إطلاق الفكر
* سماحة السيِّد المرجع في دائرة الضوء دولياً وإقليمياً ودولياً، وهو محطّ زيارات وتواصل لا ينقطع مع سياسيين ومثقفين وإعلاميين من جميع أنحاء العالم. ألا يُشير ذلك إلى أن سماحة السيّد فضل الله خرج من الحملات القاتلة التي وجِّهت ضده بأقوى ممّا كان؟
ـ منذ البداية لم أكن في داخل هذه الحملات، لأنني كنت أحاول أن أنفتح على الإنسان كله والفكر كله ـ وإذا صحّ لي القول ـ وعلى الكون كله... لأنني أتصور أن الله خلق العقل وقال له كن حُراً، لا تقيِّد نفسك بأي قيد، ولكن تحمَّل مسؤولية حريتك.
لذلك كانت هذه الحملات تُمثِّل مجرّد حالةٍ قد تبحث في داخلها، لتكتشف هل فيها شيء للفكر وللنقد يدفعك إلى أن تحاسب نفسك وإلى أن تُصحِّح خطأك، أم أنها تتحدث وتتحرك كالطنين.
* إلى ماذا توصلتم سماحة السيّد؟
ـ توصلت إلى أن الكثير من هذا لا ينطلق من حالة فكر وإنما ينطلق من عقدة، لأن قضية الفكر هي أن تُحركه من خلال أوراقه ومفرداته، بطريقة موضوعية عقلانية. إنني لم أدَّع منذ انفتاحي على الفكر أية عصمة لما أفكر فيه، ولكن هناك من يحاول أن يستعمل الوسائل الاستهلاكية التشهيرية بدلاً من الوسائل العقلانية الموضوعية، لذلك فإنني في هذا الانفتاح الذي أعيشه مع كلِّ هذه النماذج من المفكرين والدبلوماسيين والسياسيين والمثقفين، أجد في ذلك كله لبنان...
* كيف ذلك سماحة السيّد؟
ـ لأنَّ لبنان هو البلد الذي لا نظير له في المنطقة، فهو يمثل الانفتاح على العالم.. ففي لبنان فكرٌ يحاول أن يكون حُراً حتى لو حبسوه في ألف زنزانة وزنزانة، لأنَّ اللبناني يستطيع أن يفتح ثغرة هنا وثغرة هناك، فلا جدار في لبنان في المسألة الفكريّة.
ولذلك فإنّي أجد نفسي أغتني بهذه اللقاءات، ولا أتصور أنها تمنحني نوعاً من الانفتاح الذاتي، بل أتصور أن كل هؤلاء ينفتحون على الحوار مع رجل آمن بأن معنى أن تكون إنساناً أن تكون حواريّاً. لذلك فإن القضية ليست مسألة دائرة ضوء بالمعنى الذاتي للضوء، ولكني أحاول أن أضيء بما أملكه من ضوء للفكر وللروح، وأن أستضيء، لأني تلميذ الآخرين، تلميذ كل إنسان أجلس إليه.
* ولكن سماحة السيّد، الإعتداء على مكاتبكم في "صور" لم يكن فكرياً ووصلت الرسالة بشكل آخر؟
ـ ولذلك سقطت هذه الحرب، لأن قضيّة أن يحاربك رجل في فكرك هو أنه يجعل فكرك في دائرة الاتهام وفي دائرة التجاذب، ولربّما يغنيك ذلك، ولكن مَنْ يجمعُ الحجارة ليرجمك بها سوف يعيش ذهنية الحجارة. ونحن نعرف أن هذه الذهنية لا تنبض، لأن الفكر هو نبضة عقل، وخفقة قلب، وحركة إحساس، وانفتاح إنسان؟!
* سماحة السيّد، كيف تنظر إلى هؤلاء: بتسامح، بحذر، بإهمال، وهم الذين اعتدوا عليكم بكافةِ الوسائل؟
ـ إني أشفق عليهم من هذه الزنزانة الضيقة التي حبسوا أنفسهم فيها، إني أعتقد أنّ حقدهم يميتهم، وإني أخاف عليهم ممّا يحملونه من حقدٍ. كنت أتمنى أن يحملوا إليّ فكراً يناقش الفكر، لأنّ مناقشة الفكر محبّة، من يناقش فكرك يحبك ويعشقك، لأنّه ينفذ إلى داخل فكرك ويحاول اقتحام إيجابياته وسلبياته... أما من يرجم فكرك، فإنه يعيش الحقد الذي يأكل قلبه قبل أن يأكل عقله.
* بالعودة إلى الماضي، وقضية متفجرة بئر العبد، تحدّث أنيس النقاش عن دور للسعودية في محاولة اغتيالكم.. وعبر سفيرها بندر بن سلطان. عملياً، هل تأكدتم سماحة السيد من دور السعودية وتمويلها للعمليّة قطعاً للمقاومة وخدمة لأميركا، كما قال أنيس النقاش؟
ـ لم أدخل في أيّ تحقيق قضائي يمكن أن أصدر فيه حكماً، لأن المسألة هي أنك عندما تتّهم شخصاً مسؤولاً أو تتهم دولة، لا بدَّ لك من أن تملك كل حيثيات هذا الاتّهام في المعطيات القضائية التي تدينهم بها. ولم تكن لديّ هذه المعطيات بالمعنى القضائي والقانوني، ولكنّ هذه المسألة انطلقت من خلال الإعلام الأمريكي الذي نقل بعض هذه المفردات في مذكّرات "وليم كايسي" ونشرتها "جريدة الواشنطن بوست"، ولهذا فإني لم أُعلِّق على ذلك كله بالمعنى الذي يؤكد هذه المسألة أو ينفيها، لأني لا أملك المعطيات القانونيّة في هذا المجال.
* إذاً أنتم تبرّئون المملكة من هكذا دور؟
ـ إنني أستبعد أن تفكر المملكة بهذه الطريقة، وقد قلتُ إني لا أملك المعطيات التي أستطيع من خلالها أن أعطي حكماً بالمعنى القضائي القانوني للحكم. وأنا لا أجد أية مصلحةٍ في إثارة هذا الحديث في المرحلة التي نعيشها الآن، ولا سيما أن المملكة تواجه الكثير من الضغوط الأميركية بطريقة وبأخرى، وتتعرض للكثير من الهجمات الإرهابية التي تطال الناس الأبرياء. فليس هناك أية مصلحة عربيّة أو إسلامية تسمح بإثارة هذا الموضوع وجعله مداراً للجدل.
الإرهاب صناعة غربية
* سماحة السيد، سبق وقلتم إن الإرهاب صناعة غربية، وأعدتم بعض الأحيان أساسه إلى بنية سياسية واجتماعية واقتصادية مقهورة. ولكن ألا ترون أنّ ما يستند إليه الزرقاوي وبن لادن من المخزون التراثي الإسلامي فيه ما يكفي للتأسيس الديني للإرهاب؟
ـ إنني عندما قلت ذلك، كنت أنفذ بمعلوماتي إلى كل أنواع المافيا الموجودة في أكثر من موقع في الغرب. نحن نستحضر الألوية الحمراء، والجيش الجمهوري الإيرلندي... ممّا كانوا يقومون به من عمليات تفجير وقتل وخطف للأبرياء، حتّى إنني قلت لبعض السفراء الفرنسيين عندما كانوا يتحدّثون عن مسألة الخطف في لبنان، ولا سيّما خطف الغربيين، قلت لهم إنَّ اللبنانيين تعلّموا الخطف منكم، لأنّ الجيش الفرنسي خطف المهدي بن بركة، الزعيم المغربي المعارض، ولأنكم خطفتم طائرة أحمد بن بلاَّ.
ولهذا فإن اللبنانيين في علاقتهم الحميمة بالأم الحنون ـ كما كانوا يقولون ـ كانوا يخطفون بعضهم بعضاً كما يخطفون الغربيين. فإننا عندما ندرس حتى واقع أميركا، نجد أن هناك طلاباً يقتلون أساتذتهم، وأن طالباً يحمل مسدساً ليقتل رفاقه من الطلبة... حتى إنّنا نعرف أن حجم الجريمة بكل أشكالها في أمريكا يمثل رقماً عالياً قد لا يصل إليه أي رقم في أي بلد.
إن كل هذا يدل على أن الإرهاب في تنوعاته نشأ في الغرب، أمّا أنّ هؤلاء بدأوا العمليات العنيفة تحت غطاء شرعي إسلامي، فإني أتصوّر أنّ عملهم لم يخلُ في البداية من خطة غربيّة. فكيف بدأ هذا الإرهاب، كما تسميه الإدارة الأميركية؟ نحن نجد أن أمريكا شجّعت الكثير من هؤلاء على مستوى القيادة وعلى مستوى القاعدة (الشعبية)، على مواجهة الإتحاد السوفياتي وحربه عند احتلاله لأفغانستان، وطلبوا من أكثر الدول، ومنها العربيّة، أن يموِّلوا هؤلاء، وكانوا يطلقون عليهم اسم المجاهدين، وكانوا يعملون أيضاً على أساس أن ينطلق العالم الإسلامي بكل علمائه الذين يملكون التأثير عليهم، من أجل إصدار الفتاوى ضدّ الاتحاد السوفياتي بالعنوان التكفيري، لأن أمريكا استخدمت العنوان الديني في محاربة الاتحاد السوفياتي، على أساس أنه يتبنى الماركسيّة المرتكزة على قاعدة الإلحاد.
ولهذا، فإن أمريكا هيّأت كل المناخ في المسألة الأفغانية، ودرّبت كل هؤلاء، حتى إنّها شجّعت باكستان وغيرها على دعم حركة طالبان لتسيطر على أفغانستان. لقد كان المناخ يوحي بالتحرك في هذا الإطار، غاية ما هناك أننا نعرف أن هناك مفردات إسلامية كمفردة الجهاد، ومحاربة الكفار، استفادت من هذا المناخ، وتحرّكت بعد ذلك في أفق أوسع بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، حيث كان كُلّ هؤلاء يعيشون هذه الثقافة التي أحاطتها أمريكا بأجواء مقدّسة. ولهذا عندما أطلقوا هذه الحركة، انطلقت لتفتش عن بديل وعن أفق آخر، فالآن نحارب الاتحاد السوفياتي في احتلاله وغداً أمريكاٍ.
* لماذا انقلب السحر على الساحر؟
ـ لأن أمريكا استغرقت في هذا المجال، ولم تحتط لنفسها في دراسة الواقع الإسلامي المليء بالكثير من هذه المفردات القابلة للاجتهاد وللتحرُّك والتي عاشت التجربة الحيّة في أفغانستان.
خطأ في فهم المفردات الدينية
* إذاً سماحة السيّد، هناك أرضية وقاعدة انطلق منها أسامة بن لادن تعود إلى الديانة الإسلامية؟
ـ ليست القضية قضية الديانة الإسلامية، أنا أعتقد أن مسألة العنف في العالم الإسلامي التي تحرّكت بهذا الشكل القاسي، انطلقت من خلال النظرية الماركسيّة التي خطّطت للعنف في مواجهة كلّ الأنظمة، واعتبرت العنف وسيلة التغيير الوحيدة، وأنا أعتقد أن أغلب الأحزاب، سواء كانت قوميّة أو إسلامية، أخذت بهذا المناخ من العنف وهذه الوسائل في البداية من النظرية الماركسيّة تلقائياً أو بشكل غير مباشر، لأن الأحزاب القوميّة والإسلامية لم تكن لديها نظرية في وسائل التحرُّك.
* ولكن سماحة السيّد، سبق أن تفضلتم وتحدّثتم عن بعض التعابير والمفردات الإسلامية القابلة للاجتهاد، وهذه التعابير موجودة ومن حق أي شخص التحدّث بها؟
ـ عندما ندرس المراحل السابقة عن أفغانستان، فإننا نرى أنه لم يكن هناك على مستوى العالم الإسلامي الديني أيّة مظاهر للعنف بالطرق التي نراها الآن.
* لماذا؟
ـ لأن المسألة لم تكن تتحرّك على أساس الواقع السياسي في ساحة الصّراع، فربّما كانت مسألة الصراع ضد الاتحاد السوفياتي آنذاك تنطلق من خلفية دينية على المستوى النظري، أو كانت تتحرّك في نطاق مواجهة بعض الأنظمة هنا وهناك.. ولم نجد في الانقلابات العسكرية أية حركة إسلاميّة تقوم بأعمال عنف بالطريقة التي نراها الآن. حتّى في لبنان، لم يخض الإسلاميون بكل أطيافهم، سواءً الشيعيّة أو السنية، الحرب اللبنانية الداخلية، فقد كانت الحرب اللبنانية حرب العلمانيين، من اللبنانيين أو من غيرهم. نعم، كان هناك في البدايات حرب ضدَّ الوجود الأمريكي في لبنان، كما حدث في قضية المارينـز والمظليين الفرنسيين... وكان هناك عمليات عنف ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، ولكن هذه العمليات كانت تحمل عناوين سياسيّة تختزن في داخلها شعارات دينيةٍ.
* إذاً ما الفرق هنا سماحة السيّد؟
ـ الفرق هو أنّ مسألة مواجهة الاحتلال هي مسألة عالميّة تتحرك من خلال المنطق الحضاري في العالم، وقد آمنت بها أمريكا ضدّ الاحتلال البريطاني... وكانت تؤمن بها فرنسا وأوروبا ضدّ الاحتلال النازي.
وكذلك عندما نتحدّث عن قضية المقاومة ضد إسرائيل، نجد أن المقاومة يشترك فيها الإسلاميون مع غيرهم.. فلم تكن محصورة بالإسلاميين فقط، بل كان القوميُّون مثلاً، سواء في الدائرة الفلسطينية أو خارجها، يساهمون في ذلك. وكذلك كان الشيوعيون يتحرّكون أيضاً في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. وعلينا معرفة أن مناخ الحرب الباردة الذي كان يطبق على لبنان آنذاك، كان يتحرك في الخط اليساري لمواجهة الأميركيين في لبنان ومواجهة إسرائيل باعتبار علاقتها بأمريكا.
وأنا لا أنكر أنّ هناك اجتهادات في فهم الجهاد بطريقة عدوانية أو غيرها، لكني أتصوَّر أن المسألة كانت مسألة اختلاط المفاهيم.
* كنتم أوّل من وقف ضد أحداث 11 أيلول رغم عدائكم للسياسة الأمريكية. هل عدم إدانة العديد من التيارات الإسلامية لهذه الأحداث ساهم في استمرار هذا النهج؟
ـ أعتقد أن السؤال قد يخلو من الدقة بهذه الشمولية، لأنَّ الكثير من التيارات الإسلامية دانت ذلك، أمّا قضية امتداد هذا الموضوع، فلأن الجهات التي خططت لهذا كانت ترى نفسها منتصرة، وكانت ترى أنها بداية الحرب، ولا سيما عندما انطلقت أمريكا في ردّ فعل جعل الفئات التي انطلقت في هذا الاتجاه تتحرّك لتجربة ثانية أو ثالثة أو رابعة، لأنّ مسألة إعلان الحرب ضد الإرهاب ـ بقطع النظر عن مفرداتها وعن الخلط بين الإرهاب والمقاومة ـ جعلت الحرب مفتوحة بين هذه الجهات التي حرّكت الحرب ضد أمريكا في هذا المجال باعتبار مسؤولياتها عما يحدث للعالم العربي والإسلامي، وبين أمريكا.
* ما الذي يمنع وجود إجماع إسلامي عام عن إعلان البراءة من هذه الفئات الإرهابية؟ هل السّبب هو الطغيان الأمريكي الإسرائيلي، أم أن المسألة تتصل بأسباب فكرية؟
ـ هناك أكثر من سبب:
1- إن العالم الإسلامي ليس واحداً في تفكيره الاجتهادي، تماماً كما هو العالم الغربي، لذلك من الصعب جداً أن تفرض على العالم أن يتحدث عن عالمٍ إسلامي لا بد أن ينطلق ليدين هذه الأعمال بشكل مطلق.
2- كما إن البعض قد يرى أن هذه المجازر التي يعيشها الفلسطينيون من قِبَل الاحتلال الإسرائيلي مع تغطية مطلقة ودعم مطلق من قِبَل الإدارة الأمريكية، قد تبرّر بعض ما يقوم به هؤلاء، لا من جهة أنهم يشرّعون مثل هذه الأساليب بشكل شامل، ولكن لأن الواقع السياسي والأمني المحيط بالعالم الإسلامي، لا سيما بعد احتلال العراق، جعل أمريكا العدوّ الذي لا بد من محاربته بكل الوسائل... وحتى إننا تحدثنا من خلال ما نواجهه من دعمٍ مطلق أمريكي غير عقلاني لإسرائيل، أن الصراع لم يعد في القضية الفلسطينية صراعاً عربياً إسرائيلياً أو فلسطينياً إسرائيلياً، بل أصبح صراعاً أمريكياً عربياً وأمريكياً فلسطينياً، لأن أمريكا الآن، ومهما تحدّثت عن دولة فلسطينية ثانية، أصبحت تدعم إسرائيل بكل أعمالها الإجرامية ومجازرها، على أساس الانتخابات الأمريكية، سواء على مستوى الحزب الديمقراطي أو الجمهوري، لأن الرئيس الأمريكي، أياً كان، مستعدّ أن يحرق العالم لينجح في الانتخابات، وهذه المسألة تدخل في الجوانب الشعورية التي ربما تبرّر الكثير من هذا.
التمييز بين المقاومة والاعتداء
* سماحة السيد، مشهدٌ بهذا الشكل: عملية في "الخبر" يسقط فيها مدنيّون، والعنوان مقاومة الاحتلال الأمريكي، وعملية أخرى تقوم فيها "حماس" يُقتل فيها مدنيّون، أنتَ مع أي عملية؟
ـ إنني أفرِّق بين العمليتين، لأن عملية الخبر والرياض والدار البيضاء، والعمليات كما في العراق ضد المدنيين وأماكن العبادة، هذه عمليات تتحرك في غير حالة حرب، إنها تنطلق بعقلٍ بارد لقتل المدنيين بساديةٍ ذاتية غير إنسانية.
* ولكنها بعنوان مقاومة المحتل ؟
ـ أما مسألة أن تكون هذه بعنوان مقاومة المحتل، فالمسألة أن هذه العمليات ليس لها أي مبرِّر شرعي، لأن أي عنوانٍ شرعي ـ سواء استخدمنا كلمة الجهاد أو غيره ـ لا يبرر قتل أطفالٍ ونساءٍ وشيوخٍ في ساحةٍ ليست ساحة حرب بالمعنى الحاد لكلمة حرب.
أما الحديث عن أن هذا يمثّل حرباً للاحتلال فإنه ليس واقعياً، لأن التجارب في كل ما قام به هؤلاء، من "الخبر" إلى "الرياض" إلى "الدار البيضاء"، لم يستطع أن يحرِّك الاحتلال خطوةً واحدة بالمعنى الواقعي والمعنى السياسي.
* هكذا كنا نقول بعض الأحيان عن مقاومة حزب الله في الجنوب...
ـ إن نوع العمليات الذي نتحدّث عنه لا يمكن اعتباره وسيلة من وسائل إزالة الاحتلال، لأنه ليس موجّهاً ضد فريق أمريكي بشكل مباشر... فنحن نرى أن بعض الأماكن ليس فيها أمريكيون ليستهدفوا، بينما ما كان يحدث في لبنان، أنه كان هناك يهود وهناك حرب ومقاومون يحاربون اليهود...
أما بالنسبة لمسألة فلسطين، ففي دراستها نجد أن اليهود قد خنقوا كل شيء فلسطيني؛ الإنسان والمزارع والشجر والدور، ولم يكن لدى الفلسطينيين ما يدافعون فيه عن أنفسهم في مواجهة الطائرات والصواريخ والمدافع، لقد قتل اليهود الأمن الفلسطيني بكامله، فكانت مسألة الانتفاضة، سواء عبر حماس أو الجهاد أو كتائب الأقصى، موجّهة ضد الأمن الإسرائيلي الذي جعله شارون عنواناً لكل ما يقوم به، لقد أراد الفلسطينيون قتل الأمن الإسرائيلي لا الناس حتى يحموا أنفسهم ويفكّ اليهود أصابعهم عن خناق الفلسطينيين، ولهذا كانت الحالة حالة حرب حارّة...
وحتى في متابعتنا لخطاب الانتفاضة الفلسطينية، فإننا نجد أن كل فئات الانتفاضة وقادتها يقولون بالصوت العالي: اخرجوا من الأراضي المحتلة ولن تُطلق رصاصة واحدة عليكم، لأن المسألة الفلسطينية ليست مسألة أمنية، وإنما هي مسألة سياسية، ولكن أمريكا ومعها إسرائيل أدخلت المسألة الفلسطينية في الحرب ضد الإرهاب، فهي اعتبرتها مسألة أمنية وليست سياسية. وعليه، فإننا نقول إن أمريكا هي التي عطّلت أي حل سياسي على رغم الموفدين الأمريكيين.
لقد قلت في بعض المداخلات: إن أمريكا وضعت العربة أمام الحصان ولم تضع الحصان أمام العربة، لأن الحصان هو الحل السياسي، بينما وضعت العربة التي هي الحل الأمني، ولن يكون هناك حل أمني ما دام الحل السياسي مربوطاً بالجانب الأمني.
* هل أنتم مع توقيت العمليات الاستشهادية؟
ـ علينا أن نعرف أن إسرائيل لم توقّت أية عملية في مجازرها ضد الفلسطينيين.
* إذاً الأمر مفتوح؟
ـ إن فتح المجازر والاغتيالات والاعتقالات وتجريف المزارع بشكلٍ يومي، حتى على مستوى الثانية لا الدقيقة، من الطبيعي أن يجعل المسألة مفتوحة من قِبَل الفلسطينيين. ثم هناك نقطة، وهي أن قضية التوقيت لدى المقاومة الفلسطينية ليست بأيدي القيادات، لأنهم ربما يحضّرون للعملية ولا تتهيّأ ظروفها إلا بعد شهر، وقد يصادف أن يكون في هذا الشهر مسألة سياسية أو غيرها، لهذا لم تكن المسألة توقيتاً، فعندما يطلق الإنسان الرصاص على رأسك، فهل تفكر متى تدافع عن رأسك صباحاً أو مساءً، ونحن نعرف أن العالم، سواء كان أمريكياً أو أوروبياً، لا يحترم الضعفاء.
القلق المفاهيمي
[متصل] أنا مغترب مقيم في كندا دائماً، سؤالي هو كيف يمكننا كمغتربين تغيير الرأي العام الأجنبي الأمريكي والكندي بالنسبة لما يحصل في الشرق الأوسط عقب أحداث 11أيلول؟
ـ عليكم أولاً أن تحافظوا على أمن البلد الذي تعيشون فيه، ولا تستسلموا لأي إغراءٍ من أيّ جهةٍ حتى ولو كانت شرعية ـ أي لها صفة شرعية ـ لأنكم عندما تعيشون في بلاد الاغتراب التي احتضنتكم، عليكم أن تلتزموا الأمانة مع الناس الذين احتضنوكم هناك، وحاولوا أن تستفيدوا من الحرية الإعلامية والسياسية في تلك البلدان، لتعرِّفوا الناس من رفاقكم العمال وفي المواقع الثقافية السياسية، القضية الفلسطينية والعراقية واللبنانية، حتى يفهم الناس أن إسرائيل معتدية، وأن أمريكا معتدية، وليكن أسلوبكم حسناً، لأن الشعب هناك يستطيع تغيير سياسات حكومته، وأيضاً عليكم الدخول في نسيج المجتمع هناك مع الحفاظ على مبادئكم.
* أين تتوقّف مفاهيم التخلّف، وأين تبدأ مظاهر التطوّر في العنف ذات الطابع الإسلامي؟
ـ إن مسألة التخلف تمثل ضيق الأُفق في فهم القضايا بحسب طبيعتها في عناصرها الذاتية وفي امتداداتها. إننا عندما نتحدث عن قضية الجهاد في الإسلام، فإنه لا يختلف مع أي منطقٍ حضاري إنساني في العالم، لأن الجهاد في الإسلام دفاعي أو وقائي، وهو أمرٌ توافق عليه كل الحضارات، كما إن القرآن كرّر في أكثر من آية كريمة النهي عن الاعتداء.
فالجهاد حركة دفاع على مستوى الفرد وعلى مستوى المجتمع وهو حركة وقائية... إن هذا الفهم للجهاد يمنع أن يكون عدوانياً، كأن تلتقي بأي كافر هنا وهناك لتقتله. فالإسلام أكّد للمسلمين أن يعاملوا أي شخص مسالم ـ أياً كان دينه ـ بالإحسان إليه والعدل معه في كل المعاملات والعلاقات، فكل إنسان مسالم في العالم يأتي إلى بلادنا مستأمناً، يريد خدمة الناس، لا يجوز الإساءة له، وكذلك كل إنسان في الغرب يستقبلنا ويحتضننا ويعطينا الضمانات الصحية وغيرها، هو إنسان مسالم لا يجوز الإساءة له. لهذا نحن نقول إن هذا يمثل فهماً متخلّفاً للإسلام، وهناك نظرية يتبنّاها الكثير من فقهاء المسلمين، أن الكفر لا يبرّر القتل، بل "الحرابة" في ساحة الحرب...
* ما هي المعوّقات الموجودة في التراث الإسلامي، والتي تحول حتى الآن طي ملف التكفير أو ما يسمّى بالجهاد ضد الكفار؟
ـ إنّ عصور التخلّف في العالم الإسلامي أوجدت حالةً من العصبيات حتى بين المسلمين أنفسهم، وهذه العصبيات خلقت ذهنية حادةً ضد الآخر.. وقد لا تسمح هذه الذهنية بأن تنفتح على العنف القتالي، ولكن عندما يأتيها المناخ الذي يساعد على ذلك، فإنها تحاول التحرك بهذه الطريقة...
إنّ المناخات الموجودة في العالم الإسلامي تجعل الإنسان يعيش هذا النوع من العدوان ضد الآخر، وهو ما يتمثل بالتكفير والتضليل وإنكار الآخر وعدم الاعتراف به، وقد يتحول إلى حالة عدوانية عسكرية عندما تأتي المناخات السياسية التي تساعد على ذلك. أما قضية الحوزات والجامعات، فإن الواعين أيضاً يقومون بدورهم، ومنهم أيضاً من يعيش دور العصبية.
[متصل] سماحة السيد، نحن نعيش في الغرب ونعاني من مشكلة الإعلام الموجّه ضد الإسلام، فما هي الإرشادات التي توجهها لنا لحل هذه المشاكل المؤثرة على حياتنا نفسياً واجتماعياً؟
ـ أعتقد أن عليكم أن تصبروا، لأن هذه الموجة انطلقت من خلال الظروف الحادة التي يتحرك فيها الإعلام، ولا سيما من خلال المسألة الفلسطينية والعراقية وغيرهما، ولكننا نعرف أن في الغرب أناساً يفكرون بطريقة موضوعية عقلانية. حاولوا أن تصبروا وأن لا تنهزموا في تلك البلاد. نريد منكم الانفتاح على الناس الذين يستمعون إليكم، وأن تكونوا حذرين من أي مظهر يوحي بالإرهاب... وإنني أتصور أن المسألة ليست طويلة، لأن هناك أكثر من ظرف سوف يحوّل هذه السلبيات إلى إيجابيات، لا سيما في سويسرا وأمثالها، لأن الكثيرين يعيشون هناك إلى حدٍّ ما شيئاً من الحضارية.
* في رسالة الاعتذار عن حضوركم لمؤتمر تأسيس اتحاد عالمي لعلماء المسلمين للشيخ القرضاوي، قلتم إن هناك معركة داخلية صعبة حول الانحرافات المفاهيمية لوعي قضايا الجهاد، هي مهمة توجيه المعركة؟
ـ إن مهمة توجيه المعركة هي للعلماء المسلمين الواعين، وأنا أؤكد كلمة الواعين، الذين ينفتحون على قضايا العصر، لأنني أؤكد ضرورة أن يملك الداعية الإسلامي حسّ المعاصرة حيث يفهم عصره، وكذلك المثقفون المسلمون الذين قد لا تكون لهم صفة دينية بالمعنى التقليدي، ولكنهم يملكون ثقافة إسلامية، وحتى السياسيون في الحركات الإسلامية الواعية المنفتحة...
إن على الجميع العمل للدخول في معركة تصحيح المفاهيم وتأصيلها، حتى نستطيع الخروج من هذه الضبابية التي يستغلّها الكثيرون، والتي شارك الاستشراق الغربي في تأكيدها في الذهنية الغربية العامة، عندما ربط بين الجهاد والعنف، أو عندما حاول التأكيد على الأصولية الإسلامية، ونحن قلنا: إننا لسنا أصوليين بالمعنى الغربي للأصولية، لأنها تنطلق في دائرتين:
1 - عدم الاعتراف بالآخر، والإسلام يعترف بالآخر...
2 - اعتبار العنف الأساس للتغيير، والقرآن يقول: {ادفع بالتي هي أحسن}.
إن الإدارة الأمريكية، وبحسب منطق بوش، هي أصولية من الدرجة الأولى، تغير بالعنف ولا تعترف بالآخر، وهي لا تعترف بجهاد الشعب الفلسطيني في رفض الاحتلال.
* إذا قُدِّر لكم والتقيتم أسامة بن لادن في ظرفٍ ما، ما هو الاستفسار أو أي سؤال توجهونه له، قائد، مجرم، ضحية، قاتل...؟
ـ أعتقد أنه ضحية لمفاهيم قلقة تحركت في طريقته في السلوك والمواجهة، ومن الطبيعي أن الإنسان عندما يكون ضحية لمفاهيم قلقة، فإن كل السلبيات تتجمع في هذا القلق المفاهيمي الذي يجعل الإنسان يخطىء هنا ويخطىء هناك وما إلى ذلك.
* ما الكلمة التي توجّهونها له؟
ـ إنني أدعوه لحوار العلماء المسلمين الذين يؤمنون بما يؤمن به من مواجهة الاحتلال الأمريكي في أي مكان، وحتى أي نوعٍ من أنواع الاحتلال، يؤمنون به بما يؤمن به بحسب خطابه السياسي، وفي مواجهة إسرائيل، وأيضاً محاورة علماء المسلمين في تأصيل المفاهيم الإسلامية التي ينطلق منها، لأن هناك الكثير من العلماء المسلمين المخالفين له في الأسلوب والتصور والرأي، وعلى الإنسان أن لا يستقلّ بفكره حتى ولو كان مخلصاً.
[متصل] سماحة السيد فضل الله، أين وصلتم بخطابكم الإسلامي في خضمّ الصراع العالمي ضد الإسلام والمسلمين بحجة الإرهاب؟
ـ لا أزال منذ انطلقت أفكر في العالم الإسلامي كله، بل إنني أفكر بالإنسان كله، لأني أعتقد أنه ليست هناك ازدواجية بين حركة الإنسان المسلم دفاعاً عن حريته وحركة الإنسان المستضعف دفاعاً عن حريته. لا نزال في الطريق ولن تهزمنا كل التحديات الأخرى، لأننا نتصور أن إنسانيتنا هي أن نعيش إنسانية الآخر، ونحن نريد السلام للإنسان كله، السلام القائم على العدل والحق واحترام حقوق الإنسان للإنسان.
قناة الـ"أل بي سي"، برنامج"كلام الناس ": الأربعاء 26 جمادى الأولى 1425 هـ الموافق في 14 تموز - يوليو 2004 م