خضار، وأنه أي نوع من الجنس، شعير أو عدس أو فول مثلاً، وأنه أي صنف منها إذا كان للنوع صنفان أو أكثر مما تختلف فيه الأغراض، ويكفي في التعيين شيوع زراعة جنس أو نوع أو صنف بعينه بنحو صار ذلك الشيوع موجباً لانصراف اللفظ إليه ومغنياً عن تصريح المتعاقدين به، فإذا لم يعينا نوع المزروع بطل العقد إلا أن يصرِّحا بالتعميم وبحرية الزارع في زرع ما يشاء، أو تكون قرينة على إرادة التعميم تفهم من جو التعاقد.
الخامس: تعيين المدة بالأشهر أو السنين أو الفصول بالمقدار الذي يمكن حصول الزرع فيه، ولا تعتبر صلاحية الأرض للانتفاع في تمام المدة المعينة، فلو كانت الأرض تحتاج إلى إصلاح في السنة الأولى - مثلاً - لم يضر ذلك في مزارعتها سنتين أو ثلاث، سواء في ذلك الأرض الموقوفة وقفا عاما أو خاصا وغيرها.
السادس: تعيين ما عليهما من المصارف والنفقات اللازمة لإتمام عملية الزراعة واستخراج الحاصل مما لا بد من جعله على أحدهما أو على كليهما، ويكفي في ذلك الاعتماد على ما هو المتعارف منه في كل مجتمع.
السابع: أن يكون لكل من المالك والزارع حصة من حاصل الأرض محددة بالكسور، كالنصف والثلث، فلا يصح أن تكون أجرة الزارع ولا نصيب المالك حصة من الحاصل محددة بالكيل أو الوزن، ولا مقدارا من النقد أو غيره من سائر الأموال، بل ولا يصح أن يتفقا على أن يُجعل الحاصل كله لواحد منهما دون الآخر، ولا يصح أن يكون تحديد حصة أحدهما بمثل: (ما يحصد أو يقطف في الأيام العشرة الأولى)، ونحو ذلك مما لا تحديد فيه بالكسور، فإذا حددت الحصة بغير الكسور لم تصح المزارعة.
ولهذا الشرط تفاصيل نذكرها كما يلي:
1 ـ لا يشترط في الحصة أن تكون مشاعة في جميع الحاصل، فيصح اشتراط اختصاص أحدهما بقطعة أرض معينة يأخذ منها حصته، أو اشتراط أن يأخذ حصته من القسم الذي يقطف أولاً، ونحو ذلك مما لا ينافي كون حصته كسراً من الحاصل ولو لم تكن مشاعة في جميعه.
2 ـ يصح أن يشترط كل من المالك والزارع على الآخر زيادة على حصته نقداً أو عينا من غير الحاصل، وذلك كأن يقول المالك: "ازرع هذه الأرض ولك نصف حاصلها على أن تعطيني زيادةً على نصفي خمس شياه أو ألف قطعة من النقد"، أو نحو ذلك، فلا يصح اشتراط زيادةٍ لأحدهما من حاصلها، كأن يجعل أحدهما لنفسه مثلا خمسة أطنان من الحاصل زيادة على حصته المتّفق عليها، اللهم إلا أن يكون ذلك الزائد مقابل مقدار البذر لمن كان منه، أو مقابل الضرائب التي دفعت على الأرض لمن دفعها؛ ثم إن هذه الزيادة المشروطة تثبت لمن شرطها حتى لو لم تسلم حصة الآخر، كلها أو بعضها، إلا أن يشترط في ثبوتها سلامة حصة المشروط عليه، كلها أو بعضها، أو أن تكون السلامة شرطاً ضمنياً ملحوظاً حين التعاقد على هذا النحو.
3 ـ نظراً لرغبة الكثيرين في أخذ نقدٍ مقابل حصتهم، أو في أخذ عين أخرى غير الحاصل، من جنسه أو من غير جنسه، فإنه يجوز للراغب في ذلك بعد ظهور الحاصل وتخمينه أن يصالح على حصته من القمح - مثلاً - بمقدارٍ من النقد أو الشياه أو الفاكهة أو نحو ذلك. بل يجوز ذلك قبل ظهور الحاصل إذا ضم إلى نصيبه من الحاصل المجهول مقداره ضميمة معلومة، وذلك كأن يبادر صاحب الأرض مثلاً بعد الزرع وقبل ظهور الحاصل إلى مصالحة الزارع على حصته مهما كان مقدارها منضمة إلى الثوب الفلاني مقابل خمسين قطعة ذهباً يدفعها له الزارع ويكون له جميع الحاصل مع ذلك الثوب.
م -289: يصح عقد المزارعة بين أكثر من اثنين، ثلاثة أو أربعة أو أكثر، فيتعاقدون - مثلاً -على أن تكون الأرض من واحد والبذر من الثاني والمعدات الزراعية من الثالث والإشراف من الرابع، فيتقاسمون الحاصل بينهم بالنحو الذي يتفقون عليه.
م -290: لا فرق في صحة عقد المزارعة بين أن يكون البذر من المالك أو العامل أو منهما معاً، ولكن لا بد من تعيين ذلك كما سلف ذكره آنفاً، إلا أن يوجد عرف شائع في المجتمع ينصرف إليه التعاقد. وكذا لا فرق بين أن تكون الأرض مختصة بالمالك أو مشتركة بينه وبين العامل؛ كما أنه لا يلزم أن يكون تمام العمل على الزارع، فيجوز أن يكون العمل عليهما معاً بالنحو الذي يتفقان عليه؛ وكذا الحال في سائر التصرفات والآلات.
م -291: لا يمنع عقد المزارعة - بطبيعته - من أن يشرك الزارع غيره في زراعة الأرض التي التزمها، وليس عليه أن يستأذن متولي الأرض في ذلك، إلا إذا استدعى إشراكه تسليمه العين التي هي بعهدة الزارع، أو كان قد اشترط عليه المتولي مباشرة العمل بنفسه، أو كان الاستئذان - أو المباشرة - متعارفاً في مجتمع المزارعين.
وتتحقق المشاركة بمثل استئجار غيره ليؤدي له شيئاً من أعمال الزراعة مقابل حصة من حاصلها، كأن يفلح له، أو يبذر له الحب، أو يعشب الأرض، أو أن يستأجر المعدات التي عنده، أو نحو ذلك؛ أو تتحقق المشاركة بعقد مزارعة ينشئه الزارع الأول للزارع الثاني ويحمل جميع خصائص عقد المزارعة الأول، وفي كلا الحالين، فإن الحصة المفروضة لشريك الزارع يجب أن تكون من حصته لا من حصة المالك، فلو كان نصيب المالك النصف فإن الحصة التي يعطيها الزارع لشريكه نصفاً أو ربعاً أو ثلثاً إنما هي من نصفه هو، حتى لو كان البذر في المزارعة الأولى من الزارع الأول لا من المالك.
م -292: إن عقد المزارعة يقتضي كون أجرة الأرض المستأجرة والضرائب المترتبة على الأرض المملوكة على باذل الأرض لا على الزارع، وأما سائر المؤن كالبذر والفلاحة والسقاية والتعشيب ورش المبيدات وحراسة الزرع واجتزازه - أو قطافه - وتوضيبه وتخزينه وسائر ما يتعلق باستنبات الثمرة أو جنيها، فإنها جميعها تحتاج إلى تعيين واتفاق بين طرفي المزارعة، إلا أن توجد عادة متعارفة تغني عن التعيين.
م -293: يقضي عقد المزارعة اشتراك الأطراف في جميع الحاصل بنسبة حصة كل واحد منهم، فيشمل في مثل القمح حشيشه وقصيله وتبنه وحبه، أي أن الاشتراك لا يقتصر على خصوص الحب وحده من أجزاء الزرع، بل يشمل كل ما هو نافع ومرغوب من أجزائه، فإن اتفقا على غير ذلك ثبت ما اتفقا عليه وتعين.
م ـ 294: المزارعة عقدٌ لازم، فيجب على الطرفين الوفاء به ما دامت شروطه تامة، وليس لأحدهما أن يفسخ هذا العقد إلا إذا رضي الآخر وأقاله، أو كان ذلك بسبب واحد من الخيارات الثابتة له، مما سنذكر تفصيله في المبحث التالي.