قد تبيّن مما قدّمنا في التمهيد لهذا المقصد أن الهبة بالمعنى المصطلح هي بذل مال للغير مجاناً، ولكن هذه الهبة - كما سوف يتبين من تعريفها لاحقاً - مأخوذ فيها أن لا تكون بقصد القربة، فإن قصد الواهب بعمله ذلك التقرب إلى الله تعالى صار في مصطلح الفقهاء (صدقةً)، وبخاصة أن الفقهاء لا يشترطون في الصدقة كون المتصدَّق عليه فقيراً، بل يرون أن إعطاء الغني هدية بقصد التقرب إلى الله تعالى يعتبر (صدقة)، رغم أن الغالب - في عرف الناس - إطلاقها على موارد إهداء الفقراء والتحنن عليهم؛ وقد اقتضى هذا التقارب بين (الهبة) و(الصدقة) ذكرهما في باب واحد، كما اقتضى ما بينهما من اختلاف جعلهما في فصلين.
هذا، ولا بد من إلفات النظر إلى أن الهبة بالمعنى المتقدم تشمل (الهدية)، وهي: (ما يقدم في المناسبات أو بدونها بقصد التحبب والتعظيم)، كما تشمل (النِّحْلة)، وهي: (ما يعطى إلى الأولاد والأرحام من عقارات ونحوها من غير المنقول) كما يظهر من بعض الأخبار، وتشمل - أيضاً، (الجائزة)، وهي: (ما يقدم ثواباً وتشجيعاً على عمل)، فجميع ذلك تلحقه أحكام الهبة.
ثم إنه لا يخفى ما في الهبة من فضل، فإنها سبب في توثيق العلاقات الاجتماعية وتمكين أسباب المودة بين الأقارب والأزواج والأصدقاء، سواء في إطار التهادي في المناسبات أو بدونها، أو في إطار إعطاء الهدية كـ(جائزة) ثواباً وتشجيعاً لمن قام بعمل جيد؛ وحتى عندما تصبح الهدية صدقة يراد منها التقرب إلى الله تعالى، فإنها تساهم بقوة في رفع مستوى التضامن الاجتماعي وتحقيق التراحم بين الناس؛ وانطلاقاً من ذلك ورد في الحثّ عليها أحاديث كثيرة شجعت عليها وعددت فوائدها وألوان الثواب عليها؛ منها ما روي عن النبي(ص) أنه قال: "الهدية تورث المودة، وتجْدُرُ (أي تحوط) الأخوة، وتذهب الضغينة، تهادوا تحابوا"، وعنه(ص) ـ أيضاً ـ: "من تَكْرِمَةِ الرجل لأخيه المسلم أن يقبل تحفته ويتحفه بما عنده ولا يتكلف له شيئاً".
وأما ما ورد في الحث على الصدقة وفضلها فهو كثير، نذكر منه قول النبي(ص): "تصدّقوا وداووا مرضاكم بالصدقة، فإن الصدقة تدفع عن الأعراض والأمراض، وهي زيادة في أعماركم وحسناتكم". وعنه (ص) أنه قال: "..اتقوا النار ولو بشق التمرة، فإن الله عز وجل يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يوفّيه إياها يوم القيامة، حتى يكون أعظم من الجبل".