الحركات الإسلامية بين الدفاع والنقد

الحركات الإسلامية بين الدفاع والنقد

تفرّد المرجع الإسلامي العلامة السيد محمد حسين فضل الله لسنوات طويلة، بالدفاع المميّز عن الحركات الإسلامية وصحوتها، لتحريك الأمة وإستنهاضها. ويبدو اليوم أيضاً وحده من المراجع الإسلامية الكبيرة ينفرد بانتقاد مميز لهذه الحركات التي لم نستطع بعد العيش في المفاهيم الإسلامية الأصيلة، ولم تستطع بعد الخروج من ظلام التراكمات التاريخية الناتجة عن عهود التخلف المليئة بالجهل، والمليئة بالخرافة التي بدأت تنفذ إلى كثير من هذه الحركات وإلى قياداتها.

عن ذلك، وعن حالة الأمّة وأحوالها في هذه المرحلة، تحدَّث المرجع السيد فضل الله لـ "الشراع" عبر الحوار التالي:

من المسؤول؟؟

س: لو وقف قادتنا ومراجعنا في العالم العربي الآن أمام الله، ماذا يمكن أن يقولوا عن حال الأمة المحتلة في مكان، والمستسلمة في مكان ثانٍ، والمحاصرة في آخر؟

ج: من الصعب جداً التحدّث بشكل سلبي مطلق أو إيجابي مطلق في ذلك، لأن مسألة الإدانة أو التّكريم تنطلق من طبيعة الوعي العقلي لما يقوم به الإنسان سلباً أو إيجاباً، فنحن نروي أن الله سبحانه وتعالى يجازي الإنسان من خلال حجم عقله، لأن قضيَّة العمل هي قضيَّةُ وعيه في حركته في الواقع، فالإنسان في دوافعه ووعيه يؤنسن العمل. ومن الطبيعي جداً أن هناك تقصيراً واضحاً في خطِّ المسؤولية، فهناك مواقع تبقى في الزاوية تتحرَّك من خلال مسارٍ تاريخي لا يفتح آفاقه لحركة هذه المواقع، بل إنه يجعلها تعيش في دائرة مغلقة قد يكون لها عنوان القيادة أو المرجعية أياً كانت، لكنّها لا تحمل معناها وحركّيتها، أو أنها تعيش في دائرة خاصة في معطياتها لكنها تأخذ المعنى العام، وقد نلتقي بمواقع أخرى اعتبرت العناوين التي تحيط بها طموحاً شخصياً، فرأت في الأمّةِ آلةً لحركة هذا الطموح. وهناك أشخاص قد يعيشون الأفق الواسع، لكنَّ الظروف القاسية والصعبة تحاصرهم. لذلك فإنَّ الناس عندما يقفون أمام الله يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها بعيداً عن كل هالة، فإنهم يقفون عند الحقيقة، لأن الله هو الحق، وإن ما يدعون من دونه هو الباطل، ولا بد لكل واحد أن يقدم حسابه. وقد ورد في حديث الإمام علي (عليه السلام)، أن "القصاص هناك شديد، ليس جرحاً بالمدى، ولا ضرباً بالسياط، ولكنه ما يُستصغر ذلك معه" إن الذين يضعون أنفسهم في مواقع القيادة، لا بد لهم من أن يتحمَّلوا كلَّ مسؤولية القيادة في جراحاتها وفي تضحياتها وفي متوجّباتها، حتى لا تكون القيادة امتيازاً وتشريفاً، بل مسؤولية ثقيلة وثقيلة، ولكن القيادات عندما تقف أمام الله، فلا بد أن يقف معها الناس الذين كانوا يتحركون معها، لأن لهم مسؤوليتهم حين أعطوا القيادة ما لا تستحقّ، فالجميع مسؤولون في ذلك الموقف الصعب: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله}.

النور والظلام

س: واقع ما نحن عليه، له علاقة بالزمن، أي نحتاج إلى المزيد من الوقت للنضج والوعي، على خلاف تجارب وحال الأمم الأخرى؟

ـ لعل المشكلة هي أن الأمة في شكل عام، لا سيما في العالم الثالث، عاشت تراكمات تاريخية من التخلف الذي زحفت إليه التقاليد والعادات والخرافات، ما أضاع على الأمة عقلها ووعيها، إذ اختلطت عليها الأمور. ولا أريد إعطاء حكم بالإدانة المطلقة، ولكني أقول إن مشكلة هذه التراكمات التاريخية التي تحوَّلت إلى رواسب وإلى أفكار لا شعورية، خلطت النور بالظلام، والحقَّ بالباطل، فأصيبت الأمَّة بالتخبّط في هذا المجال بعدما عاشت تحت تأثير كثير من قيادات لا تملك أيَّ معنى في القيادة، لا سيّما تلك التي اعتبرت الوراثة نظاماً، حتى للصبيان، والتي أعطت الموقع قداسةً لا يملكها، وفرضت على الأمة الإطاعة المطلقة. حتى إن بعض الفقهاء، بل الكثير منهم، نظّروا لذلك فقهياً، ففرضوا على الأمة من الناحية الشرعية إطاعة أولي الأمر، من خلال ما فسَّروا به الآية الكريمة {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، ففرضوا على الأمة أن تطيع الحاكم الظالم والفاسق والمنحرف والقاتل والفاسد، وقالوا للأمة إنه لا يجوز لكم أن تثوروا عليه أو على حكمه، بل عليكم أن تنصحوه بأدب أو بدبلوماسية، كما نقول في لغة هذه الأيام.

ثم جاءت الإقطاعيات السياسية والمالية الخ.. فورثت هذا المسار التاريخي، وفرضت على الناس أن يخضعوا لها، وأن يقدموا فروض الطاعة، باعتبار أنها تمثل جزءاً من بنائهم الشخصي والشعوري، ثم جاءت التطورات الحديثة، ففرضت على الواقع كله نظاماً إقطاعياً ديكتاتورياً باسم الديمقراطية، ونظاماً متخلّفاً باسم المعاصرة. وهكذا رأينا أن الإنسان عندنا يعيش في أغلب نماذجه السياسي والاجتماعي والديني في شكل لا شعوري.

ولذا نلاحظ أن التنظيمات الحزبية التي تمثل الهيكلية الاجتماعية التي يتداول فيها علية القوم أو النخبة الأفكار والرؤى، تخضع للفردانية، فالشخص القائد يختزن الحزب كله في ذاته، والحزب يملأ كل مواقعه بالبخور، فلا يسمح بالنقد ولا يسمح حتى بالتساؤل، وإلا خرج الفاعل من جنة الحزب. ومن هنا انطلق المقدس الذي لا يملك القداسة، وأصبح كل من في هذا الموقع أو ذاك في قمة القيادة السياسية أو الحزبية أو الدينية شخصاً لا يُمسّ. ونحن ما نزال نرث المقولة ونرددها، وهي أن الموقع الأول في الدولة فوق النقد، وأنه لا يحاسب، وأنه مصون غير مسؤول، ما جعل الأمة في شكل عام، مع قليل من الاستثناءات، تعيش في مناخ أدمنت فيه السكوت والطاعة حتى وهي تتظاهر، حتى وهي تصرخ، إذ الأمر هنا أصبح مجرد تنفيس عمَّا في داخلها ليس أكثر، ثم لا تلبث أن تعود إلى قواعدها في عمق التخلف سالمةً أو غير سالمة، مثلما نلاحظ في بعض المجالس النيابية، إذ ترجم الأكثرية الحكومة، ثم تعطيها هذه الأكثرية الثقة بطريقة أو بأخرى! هل نقول: "كما تكونون عليكم"؟! فالمسألة ليست فقط مسألة الذين يسيطرون على الأمة، لأن هؤلاء صاروا كباراً بالأمة، وبسكوت الأمة، وبتأييد الأمة، وبعدم محاسبة الأمة ومساءلتها لهم. الطاغية فرد، والذين يسيرون مع الطاغية أو يخافون منه هم الذين شاركوا في صناعة طغيانه هنا وهناك. ومن الطبيعي أن يتحدث البعض عن ظروف إقليمية أو دولية، ولا نمانع في ذلك، لكن نقول إن آيّة ظروف قاهرة من الخارج لا تستطيع أن تقمع الداخل إذا كان الداخل لا يقمع نفسه.

الثورة

س: وكأنك تدعو الأمَّة إلى الثورة من الداخل وعلى النفس كسبيلٍ للخلاص؟

ج: الثورة على النفس أصل قيمي من أصول الإسلام، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} الذين ينطلقون من خلال جهاد النفس ليجسّدوا الإحسان للإنسان وللحياة، وهكذا رأينا أن الرسول(ص) ـ في ما روي عنه ـ قال لأصحابه بعدما رجعوا من إحدى المعارك: لقد فرغتم من الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر، قالوا: "وما الجهاد الأكبر"؟ قال: "جهاد النفس". وقد ورد: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا". وقد أكد القرآن الكريم أن الإنسان هو الأساس في عملية التغيير، وهو المسؤول عن كلِّ الواقع السلبي والإيجابي، سواء على مستوى التاريخ أو على مستوى الحاضر والمستقبل، وفي ذلك قوله تعالى:{إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. وفي الجانب السلبي{ذلك بأن الله لم يكن مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، وفي جانب تفسير الواقع السلبي أيضاً قوله: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناسليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}[الروم/41]. إننا نفهم من ذلك كله، أن مسألة الثورة على النفس أساسية في عملية تأصيل القيمة الإنسانية في الواقع على مستوى الفرد أو مستوى المجتمع، على أساس كلكم راعٍ وكل راعٍ مسؤول عن رعيته.

فالثورة على النفس التي تمثِّل جهاد النفس، والثورة على الانحراف التي تمثل النهي عن المنكر، والثورة في خطّ الإصلاح الذي يمثل الأمر بالمعروف، هي عناوين شرعية يمكن أن تعطيها تعابير جديدة أو معاصرة، لكنّها تبقى تمثل الحقيقة، وهي أن على الإنسان ألاّ يكون إنساناً محايداً أو لا مبالياً، وألاّ يكون إنسان الحياد، وقد ورد في الحديث عن أحد أئمة أهل البيت(ع) موسى بن جعفر الكاظم(ع) أنه قال: "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة، فإن رسول الله نهى أن يكون المرء إمّعة، قلت: وما الإمّعة؟ قال: لا تقل: أنا مع الناس وأنا واحد من الناس، إن رسول الله(ص) قال: يا أيها الرسول إنما هما نجدان، نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير". إذاً ليكن لك رأي وموقف ينطلق من مبادئك التي تؤمن بها، سواء وافقك الناس أو خالفوك. لذلك فإننا نخالف أمير الشعراء أحمد شوقي في ما قاله في إحدى قصائده:

إذا الفتنة اضطرمت في البلاد ورُمتَ النجاة فكن إمّعة

واقع الحركات الإسلامية

س: تحدثت عن مراحل تاريخية سياسية تسببت بالتراجع والتخلف، من الإقطاع السياسي، إلى التنظيمات الحزبية، لكن ما تسمّيه الصّحوة الإسلامية في العقدين أو الثلاثة الماضية، ألا ترى أنها هي نفسها أيضاً بدأت تنهض من داخلها تعبيرات مماثلة من قوى التخلف والأساطير والخرافة؟

ج: لعل المشكلة هي في أن الكثير من الحركات الإسلامية لم تنطلق من فعل، بل من ردّة فعل، فأول حركة إسلامية كانت حركة "الإخوان المسلمين" التي انطلقت من رد فعل على سقوط الخلافة العثمانية، وعلى هذا الأساس، بدأت بالتحرك من أجل الحكم لإعادة الخلافة، بعنوان الخلافة أو بعنوان آخر، وقد فرض عليها ذلك أن تأخذ بالأسلوب السياسي من دون أن يكون هناك ثقافة وتجربة سياسية تواكبان المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية على جميع المستويات، وهكذا استطاعت أن تصنع تياراً وتصنع ثقافة متنوعة، لكنها في الوقت نفسه، توزّعت بين خطوط مختلفة، باعتبار أنها أخذت من كل هذا الركام الثقافي التقليدي الموجود لدى هذا البلد أو ذاك، ولدى هذا المفكر أو ذاك، فأصبحت الحركة حركات، من خلال طبيعة المفاهيم التي تحكمها، وطبيعة الوسائل التي تستعملها. ثم بدأت التنظيمات الإسلامية في المنطقة من خلال ردة فعل أيضاً، ولذا فإن الكثير من الحركات الإسلامية اندفعت في الجانب السياسي أو الجانب العسكري من دون أي تأصيل للجانب الثقافي وهذا ما جعل الكثير من هذا الركام التاريخي، من ركام التخلف في المفاهيم الإسلامية، ينفذ إلى قاعدة هذه التنظيمات من خلال نفاذه إلى الكثير من القيادات التي كانت تعيش في الحاضر عسكرياً، ولكنها تعيش في الماضي ثقافياً، وربما سياسياً في بعض الحالات، ولهذا فقدت هذه التنظيمات الأصالة الإسلامية، ولم تستطع أن تدخل العصر، بل إنها غيبت العقل، واعتبرت الغيب هو الأساس في تفسير كثير من الانتصارات أو الهزائم، وفي كثير من استشراق المستقبل هنا وهناك، بحجة أن من أصول الإيمان هي الإيمان بالغيب، لكنهم لم يلتفتوا إلى أن الله لم يصنع الحياة على أساس الغيب، وإنما صنع الحياة والإنسان على أساس السنن التي تنظم للإنسان منهجه في الحياة من ناحية طبيعة تكوينه، وطبيعة القوانين التي تحكمه، تماماً كما هو النظام الكوني {أن كل شيء خلقناه بقدر}، {قد جعل الله لكل شيء قدراً}. لذلك استطاعت الخرافة والتخلف أن يزحفا إلى الكثير من الذهنيات الحركية الحزبية، لتكون الهوَّة واسعةً بين انطلاقتها العسكرية مع بعض انطلاقتها السياسية، وبين المسألة الثقافية الأصيلة، فلم تستطع أن تقدم إسلاماً حضارياً معاصراً ينفتح على تطلّعات الإنسان وحاجاته، من دون أن يفقد أصوله أو يبتعد عن جذوره، ولهذا فإن مشكلة الحركات الإسلامية أن بعضها هو حركات إسلامية بلا إسلام، وبعضها ما زال يتخبط في مفاهيم تختزن الكثير من السذاجة والسطحية، وتحمل الكثير من عناصر التخلف والخرافة...

ـ قنبلة الوحدة

س: لتحقيق الوحدة الإسلامية بين السنّة والشيعة، نفضت في كثير من طروحاتك ودعواتك الغبار عن مفاهيم وأحداث وتفاسير، ما سبب بشن حملات انتقادات وحتى افتراءات عليك من داخل الطائفة، فهل هناك من يقوم أو يسير باتجاهك من الجانب السني؟

ج: عندما انطلقت في خطِّ الوحدة الإسلامية كان ذلك منذ أوائل الخمسينات وفي عام 1952 ألقيت قصيدة في تأبين السيد محسن الأمين في بيروت، في أول زيارة قمت بها إلى لبنان، إذ كنت في العراق، ودعوت فيها إلى الوحدة الإسلامية، والتقيت حينها بالدكتور مصطفى السباعي المرشد العام للأخوان المسلمين في سوريا وفي لبنان، الذي دعا أيضاً إلى الوحدة الإسلامية في هذا الحفل التأبيني.

وما زلت في هذا الخط، وقد كتبت عنه الكثير، وحاورت الكثيرين، والتقيت بالكثيرين، وتحركت في هذا الاتجاه على المستوى الإقليمي والعالمي. وأنا اعتبر أن الوحدة الإسلامية هي الخيار الأوحد للمسلمين إذا أرادوا صنع القوة لأنفسهم، وقد التقيت بالكثير من النماذج الخيّرة، من علماء المسلمين السنّة والشّيعة الذين يؤمنون بهذه الوحدة ويعملون بها، واستطعنا أن نقدم خطاباً إسلامياً أصيلاً منفتحاً على قضايا العالم الإسلامي كله، ومن الطبيعي أن هذا التيار في الطائفة الإسلامية الشيعّية أو السنّية، عانى الكثير من المتعصبيّن في هذا الجانب أو ذاك، خاصّةً من الذين ما زالوا يعيشون تراكمات التاريخ وعصبياته وحساسيته، ويحاولون أن ينقلوا الأمّة إلى التاريخ بدلاً من أن يكون التاريخ مدرسةً يأخذون منها ما يبقى للحياة، ويتركون منها ما لا يبقى للحياة ويموت مع الزمن، ويستوحون من قوله تعالى:{تلك أمَّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمَّا كانوا يعملون} أن القوم صنعوا تاريخهم بسلبياته وإيجابياته، وهم مسؤولون عنه، وليس أنتم، فاصنعوا تاريخكم وستواجهون المسؤولية عن هذا التاريخ.

إننا أعلنّا ونعلن، أن الوحدة الإسلامية لا تعني أن يتنازل المسلم الشيعي عن مبادئه لمصلحة الوحدة، أو يتنازل المسلم السني عن قناعاته لمصلحة الوحدة، ولكن أن نلتقي على ما اتفقنا عليه، وهو كثير كثير يصل إلى الثمانين بالمئة، ونتحاور في ما اختلفنا فيه اتباعاً لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول}. إننا نطلق الصرخة الكبرى للمسلمين في العالم الإسلامي، لنقول إن الاستكبار العالمي، ولا سيما الاستكبار الأميركي وكل حلفائه، يعملون على أساس أن يبقى المسلمون متفرقين متناحرين متنازعين، ولذلك فإن المسألة الجهادية أو السياسية ليست في أن نفجر قنبلة هنا أو نطلق صاروخاً هناك ضد المحتل، لكن أن نفجر قنبلة الوحدة في مواجهة كلِّ الذين يخططون للفرقة والتنازع.

زيارة الأسد

س: معروف أنك مرجعية تُزار ولا تزور، لكنك زرت الرئيس بشار الأسد في دمشق، لماذا هذا الاستثناء؟

ج: الواقع أنها لم تكن زيارة، كانت دعوة للتباحث في بعض القضايا الاستراتيجية في الواقع المعاصر، ولا سيما في المسألة العراقية، وفي السياسة الأميركية تجاه المنطقة، والسياسة الإسرائيلية، وأنا من الذين يعيشون الاهتمامات اليومية الكبرى في هذا الاتجاه، لذلك هي لم تكن زيارة، بل كانت دعوةً، امتداداً للقاء سابق في حياة المرحوم الرئيس حافظ الأسد للتداول والتفكير في الشؤون العامة للأمة.

س: قيل إنه كان لك رأي في تشكيلة الحكومة السورية الجديدة؟

ج:لم يكن لي رأي في ذلك، لكننا تحدثنا بالخطوط العامة في مواجهة التحديات الكبرى التي تستهدف المنطقة، خاصة لبنان وسوريا والعراق وإيران وفلسطين.

مرجعية النجف

س: في هذا المجال، ما تفسيرك لعدم الوضوح في موقف المرجعية الشيعية في النجف تجاه ما يجري في العراق؟

ج: لا بد من التأكيد هنا على نقطة، وهي أن المرجعية في النجف في طبيعتها تعيش التعقّل والإتّزان، والهدوء والبعد عن حركية الواقع الاجتماعي، مع إعطاء بعض التوجيهات العامة السياسية في هذا المجال. وأكثر مواقع المرجعيات، لا تلتقي بالطريقة التي انطلق بها السيد الخميني رحمه الله كمرجعية متحركة في الواقع باتجاه الانفتاح عليه وتغييره، وفي صدم الاستكبار العالمي، لذلك فإن المرجعية في النجف تعطي الإشارات، وتعطي بعض الأفكار حول هذا الموضوع أو ذاك، وتضغط بطريقة معنوية، ولكنها لا تتحرك بطريقة حادَّة.

شيراك والحجاب.. والأزهر

س: وجّهت رسالة إلى الرئيس الفرنسي شيراك بخصوص منع الحجاب في فرنسا، هل جاءكم رد فرنسي؟

ج: لم يأت رد فرنسي، لكن سبق الرسالة حوار بيني وبين السفير الفرنسي الذي زارني على مدى ساعتين، وتحدثت معه حول هذا الموضوع، من خلال التذكير بأن فرنسا هي البلد الذي أعطى إشارة الحرية للعالم الغربي في شكل عام من خلال الثورة الفرنسية، وأنها بلد الحريات وحقوق الإنسان والحوار، وأنها البلد الذي يرتبط بالعالم الإسلامي برباط وثيق، من خلال السياسة الفرنسية الخارجية التي تختلف عن السياسة الأميركية، وعلى أساس أننا نعمل لأن تستعيد أوروبا دورها مع العرب المسلمين التي ابتعدت عن الاستعمار وأصبحت منفتحةً على الشعوب الأخرى من خلال مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية، ولذلك بينّا له أن الملاحظات التي قدمتها اللجنة التي شكلها الرئيس شيراك حول موضوع الحجاب هي غير واقعية، لأن لبس الطالبات المسلمات للحجاب لا يمثل استفزازاً، ولا يمثل وسيلةً من وسائل تأكيد الطائفة، طالما أن المدارس هناك لا تدرّس الأديان، ولا تسمح بالجدل الديني، ولكن هو مجرد ممارسة تنطلق من فريضة دينية.

وأنهينا الحديث بضرورة إبقاء الحوار حول هذا الموضوع في فرنسا، ليشعر الناس، وخصوصاً المسلمين الفرنسيين الذين يتجاوز عددهم الستة ملايين، بأن فرنسا تحتضن الحوار الموضوعي العقلاني حول المسلمين، وأن المسلمين ليسوا عدوانيين في مواطنتيهم، ولكن لهم خصوصياتهم، تماماً كما هي خصوصيات الصلاة في المساجد والصيام في شهر رمضان، وعلى فرنسا ألاّ تقمع هذه الخصوصيات.

س: هل يمكن اعتبار موقف شيخ الأزهر نوعاً من الردّ الفرنسي على رسالتكم من خلال مصر؟

ج: شيخ الأزهر تحدّث عن الحكم الشرعي، وقد أخذنا عليه أنه أعطى الحق لفرنسا ولغيرها من موقعه الشرعي الإسلامي المصري أن يقرّوا هذه القوانين وأمثالها، وقال للمسلمات عليكنّ الاستجابة لأنكن في موقع الاضطرار، ولذلك نقول لشيخ الأزهر إنك تشجع البلاد غير الإسلامية على أن يشرعوا ما يشاؤون ضد الإسلام والالتزامات الإسلامية، لأنك تقول إننا جاهزون لأن نعطي المسلمين والمسلمات فتوى للانسجام مع القانون تحت عنوان الاضطرار، هذا يعني أننا نقول لهم اخلقوا للمسلمين حالة اضطرار، ونحن جاهزون للفتوى.
حوار أحمد الموسوي

الشراع العدد(117) 12 كانون الثاني 2004م

تفرّد المرجع الإسلامي العلامة السيد محمد حسين فضل الله لسنوات طويلة، بالدفاع المميّز عن الحركات الإسلامية وصحوتها، لتحريك الأمة وإستنهاضها. ويبدو اليوم أيضاً وحده من المراجع الإسلامية الكبيرة ينفرد بانتقاد مميز لهذه الحركات التي لم نستطع بعد العيش في المفاهيم الإسلامية الأصيلة، ولم تستطع بعد الخروج من ظلام التراكمات التاريخية الناتجة عن عهود التخلف المليئة بالجهل، والمليئة بالخرافة التي بدأت تنفذ إلى كثير من هذه الحركات وإلى قياداتها.

عن ذلك، وعن حالة الأمّة وأحوالها في هذه المرحلة، تحدَّث المرجع السيد فضل الله لـ "الشراع" عبر الحوار التالي:

من المسؤول؟؟

س: لو وقف قادتنا ومراجعنا في العالم العربي الآن أمام الله، ماذا يمكن أن يقولوا عن حال الأمة المحتلة في مكان، والمستسلمة في مكان ثانٍ، والمحاصرة في آخر؟

ج: من الصعب جداً التحدّث بشكل سلبي مطلق أو إيجابي مطلق في ذلك، لأن مسألة الإدانة أو التّكريم تنطلق من طبيعة الوعي العقلي لما يقوم به الإنسان سلباً أو إيجاباً، فنحن نروي أن الله سبحانه وتعالى يجازي الإنسان من خلال حجم عقله، لأن قضيَّة العمل هي قضيَّةُ وعيه في حركته في الواقع، فالإنسان في دوافعه ووعيه يؤنسن العمل. ومن الطبيعي جداً أن هناك تقصيراً واضحاً في خطِّ المسؤولية، فهناك مواقع تبقى في الزاوية تتحرَّك من خلال مسارٍ تاريخي لا يفتح آفاقه لحركة هذه المواقع، بل إنه يجعلها تعيش في دائرة مغلقة قد يكون لها عنوان القيادة أو المرجعية أياً كانت، لكنّها لا تحمل معناها وحركّيتها، أو أنها تعيش في دائرة خاصة في معطياتها لكنها تأخذ المعنى العام، وقد نلتقي بمواقع أخرى اعتبرت العناوين التي تحيط بها طموحاً شخصياً، فرأت في الأمّةِ آلةً لحركة هذا الطموح. وهناك أشخاص قد يعيشون الأفق الواسع، لكنَّ الظروف القاسية والصعبة تحاصرهم. لذلك فإنَّ الناس عندما يقفون أمام الله يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها بعيداً عن كل هالة، فإنهم يقفون عند الحقيقة، لأن الله هو الحق، وإن ما يدعون من دونه هو الباطل، ولا بد لكل واحد أن يقدم حسابه. وقد ورد في حديث الإمام علي (عليه السلام)، أن "القصاص هناك شديد، ليس جرحاً بالمدى، ولا ضرباً بالسياط، ولكنه ما يُستصغر ذلك معه" إن الذين يضعون أنفسهم في مواقع القيادة، لا بد لهم من أن يتحمَّلوا كلَّ مسؤولية القيادة في جراحاتها وفي تضحياتها وفي متوجّباتها، حتى لا تكون القيادة امتيازاً وتشريفاً، بل مسؤولية ثقيلة وثقيلة، ولكن القيادات عندما تقف أمام الله، فلا بد أن يقف معها الناس الذين كانوا يتحركون معها، لأن لهم مسؤوليتهم حين أعطوا القيادة ما لا تستحقّ، فالجميع مسؤولون في ذلك الموقف الصعب: {يوم لا تملك نفس لنفس شيئاً والأمر يومئذ لله}.

النور والظلام

س: واقع ما نحن عليه، له علاقة بالزمن، أي نحتاج إلى المزيد من الوقت للنضج والوعي، على خلاف تجارب وحال الأمم الأخرى؟

ـ لعل المشكلة هي أن الأمة في شكل عام، لا سيما في العالم الثالث، عاشت تراكمات تاريخية من التخلف الذي زحفت إليه التقاليد والعادات والخرافات، ما أضاع على الأمة عقلها ووعيها، إذ اختلطت عليها الأمور. ولا أريد إعطاء حكم بالإدانة المطلقة، ولكني أقول إن مشكلة هذه التراكمات التاريخية التي تحوَّلت إلى رواسب وإلى أفكار لا شعورية، خلطت النور بالظلام، والحقَّ بالباطل، فأصيبت الأمَّة بالتخبّط في هذا المجال بعدما عاشت تحت تأثير كثير من قيادات لا تملك أيَّ معنى في القيادة، لا سيّما تلك التي اعتبرت الوراثة نظاماً، حتى للصبيان، والتي أعطت الموقع قداسةً لا يملكها، وفرضت على الأمة الإطاعة المطلقة. حتى إن بعض الفقهاء، بل الكثير منهم، نظّروا لذلك فقهياً، ففرضوا على الأمة من الناحية الشرعية إطاعة أولي الأمر، من خلال ما فسَّروا به الآية الكريمة {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}، ففرضوا على الأمة أن تطيع الحاكم الظالم والفاسق والمنحرف والقاتل والفاسد، وقالوا للأمة إنه لا يجوز لكم أن تثوروا عليه أو على حكمه، بل عليكم أن تنصحوه بأدب أو بدبلوماسية، كما نقول في لغة هذه الأيام.

ثم جاءت الإقطاعيات السياسية والمالية الخ.. فورثت هذا المسار التاريخي، وفرضت على الناس أن يخضعوا لها، وأن يقدموا فروض الطاعة، باعتبار أنها تمثل جزءاً من بنائهم الشخصي والشعوري، ثم جاءت التطورات الحديثة، ففرضت على الواقع كله نظاماً إقطاعياً ديكتاتورياً باسم الديمقراطية، ونظاماً متخلّفاً باسم المعاصرة. وهكذا رأينا أن الإنسان عندنا يعيش في أغلب نماذجه السياسي والاجتماعي والديني في شكل لا شعوري.

ولذا نلاحظ أن التنظيمات الحزبية التي تمثل الهيكلية الاجتماعية التي يتداول فيها علية القوم أو النخبة الأفكار والرؤى، تخضع للفردانية، فالشخص القائد يختزن الحزب كله في ذاته، والحزب يملأ كل مواقعه بالبخور، فلا يسمح بالنقد ولا يسمح حتى بالتساؤل، وإلا خرج الفاعل من جنة الحزب. ومن هنا انطلق المقدس الذي لا يملك القداسة، وأصبح كل من في هذا الموقع أو ذاك في قمة القيادة السياسية أو الحزبية أو الدينية شخصاً لا يُمسّ. ونحن ما نزال نرث المقولة ونرددها، وهي أن الموقع الأول في الدولة فوق النقد، وأنه لا يحاسب، وأنه مصون غير مسؤول، ما جعل الأمة في شكل عام، مع قليل من الاستثناءات، تعيش في مناخ أدمنت فيه السكوت والطاعة حتى وهي تتظاهر، حتى وهي تصرخ، إذ الأمر هنا أصبح مجرد تنفيس عمَّا في داخلها ليس أكثر، ثم لا تلبث أن تعود إلى قواعدها في عمق التخلف سالمةً أو غير سالمة، مثلما نلاحظ في بعض المجالس النيابية، إذ ترجم الأكثرية الحكومة، ثم تعطيها هذه الأكثرية الثقة بطريقة أو بأخرى! هل نقول: "كما تكونون عليكم"؟! فالمسألة ليست فقط مسألة الذين يسيطرون على الأمة، لأن هؤلاء صاروا كباراً بالأمة، وبسكوت الأمة، وبتأييد الأمة، وبعدم محاسبة الأمة ومساءلتها لهم. الطاغية فرد، والذين يسيرون مع الطاغية أو يخافون منه هم الذين شاركوا في صناعة طغيانه هنا وهناك. ومن الطبيعي أن يتحدث البعض عن ظروف إقليمية أو دولية، ولا نمانع في ذلك، لكن نقول إن آيّة ظروف قاهرة من الخارج لا تستطيع أن تقمع الداخل إذا كان الداخل لا يقمع نفسه.

الثورة

س: وكأنك تدعو الأمَّة إلى الثورة من الداخل وعلى النفس كسبيلٍ للخلاص؟

ج: الثورة على النفس أصل قيمي من أصول الإسلام، لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين} الذين ينطلقون من خلال جهاد النفس ليجسّدوا الإحسان للإنسان وللحياة، وهكذا رأينا أن الرسول(ص) ـ في ما روي عنه ـ قال لأصحابه بعدما رجعوا من إحدى المعارك: لقد فرغتم من الجهاد الأصغر وبقي عليكم الجهاد الأكبر، قالوا: "وما الجهاد الأكبر"؟ قال: "جهاد النفس". وقد ورد: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا". وقد أكد القرآن الكريم أن الإنسان هو الأساس في عملية التغيير، وهو المسؤول عن كلِّ الواقع السلبي والإيجابي، سواء على مستوى التاريخ أو على مستوى الحاضر والمستقبل، وفي ذلك قوله تعالى:{إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. وفي الجانب السلبي{ذلك بأن الله لم يكن مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، وفي جانب تفسير الواقع السلبي أيضاً قوله: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناسليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون}[الروم/41]. إننا نفهم من ذلك كله، أن مسألة الثورة على النفس أساسية في عملية تأصيل القيمة الإنسانية في الواقع على مستوى الفرد أو مستوى المجتمع، على أساس كلكم راعٍ وكل راعٍ مسؤول عن رعيته.

فالثورة على النفس التي تمثِّل جهاد النفس، والثورة على الانحراف التي تمثل النهي عن المنكر، والثورة في خطّ الإصلاح الذي يمثل الأمر بالمعروف، هي عناوين شرعية يمكن أن تعطيها تعابير جديدة أو معاصرة، لكنّها تبقى تمثل الحقيقة، وهي أن على الإنسان ألاّ يكون إنساناً محايداً أو لا مبالياً، وألاّ يكون إنسان الحياد، وقد ورد في الحديث عن أحد أئمة أهل البيت(ع) موسى بن جعفر الكاظم(ع) أنه قال: "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة، فإن رسول الله نهى أن يكون المرء إمّعة، قلت: وما الإمّعة؟ قال: لا تقل: أنا مع الناس وأنا واحد من الناس، إن رسول الله(ص) قال: يا أيها الرسول إنما هما نجدان، نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير". إذاً ليكن لك رأي وموقف ينطلق من مبادئك التي تؤمن بها، سواء وافقك الناس أو خالفوك. لذلك فإننا نخالف أمير الشعراء أحمد شوقي في ما قاله في إحدى قصائده:

إذا الفتنة اضطرمت في البلاد ورُمتَ النجاة فكن إمّعة

واقع الحركات الإسلامية

س: تحدثت عن مراحل تاريخية سياسية تسببت بالتراجع والتخلف، من الإقطاع السياسي، إلى التنظيمات الحزبية، لكن ما تسمّيه الصّحوة الإسلامية في العقدين أو الثلاثة الماضية، ألا ترى أنها هي نفسها أيضاً بدأت تنهض من داخلها تعبيرات مماثلة من قوى التخلف والأساطير والخرافة؟

ج: لعل المشكلة هي في أن الكثير من الحركات الإسلامية لم تنطلق من فعل، بل من ردّة فعل، فأول حركة إسلامية كانت حركة "الإخوان المسلمين" التي انطلقت من رد فعل على سقوط الخلافة العثمانية، وعلى هذا الأساس، بدأت بالتحرك من أجل الحكم لإعادة الخلافة، بعنوان الخلافة أو بعنوان آخر، وقد فرض عليها ذلك أن تأخذ بالأسلوب السياسي من دون أن يكون هناك ثقافة وتجربة سياسية تواكبان المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية على جميع المستويات، وهكذا استطاعت أن تصنع تياراً وتصنع ثقافة متنوعة، لكنها في الوقت نفسه، توزّعت بين خطوط مختلفة، باعتبار أنها أخذت من كل هذا الركام الثقافي التقليدي الموجود لدى هذا البلد أو ذاك، ولدى هذا المفكر أو ذاك، فأصبحت الحركة حركات، من خلال طبيعة المفاهيم التي تحكمها، وطبيعة الوسائل التي تستعملها. ثم بدأت التنظيمات الإسلامية في المنطقة من خلال ردة فعل أيضاً، ولذا فإن الكثير من الحركات الإسلامية اندفعت في الجانب السياسي أو الجانب العسكري من دون أي تأصيل للجانب الثقافي وهذا ما جعل الكثير من هذا الركام التاريخي، من ركام التخلف في المفاهيم الإسلامية، ينفذ إلى قاعدة هذه التنظيمات من خلال نفاذه إلى الكثير من القيادات التي كانت تعيش في الحاضر عسكرياً، ولكنها تعيش في الماضي ثقافياً، وربما سياسياً في بعض الحالات، ولهذا فقدت هذه التنظيمات الأصالة الإسلامية، ولم تستطع أن تدخل العصر، بل إنها غيبت العقل، واعتبرت الغيب هو الأساس في تفسير كثير من الانتصارات أو الهزائم، وفي كثير من استشراق المستقبل هنا وهناك، بحجة أن من أصول الإيمان هي الإيمان بالغيب، لكنهم لم يلتفتوا إلى أن الله لم يصنع الحياة على أساس الغيب، وإنما صنع الحياة والإنسان على أساس السنن التي تنظم للإنسان منهجه في الحياة من ناحية طبيعة تكوينه، وطبيعة القوانين التي تحكمه، تماماً كما هو النظام الكوني {أن كل شيء خلقناه بقدر}، {قد جعل الله لكل شيء قدراً}. لذلك استطاعت الخرافة والتخلف أن يزحفا إلى الكثير من الذهنيات الحركية الحزبية، لتكون الهوَّة واسعةً بين انطلاقتها العسكرية مع بعض انطلاقتها السياسية، وبين المسألة الثقافية الأصيلة، فلم تستطع أن تقدم إسلاماً حضارياً معاصراً ينفتح على تطلّعات الإنسان وحاجاته، من دون أن يفقد أصوله أو يبتعد عن جذوره، ولهذا فإن مشكلة الحركات الإسلامية أن بعضها هو حركات إسلامية بلا إسلام، وبعضها ما زال يتخبط في مفاهيم تختزن الكثير من السذاجة والسطحية، وتحمل الكثير من عناصر التخلف والخرافة...

ـ قنبلة الوحدة

س: لتحقيق الوحدة الإسلامية بين السنّة والشيعة، نفضت في كثير من طروحاتك ودعواتك الغبار عن مفاهيم وأحداث وتفاسير، ما سبب بشن حملات انتقادات وحتى افتراءات عليك من داخل الطائفة، فهل هناك من يقوم أو يسير باتجاهك من الجانب السني؟

ج: عندما انطلقت في خطِّ الوحدة الإسلامية كان ذلك منذ أوائل الخمسينات وفي عام 1952 ألقيت قصيدة في تأبين السيد محسن الأمين في بيروت، في أول زيارة قمت بها إلى لبنان، إذ كنت في العراق، ودعوت فيها إلى الوحدة الإسلامية، والتقيت حينها بالدكتور مصطفى السباعي المرشد العام للأخوان المسلمين في سوريا وفي لبنان، الذي دعا أيضاً إلى الوحدة الإسلامية في هذا الحفل التأبيني.

وما زلت في هذا الخط، وقد كتبت عنه الكثير، وحاورت الكثيرين، والتقيت بالكثيرين، وتحركت في هذا الاتجاه على المستوى الإقليمي والعالمي. وأنا اعتبر أن الوحدة الإسلامية هي الخيار الأوحد للمسلمين إذا أرادوا صنع القوة لأنفسهم، وقد التقيت بالكثير من النماذج الخيّرة، من علماء المسلمين السنّة والشّيعة الذين يؤمنون بهذه الوحدة ويعملون بها، واستطعنا أن نقدم خطاباً إسلامياً أصيلاً منفتحاً على قضايا العالم الإسلامي كله، ومن الطبيعي أن هذا التيار في الطائفة الإسلامية الشيعّية أو السنّية، عانى الكثير من المتعصبيّن في هذا الجانب أو ذاك، خاصّةً من الذين ما زالوا يعيشون تراكمات التاريخ وعصبياته وحساسيته، ويحاولون أن ينقلوا الأمّة إلى التاريخ بدلاً من أن يكون التاريخ مدرسةً يأخذون منها ما يبقى للحياة، ويتركون منها ما لا يبقى للحياة ويموت مع الزمن، ويستوحون من قوله تعالى:{تلك أمَّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمَّا كانوا يعملون} أن القوم صنعوا تاريخهم بسلبياته وإيجابياته، وهم مسؤولون عنه، وليس أنتم، فاصنعوا تاريخكم وستواجهون المسؤولية عن هذا التاريخ.

إننا أعلنّا ونعلن، أن الوحدة الإسلامية لا تعني أن يتنازل المسلم الشيعي عن مبادئه لمصلحة الوحدة، أو يتنازل المسلم السني عن قناعاته لمصلحة الوحدة، ولكن أن نلتقي على ما اتفقنا عليه، وهو كثير كثير يصل إلى الثمانين بالمئة، ونتحاور في ما اختلفنا فيه اتباعاً لقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول}. إننا نطلق الصرخة الكبرى للمسلمين في العالم الإسلامي، لنقول إن الاستكبار العالمي، ولا سيما الاستكبار الأميركي وكل حلفائه، يعملون على أساس أن يبقى المسلمون متفرقين متناحرين متنازعين، ولذلك فإن المسألة الجهادية أو السياسية ليست في أن نفجر قنبلة هنا أو نطلق صاروخاً هناك ضد المحتل، لكن أن نفجر قنبلة الوحدة في مواجهة كلِّ الذين يخططون للفرقة والتنازع.

زيارة الأسد

س: معروف أنك مرجعية تُزار ولا تزور، لكنك زرت الرئيس بشار الأسد في دمشق، لماذا هذا الاستثناء؟

ج: الواقع أنها لم تكن زيارة، كانت دعوة للتباحث في بعض القضايا الاستراتيجية في الواقع المعاصر، ولا سيما في المسألة العراقية، وفي السياسة الأميركية تجاه المنطقة، والسياسة الإسرائيلية، وأنا من الذين يعيشون الاهتمامات اليومية الكبرى في هذا الاتجاه، لذلك هي لم تكن زيارة، بل كانت دعوةً، امتداداً للقاء سابق في حياة المرحوم الرئيس حافظ الأسد للتداول والتفكير في الشؤون العامة للأمة.

س: قيل إنه كان لك رأي في تشكيلة الحكومة السورية الجديدة؟

ج:لم يكن لي رأي في ذلك، لكننا تحدثنا بالخطوط العامة في مواجهة التحديات الكبرى التي تستهدف المنطقة، خاصة لبنان وسوريا والعراق وإيران وفلسطين.

مرجعية النجف

س: في هذا المجال، ما تفسيرك لعدم الوضوح في موقف المرجعية الشيعية في النجف تجاه ما يجري في العراق؟

ج: لا بد من التأكيد هنا على نقطة، وهي أن المرجعية في النجف في طبيعتها تعيش التعقّل والإتّزان، والهدوء والبعد عن حركية الواقع الاجتماعي، مع إعطاء بعض التوجيهات العامة السياسية في هذا المجال. وأكثر مواقع المرجعيات، لا تلتقي بالطريقة التي انطلق بها السيد الخميني رحمه الله كمرجعية متحركة في الواقع باتجاه الانفتاح عليه وتغييره، وفي صدم الاستكبار العالمي، لذلك فإن المرجعية في النجف تعطي الإشارات، وتعطي بعض الأفكار حول هذا الموضوع أو ذاك، وتضغط بطريقة معنوية، ولكنها لا تتحرك بطريقة حادَّة.

شيراك والحجاب.. والأزهر

س: وجّهت رسالة إلى الرئيس الفرنسي شيراك بخصوص منع الحجاب في فرنسا، هل جاءكم رد فرنسي؟

ج: لم يأت رد فرنسي، لكن سبق الرسالة حوار بيني وبين السفير الفرنسي الذي زارني على مدى ساعتين، وتحدثت معه حول هذا الموضوع، من خلال التذكير بأن فرنسا هي البلد الذي أعطى إشارة الحرية للعالم الغربي في شكل عام من خلال الثورة الفرنسية، وأنها بلد الحريات وحقوق الإنسان والحوار، وأنها البلد الذي يرتبط بالعالم الإسلامي برباط وثيق، من خلال السياسة الفرنسية الخارجية التي تختلف عن السياسة الأميركية، وعلى أساس أننا نعمل لأن تستعيد أوروبا دورها مع العرب المسلمين التي ابتعدت عن الاستعمار وأصبحت منفتحةً على الشعوب الأخرى من خلال مصالحها الاقتصادية والسياسية والأمنية، ولذلك بينّا له أن الملاحظات التي قدمتها اللجنة التي شكلها الرئيس شيراك حول موضوع الحجاب هي غير واقعية، لأن لبس الطالبات المسلمات للحجاب لا يمثل استفزازاً، ولا يمثل وسيلةً من وسائل تأكيد الطائفة، طالما أن المدارس هناك لا تدرّس الأديان، ولا تسمح بالجدل الديني، ولكن هو مجرد ممارسة تنطلق من فريضة دينية.

وأنهينا الحديث بضرورة إبقاء الحوار حول هذا الموضوع في فرنسا، ليشعر الناس، وخصوصاً المسلمين الفرنسيين الذين يتجاوز عددهم الستة ملايين، بأن فرنسا تحتضن الحوار الموضوعي العقلاني حول المسلمين، وأن المسلمين ليسوا عدوانيين في مواطنتيهم، ولكن لهم خصوصياتهم، تماماً كما هي خصوصيات الصلاة في المساجد والصيام في شهر رمضان، وعلى فرنسا ألاّ تقمع هذه الخصوصيات.

س: هل يمكن اعتبار موقف شيخ الأزهر نوعاً من الردّ الفرنسي على رسالتكم من خلال مصر؟

ج: شيخ الأزهر تحدّث عن الحكم الشرعي، وقد أخذنا عليه أنه أعطى الحق لفرنسا ولغيرها من موقعه الشرعي الإسلامي المصري أن يقرّوا هذه القوانين وأمثالها، وقال للمسلمات عليكنّ الاستجابة لأنكن في موقع الاضطرار، ولذلك نقول لشيخ الأزهر إنك تشجع البلاد غير الإسلامية على أن يشرعوا ما يشاؤون ضد الإسلام والالتزامات الإسلامية، لأنك تقول إننا جاهزون لأن نعطي المسلمين والمسلمات فتوى للانسجام مع القانون تحت عنوان الاضطرار، هذا يعني أننا نقول لهم اخلقوا للمسلمين حالة اضطرار، ونحن جاهزون للفتوى.
حوار أحمد الموسوي

الشراع العدد(117) 12 كانون الثاني 2004م

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية