في خضمّ الأحداث والصراعات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وما يدور من طروحات وأفكار حول الإسلام والإرهاب وصراع الحضارات، التقت "الشهرية" المرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله في حوار شامل تناول مختلف المواضيع المطروحة.
المشروع الأمريكي في العراق
* تعارضون المشروع الأمريكي في العراق، في حين أن الأمريكيين يقولون إن هناك تأييداً كبيراً لهذا المشروع من الشعب العراقي، فكيف تفسّرون لنا هذا التناقض بين موقفكم وموقف القاعدة الشعبية؟
ـ لعلّ المشكلة أن العراقيين عانوا من حكم صدام حسين ما لم يعانِه شعب في المنطقة، ولا سيّما بالنسبة إلى سياسة القتل، والتي كانت القاعدة عنده لكل معارض...، لذلك لم نجد أحداً على قيد الحياة من بين عشرات الآلاف الذين اعتقلهم، في الوقت الذي أربك هذا الحاكم الطاغي العراق والمنطقة في حروبه المزاجية، وحاول أن يستفيد من السياسات الدولية والإقليمية، في إعطاء حروبه عنواناً قومياً تارة، ووطنياً تارةً أخرى، وما إلى ذلك من العناوين التي كان يحاول أن يضعها على حروبه. فنحن نلاحظ أنه خاض الحرب الداخلية منذ وقت مبكر ضد الأكراد وضد كل المعارضين، حتى الذين هم من أفراد حزبه، ولذا لم يبقَ من قيادات حزب البعث العربي إلا الأشخاص الذين كانوا يدينون له بالطاعة، أو الذين هربوا من ظلمه إلى الخارج.
ثم بدأ يتحرك من أجل مواجهة إيران بعد الثورة الإسلامية... ومن الطبيعي أن حرب صدام لإيران كانت حرباً تختفي وراءها أمريكا التي كانت تريد شخصيةً أو نظاماً عربياً إسلامياً يحارب إيران، يحارب الثورة الإسلامية على أساس عربي، لإثارة المشاعر العربية ضد الفرس، أو المذهبية، من خلال الحديث عن سنّة وشيعة، وإيران تعتبر دولة شيعية بشكل عام. وهكذا استطاع أن يسقط كل شيء في العراق والكثير في إيران...، حتى إنهم (الأمريكان) سهّلوا له الحصول على الأسلحة الكيماوية التي استهدف فيها شعبه في حلبجة وغيرها.
ثم كانت حرب الكويت... لأن أمريكا كانت تبحث عن شرعنة وجود قواتها في الخليج كله، على أساس حاجة الخليج للحماية، بعدما شعرت أن الخليج بدأ يتململ من سياستها على المستوى الشعبي وحتى على المستوى الرسمي... أمريكا أبقت صدام حسين ـ كما أبقت أسامة بن لادن ـ ليكون فزّاعة للعراقيين، حتى تستطيع أن تضمن وجودها طويلاً... لذلك بالنسبة إلى العراقي العادي، وليس العراقي الحزبي المنتمي الواعي، تمثل أمريكا خشبة الإنقاذ التي أنقذته من صدام الذي يمثل الطاغوت للشعب العراقي... وهذا لا يمثل عند العراقيين الرضى بالاحتلال الأمريكي، ولكنه الخوف من عودة صدام وجماعته من جهة، ومن الفوضى نتيجة عدم وجود قيادة عراقية شاملة من جهة أخرى.
ولذلك، فإن المسألة قد تكون على طريقة طارق بن زياد" البحر وراءكم والعدو أمامكم". إنه نوعٌ من الإحساس بالضياع، ولكننا عندما ندرس الجانب الآخر من الصورة، نجد أن الخطاب السياسي العراقي، سواء كان من خلال علماء الدين السنة والشيعة، أو من خلال فعاليات سياسية حزبية وغير حزبية، هو رفض الاحتلال والدعوة إلى انسحابه، ولكن مع الاختلاف في أسلوب مواجهة الاحتلال بين مقاومة سلمية ومقاومة عسكرية. فليس هناك صوت يؤيد الاحتلال، لكنَّ هناك صوتاً يخاف أن يسبِّب خروج الأمريكيين من العراق الفوضى أو عودة صدام...
صراع الحضارات
* بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر أصبحت الموجة هي صراع الحضارات، هل ترى من إمكانية للتوافق بين الشرق والغرب؟
ـ إنني حتى الآن أعتبر أن مسألة صِدام الحضارات هي مجرد عنوان كبير جديد يراد تحريكه سياسياً بين وقت وآخر، لأننا عندما ندرس الواقع منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر أو قبلها، فإننا نجد أن العالم يتحرّك في صدام المصالح وليس صدام الحضارات، لأن المسألة هي أنّ الصدام الأكبر كان الصدام الغربي الأوروبي والأمريكي مع النازي، ثم كانت مسألة الصدام بين الاتحاد السوفياتي وبين الغرب، وكانت البلاد الإسلامية تقف إلى حد بعيد إلى جانب الغرب، لأنها كانت خاضعة للنفوذ الاستعماري الغربي أو للنفوذ الغربي على الأقل.
ومن هنا، فقد بدأت مصالح الغرب، ولا سيما أمريكا، تأخذ دور القيادة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في العالم، لذا عندما سقطت الشيوعية وانحسرت القومية، وتآكلت الوطنية في أكثر من بلد، بدأ الإسلام يمثِّل مشكلة للغرب، ولا أتحدث عن خطر، وربما تحدث البعض عن خطر، وهذا ما عبّر عنه الغرب الأطلسي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، عندما تحدثت مارغريت تاتشر وأمين عام الحلف الأطلسي بأن العدو المقبل، وكانوا يتحدثون عن عدوّ، هو الإسلام.
والقضية كانت سابقة لمسألة 11 أيلول/سبتمبر، وهذا يدلّ على عمق في مواجهة الإسلام، لا من خلال العناصر الحضارية للإسلام، ولكن لأن في الإسلام كما كان في الماركسية، مفردات سياسية ثورية روحية يمكن أن تربك المصالح الغربية أو الأمريكية. لذلك فإن المسألة كانت ولا تزال هي مسألة صراع المصالح، وهذه الهجمة على الإسلام، إنما انطلقت من أجل أن تمنع الإسلام من أن يكون قوة يترك تأثيره على الإنسان الغربي، لأن التطلّعات الثقافية، وقيام الدعاة المسلمين، وهجرة الكثير من المسلمين إلى الغرب، جعلت الإنسان الغربي العادي يتفهّم الإسلام بطريقة وبأخرى. فالمسألة لم تكن مسألة أنّ هناك قيماً حضارية غربية، وقيماً حضارية إسلامية، وأن هناك صراعاً بينهما، لأننا نلاحظ أن أغلب الغربيين، كما أغلب المسلمين، لا يعيشون ثقافة هذه الحضارة أو تلك، وإنما يعيشون عناوين هنا وهناك.
لذلك، أنا لا أتصوّر أن المسألة هي مسألة صراع الحضارات، حتى إننا عندما نلاحظ ما ابتدعته أمريكا من الحرب ضدّ الإرهاب، نرى أنها واجهت في البداية الكثير من التحفظات الأوروبية، لأنهم كانوا يريدون دراسة الموضوع، من جهة ما هي الآليات وما هي الأساليب.
لذلك، فأنا لا أتصور أن المسألة وصلت إلى صراع الحضارات، لأن الشعوب الآن قد تلتزم بعض عاداتها وتقاليدها وبعض أفكارها، لكنها لا تعيش هذا النوع من القلق على الحضارة بالمعنى الذي يجعلها تدخل في حرب ضد شعوب أخرى تملك حضارة أخرى.
موقف الإسلام من أحداث الجزائر والسعودية
* إن ما يجري من أحداث في الجزائر، وحديثاً في السعودية، ينسب إلى الإسلام، ما هو موقف الإسلام الحقيقي مما يجري؟
ـ بالنسبة لنا نقول، إنّه كان من المفروض أن تبقى الجزائر بلد المليون شهيد، بينما كان الآخرون يعملون على أن تغرق الجزائر في الفوضى، وخاصةً في الصراع الأوروبي، الفرنسي بالذات، والأمريكي. ونحن نعرف أنّ هذا الصراع دخل في الدائرة العسكرية والأمنية، فهناك ضباط يدينون بالولاء لفرنسا، بينما هناك آخرون انفتحوا على السياسات الأمريكية... والغرب لا يريد للجزائر أن تكون دولة إسلامية، لا سيما مع خط الاعتدال الذي كانت تعيشه هذه الحركة الإسلامية.
لذلك ألغيت الانتخابات البلدية وعادت الفوضى تدبّ في الجزائر، والعديد من المجازر الوحشية كانت بتخطيط من الأجهزة الأمنية الجزائرية... أما في السعودية، فهناك معارضة حقيقية تمتد من ابن لادن، من القاعدة ومن بعض الخطوط السلفية الوهابية... لذلك فإن هذه الأساليب التي حدثت في السعودية من التفجيرات، أو في المغرب، كانت نتيجة هذه الذهنية التي انطلقت من خلال الثقافة التي أدّت إلى 11 أيلول/سبتمبر، والتي لا أستبعد أن تكون لأجهزة المخابرات الدولية مدخلية في تهيئة المناخات والأجواء لهؤلاء، مستغلة هذه السذاجة السياسية في تحركهم السياسي.
لذلك فإني أتصوّر أن مسألة تشويه صورة الإسلام من خلال ذلك هي مسألة سياسية... وقد قلت في وقتٍ ما، أيام عملية الرهائن في لبنان، لأحد السفراء الفرنسيين، إننا تعلمنا الخطف منكم وأنكم قمتم بخطف المهدي بن بركة وقمتم بخطف طائرة أحمد بن بلا، ولذلك أنتم أساتذتنا في ذلك.
العلمنـة والإسـلام
* يقال إن العلمنة والإسلام لا يلتقيان، ما هو تعليقكم على هذا الموضوع؟
ـ علينا أن نفهم القضايا بعقلٍ بالغ بعيد عن الحماس أو التوقف عند بعض السلبيات التي تطرح هنا وهناك، فالمشكلة التي انطلقت من الغرب في صراعه مع الكنيسة، هي أنّ الدين علاقة بين الإنسان وربه ولا علاقة له بالحياة، ولا السياسة ولا الاقتصاد، وما إلى ذلك. ولهذا، فإنّ من الطبيعي أن الدين إذا لم يكن يختزن في داخله هذا النوع من الحركية في حياة الناس، فلا بد له أن يعيش في نطاقه الخاص في المسجد أو في الكنيسة ولا يتدخل في الشؤون العامة للناس، لهذا جاءت الفكرة من خلال الذهنية العامة عن الدين على أساس "ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، و"مملكتي ليست في هذا العالم" وما إلى ذلك، ولكن المشكلة أن هذا العنوان، عنوان العلمانية، دخل إلى الواقع الإسلامي. وحتى نكون دقيقين في المصطلحات، هناك سجال كبير جداً، سواء في الدائرة التقليدية أو في الدائرة الطليعية الحركية، وهناك اتجاه يقول إن الإسلام يختلف عن المسيحية، ففي الإسلام قاعدة فكرية أثبتت نفسها في صنع الحضارة في البداية، والتي قال عنها جواهر لال نهرو إنها أم الحضارات الحديثة وإنها استطاعت أن تنقل الحضارة إلى الغرب من خلال الأندلس.
وهكذا، إن الدين ينطلق من خلال قاعدة فكرية حضارية على مستوى المفاهيم التي تؤمن بالعقل والعلم والإنسان وما إلى ذلك، مع اختلاف في التفاصيل من خلال اجتهاد هذا واجتهاد ذاك، كما أن الإسلام يملك شريعة سبقت الكثير من الشرائع المعاصرة، فما من واقعة إلاّ ويعبر عنها بقاعدة فقهية، وما من واقعة إلا ولله فيها حكم.
هذه النظرة التي تعتبر "أن الإسلام لم يترك فراغاً في المسألة التشريعية في حياة الناس"، وأن حيوية الإسلام هي أن الإسلام يملك قاعدة الاجتهاد التي يمكن أن تفهم فيها الأجيال القادمة من العلماء النصوص بطريقة تختلف عن ما يفهمه الجيل السابق، مما يعني أن الذهن لا يجمد، وأن المسألة ليست مسألة ثبات النص، ولكنها مسألة حركية المضمون للنص الذي قد تختلف الاجتهادات فيه.
لذلك عندما نضع العلمانية في مقابل الإسلام، فإننا نضع عنوانين مختلفين تماماً من حيث القاعدة ومن حيث الأساس. فالعلمانية تقول لا علاقة للدين بالحياة، والدين يقول: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}، فهو دعوة إلى الحياة. والمشكلة هي أنّ الكثيرين يخلطون بين المفهوم الديني في الغرب وبين المفهوم الديني عند المسلمين، ولذلك كنت أقول لبعضهم عندما يقال يمكن أن يكون الإنسان مسلماً علمانياً: "أويمكن أن يكون الإنسان مسلماً كاثوليكياً؟" وذلك لاختلاف المفهومين.
نظرية الإسلام في الحرية
* يقول بعض المؤرخين بوجود متّسع أكبر من الحرية والتفكير في فجر الإسلام، فهل تعتقدون أن هذه الحرية بدأت تضيق؟
ـ من الطبيعي جداً أن انكماش الحرية في الواقع الإسلامي انطلق أولاً من ذهنية التخلف التي فرضت نفسها على المسلمين، كما فرضتها على غير المسلمين، قبل التطورات التي حدثت في أوروبا، والشيء الثاني هو أن الحكومات التي تعاقبت على الواقع الإسلامي، سواء كانت هذه الحكومات معنونة بعنوان إسلامي أو كانت حكومات استعمارية ظالمة، منعت الحرية عندما فرضت الديكتاتورية على الناس، ولذلك أصبحت الحرية تهمة كبيرة أو جريمة كبيرة عند الحاكم، فلذلك عاش الناس اللاحرية انطلاقاً من الواقع السياسي الذي كان يضغط على حرياتهم، ولا زلنا نعيش نحن الآن في واقعنا الإسلامي تحت تأثير قوانين الطوارىء وأجهزة المخابرات، باسم الخطر الإسرائيلي الذي صالحه الكثيرون تحت الطاولة وفوق الطاولة.
في بداية الشهر القمري
* بمناسبة عيد الفطر السعيد، هل لكم أن تشرحوا لنا الأسس الفكرية والدينية لنظريتكم حول رؤية الهلال، والتي أحدثت انقساماً كبيراً وحسمت بالمقابل جدلاً كبيراً؟
ـ الفكرة انطلقت من قاعدة تتصل بالنظام الكوني، فمسألة الشهر القمري ليست مسألة فقهية، ولكنها مسألة فلكية تنطلق من مفردات النظام الكوني، فالشهر ينتهي بدخول القمر في المحاق، ويبدأ بخروجه من المحاق وامتلاكه كمية من الضوء، بحيث يمكن بحسب طبيعة الأمور رؤيته إما بالعين المجردة أو بواسطة الأجهزة المقربة لذلك. أما الرؤية التي درج عليها الكثير من الفقهاء على أساس الحديث النبوي: "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته"، فتلك مجرد وسيلة من وسائل العلم وليس لها موضوعية.
لذلك فنحن عندما يبلغ الشهر ثلاثين يوماً من دون أن نراه، فإننا نحكم بالهلال. فالرؤية وسيلة من وسائل العلم، ومما يدل على ذلك من خلال النص، أن هناك فقرة قبل قوله: "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته، اليقين لا يدخل الشك"، "لا تعملوا بالشك ولكن اعملوا باليقين"، والرؤية هي إحدى وسائل اليقين. لذلك نقول إن مسألة الهلال هي ظاهرة فلكية كونية يرجع فيها إلى أهل الخبرة ولا يرجع بها إلى الفقهاء، وإذا كان أهل الخبرة بموقع الثقة، وكانت حساباتهم الفلكية بموقع الاطمئنان، فإننا نحكم بالهلال. ولذلك فقد تحدثت عندما ثار الجدل قبل سنين وقلت بأننا نستطيع أن نحدد العيد في مدى 50 سنة من الآن.
أجريت هذه المقابلة قبل القبض على صدام حسين
مجلة "الشهرية" الدولية للمعلومات - عدد4- كانون الثاني 2004.