المقاومة الشيعية في لبنان والعالم الإسلامي

المقاومة الشيعية في لبنان والعالم الإسلامي

أجرى الأستاذ سركيس نعوم من جريدة النهار اللبنانية حوارا مع سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله تناول فيه موضوع المقاومة الشيعية في لبنان والعالم الإسلامي .
 

الحلقة

العنوان

 29 ذو القعدة 1424هـ الموافق 21 -01-2004

هل خفّ وهج المقاومة؟-1-

 30 ذو القعدة 1424هـ الموافق 22 -01-2004

هل خفّ وهج المقاومة؟-2-

 1 ذو الحجة 1424هـ الموافق   23 -01-2004

هل خفَّت "استقلالية" المقاومة ؟

 2 ذو الحجة 1424هـ الموافق   24 -01-2004

النجف بقي المرجعية رغم "الطاغية"

 3 ذو الحجة 1424هـ الموافق   25 -01-2004

تنافس إيراني - عراقي

 5 ذو الحجة 1424هـ الموافق   27 -01-2004

أميركا لم تتحول قوة مطلقة

 6 ذو الحجة 1424هـ الموافق   28 -01-2004

إيران الخميني لم ترفض شرعية أمريكا

سركيس نعوم

منذ أشهر عدة، والمرجع الديني الأبرز في التيارات الإسلامية الأصولية الشيعية اللبنانية غائب عن "الموقف هذا النهار"، مع أن ما يجري في المنطقة، وخصوصاً منذ الحرب الناجحة على عراق صدام حسين، ومحاولات أميركا إعادة صوغ العراق الجديد ومساعدة أبنائه، و"اعتدال" إيران واستمرار الضغوط الأميركية على سوريا، وانعكاس ذلك كله على لبنان المقاومة... مع أن كل ذلك هو من اختصاص هذا المرجع إذا جاز التعبير. لذلك ارتأينا الخوض معه في هذه الموضوعات، في محاولة لاستشراف آفاق المستقبل، وما يخبئه في ضوء التطورات التي تشهدها المنطقة، وفي مقدمها الساحة العراقية.

بدأ الحديث مع المرجع الأبرز حول "الانكفاء الشيعي" في لبنان، والمقصود بذلك أن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي التي صارت في السنوات الأخيرة السابقة للتحرير شيعية، قد خفّ وهجها وصارت أقل قدرة على الحركة والفعل المباشرين، نظرا إلى اضطرارها إلى التنسيق مع سوريا الموجودة في لبنان، أو اقتناعا بضرورة هذا التنسيق. والمقصود أيضاً أن تصاعد المقاومة في فلسطين وخفوتها في لبنان، واستحواذ العراق ذي الغالبية الشيعية على الاهتمام الإقليمي والعالمي، خفّف أكثر الوهج الشيعي اللبناني، وخصوصاً بعد التحرير.

قال السيد: "عندما ندرس الواقع الشيعي في لبنان، فإننا لا نستطيع فصله عن الواقع اللبناني بشكل عام وعن الواقع الإقليمي، فالوهج الذي أخذته الخصوصية الشيعية في الدائرة السياسية على المستوى اللبناني والعربي والإسلامي، انطلق من خلال المقاومة التي أفادت من أكثر من عنصر من العناصر السياسية على مستوى الواقع الإقليمي والمشاعر العربية والإسلامية، في القهر الذي كان يعيشه الشارع العربي الإسلامي في هذا العنفوان الإسرائيلي الذي جعل المسألة العربية والإسلامية منكفئة عن ساحة الفعل. وهكذا كانت المسألة الإقليمية في تأثيراتها السلبية والايجابية، وربما نطل من المسألة الدولية، ولا سيما الأميركية، مع بعض الخطوط أو المداخلات الأوروبية في اعتبار المسألة جزءاً من حركة اللعبة في الشرق الأوسط، والتي كانت تتحرك في الخطوط السياسية بين مدّ وجزر، وهذا ما لاحظناه عندما اتفقت الخطوط الإقليمية والدولية واللبنانية على "تفاهم نيسان"، ما يعني أن المسألة لم تكن مجرد مسألة محلية تعالِج مشكلة محلية، بل كانت مسألة تمتد في أكثر من موقع إقليمي أو دولي على أساس ضبط قواعد اللعبة.

وهكذا بدأت التطورات التي ربما تطلُّ على بعض الأوضاع السياسية في المنطقة أو خارجها، ما أفسح المجال للانتصار الذي اختلف الرأي فيه صواباً أو خطأ، بين من يرى أن المرحلة كانت مهيأة أو كانت تتهيأ للانسحاب الإسرائيلي الذي يجد نفسه في مأزق كبير لا يملك أن يحدّ فيه من الخسائر اليومية من جهة، ولا يملك أن يضرب الضربة القاضية بفعل الأوضاع الدولية والخطوط الحمر هنا وهناك من جهة أخرى. ولذلك كانت المسألة تتحرك على أساس وجود بعض التسهيلات الأمنية أو السياسية، وبين قائل إن المسألة لم تكن كذلك، لأن العنفوان الإسرائيلي لا يسمح لجيشه بالهزيمة أو غير ذلك. لذلك كانت المسألة تتمثل في صلابة المقاومة الإسلامية ورُشدِها السياسي الذي جعلها تحسب الحسابات بدقة مع تحريك المقاومة بشكل ضاغط فوق العادة، بحيث إنه استطاع أن يفرّغ جيش لحد من كل معنى للقوة في داخله، واستطاع أن يواجه العدو بعمليات استشهادية، سواء كانت بالأسلوب الاستشهادي أو بالأسلوب الهجومي".

وأضاف المرجع الإسلامي: "المهم أن الانتصار تحقق، وقد استطاع أن يمنَحَ الواقع السياسي اللبناني والشيعي بالخصوص، إن صح التعبير، اهتزازاً ايجابياً في العالم العربي والإسلامي، حتى إننا رأينا أنه دخل الوجدان الأوروبي في بعض التصريحات التي كانت تنطلق من مسؤول هنا ومسؤول هناك.

وأصبحت النظرة إلى هذا الفريق على أنّه فريق تحريري، وليس فريقاً إرهابياً، على الأقلّ في تلك المرحلة. وهكذا انطلقت المسألة، ثم جاءت ظروف بعد الانسحاب الإسرائيلي فرضت مرحلة أخرى لاستكمال المقاومة مهمتها، وهي مرحلة مزارع شبعا، واعتبار مزارع شبعا أرضاً لبنانية، وقد أخذت في الجو اللبناني السياسي العام حتى على مستوى الدولة، البعد الذي حوّلها مسألة رسمية، مع بعض المناقشات هنا وهناك من كاتب أو محلل أو فريق آخر. ومن الطبيعي أن مسألة مزارع شبعا تمثل مسألة معقدة جداً، من الناحية الرسمية الدولية على مستوى الأمم المتحدة، لأنها لم توافق حتى الآن على اعتبارها أرضاً لبنانية، وتالياً أنها داخل الخط الأزرق. وهكذا كانت هناك بعض الظروف التي لم تسمح بأن تقرر المسألة على مستوى القرارات الدولية في مجلس الأمن في الجانب العربي، وبالذات في الجانب السوري.

ومن الطبيعي أن المقاومة في هذه المسألة الجديدة أصبحت أضعف في حركتها من المرحلة السابقة، لأن الاحتلال في المرحلة السابقة كان معترفاً به من العالم، وحتى الأمم المتحدة، وكان العالم بجميع مواقعه، بما في ذلك أميركا، يعترف بأن هناك احتلالاً. أما الآن، فليس هناك اعتراف بالمعنى القانوني ـ على الأقل ـ وبالتالي السياسي بهذا الاحتلال. ولقد انعكست هذه المسألة على طبيعة حركة المقاومة من خلال الدعم الدولي، ومن جانب آخر، من خلال هذه التطورات التي حصلت في المنطقة، ولا سيما بعد أحداث 11 أيلول التي أدخلت العالم في حرب جديدة على المستوى السياسي والأمني، وهي حرب أميركا على الإرهاب ـ كما يزعمون ـ. وبذلك دخلت مسألة المقاومة في لبنان، كما هي المقاومة في فلسطين، من خلال اللعبة الإسرائيلية التي التقت مع الخلفيات الأميركية في اعتبار أية مقاومة ضد إسرائيل إرهابية، مع إيجاد بعض الحجج أن المقاومة الإسلامية التي تمثل الجناح العسكري لـ"حزب الله" قامت لها فروع في العالم، وأنها قامت ببعض العمليات الإرهابية ضد أميركيين أو إسرائيليين أو يهود كما يعرِف الجميع.

هذا إضافة إلى طبيعة الظروف السورية، والضغوط السياسية التي تمتد من سوريا إلى لبنان، ثم جاءت التطورات الضخمة في حرب أفغانستان، وحرب العراق، وانفتحت المسألة الفلسطينية على تطورات داخلية مأساوية أو بطولية أو غير ذلك. ومن الطبيعي أن المقاومة في لبنان شعرت بأن مسألة السير في عملية التحرير بشكل فعلي، تماما كما هو الأسلوب في المراحل السابقة، في مرحلة التحرير أو ما قبل مرحلة التحرير، شعرت بأن الظروف السياسية ليست ملائمة، كما أن الظروف الأمنية ليست ملائمة من خلال ما يحيط بالوضع اللبناني والسوري، وخصوصاً مع هذا الزلزال الذي حصل في المنطقة في دخول أميركا العسكري والأمني والسياسي إلى المنطقة كلها".

لماذا أرادت المقاومة أن تبقى؟ ما هي الأمور التي أرادت تحقيقها؟

 

النهار: 29 ذو القعدة 1424هـ الموافق 21 -01-2004

سركيس نعوم

"قررت المقاومة أن تبقى بعد التحرير عام 2000 - بهذه أجاب المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله - لأنها أرادت تحقيق أمرين:

1- أن تبقى في خط المواجهة، بحيث تحافظ على مستوى معين من توازن الرعب، على الأقل من خلال ما تعتقده إسرائيل من أن المقاومة تملك ترسانة صاروخية متقدمة يمكن أن تترك تأثيراً سلبياً على المنطقة الشمالية التي هي منطقة المصانع والسياحة ومناطق الاقتصاد هناك.

مع ملاحظة أخرى، وهي أن إسرائيل لا تملك، بحسب الظروف السياسية - الأميركية، أن تفتح جبهة الجنوب اللبناني بشكل كبير جداً، خشية أن يترك ذلك تأثيراً سلبياً على المسألة الأميركية في العراق، وحتى في خطوطها السياسية الأمنية الممتدة حتى إيران. وقد فَهِمَت المقاومة هذه المسألة، وبذلك بقيت لتمثل موقع صمود متقدماً يفرض على إسرائيل بطريقة وبأخرى أن تفكر في الانضباط أمام الواقع اللبناني، بالمستوى الذي يجعلها لا تتحرك كما تحركت في "عناقيد الغضب" أو "تصفية الحساب" أو غير ذلك من العناوين.

2- أرادت المقاومة في ما يبدو الحفاظ على وجودها في ظروف سياسية في الواقع العربي والإسلامي، لتؤكد أن هناك جبهةً قويةً تملك تاريخاً قوياً منتصراً في مواجهة إسرائيل أمام إغلاق كل الجبهات ما عدا الجبهة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، فإن الجبهة الفلسطينية في حركتها تستفيد من هذا الوجود للمقاومة في الجنوب بطريقة وبأخرى في صمودها، وحركتها حتى إن الإعلام الإسرائيلي، وربما غيره، يتحدث عن أن المقاومة في لبنان تقوم بتدريب بعض الفلسطينيين وأنها تتدخل في بعض العمليات الاستشهادية. إن ذلك ربما خفف الوهج الذي كانت تملكه المقاومة، لأن الوهج الشعبي عادة ينفتح على العمليات الفعلية التي يتحرك القتال فيها هنا وهناك. ولكن وجود المقاومة في منطقة الصمود بكل مفاعيله، حتى في العمليات الطائرة (إطلاق المضادات على الطائرات الإسرائيلية)، بين وقت وآخر، مع الوجود السياسي الذي يقف وراء المقاومة، أبقى للمقاومة وجوداً معيناً، ولكن من الطبيعي جدا أنها ليست في المستوى نفسه.

أما المسألة الشيعية - يتابع المرجع الديني الإسلامي الأبرز - إذا صح لنا تصنيف الواقع السياسي في لبنان طائفياً كما يصنّفه البعض والكثيرون، فلا أتصور أن هناك فرقاً بين الشيعة والسنة والمسيحيين بطوائفهم والدروز، لأن طبيعة التطورات الكبيرة التي حصلت في المنطقة، أوجدت نوعاً من التطويق لكل حركة في لبنان على المستوى السياسي أو غيره. ولكننا نتصور أن المقاومة الإسلامية في لبنان، لا تزال تثير الكثير من الجدال، ولاسيما الأميركي والإسرائيلي، في إطار مسألة الجدال حول الإرهاب. ومن هنا، فإنها لم تبتعد عن الضوء، ولكنها بقيت بين ضوء يخفت تارة ويبرز أخرى في هذا المجال. والواقع أن هذا شأن كل فريق وكل منطقة تتحرك بفعل الظروف بين مدٍّ وجزر.

ولهذا، فإننا لا نعبر عن هذا الموضوع بأنه انكفاء، لأن الذين تحركوا، سواء عسكرياً أو سياسياً، بصوت خافت تارة ومسموع طوراً، لا يزالون في الساحة، ولا يزالون يراقبون الساحة، ولا يزالون يُعدون الموقف ويتحركون في اللعبة السياسية التي لا تبقى محصورة في الداخل، بل تطل على السياسة الإقليمية والأفق الإقليمي والدولي، بحسب ما تسمح الظروف. ليس هناك انكفاء بالمعنى الذي تمثله هذه الكلمة من الغياب، لأنه ليس هناك غياب في مسألة المقاومة".

الحديث عن انكفاء الشيعة اللبنانيين وخفوت وهج المقاومة التي هي على وجه الإجمال شيعية، أو هكذا صارت في السنوات الأخيرة، لا يعني الدور الوطني لشيعة لبنان في بلادهم. بل يعني الانكفاء الإقليمي لهم بعدما أخذ شيعة العراق الوهج من جهة، واستعادت المقاومة الفلسطينية وهجها من جهة أخرى، وشعر الجميع في لبنان وخارجه أن المقاومة اللبنانية (أي الإسلامية) لم تعد مطلقة اليد في عملها.

وعلى هذا، علّق المرجع الديني الإسلامي بقوله:

"إنك عندما تتحدث عن انكفاءٍ في الوضع السياسي أو العسكري لطائفة معينة، فإن المسائل التي تحرّكت فيها هذه الجماعات في الإطار الأمني، ليست من المسائل التي يمكن أن تبقى في أي موقع في العالم، المسألة هي أن القضية العسكرية تمثل حركة في المسألة السياسية، والقضية هي ماذا استفادت المسألة السياسية من هذه المسألة العسكرية التي كانت تتحرك بطريقة حارة وبقيت ولكن بطريقة فيها الكثير من البرودة. إن المسألة هي أننا نستطيع تأكيد حقيقة في هذا المجال، وهي أننا عندما نريد استخدام الألفاظ المتداولة الطائفية - والتي لا أحب استخدامها دائماً - نجد أن الانتصار الذي حصل في المقاومة الإسلامية، - التي يعتبرها البعض مقاومة شيعية - استطاعت أن تفتح أبواب العالم الإسلامي على المستوى الشعبي على الشيعة والتشيُّع، بعدما كانت الصورة قاتمة مشوّهة في أكثر مواقع العالم الإسلامي، باعتبار أن الشيعة استطاعوا أن يهزموا إسرائيل - على الأقلّ في اللافتة الإعلامية - وأن يعطوا من خلال ما ألحقوه من هزيمة بإسرائيل نوعاً من الإيحاء للفلسطينيين الذين هم من المسلمين السنة، إن الشيعة لا يتحركون طائفياً ومذهبياً، بل يتحركون إسلامياً وعربياً في هذا المجال. وبذلك استطاعوا أن يدخلوا وجدان العالم الإسلامي، وربما امتد ذلك إلى غير العالم الإسلامي، واستطاعوا إنشاء علاقات واسعة في هذا المجال.

لهذا، فإنّ المسألة العسكرية لم تعزل هذا الموقع، ولكنها فتحت له أفقاً آخر، ولا يزال هذا الأفق يتفاعل ويؤكد أن هذه الجماعة دخلت الساحة السياسية، لا على مستوى لبنان فحسب، ولكن على مستوى العالم العربي والإسلامي".

حظيت المقاومة، وخصوصاً الإسلامية، بدعم ورعاية من سوريا وإيران، ومكنها ذلك مع تضحياتها واستبسالها من تحرير معظم المناطق المحتلة في الجنوب والبقاع الغربي، وأعطى هذا الأمر في حينه انطباعاً أن لدى المقاومة استقلالية معينة. لكن بعد زوال الاحتلال، بدأ هذا الانطباع يتغير، وحلّ مكانه انطباع آخر يفيد أن حركة المقاومة صارت مقيدة، نظراً إلى الظروف الإقليمية والدولية الصعبة، بالسياسة أو الاستراتيجيا السورية، ما يفيد أن المقاومة صارت جزءاً منهما. ومن شأن ذلك إفقادها حرية استعمال الترسانة الصاروخية التي تملك وعددها بالآلاف. إلى ذلك، يقال إن المقاومة كانت ستكتفي بالمجد الذي حققته عبر التحرير، لكن وجود سوريا في لبنان وحاجتها إليه وإلى المقاومة فيه لاستعادة الجولان المحتل، وللمحافظة على دور إقليمي مهم، دفعا المقاومة إلى الاستمرار عبر المطالبة بتحرير مزارع شبعا اللبنانية، رغم أن لبنانية هذه المزارع لم تكن مثارةً على نحو واسع في السابق. ويتساءل أصحاب هذا الانطباع عن الذي يمكن أن يحصل بعد تحرير مزارع شبعا إذا تحررت، وخصوصاً إذا استمرّ الصراع السوري- الإسرائيلي دون حل. أو هل تفتح المقاومة بإيحاء سوري جبهةً أخرى مع إسرائيل؟ وأين؟

 

النهار: 30 ذو القعدة 1424هـ الموافق 22 -01-2004

سركيس نعوم

عن انطباع الكثيرين في لبنان وخارجه، أن المقاومة وعمودها الفقري "حزب الله"، صارت جزءاً من الاستراتيجيا السورية الإقليمية، وأنها بدأت تبعاً لذلك تفقد شيئاً من استقلاليتها، نظرا إلى عدم قدرتها على اتخاذ قرار أحادي بعمليات كبيرة، مثل استخدام ترسانتها الصاروخية الكبيرة، وعن قول الكثيرين أيضاً إن قضية مزارع شبعا ما كانت لتثار وتستخدم ذريعة لاستمرار المقاومة لولا وجود سوريا في لبنان وحاجتها إليه وإلى المقاومة للضغط على إسرائيل لاستعادة الجولان المحتل.

عن هذا كله، تحدث المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله قائلاً:

"أتصور أن الحديث عن أن مسألة المقاومة أصبحت مسألة سورية بالكامل، بحيث إن المقاومة تأخذ التعليمات حتى الجزئية من سوريا، فهذا أمر يتحرك في دائرة الأفكار التجريدية التي لا تنطلق من وقائع مادية، حتّى على مستوى الاستنتاج السياسي. نحن لا ننكر أن للموقف السوري دوراً قوياً في قوة المقاومة، وأن للدعم الإيراني موقفاً كبيراً أيضاً، مع ملاحظة أن للموقف الرسمي اللبناني الذي لا يرضى عنه بعض اللبنانيين، دوراً كبيراً في هذا الدعم. لذلك فإن القول إن المقاومة صارت جزءاً من المشروع السوري، بحيث إنه إذا تحرك تحركت، وإذا وقف وقفت، ليس دقيقاً بهذا المستوى الذي يطرحه السؤال. وإذا كان البعض يلاحظ أن المقاومة لا تدخل في صراع الآن مع إسرائيل، فقد تكون هناك وجهة نظر، هي أن المقاومة الآن تملك رشداً سياسياً، فهي تحسب الحسابات اللبنانية، لأنها لا تريد أن تخلق وضعاً مدمراً للبنان عندما تتحرك إسرائيل بضوء أخضر أميركي، وربما أوروبي في هذا المجال، ولا تجد أية فرصة في حرب حارة مباشرة للانتصار على إسرائيل. إن مسألة تهدئة الجبهة ليست مسألة سورية أو لبنانية، بل هي مسألة دولية، لذلك، فان الظروف الآن تختلف عن ظروف المقاومة سابقاً.

ثم عندما ندرس المسألة في الأفق السياسي العام، فإننا نلاحظ أن غالبية الدول، لا المنظمات، تقف عند الخطوط الحمراء، وخصوصاً الفاقعة الحمرة في هذا المجال. ولا تعتبر أن هذا يمثل ضعفاً، لأن مسألة أن تنتحر عسكرياً أو سياسياً ليست مسألة بطولة. إن الناس لا تريد أن ترى الظروف المحيطة بالمسألة، وإنما تتصور المسألة كأن هناك قصفاً هنا يقابله قصف هناك، ما يثير حماستها أو غير ذلك. ولهذا فإن المتحدثين بهذه الطريقة، يتحدثون بذهنية السذاجة السياسية. نحن لا نريد أن نتحدث عن المقاومة في الجنوب كما لو كانت المقاومة العنترية التي تستطيع أن تهدّم كل السدود وكل الجدران، ولكنها تملك حتى الآن هذه العناصر المستعدة للشهادة والصمود، وإلا كيف نفسر الآن مرابطة آلاف الشباب على الحدود وفي أقصى الظروف ومنهم الجامعيون والمثقفون.

وفي تصوري، إن المسألة السياسية في بلد ـ ولا أقول كل طائفة في بلد معين ـ تخضع لطبيعة الظروف الدولية والإقليمية في الحسابات الدقيقة لحركيتها".

لم يكن موضوع مزارع شبعا ولبنانيتها ليثار لولا وجود سوريا في لبنان ودورها فيه وقضيتها الإقليمية غير المحلولة؟

ردّ المرجع الديني الإسلامي: "من الممكن جداً أن تكون هذه الرغبة أو التخطيط السوري ـ بحسب ما يُثار في السؤال ـ قد التقيا مع حاجة المقاومة إلى الاستمرار والصمود، لأنها تؤمن بالمسألة الفلسطينية بحسب أيديولوجيتها، وقد ترى أن بقاءها على الحدود يقوّي هذه المشاعر أو هذه الأحاسيس في مواجهة إسرائيل، كما أنه يدعم المقاومة الفلسطينية بطريقة أو بأخرى. فليست المسألة أن هناك إيحاءً أن عليكم أن تقاوموا المحتل في هذا المجال، لأن القضية بدأت من جهات سياسية أخرى ولم تبدأ من المقاومة الإسلامية، التي قد يعتبرها بعض الأشخاص امتداداً لسوريا، ولكن المسألة هي أن هناك التقاء في المصلحة والهدف في هذا المجال، دون أن نبعد هذا النوع من التنسيق بين سوريا ولبنان، بما في ذلك المقاومة امتداداً إلى إيران. وأعتقد أن مثل هذا الترابط السياسي الذي قد يطلُّ على ترابط أمني، ليس بدعاً من العلاقات بين دولة ودولة وبين دولة ومنظمة؛ إذ ماذا فعلت أميركا عندما اعتمدت على الأكراد في العراق مثلاً باعتبارهم الفئة التي أعطتها ضوءاً أخضر مئة في المئة، أو من خلال اللّعب على قضية منظمة (مجاهدي) "خلق"، أو كل الجهات التي كانت تنطلق منها، كما في أفغانستان زمن الاتحاد السوفياتي؟ إن هذا الأمر بحسب طبيعة المنطق السياسي أو الذهنية السياسية الإقليمية والدولية ليس أمراً بحيث تسقط السماء على الأرض".

عندما تحدثتُ عن الانكفاء الشيعي في لبنان، لم أقصد دور الشيعة في لبنان، بل قصدت أموراً أخرى، مثل المرجعية الشيعية مثلاً. كانت هذه المرجعية الأساسية في قم والنجف، وكانت مرجعية النجف هي الأهم، ولم تتعزز مرجعية قم إلا بالثورة الإسلامية التي حصلت في إيران عام 1979 وأنتجت دولة إسلامية لا تزال قائمة حتى الآن. أيام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، كانت مرجعية النجف مطموسة ومقموعة، وقامت في لبنان مرجعية شيعية جديدة أنت على رأسها. وقد عززت هذه المرجعية المقاومة، ولاسيما الإسلامية، وتحديداً الشيعية، ضد إسرائيل وتحرير أراضي لبنانية من احتلالها. هذه المرجعية جعلت من الشيعية اللبنانية حالاً عالمية إذا جاز التعبير. الآن تستعيد مرجعية النجف دورها، ويستعيد شيعة العراق دوراً إسلامياً واسعاً حرموه عقوداً. بهذا المعنى، ألا ترون انحساراً ما للشيعية اللبنانية، وتحديدا لتأثيرها الدولي؟

 

جريدة النهار:2 ذو الحجة 1424 الموافق في  24/1/2004

سركيس نعوم

علّق المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله على ما يقال عن انحسار للمرجعية الشيعية اللبنانية، وتحديداً انحسار تأثيرها الدولي بعد استعادة مرجعية النجف دورها ووهجها الشيعيين على المستوى الدولي، رغم وجود مرجعية شيعية لبنانية ذات امتداد إقليمي، وحتى دولي، بقوله:

"لا أرى أن هناك انحساراً، لأنه لا بد أن نناقش هذا الموضوع من خلال الواقع الإسلامي الشيعي للمرجعية. أتصور أن المرجعية الإسلامية الشيعية بالمعنى الرسمي الدولي بقيت، عندما حاول صدام حسين إلغاءها أو إضعافها أو تصفيتها، بقيت مرجعية بمعنى الفتيا (الفتوى). فالمرجعية الآن في النجف لم تنشأ بعد إسقاط النظام، بل كانت موجودة، لأن المرجعية في العالم بمعنى الفتيا كانت تنطلق من خلال الارتباط الديني بالمرجع حسب المواصفات التي تعطى للمرجع هنا وهناك. فترجّح جانباً على جانب. ولذلك كانت المرجعية في النجف كبيرة وواسعة في العراق وفي غيره، بالرغم من كلّ ما قام به النظام الطاغية. ولعلّ امتناع هذا النظام عن اغتيال المرجعية الكبرى في النجف، ينطلق من قوتها في العراق، وبطريقة أقوى، من تجذّرها في العراق وفي العالم. لذلك فإن مرجعية قُم لم تصادر مرجعية النجف، حتى في أشدّ حالات الضعف الحركي لمرجعية النجف، بل إن مرجعية النجف تملك امتداداً في إيران ربما أكثر ممّا يملكه مراجع قُم. لهذا نقول إنّه حتى في لبنان هناك من يلتزمون فتاوى مرجعية النجف.

أما بالنسبة إلى المرجعية في لبنان، والتي ربّما يوضع اسمي في إطارها، فإن في لبنان لم يكن هناك مرجعية شيعية عالمية بالمعنى العالمي للمرجعية على مدى هذه الفترة. لذلك عندما طُرحت هذه المرجعية مع كل الضوضاء والاتهامات التي أثيرت حولها، أصبحت تملك امتداداً في أكثر من منطقة في العالم، حتى في منطقة النجف في العراق، وإن كانت في تلك المنطقة ليست كحجم امتدادها الكبير في الخليج أو في أوروبا أو في أميركا وفي كثير من المناطق كأوستراليا وكندا. لذلك هذا شيء جديد على لبنان، أن تكون هناك مرجعية شيعية تملك امتداداً في العالم الإسلامي الشيعي، كما قد يعتبرها البعض تملك - خطأً أو صواباً - امتداداً في العالم الإسلامي من الناحية الفكرية أو السياسية".

"لهذا ـ يتابع المرجع الأبرز ـ فإننا نعتبر أن هذه مسألة تمثل نقطةً إيجابيةً لما يسمّى بالمرجعية الشيعية الإسلامية اللبنانية في هذا المجال. إن هذه المسألة لم تؤثّر على مستوى الوجود الشيعيّ من خلال هذه النقاط. ولكن من الطبيعي جداً أن المسألة عندما ندرسها في العراق، فإننا نعرف في العِلم الإعلامي ـ إن صحّ التعبير ـ أن أي حدث كبير يملك امتداداً سياسياً وعسكرياً على مستوى العالم من خلال طبيعته في النتائج التي تحصل منه، أو من خلال تضارب المصالح وامتداد السلبيات والإيجابيات حوله، من الطبيعي جداً أن يأخذ كل الضوء الذي ينفتح على أية قضية في العالم. الآن نجد أن المسألة العراقية تغلب كل المسائل السياسية في العالم، حتى إنها تعيش في داخل أميركا التي لا ينفتح شعبها على السياسة الخارجية، أكثر مما تعيش قضية الانتخابات الرئاسية بطريقة وبأخرى، بل إن الانتخابات الرئاسية مرتبطة بالمسألة العراقية في هذا المقام، ومن الطبيعي جداً أن تسيطر على كل الواقع الموجود في المنطقة، ولا سيما الواقع الموجود في لبنان. ولكن بقيت المسألة لبنانية على المستوى الشيعي تارةً، وعلى مستوى حتى الإسلام السنّي وربما المسيحي أيضاً، تتصل بخيوط معينة في المسألة العراقية، بحيث إن فريقاً من العراقيين، سواء كانوا في مجلس الحكم أو غيره، يتابعون الامتدادات اللبنانية بطريقة وبأخرى. لهذا فإن مسألة هذا الضعف أو هذا الوهج الذاهب هو أمرٌ طبيعي في أحداث العالم، وربما تأتي بعض التطورات الضخمة التي تجتذب اهتمامات العالم، فتجعل لبنان أو سوريا أو المنطقة في دائرة الضوء".

هل فكرت في الانتقال إلى العراق ومتابعة نشاطاتك منه كون النجف عاد المرجعية الأساسية للشيعة في العالم؟

أجاب المرجع الشيعيّ: "أولاً قلت إنني لن أدخل العراق ما دام الاحتلال موجوداً، أو على الأقل الاحتلال المباشر. وثانياً أتصور أن موقعي في لبنان يمكن أن يفتح لي أكثر من نافذة على العالم، وحتى على الذين يلتزمون فتاواي أو يرتبطون بي فكرياً أكثر من النجف، لأن المرجعية في التقاليد الشيعية تملك مواقع تاريخية، ولكنها لا ترتبط من الناحية الشرعية بالموقع الجغرافي. لهذا فإن المسألة بالنسبة إليّ أن المرجعية لا تمثّل طموحاً بالمعنى الذاتي في الامتداد، بل إنني منذ انطلقت في العمل العام قبل خمسين سنة أو أكثر، كنت أفكر في الرسالة الإسلامية في العالم، وأفكّر أن أقدّم إسلاماً حضارياً، لا سيما للغرب. وكنت أقدّم إسلاماً منفتحاً لا يعيش في دائرة مذهبية ضيقة تنفي المذهب الآخر، ولا يعيش في دائرة مغلقة تنفي الدين الآخر أو الفكر الآخر.

أنا التزم الإسلام حسب ما أفهمه بكل خصائصه وحتى جزئياته، ولكني منفتح على الآخر، وأرى أنه إذا كان من حقّي أن أختلف مع الآخر، فمن حق الآخر أن يختلف معي ويكون له فكره. إن القرآن الكريم لم ينفِ الآخر، وآياته كثيرة في هذا الموضوع، فقد جعل الحوار الوسيلة الفضلى لالتقاء الإنسان بالإنسان، واعتبر أنه لا إلغاء لخصوصيات الشعوب في العالم. لذلك كنت ولا أزال أفكّر في الإسلام بطريقة منفتحة... ولعلّي عانيت الكثير من الحرب التي أثيرت من هنا وهناك، سواء المخابراتية أو حرب المرجعية أو الشخصانية أو الفئوية، وقد انطلقت من خلال هذا النوع من الانفتاح الإسلامي على العالم وعلى الإنسان كلّه، في مواجهتي لكل رسائل التخلف والخرافة وغير ذلك، محاولاً أن أقدّم للعالم إسلاماً حضارياً يملك الأصالة والانفتاح، ويطلق دعوة الحوار الثقافي والسياسي مع الغرب كلّه.

ولبنان يملك هذه الساحة المفتوحة على الغرب، فهو رئة الشرق ونوافذه، وأنا أحاول الإطلالة على هذه النوافذ".

هل يمكن أن يحصل تنافس، أو بالأحرى صراع إيراني - عراقي على شيعة لبنان؟

 

جريدة النهار:2 ذو الحجة 1424 الموافق في  24/1/2004

سركيس نعوم

أجاب المرجع الديني عن سؤال: هل يمكن حصول تنافس أو صراع إيراني - عراقي على الشيعة؟ 

قال:"لا أعتقد أن هذا واردٌ في حسابات الواقع، لأنه ليست هناك مفردات لهذا الصراع، باعتبار أن الشيعة اللبنانيين لا يتحركون في عالم الانتماء والارتباط بهذا الشكل العفوي، بل إن لهم ارتباطات بالعراق وإيران كأية طائفة أخرى تملك امتدادات في العالم، ولهذا لا أتصوّر أن هناك فرصةً لهذا التنافس الإيراني - العراقي".

حتى لو حصل تناقض مهم وأساسي بين العراق وإيران الجمهورية الإسلامية؟

أجاب المرجع الأبرز: "في تصوري أن شيعة لبنان يتنوعون. وأحسب أن إيران تملك رشداً سياسياً يجعلها تنأى بنفسها وسياستها عن أيّ تدخل في صراعٍ مع العراق. ولقد كانت إيران أوّل دولة إسلامية تعترف بمجلس الحكم، كما أنها لم تدخل مع مرجعية العراق في صراع، بل وقفت سياسياً على الأقلّ مع المرجعية في النجف، ولهذا فإن هناك بعض الضوابط التي تمنع الساحة من الانهيار، أو أن تتحول إلى صراع شيعي - إيراني أو شيعي - عراقي... لكن من الطبيعي جداً أن تتأسّس الحكومة العراقية التي لن تكون حكومة شيعية، بل كل ما يطلبه الشيعة في العراق، كما في كل مكان، أن يكونوا مواطنين متساوين مع الآخرين في الحقوق والواجبات. وإذا كان البعض يتحدّث عن الأكثرية، فكما يتحدّث كل العالم عن الأكثرية الحزبية أو الأكثرية الطائفية في العالم. فلا أتصور، على الأقل في الأفق الموجود في الساحة العراقية واللبنانية والإيرانية، أن تصل الأمور إلى هذا المستوى".

هل تعتقد أن تفاهماً أو صفقةً أو أيّ شيء من هذا القبيل، وإن على نحو تمهيدي، حصل بين شيعة العراق، والمقصود هنا مرجعيات دينية أساسية، وبين أميركا؟

أجاب المرجع: "لا أتصور دقة هذه الكلمة في هذا المجال. إن المسألة هي أن قضية الاحتلال في العراق مرفوضة من كل الشعب العراقي. وربما يفكر بعض الناس سياسياً أو بطريقة الذي لا يعيش امتدادات المستقبل في السياسة الأميركية في خططها في العراق وفي ما حول العراق. قد يقولون إنه من الممكن إذا زال الاحتلال فإن الوضع العراقي قد يتحوّل إلى فوضى. وربما يفكر هؤلاء، وهذا ما سمعته من البعض، بأن فلول صدّام، كما يُعبّر عنها، قد تعود إلى حكم العراق أمام عدم وجود وضع سياسي مستقرّ قويّ بالنسبة إلى الحكم العراقي من العراقيين. ولهذا، فقد يرون أنه من الضروري جدّاً أن تبقى مثلاً بعض القوات الدولية وليس من الضروري أن تكون أميركية من أجل إيجاد حالة من التوازن الذي يمكّن العراقيين من أن يقرّروا مصيرهم بالطريقة الديمقراطية، أو غيرها. هناك وجهات نظر مختلفة، ولكن لا يمكننا الحديث عن صفقة بالمعنى السياسي للصفقة حسب ما أملك من معلومات، ولا أدّعي أنني أملك كل المعلومات في هذا المجال.

وأعتقد أن البعض ممّن يثيرون هذه المسألة، يحاولون البحث عن بعض السلبيات في الوضع الشيعي في العراق، باعتبار أن الشيعة لم يدخلوا في المقاومة العسكرية، ولكنهم يصرخون دائماً أنهم ضد الاحتلال. ولعلّنا نلاحظ أن المرجعية في النجف، رفضت استقبال أي شخص من رموز الاحتلال، بمن فيهم الحاكم المدني بريمر في العراق، وأكدت رفض العراقيين تعيين لجنة دستور من الأميركيين تماماً كما هو تعيين مجلس الحكم الانتقالي، بل إن المطلب الكبير جداً، والمعبّر عنه بالتظاهرات اعتبار الانتخاب هو الأساس للجنة التي تضع الدستور أو مجلس النواب أو الحكومة أو غير ذلك. كما أتصور أن الذهنية الشيعية العامة - من الطبيعي أننا لا نتحدث عن كل الناس سواء عند الشيعة أو السنة - هي ذهنية ترفض الاحتلال، ولا أتصور أن أحداً يملك الساحة بما يستطيع معه أن يؤكّد صفقة، لأن الذي يريد الدخول في صفقة لا بدّ أنه يملك القوة، والمرجعية في كل تاريخها لم تدخل في صفقة ولن تدخل في صفقة، مع محتلّ".

رغم كل دعواتك المتكررة إلى الوحدة الإسلامية استمرت المذهبية، ويبدو أنها متفاقمة في العراق. وهناك في المنطقة، وتحديداً في محيط العراق، نوعان من الجهات، واحد يضغط على أميركا لإعادة النفوذ السني إلى السلطة أو النظام في العراق، وآخر يدعوها إلى أن يكون لشيعة العراق، وهم الغالبية على ما يقال، دور في عراق ما بعد صدام حسين يوازي حجمهم، من دون أن يتسبب ذلك بحرمان الآخرين حقوقهم. كيف تتصور الوضع العراقي في ظل كل ذلك؟

أجاب المرجع الإسلامي: "من الطبيعي أن التراكمات التاريخية بين الشيعة والسنّة لا تزال تفرض نفسها على العالم الإسلامي، وإن من ناحية الثقافة. فالسلبية التي يمارسها الكثيرون في العالم الإسلامي ضد الشيعة، قد يمارسها أيضاً بعض الشيعة ضد السنّة، كردّ فعل أو كفعل من خلال بعض الخطوط السلبية في نظرة هذا الفريق إلى الفريق الآخر، ولكن هناك نقطة لا بد من تأكيدها، وهي أن ما نعرفه عن العراق هو أن هذه الحساسيات سوف تبقى، ولكنها لن تتحول إلى حرب بين السنّة والشيعة، لأن هناك ضوابط أساسية، وخصوصاً عندما ندرس التركيبة الاجتماعية العراقية. فالعشائر في المنطقة المسماة سنّية أو شيعية، هي عشائر مختلطة مذهبياً، فليست هناك بحسب علمي عشيرة سنّية مطلقة أو شيعية مطلقة، بل هناك سنّة وشيعة في العشائر العراقية... ونلاحظ دائماً أن الشيعة والسنّة في العراق، على المستوى الديني التقليدي، وعلى المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يعرفون أن أي فتنة دامية بين السنة والشيعة سوف لن يستفيد منها أحد. ولا يستطيع السنة من خلال الفتنة ربح الحكم في العراق، ولن يستطيع الشيعة كذلك.

وتبقى المسألة الأميركية، أتصور أن المسألة الأميركية قد تملك الضغط بطريقة وبأخرى، ولكنها بحسب الظروف الموجودة في العراق والمأزق الأميركي فيه، لا تملك الحرية الكبيرة في أن تصوغ العراق على الصورة التي تريدها عندما تريد نقل الحكم من دائرة إلى دائرة، أو أن تعزل دائرة عن أخرى، لأن الوضع الجديد في العراق جعل الشعب العراقي للمرة الأولى في تاريخه يملك قوة الكلمة، ولا أدّعي أن العراقيين ملائكة، ولكني أتصور أن المسألة السياسية تحتاج إلى دقّة، ولا يملك أحد أن يصادرها بشكل مطلق".

أحياناً كثيرة ترى الأقليّات في العالم، مذهبية أو دينية أو اثنية، نفسها في حاجة إلى حماية الدول الكبرى، الأمر الذي يدفعها إلى التحالف معها. والبعض يرى أن من سخرية الأقدار، أن الحلف الذي كان مطروحاً للوقوف في وجه أميركا، المؤلف من إيران والعراق وسوريا ولبنان، ما عاد ممكناً أن يقوم إلا بموافقة أميركا ومساعدتها، لأن غالبية شعوب هذه الدول لا تنتمي إلى الأكثرية في العالم الإسلامي، ولأَنها في حاجة إلى نوع من الحماية في ظل تنامي الأصولية السنّية، بل السلفية في هذا العالم. ما رأيك في ذلك؟

 

جريدة النهار:3 ذو الحجة 1424 الموافق في  25/1/2004

سركيس نعوم

عن حاجة الأقليات في العالم إلى حماية الدول الكبرى، وعن استحالة قيام المحور الإيراني - العراقي - السوري - اللبناني ضد أميركا الذي كان مطروحاً في السابق إلا إذا رعت أمريكا قيامه تأميناً لمصالحها وحمايةً له، والمكوّن من غالبية شيعية في عالم إسلامي ذي غالبية شيعية، وخصوصاً بعد استشراء الأصولية فيه، عن كل ذلك تحدث المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله قائلاً:

"ربما يكون هذا الطرح واردا في الآفاق السياسية الدولية مقارناً بالآفاق الخافتة في المنطقة أو في العالم الثالث. ومن الطبيعي أن كل ضعيف يحاول إيجاد القوة عند القوي، ولكن المشكلة التي تبرز في تطورات الأوضاع الدولية على مستوى المنطقة أو العالم، أنه ليس هناك ثبات في المواقف الدولية لحماية هذا الجانب أو ذاك. فنحن الآن عندما نلاحظ حلفاء أمريكا في المنطقة، حتى الحلفاء الذين يمثلون الجهات التي تعتمد عليها أمريكا في المنطقة ـ ولا نريد ذكر الأسماء لأنها معروفة ـ نجد أن أميركا من خلال تبدل خطوط المصالح واتجاهات الإدارة التي تدير مصالحها في العالم من خلالها، بدأت تتحدى حلفاءها قبل غيرهم. ولعل صدام حسين هو أول هؤلاء، لأنه كان حليف أميركا التي قمعت الانتفاضة العراقية الشيعية بعد تحرير الكويت لتثبيت نظام صدام.

فليس هناك ثبات في حركة السياسة في هذا الموضوع، كما إن المأزق الذي تعيشه أميركا في المنطقة، كأفغانستان والعراق، يعني أن أميركا لا تملك حرية الحركة حتى لو استعانت بالحلف الأطلسي، لسبب بسيط جداً، وهو أن مواجهة المآزق التي تقع فيها هذه الدولة أو تلك، لا يمكن أن تتخلص منها إلا إذا أبادت أكثرية البلد، وهذا أمر مستحيل في كل مواقع السياسة الدولية. لهذا أتصوّر أنّ هناك نقطة أخرى، وهي أن هذه الدول المحيطة بالعراق، قد يملك بعضها حساسية ضد القوة السياسية الشيعية، ولا أقول ضد تحوّل العراق دولة شيعية، لعدم طرح الشيعة ذلك لا على مستوى السيطرة على العراق واضطهاد العراقيين كما اضطهد الآخرون، ولا على مستوى التقسيم. إن كل دولة من هذه الدول مشغولة بنفسها وبما تواجهه من اللعبة الأميركية من خلال المحافظين الجدد أو الأسلوب الصهيوني، أو من خلال الخطة الأميركية التي تعمل ـ على الأقل بحسب الصورة البارزة ـ على أن تكون إسرائيل هي الأقوى، وأن تضعف كل دولة في المنطقة اقتصاديا وسياسياً وأمنياً أمام إسرائيل على الأقل. هذا ما يعتقده الناس، وهذا ما يعتقده أيضاً حلفاء أميركا، إذا صح التعبير بالحلفاء، لأن بعضهم لا يرى أن هناك حلفاء بل يرى أن هناك عملاء بحسب اللغة الاستهلاكية البارزة عندنا.

لذلك ليست هناك أية دولة في المنطقة، حتى لو عاشت الحساسية المذهبية، تملك التدخل بطريقة ضاغطة ضد هذه الأقلية ـ افرض الشيعة في المنطقة ـ. ولعلنا نلاحظ أن العلاقات الدولية على مستوى المنطقة لا تخضع لهذا. فكم كانت المشكلة كبيرة بين السعودية وإيران أو الخليج وإيران حتى من الناحية المذهبية، ولكننا نجد أن العلاقات أصبحت تتجاوز العلاقات الدبلوماسية إلى العلاقات الأمنية. وهكذا نلاحظ في علاقات تركيا، المتحالفة مع إسرائيل وأميركا، مع سوريا في هذا الموضوع.

هذا على مستوى الدول. أما على مستوى المنظمات المسمّاة السلفية، فأتصوّر أنها لا تملك تلك القوة التي تتحرك من خلالها أن تقمع شعباً، وإن كان أقلية في المنطقة، لأن شعوب المنطقة ليست في وارد الدخول في عملية حرب مذهبية، على الأقلّ في المستقبل المنظور، إذ كل دولة وكل شعب يعيش مشاكل داخلية على المستوى الاقتصادي والسياسي والأمني، ولهذا فليس هناك أحد متفرغاً لأن يفكر في أي عمل سلبي ضد الآخر، وخصوصا أن العلاقات الاقتصادية في المنطقة هي علاقات متداخلة ومترابطة. ومن الممكن طرح هذه الفكرة التي يطرحها السؤال، ولكن لا أجد أن لها واقعية في المستقبل المنظور. من الممكن جدا أن تفكر أميركا أو الدول الأخرى في إيجاد حالة من الاهتزاز أو خلط الأوراق أو غير ذلك، ولكن المسألة كما قلنا، أن أميركا لم تتحول إلى أن تكون السلطة المطلقة في العالم كله، لأنه لا مطلق إلا الله تعالى.

إن الشيعة يعملون، كما يعمل عقلاء السنة، على الوحدة الإسلامية. لذلك نقول إن هذه العوامل المذكورة تمنع هذا السيناريو، ولكن جميع العقلاء في العالم الإسلامي يعملون أمام التحديات الكبرى التي تواجه العالم الإسلامي كله على أساس التقارب إذا لم يصل إلى حد الوحدة".

هذا التقارب إذا حصل سيصب من دون أدنى شك في مصلحة السعودية وإيران مثلاً وتحديداً سيقوي النظام في كل منهما، وتالياً يؤمن المصالح الأميركية مباشرة أو على نحو غير مباشر، وهذا يعني أن الأمور عادت لتدور في فلك واحد؟؟

يجيب المرجع الإسلامي: "لدينا في الشرق العربي ـ على الأقل ـ فكرة، وهي أن أميركا تملك كل خيوط اللعبة، وأنها لا تترك في تحركها السياسي حرية للمنطقة وبلدانها المرتبطة معها بروابط معاهدات في التفاصيل. أظن أن المسألة هي أن أميركا في تطور حركيتها السياسية في المستقبل لا تملك كل خيوط اللعبة. وهذا ما نلاحظه، عندما نجد أنّ أوروبا ـ وهي الضعيفة حالياً أمام أميركا ـ تعمل من أجل إمساك خيط من هنا وخيط من هناك، وإن كانت خيوط أميركا أكثر. لذلك أتصور أنّه على الرغم من الكثير من عوامل الضغط الأمريكي على الصين واليابان والاتحادين الأوروبي والروسي، إلاّ أن هؤلاء ليسوا عالماً ثالثاً، وأميركا ليست هي الإمبراطورية التي تلغي كل الإمبراطوريات الصغيرة هنا وهناك. وهذا كلام لا ينطلق على مستوى الشعار، بل الواقع. وإلا كيف كانت أميركا مستعمرة من قبل بريطانيا؟ {وتلك الأيام نداولها بين الناس}".

المداولة التي تتحدّث عنها صحيحة، لكنها بين الدول الكبرى المستعمرة أو حتى الطاغية. أما دول العالم الثالث أو الدول الصغرى، فلا شيء يتغير فيها. بريطانيا مثلاً بقيت سنوات في المنطقة حتى زالت وأتت أميركا بعدها، فماذا حصل؟ أميركا تكرس نفسها الآن قوةً أعظم، وإلى أن تقوم قوة تنافسها أو تزيلها ماذا يحصل في العالم، وخصوصاً الثالث منه؟ ومن يضمن أن تكون هذه القوة "عادلة"، أي أن لا تعطي الأولوية لمصالحها على حساب الشعوب الأخرى كلها؟

 

جريدة النهار:5 ذو الحجة 1424 الموافق في  27/1/2004

سركيس نعوم

جاء في تعليقٍ له على مقولة أن "تداول السلطة" في العالم يتم بين الدول الكبيرة والمستعمرة التي تهتم بمصالحها أكثر من اهتمامها بمصالح الشعوب، وخصوصاً في العالم الثالث، وعن أن الرهان على قيام قوة دولية كبرى تنافس أميركا أو تضعفها لن يقدم الكثير لهذه الشعوب، بدليل ما نراه اليوم من تصرف أميركا التي نزعت بريطانيا عن عرش الدولة العظمى. قال السيد محمد حسين فضل الله:

"سوف نعيش هذا النوع من الارتباك السياسي والأمني والاقتصادي، سواء مع أميركا أو مع أوروبا والصين، حتى في تنافسها مع بعضها البعض. ولكني أتصور أنّ الشعوب عندما تواجه كل هذه الضغوط والآلام، فلا بد من أن تتحرك، لا سيّما أن العالم العربي أو الإسلامي هو عالم يملك الكثير من الطاقات، وإن هذه الانتفاضات الصغيرة هنا وهناك، ربما تجد في المستقبل ساحةً أكبر. نحن لسنا مثاليين أو خياليين، بل نحن واقعيون نؤمن بطاقات الشعوب وأنها يمكن أن تتفجر، ولهذا علينا أن نكون المستقبليين، ونفكر في المستقبل، فنفتح ثغرة هنا وثغرة هناك، ونوسّع تلك الثغرات بين وقت وآخر".

هل تعتقد أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية بدأت "تكوع" في اتجاه أميركا؟

"أنا لا أستعمل هذه المصطلحات، لأني لا أؤمن بالسياسة الشعاراتية المثالية. أذكر أنه قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، أجرت معي إحدى الأسبوعيات الإيرانية حديثاً، وقلت لها سيأتي وقت ترتبط فيه إيران بأميركا سياسياً واقتصادياً وربما أمنياً، لأن شعارات الثورة الإسلامية تحدثت عن الشيطان الأكبر والموت لأمريكا، وكل المسائل العالقة بين أميركا وإيران حتى إيران الثورة هي مسائل بعضها اقتصادي وبعضها سياسي أو مخابراتي أو إعلامي، ونحن نعرف أنّ الكثير من الدول التي تختلف مع بعضها البعض حتى في شكل حاد في مثل هذه الأمور، لا بد أن تلتقي على تنازل هنا وتنازل هناك، بما يحقق مصلحة البلدين ولو بطريقة أو بأخرى.

لأن إيران، حتى على لسان الإمام الخميني، لم ترفض شرعية أميركا بالمعنى السياسي الدولي، لأنه لا فرق بين أميركا والدول الأوروبية في مسألة الشرعية الدستورية، بل إنها ركزت على مطالب معينة، مثل الأرصدة وإبعاد الوسائل المعادية. فلا بد من وقت تعود فيه العلاقات بين أميركا وإيران. وأتصور أن التطورات الموجودة في العالم، والذهنية السياسية الإيرانية الجديدة ـ وإن كان البعض يناقش في هذا التعبير ـ منذ دخول أميركا إلى الكويت كانت متوازنة، فلم ينطلق الجيش الإيراني للقيام بعمليات ضد الجيش الأميركي في الخليج، مع أن أميركا صارت على حدود إيران، لأنها صارت على حدود الخليج. لذلك فإن إيران تحاول دائماً الحفاظ على الخطوط العامة لعناوين الحرية والاستقلال والعزة والكرامة ومصالحها، لأنه ليس هناك سياسة في المطلق، أو دولة تفكر في المطلق. إن الشعارات الكبيرة التي انطلقت في بداية الثورة ومع امتداداتها، حتى أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، كانت ضرورية من جهة تعبئة الشعب، وقد كانت لي كلمة بشكل عام في مسألة الثورات، أنه لا بد لأية ثورة من أن تمر بلحظة جنون، بحيث تتحدث في المطلق وبدون ضوابط، ولكنها عندما تتحول إلى دولة، فلا بد من أن تدرس ارتباطاتها الدولية والضغوط الدولية على جميع المستويات. وبهذا فأنا أختلف مع الذين يتحدثون بسلبية حول منطق الثورة ومنطق الدولة، لأن الثورة إنما كانت من اجل الدولة، فلا يمكن إسقاط الدولة بأساليب الثورة".

"إني أرى أن إيران بدأت تملك نوعاً من الواقعية السياسية التي تحاول بما تستطيع أن تبعدها عن خط الإساءة للخطوط العامة للمبادىء الإسلامية، وهذا ما لاحظناه عندما بدأت إيران تفكر في مصالحها كدولة، كموقفها في أفغانستان، فهي لم تساعد أميركا في حربها مع طالبان، ولكنها أعطت بعض الإشارات، كسقوط الجنود الأميركيين. وهكذا المسألة بالنسبة إلى العراق، فقد حافظت على شعاراتها، ولكنها في الوقت نفسه لم تعمل على الانعزال عن التطورات في الساحة العراقية. وهكذا بالنسبة إلى السلاح النووي، عندما عملت على أساس توقيع البروتوكول، ولكنها حاولت الحفاظ على ما تريد عندما انطلقت بدراسة الموضوع، بعدما أخذت أميركا أوروبا إلى صفها في مسألة الضغط على إيران بشأن القضية النووية. ونحن نعرف عمق العلاقات الحيوية لأوروبا في إيران، ولإيران في أوروبا، وربما ينتهي الأمر بها إذا امتنعت عن نقل المسألة إلى مجلس الأمن، أن يكون وضعها الدولي تماماً كوضع العراق في الحصار الدولي وغيره. لهذا حاولت بيع هذه المسألة لأوروبا ولم تبعها لأميركا بشكل مباشر، وخصوصاً أنها لم تعتبر أنها قدمت تنازلاً، لأن الفتوى الشرعية أنه لا يجوز لإيران إنتاج السلاح النووي، وإنما تريد وتحاول اكتساب الخبرة النووية للاستعمال السلمي. لذلك فإني أتصور أن المسألة تدخل في عملية تجاذبات تنطلق من إشارة هنا وإشارة هناك، ولكن إيران ـ في ما يبدو ـ ليست مستعجلة لتسريع هذه التطورات، لأنها ترى أن عليها البقاء محافظةً على شعاراتها بالطريقة الواقعية في هذا المجال، وهو ما لاحظناه عندما أفسحت في المجال لأن تأتي الطائرات الأميركية وموظفوها لمساعدة منكوبي مدينة "بم". إن إيران تتحرك لا على أساس السقوط تحت سلطة أميركا، ولكنها تحاول التخفف من الضغوط الهائلة التي يمكن أن تدخلها في مشاكل كبيرة جدا أكثر من هذه المسماة تنازلات هنا وهناك".

ما هو دور إيران في العراق مستقبلاً حسب تصورك؟

"أعتقد أن إيران تريد توثيق علاقاتها مع الشعب العراقي، حتى السنّي منه، وحتى الكردي، مع التحفظ على المسألة الكردية، باعتبار الحساسية من مستقبل الطموح الكردي في اعتبار الفيدرالية وسيلةً من وسائل الوصول إلى الدولة الكردية الموحدة لأكراد تركيا وإيران وسوريا والعراق.

لذلك، فإنّ دور إيران ليس دور السيطرة على العراق من خلال الشيعة، وإنما دورها كأية دولة مجاورة لأية دولة مرتبطة بها ثقافياً وتربوياً ودينياً وسياسياً واقتصادياً، إنما تريد إيجاد أرض معقولة ومسالمة ومؤثرة، لتستطيع أن تزرع في داخلها ما تملكه من الناحية السياسية في المنطقة، والحماية من تجربة أخرى كتجربة صدّام معها".

جريدة النهار:6 ذو الحجة 1424 الموافق في  28/1/2004

أجرى الأستاذ سركيس نعوم من جريدة النهار اللبنانية حوارا مع سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله تناول فيه موضوع المقاومة الشيعية في لبنان والعالم الإسلامي .
 

الحلقة

العنوان

 29 ذو القعدة 1424هـ الموافق 21 -01-2004

هل خفّ وهج المقاومة؟-1-

 30 ذو القعدة 1424هـ الموافق 22 -01-2004

هل خفّ وهج المقاومة؟-2-

 1 ذو الحجة 1424هـ الموافق   23 -01-2004

هل خفَّت "استقلالية" المقاومة ؟

 2 ذو الحجة 1424هـ الموافق   24 -01-2004

النجف بقي المرجعية رغم "الطاغية"

 3 ذو الحجة 1424هـ الموافق   25 -01-2004

تنافس إيراني - عراقي

 5 ذو الحجة 1424هـ الموافق   27 -01-2004

أميركا لم تتحول قوة مطلقة

 6 ذو الحجة 1424هـ الموافق   28 -01-2004

إيران الخميني لم ترفض شرعية أمريكا

سركيس نعوم

منذ أشهر عدة، والمرجع الديني الأبرز في التيارات الإسلامية الأصولية الشيعية اللبنانية غائب عن "الموقف هذا النهار"، مع أن ما يجري في المنطقة، وخصوصاً منذ الحرب الناجحة على عراق صدام حسين، ومحاولات أميركا إعادة صوغ العراق الجديد ومساعدة أبنائه، و"اعتدال" إيران واستمرار الضغوط الأميركية على سوريا، وانعكاس ذلك كله على لبنان المقاومة... مع أن كل ذلك هو من اختصاص هذا المرجع إذا جاز التعبير. لذلك ارتأينا الخوض معه في هذه الموضوعات، في محاولة لاستشراف آفاق المستقبل، وما يخبئه في ضوء التطورات التي تشهدها المنطقة، وفي مقدمها الساحة العراقية.

بدأ الحديث مع المرجع الأبرز حول "الانكفاء الشيعي" في لبنان، والمقصود بذلك أن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي التي صارت في السنوات الأخيرة السابقة للتحرير شيعية، قد خفّ وهجها وصارت أقل قدرة على الحركة والفعل المباشرين، نظرا إلى اضطرارها إلى التنسيق مع سوريا الموجودة في لبنان، أو اقتناعا بضرورة هذا التنسيق. والمقصود أيضاً أن تصاعد المقاومة في فلسطين وخفوتها في لبنان، واستحواذ العراق ذي الغالبية الشيعية على الاهتمام الإقليمي والعالمي، خفّف أكثر الوهج الشيعي اللبناني، وخصوصاً بعد التحرير.

قال السيد: "عندما ندرس الواقع الشيعي في لبنان، فإننا لا نستطيع فصله عن الواقع اللبناني بشكل عام وعن الواقع الإقليمي، فالوهج الذي أخذته الخصوصية الشيعية في الدائرة السياسية على المستوى اللبناني والعربي والإسلامي، انطلق من خلال المقاومة التي أفادت من أكثر من عنصر من العناصر السياسية على مستوى الواقع الإقليمي والمشاعر العربية والإسلامية، في القهر الذي كان يعيشه الشارع العربي الإسلامي في هذا العنفوان الإسرائيلي الذي جعل المسألة العربية والإسلامية منكفئة عن ساحة الفعل. وهكذا كانت المسألة الإقليمية في تأثيراتها السلبية والايجابية، وربما نطل من المسألة الدولية، ولا سيما الأميركية، مع بعض الخطوط أو المداخلات الأوروبية في اعتبار المسألة جزءاً من حركة اللعبة في الشرق الأوسط، والتي كانت تتحرك في الخطوط السياسية بين مدّ وجزر، وهذا ما لاحظناه عندما اتفقت الخطوط الإقليمية والدولية واللبنانية على "تفاهم نيسان"، ما يعني أن المسألة لم تكن مجرد مسألة محلية تعالِج مشكلة محلية، بل كانت مسألة تمتد في أكثر من موقع إقليمي أو دولي على أساس ضبط قواعد اللعبة.

وهكذا بدأت التطورات التي ربما تطلُّ على بعض الأوضاع السياسية في المنطقة أو خارجها، ما أفسح المجال للانتصار الذي اختلف الرأي فيه صواباً أو خطأ، بين من يرى أن المرحلة كانت مهيأة أو كانت تتهيأ للانسحاب الإسرائيلي الذي يجد نفسه في مأزق كبير لا يملك أن يحدّ فيه من الخسائر اليومية من جهة، ولا يملك أن يضرب الضربة القاضية بفعل الأوضاع الدولية والخطوط الحمر هنا وهناك من جهة أخرى. ولذلك كانت المسألة تتحرك على أساس وجود بعض التسهيلات الأمنية أو السياسية، وبين قائل إن المسألة لم تكن كذلك، لأن العنفوان الإسرائيلي لا يسمح لجيشه بالهزيمة أو غير ذلك. لذلك كانت المسألة تتمثل في صلابة المقاومة الإسلامية ورُشدِها السياسي الذي جعلها تحسب الحسابات بدقة مع تحريك المقاومة بشكل ضاغط فوق العادة، بحيث إنه استطاع أن يفرّغ جيش لحد من كل معنى للقوة في داخله، واستطاع أن يواجه العدو بعمليات استشهادية، سواء كانت بالأسلوب الاستشهادي أو بالأسلوب الهجومي".

وأضاف المرجع الإسلامي: "المهم أن الانتصار تحقق، وقد استطاع أن يمنَحَ الواقع السياسي اللبناني والشيعي بالخصوص، إن صح التعبير، اهتزازاً ايجابياً في العالم العربي والإسلامي، حتى إننا رأينا أنه دخل الوجدان الأوروبي في بعض التصريحات التي كانت تنطلق من مسؤول هنا ومسؤول هناك.

وأصبحت النظرة إلى هذا الفريق على أنّه فريق تحريري، وليس فريقاً إرهابياً، على الأقلّ في تلك المرحلة. وهكذا انطلقت المسألة، ثم جاءت ظروف بعد الانسحاب الإسرائيلي فرضت مرحلة أخرى لاستكمال المقاومة مهمتها، وهي مرحلة مزارع شبعا، واعتبار مزارع شبعا أرضاً لبنانية، وقد أخذت في الجو اللبناني السياسي العام حتى على مستوى الدولة، البعد الذي حوّلها مسألة رسمية، مع بعض المناقشات هنا وهناك من كاتب أو محلل أو فريق آخر. ومن الطبيعي أن مسألة مزارع شبعا تمثل مسألة معقدة جداً، من الناحية الرسمية الدولية على مستوى الأمم المتحدة، لأنها لم توافق حتى الآن على اعتبارها أرضاً لبنانية، وتالياً أنها داخل الخط الأزرق. وهكذا كانت هناك بعض الظروف التي لم تسمح بأن تقرر المسألة على مستوى القرارات الدولية في مجلس الأمن في الجانب العربي، وبالذات في الجانب السوري.

ومن الطبيعي أن المقاومة في هذه المسألة الجديدة أصبحت أضعف في حركتها من المرحلة السابقة، لأن الاحتلال في المرحلة السابقة كان معترفاً به من العالم، وحتى الأمم المتحدة، وكان العالم بجميع مواقعه، بما في ذلك أميركا، يعترف بأن هناك احتلالاً. أما الآن، فليس هناك اعتراف بالمعنى القانوني ـ على الأقل ـ وبالتالي السياسي بهذا الاحتلال. ولقد انعكست هذه المسألة على طبيعة حركة المقاومة من خلال الدعم الدولي، ومن جانب آخر، من خلال هذه التطورات التي حصلت في المنطقة، ولا سيما بعد أحداث 11 أيلول التي أدخلت العالم في حرب جديدة على المستوى السياسي والأمني، وهي حرب أميركا على الإرهاب ـ كما يزعمون ـ. وبذلك دخلت مسألة المقاومة في لبنان، كما هي المقاومة في فلسطين، من خلال اللعبة الإسرائيلية التي التقت مع الخلفيات الأميركية في اعتبار أية مقاومة ضد إسرائيل إرهابية، مع إيجاد بعض الحجج أن المقاومة الإسلامية التي تمثل الجناح العسكري لـ"حزب الله" قامت لها فروع في العالم، وأنها قامت ببعض العمليات الإرهابية ضد أميركيين أو إسرائيليين أو يهود كما يعرِف الجميع.

هذا إضافة إلى طبيعة الظروف السورية، والضغوط السياسية التي تمتد من سوريا إلى لبنان، ثم جاءت التطورات الضخمة في حرب أفغانستان، وحرب العراق، وانفتحت المسألة الفلسطينية على تطورات داخلية مأساوية أو بطولية أو غير ذلك. ومن الطبيعي أن المقاومة في لبنان شعرت بأن مسألة السير في عملية التحرير بشكل فعلي، تماما كما هو الأسلوب في المراحل السابقة، في مرحلة التحرير أو ما قبل مرحلة التحرير، شعرت بأن الظروف السياسية ليست ملائمة، كما أن الظروف الأمنية ليست ملائمة من خلال ما يحيط بالوضع اللبناني والسوري، وخصوصاً مع هذا الزلزال الذي حصل في المنطقة في دخول أميركا العسكري والأمني والسياسي إلى المنطقة كلها".

لماذا أرادت المقاومة أن تبقى؟ ما هي الأمور التي أرادت تحقيقها؟

 

النهار: 29 ذو القعدة 1424هـ الموافق 21 -01-2004

سركيس نعوم

"قررت المقاومة أن تبقى بعد التحرير عام 2000 - بهذه أجاب المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله - لأنها أرادت تحقيق أمرين:

1- أن تبقى في خط المواجهة، بحيث تحافظ على مستوى معين من توازن الرعب، على الأقل من خلال ما تعتقده إسرائيل من أن المقاومة تملك ترسانة صاروخية متقدمة يمكن أن تترك تأثيراً سلبياً على المنطقة الشمالية التي هي منطقة المصانع والسياحة ومناطق الاقتصاد هناك.

مع ملاحظة أخرى، وهي أن إسرائيل لا تملك، بحسب الظروف السياسية - الأميركية، أن تفتح جبهة الجنوب اللبناني بشكل كبير جداً، خشية أن يترك ذلك تأثيراً سلبياً على المسألة الأميركية في العراق، وحتى في خطوطها السياسية الأمنية الممتدة حتى إيران. وقد فَهِمَت المقاومة هذه المسألة، وبذلك بقيت لتمثل موقع صمود متقدماً يفرض على إسرائيل بطريقة وبأخرى أن تفكر في الانضباط أمام الواقع اللبناني، بالمستوى الذي يجعلها لا تتحرك كما تحركت في "عناقيد الغضب" أو "تصفية الحساب" أو غير ذلك من العناوين.

2- أرادت المقاومة في ما يبدو الحفاظ على وجودها في ظروف سياسية في الواقع العربي والإسلامي، لتؤكد أن هناك جبهةً قويةً تملك تاريخاً قوياً منتصراً في مواجهة إسرائيل أمام إغلاق كل الجبهات ما عدا الجبهة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه، فإن الجبهة الفلسطينية في حركتها تستفيد من هذا الوجود للمقاومة في الجنوب بطريقة وبأخرى في صمودها، وحركتها حتى إن الإعلام الإسرائيلي، وربما غيره، يتحدث عن أن المقاومة في لبنان تقوم بتدريب بعض الفلسطينيين وأنها تتدخل في بعض العمليات الاستشهادية. إن ذلك ربما خفف الوهج الذي كانت تملكه المقاومة، لأن الوهج الشعبي عادة ينفتح على العمليات الفعلية التي يتحرك القتال فيها هنا وهناك. ولكن وجود المقاومة في منطقة الصمود بكل مفاعيله، حتى في العمليات الطائرة (إطلاق المضادات على الطائرات الإسرائيلية)، بين وقت وآخر، مع الوجود السياسي الذي يقف وراء المقاومة، أبقى للمقاومة وجوداً معيناً، ولكن من الطبيعي جدا أنها ليست في المستوى نفسه.

أما المسألة الشيعية - يتابع المرجع الديني الإسلامي الأبرز - إذا صح لنا تصنيف الواقع السياسي في لبنان طائفياً كما يصنّفه البعض والكثيرون، فلا أتصور أن هناك فرقاً بين الشيعة والسنة والمسيحيين بطوائفهم والدروز، لأن طبيعة التطورات الكبيرة التي حصلت في المنطقة، أوجدت نوعاً من التطويق لكل حركة في لبنان على المستوى السياسي أو غيره. ولكننا نتصور أن المقاومة الإسلامية في لبنان، لا تزال تثير الكثير من الجدال، ولاسيما الأميركي والإسرائيلي، في إطار مسألة الجدال حول الإرهاب. ومن هنا، فإنها لم تبتعد عن الضوء، ولكنها بقيت بين ضوء يخفت تارة ويبرز أخرى في هذا المجال. والواقع أن هذا شأن كل فريق وكل منطقة تتحرك بفعل الظروف بين مدٍّ وجزر.

ولهذا، فإننا لا نعبر عن هذا الموضوع بأنه انكفاء، لأن الذين تحركوا، سواء عسكرياً أو سياسياً، بصوت خافت تارة ومسموع طوراً، لا يزالون في الساحة، ولا يزالون يراقبون الساحة، ولا يزالون يُعدون الموقف ويتحركون في اللعبة السياسية التي لا تبقى محصورة في الداخل، بل تطل على السياسة الإقليمية والأفق الإقليمي والدولي، بحسب ما تسمح الظروف. ليس هناك انكفاء بالمعنى الذي تمثله هذه الكلمة من الغياب، لأنه ليس هناك غياب في مسألة المقاومة".

الحديث عن انكفاء الشيعة اللبنانيين وخفوت وهج المقاومة التي هي على وجه الإجمال شيعية، أو هكذا صارت في السنوات الأخيرة، لا يعني الدور الوطني لشيعة لبنان في بلادهم. بل يعني الانكفاء الإقليمي لهم بعدما أخذ شيعة العراق الوهج من جهة، واستعادت المقاومة الفلسطينية وهجها من جهة أخرى، وشعر الجميع في لبنان وخارجه أن المقاومة اللبنانية (أي الإسلامية) لم تعد مطلقة اليد في عملها.

وعلى هذا، علّق المرجع الديني الإسلامي بقوله:

"إنك عندما تتحدث عن انكفاءٍ في الوضع السياسي أو العسكري لطائفة معينة، فإن المسائل التي تحرّكت فيها هذه الجماعات في الإطار الأمني، ليست من المسائل التي يمكن أن تبقى في أي موقع في العالم، المسألة هي أن القضية العسكرية تمثل حركة في المسألة السياسية، والقضية هي ماذا استفادت المسألة السياسية من هذه المسألة العسكرية التي كانت تتحرك بطريقة حارة وبقيت ولكن بطريقة فيها الكثير من البرودة. إن المسألة هي أننا نستطيع تأكيد حقيقة في هذا المجال، وهي أننا عندما نريد استخدام الألفاظ المتداولة الطائفية - والتي لا أحب استخدامها دائماً - نجد أن الانتصار الذي حصل في المقاومة الإسلامية، - التي يعتبرها البعض مقاومة شيعية - استطاعت أن تفتح أبواب العالم الإسلامي على المستوى الشعبي على الشيعة والتشيُّع، بعدما كانت الصورة قاتمة مشوّهة في أكثر مواقع العالم الإسلامي، باعتبار أن الشيعة استطاعوا أن يهزموا إسرائيل - على الأقلّ في اللافتة الإعلامية - وأن يعطوا من خلال ما ألحقوه من هزيمة بإسرائيل نوعاً من الإيحاء للفلسطينيين الذين هم من المسلمين السنة، إن الشيعة لا يتحركون طائفياً ومذهبياً، بل يتحركون إسلامياً وعربياً في هذا المجال. وبذلك استطاعوا أن يدخلوا وجدان العالم الإسلامي، وربما امتد ذلك إلى غير العالم الإسلامي، واستطاعوا إنشاء علاقات واسعة في هذا المجال.

لهذا، فإنّ المسألة العسكرية لم تعزل هذا الموقع، ولكنها فتحت له أفقاً آخر، ولا يزال هذا الأفق يتفاعل ويؤكد أن هذه الجماعة دخلت الساحة السياسية، لا على مستوى لبنان فحسب، ولكن على مستوى العالم العربي والإسلامي".

حظيت المقاومة، وخصوصاً الإسلامية، بدعم ورعاية من سوريا وإيران، ومكنها ذلك مع تضحياتها واستبسالها من تحرير معظم المناطق المحتلة في الجنوب والبقاع الغربي، وأعطى هذا الأمر في حينه انطباعاً أن لدى المقاومة استقلالية معينة. لكن بعد زوال الاحتلال، بدأ هذا الانطباع يتغير، وحلّ مكانه انطباع آخر يفيد أن حركة المقاومة صارت مقيدة، نظراً إلى الظروف الإقليمية والدولية الصعبة، بالسياسة أو الاستراتيجيا السورية، ما يفيد أن المقاومة صارت جزءاً منهما. ومن شأن ذلك إفقادها حرية استعمال الترسانة الصاروخية التي تملك وعددها بالآلاف. إلى ذلك، يقال إن المقاومة كانت ستكتفي بالمجد الذي حققته عبر التحرير، لكن وجود سوريا في لبنان وحاجتها إليه وإلى المقاومة فيه لاستعادة الجولان المحتل، وللمحافظة على دور إقليمي مهم، دفعا المقاومة إلى الاستمرار عبر المطالبة بتحرير مزارع شبعا اللبنانية، رغم أن لبنانية هذه المزارع لم تكن مثارةً على نحو واسع في السابق. ويتساءل أصحاب هذا الانطباع عن الذي يمكن أن يحصل بعد تحرير مزارع شبعا إذا تحررت، وخصوصاً إذا استمرّ الصراع السوري- الإسرائيلي دون حل. أو هل تفتح المقاومة بإيحاء سوري جبهةً أخرى مع إسرائيل؟ وأين؟

 

النهار: 30 ذو القعدة 1424هـ الموافق 22 -01-2004

سركيس نعوم

عن انطباع الكثيرين في لبنان وخارجه، أن المقاومة وعمودها الفقري "حزب الله"، صارت جزءاً من الاستراتيجيا السورية الإقليمية، وأنها بدأت تبعاً لذلك تفقد شيئاً من استقلاليتها، نظرا إلى عدم قدرتها على اتخاذ قرار أحادي بعمليات كبيرة، مثل استخدام ترسانتها الصاروخية الكبيرة، وعن قول الكثيرين أيضاً إن قضية مزارع شبعا ما كانت لتثار وتستخدم ذريعة لاستمرار المقاومة لولا وجود سوريا في لبنان وحاجتها إليه وإلى المقاومة للضغط على إسرائيل لاستعادة الجولان المحتل.

عن هذا كله، تحدث المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله قائلاً:

"أتصور أن الحديث عن أن مسألة المقاومة أصبحت مسألة سورية بالكامل، بحيث إن المقاومة تأخذ التعليمات حتى الجزئية من سوريا، فهذا أمر يتحرك في دائرة الأفكار التجريدية التي لا تنطلق من وقائع مادية، حتّى على مستوى الاستنتاج السياسي. نحن لا ننكر أن للموقف السوري دوراً قوياً في قوة المقاومة، وأن للدعم الإيراني موقفاً كبيراً أيضاً، مع ملاحظة أن للموقف الرسمي اللبناني الذي لا يرضى عنه بعض اللبنانيين، دوراً كبيراً في هذا الدعم. لذلك فإن القول إن المقاومة صارت جزءاً من المشروع السوري، بحيث إنه إذا تحرك تحركت، وإذا وقف وقفت، ليس دقيقاً بهذا المستوى الذي يطرحه السؤال. وإذا كان البعض يلاحظ أن المقاومة لا تدخل في صراع الآن مع إسرائيل، فقد تكون هناك وجهة نظر، هي أن المقاومة الآن تملك رشداً سياسياً، فهي تحسب الحسابات اللبنانية، لأنها لا تريد أن تخلق وضعاً مدمراً للبنان عندما تتحرك إسرائيل بضوء أخضر أميركي، وربما أوروبي في هذا المجال، ولا تجد أية فرصة في حرب حارة مباشرة للانتصار على إسرائيل. إن مسألة تهدئة الجبهة ليست مسألة سورية أو لبنانية، بل هي مسألة دولية، لذلك، فان الظروف الآن تختلف عن ظروف المقاومة سابقاً.

ثم عندما ندرس المسألة في الأفق السياسي العام، فإننا نلاحظ أن غالبية الدول، لا المنظمات، تقف عند الخطوط الحمراء، وخصوصاً الفاقعة الحمرة في هذا المجال. ولا تعتبر أن هذا يمثل ضعفاً، لأن مسألة أن تنتحر عسكرياً أو سياسياً ليست مسألة بطولة. إن الناس لا تريد أن ترى الظروف المحيطة بالمسألة، وإنما تتصور المسألة كأن هناك قصفاً هنا يقابله قصف هناك، ما يثير حماستها أو غير ذلك. ولهذا فإن المتحدثين بهذه الطريقة، يتحدثون بذهنية السذاجة السياسية. نحن لا نريد أن نتحدث عن المقاومة في الجنوب كما لو كانت المقاومة العنترية التي تستطيع أن تهدّم كل السدود وكل الجدران، ولكنها تملك حتى الآن هذه العناصر المستعدة للشهادة والصمود، وإلا كيف نفسر الآن مرابطة آلاف الشباب على الحدود وفي أقصى الظروف ومنهم الجامعيون والمثقفون.

وفي تصوري، إن المسألة السياسية في بلد ـ ولا أقول كل طائفة في بلد معين ـ تخضع لطبيعة الظروف الدولية والإقليمية في الحسابات الدقيقة لحركيتها".

لم يكن موضوع مزارع شبعا ولبنانيتها ليثار لولا وجود سوريا في لبنان ودورها فيه وقضيتها الإقليمية غير المحلولة؟

ردّ المرجع الديني الإسلامي: "من الممكن جداً أن تكون هذه الرغبة أو التخطيط السوري ـ بحسب ما يُثار في السؤال ـ قد التقيا مع حاجة المقاومة إلى الاستمرار والصمود، لأنها تؤمن بالمسألة الفلسطينية بحسب أيديولوجيتها، وقد ترى أن بقاءها على الحدود يقوّي هذه المشاعر أو هذه الأحاسيس في مواجهة إسرائيل، كما أنه يدعم المقاومة الفلسطينية بطريقة أو بأخرى. فليست المسألة أن هناك إيحاءً أن عليكم أن تقاوموا المحتل في هذا المجال، لأن القضية بدأت من جهات سياسية أخرى ولم تبدأ من المقاومة الإسلامية، التي قد يعتبرها بعض الأشخاص امتداداً لسوريا، ولكن المسألة هي أن هناك التقاء في المصلحة والهدف في هذا المجال، دون أن نبعد هذا النوع من التنسيق بين سوريا ولبنان، بما في ذلك المقاومة امتداداً إلى إيران. وأعتقد أن مثل هذا الترابط السياسي الذي قد يطلُّ على ترابط أمني، ليس بدعاً من العلاقات بين دولة ودولة وبين دولة ومنظمة؛ إذ ماذا فعلت أميركا عندما اعتمدت على الأكراد في العراق مثلاً باعتبارهم الفئة التي أعطتها ضوءاً أخضر مئة في المئة، أو من خلال اللّعب على قضية منظمة (مجاهدي) "خلق"، أو كل الجهات التي كانت تنطلق منها، كما في أفغانستان زمن الاتحاد السوفياتي؟ إن هذا الأمر بحسب طبيعة المنطق السياسي أو الذهنية السياسية الإقليمية والدولية ليس أمراً بحيث تسقط السماء على الأرض".

عندما تحدثتُ عن الانكفاء الشيعي في لبنان، لم أقصد دور الشيعة في لبنان، بل قصدت أموراً أخرى، مثل المرجعية الشيعية مثلاً. كانت هذه المرجعية الأساسية في قم والنجف، وكانت مرجعية النجف هي الأهم، ولم تتعزز مرجعية قم إلا بالثورة الإسلامية التي حصلت في إيران عام 1979 وأنتجت دولة إسلامية لا تزال قائمة حتى الآن. أيام الرئيس العراقي السابق صدام حسين، كانت مرجعية النجف مطموسة ومقموعة، وقامت في لبنان مرجعية شيعية جديدة أنت على رأسها. وقد عززت هذه المرجعية المقاومة، ولاسيما الإسلامية، وتحديداً الشيعية، ضد إسرائيل وتحرير أراضي لبنانية من احتلالها. هذه المرجعية جعلت من الشيعية اللبنانية حالاً عالمية إذا جاز التعبير. الآن تستعيد مرجعية النجف دورها، ويستعيد شيعة العراق دوراً إسلامياً واسعاً حرموه عقوداً. بهذا المعنى، ألا ترون انحساراً ما للشيعية اللبنانية، وتحديدا لتأثيرها الدولي؟

 

جريدة النهار:2 ذو الحجة 1424 الموافق في  24/1/2004

سركيس نعوم

علّق المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله على ما يقال عن انحسار للمرجعية الشيعية اللبنانية، وتحديداً انحسار تأثيرها الدولي بعد استعادة مرجعية النجف دورها ووهجها الشيعيين على المستوى الدولي، رغم وجود مرجعية شيعية لبنانية ذات امتداد إقليمي، وحتى دولي، بقوله:

"لا أرى أن هناك انحساراً، لأنه لا بد أن نناقش هذا الموضوع من خلال الواقع الإسلامي الشيعي للمرجعية. أتصور أن المرجعية الإسلامية الشيعية بالمعنى الرسمي الدولي بقيت، عندما حاول صدام حسين إلغاءها أو إضعافها أو تصفيتها، بقيت مرجعية بمعنى الفتيا (الفتوى). فالمرجعية الآن في النجف لم تنشأ بعد إسقاط النظام، بل كانت موجودة، لأن المرجعية في العالم بمعنى الفتيا كانت تنطلق من خلال الارتباط الديني بالمرجع حسب المواصفات التي تعطى للمرجع هنا وهناك. فترجّح جانباً على جانب. ولذلك كانت المرجعية في النجف كبيرة وواسعة في العراق وفي غيره، بالرغم من كلّ ما قام به النظام الطاغية. ولعلّ امتناع هذا النظام عن اغتيال المرجعية الكبرى في النجف، ينطلق من قوتها في العراق، وبطريقة أقوى، من تجذّرها في العراق وفي العالم. لذلك فإن مرجعية قُم لم تصادر مرجعية النجف، حتى في أشدّ حالات الضعف الحركي لمرجعية النجف، بل إن مرجعية النجف تملك امتداداً في إيران ربما أكثر ممّا يملكه مراجع قُم. لهذا نقول إنّه حتى في لبنان هناك من يلتزمون فتاوى مرجعية النجف.

أما بالنسبة إلى المرجعية في لبنان، والتي ربّما يوضع اسمي في إطارها، فإن في لبنان لم يكن هناك مرجعية شيعية عالمية بالمعنى العالمي للمرجعية على مدى هذه الفترة. لذلك عندما طُرحت هذه المرجعية مع كل الضوضاء والاتهامات التي أثيرت حولها، أصبحت تملك امتداداً في أكثر من منطقة في العالم، حتى في منطقة النجف في العراق، وإن كانت في تلك المنطقة ليست كحجم امتدادها الكبير في الخليج أو في أوروبا أو في أميركا وفي كثير من المناطق كأوستراليا وكندا. لذلك هذا شيء جديد على لبنان، أن تكون هناك مرجعية شيعية تملك امتداداً في العالم الإسلامي الشيعي، كما قد يعتبرها البعض تملك - خطأً أو صواباً - امتداداً في العالم الإسلامي من الناحية الفكرية أو السياسية".

"لهذا ـ يتابع المرجع الأبرز ـ فإننا نعتبر أن هذه مسألة تمثل نقطةً إيجابيةً لما يسمّى بالمرجعية الشيعية الإسلامية اللبنانية في هذا المجال. إن هذه المسألة لم تؤثّر على مستوى الوجود الشيعيّ من خلال هذه النقاط. ولكن من الطبيعي جداً أن المسألة عندما ندرسها في العراق، فإننا نعرف في العِلم الإعلامي ـ إن صحّ التعبير ـ أن أي حدث كبير يملك امتداداً سياسياً وعسكرياً على مستوى العالم من خلال طبيعته في النتائج التي تحصل منه، أو من خلال تضارب المصالح وامتداد السلبيات والإيجابيات حوله، من الطبيعي جداً أن يأخذ كل الضوء الذي ينفتح على أية قضية في العالم. الآن نجد أن المسألة العراقية تغلب كل المسائل السياسية في العالم، حتى إنها تعيش في داخل أميركا التي لا ينفتح شعبها على السياسة الخارجية، أكثر مما تعيش قضية الانتخابات الرئاسية بطريقة وبأخرى، بل إن الانتخابات الرئاسية مرتبطة بالمسألة العراقية في هذا المقام، ومن الطبيعي جداً أن تسيطر على كل الواقع الموجود في المنطقة، ولا سيما الواقع الموجود في لبنان. ولكن بقيت المسألة لبنانية على المستوى الشيعي تارةً، وعلى مستوى حتى الإسلام السنّي وربما المسيحي أيضاً، تتصل بخيوط معينة في المسألة العراقية، بحيث إن فريقاً من العراقيين، سواء كانوا في مجلس الحكم أو غيره، يتابعون الامتدادات اللبنانية بطريقة وبأخرى. لهذا فإن مسألة هذا الضعف أو هذا الوهج الذاهب هو أمرٌ طبيعي في أحداث العالم، وربما تأتي بعض التطورات الضخمة التي تجتذب اهتمامات العالم، فتجعل لبنان أو سوريا أو المنطقة في دائرة الضوء".

هل فكرت في الانتقال إلى العراق ومتابعة نشاطاتك منه كون النجف عاد المرجعية الأساسية للشيعة في العالم؟

أجاب المرجع الشيعيّ: "أولاً قلت إنني لن أدخل العراق ما دام الاحتلال موجوداً، أو على الأقل الاحتلال المباشر. وثانياً أتصور أن موقعي في لبنان يمكن أن يفتح لي أكثر من نافذة على العالم، وحتى على الذين يلتزمون فتاواي أو يرتبطون بي فكرياً أكثر من النجف، لأن المرجعية في التقاليد الشيعية تملك مواقع تاريخية، ولكنها لا ترتبط من الناحية الشرعية بالموقع الجغرافي. لهذا فإن المسألة بالنسبة إليّ أن المرجعية لا تمثّل طموحاً بالمعنى الذاتي في الامتداد، بل إنني منذ انطلقت في العمل العام قبل خمسين سنة أو أكثر، كنت أفكر في الرسالة الإسلامية في العالم، وأفكّر أن أقدّم إسلاماً حضارياً، لا سيما للغرب. وكنت أقدّم إسلاماً منفتحاً لا يعيش في دائرة مذهبية ضيقة تنفي المذهب الآخر، ولا يعيش في دائرة مغلقة تنفي الدين الآخر أو الفكر الآخر.

أنا التزم الإسلام حسب ما أفهمه بكل خصائصه وحتى جزئياته، ولكني منفتح على الآخر، وأرى أنه إذا كان من حقّي أن أختلف مع الآخر، فمن حق الآخر أن يختلف معي ويكون له فكره. إن القرآن الكريم لم ينفِ الآخر، وآياته كثيرة في هذا الموضوع، فقد جعل الحوار الوسيلة الفضلى لالتقاء الإنسان بالإنسان، واعتبر أنه لا إلغاء لخصوصيات الشعوب في العالم. لذلك كنت ولا أزال أفكّر في الإسلام بطريقة منفتحة... ولعلّي عانيت الكثير من الحرب التي أثيرت من هنا وهناك، سواء المخابراتية أو حرب المرجعية أو الشخصانية أو الفئوية، وقد انطلقت من خلال هذا النوع من الانفتاح الإسلامي على العالم وعلى الإنسان كلّه، في مواجهتي لكل رسائل التخلف والخرافة وغير ذلك، محاولاً أن أقدّم للعالم إسلاماً حضارياً يملك الأصالة والانفتاح، ويطلق دعوة الحوار الثقافي والسياسي مع الغرب كلّه.

ولبنان يملك هذه الساحة المفتوحة على الغرب، فهو رئة الشرق ونوافذه، وأنا أحاول الإطلالة على هذه النوافذ".

هل يمكن أن يحصل تنافس، أو بالأحرى صراع إيراني - عراقي على شيعة لبنان؟

 

جريدة النهار:2 ذو الحجة 1424 الموافق في  24/1/2004

سركيس نعوم

أجاب المرجع الديني عن سؤال: هل يمكن حصول تنافس أو صراع إيراني - عراقي على الشيعة؟ 

قال:"لا أعتقد أن هذا واردٌ في حسابات الواقع، لأنه ليست هناك مفردات لهذا الصراع، باعتبار أن الشيعة اللبنانيين لا يتحركون في عالم الانتماء والارتباط بهذا الشكل العفوي، بل إن لهم ارتباطات بالعراق وإيران كأية طائفة أخرى تملك امتدادات في العالم، ولهذا لا أتصوّر أن هناك فرصةً لهذا التنافس الإيراني - العراقي".

حتى لو حصل تناقض مهم وأساسي بين العراق وإيران الجمهورية الإسلامية؟

أجاب المرجع الأبرز: "في تصوري أن شيعة لبنان يتنوعون. وأحسب أن إيران تملك رشداً سياسياً يجعلها تنأى بنفسها وسياستها عن أيّ تدخل في صراعٍ مع العراق. ولقد كانت إيران أوّل دولة إسلامية تعترف بمجلس الحكم، كما أنها لم تدخل مع مرجعية العراق في صراع، بل وقفت سياسياً على الأقلّ مع المرجعية في النجف، ولهذا فإن هناك بعض الضوابط التي تمنع الساحة من الانهيار، أو أن تتحول إلى صراع شيعي - إيراني أو شيعي - عراقي... لكن من الطبيعي جداً أن تتأسّس الحكومة العراقية التي لن تكون حكومة شيعية، بل كل ما يطلبه الشيعة في العراق، كما في كل مكان، أن يكونوا مواطنين متساوين مع الآخرين في الحقوق والواجبات. وإذا كان البعض يتحدّث عن الأكثرية، فكما يتحدّث كل العالم عن الأكثرية الحزبية أو الأكثرية الطائفية في العالم. فلا أتصور، على الأقل في الأفق الموجود في الساحة العراقية واللبنانية والإيرانية، أن تصل الأمور إلى هذا المستوى".

هل تعتقد أن تفاهماً أو صفقةً أو أيّ شيء من هذا القبيل، وإن على نحو تمهيدي، حصل بين شيعة العراق، والمقصود هنا مرجعيات دينية أساسية، وبين أميركا؟

أجاب المرجع: "لا أتصور دقة هذه الكلمة في هذا المجال. إن المسألة هي أن قضية الاحتلال في العراق مرفوضة من كل الشعب العراقي. وربما يفكر بعض الناس سياسياً أو بطريقة الذي لا يعيش امتدادات المستقبل في السياسة الأميركية في خططها في العراق وفي ما حول العراق. قد يقولون إنه من الممكن إذا زال الاحتلال فإن الوضع العراقي قد يتحوّل إلى فوضى. وربما يفكر هؤلاء، وهذا ما سمعته من البعض، بأن فلول صدّام، كما يُعبّر عنها، قد تعود إلى حكم العراق أمام عدم وجود وضع سياسي مستقرّ قويّ بالنسبة إلى الحكم العراقي من العراقيين. ولهذا، فقد يرون أنه من الضروري جدّاً أن تبقى مثلاً بعض القوات الدولية وليس من الضروري أن تكون أميركية من أجل إيجاد حالة من التوازن الذي يمكّن العراقيين من أن يقرّروا مصيرهم بالطريقة الديمقراطية، أو غيرها. هناك وجهات نظر مختلفة، ولكن لا يمكننا الحديث عن صفقة بالمعنى السياسي للصفقة حسب ما أملك من معلومات، ولا أدّعي أنني أملك كل المعلومات في هذا المجال.

وأعتقد أن البعض ممّن يثيرون هذه المسألة، يحاولون البحث عن بعض السلبيات في الوضع الشيعي في العراق، باعتبار أن الشيعة لم يدخلوا في المقاومة العسكرية، ولكنهم يصرخون دائماً أنهم ضد الاحتلال. ولعلّنا نلاحظ أن المرجعية في النجف، رفضت استقبال أي شخص من رموز الاحتلال، بمن فيهم الحاكم المدني بريمر في العراق، وأكدت رفض العراقيين تعيين لجنة دستور من الأميركيين تماماً كما هو تعيين مجلس الحكم الانتقالي، بل إن المطلب الكبير جداً، والمعبّر عنه بالتظاهرات اعتبار الانتخاب هو الأساس للجنة التي تضع الدستور أو مجلس النواب أو الحكومة أو غير ذلك. كما أتصور أن الذهنية الشيعية العامة - من الطبيعي أننا لا نتحدث عن كل الناس سواء عند الشيعة أو السنة - هي ذهنية ترفض الاحتلال، ولا أتصور أن أحداً يملك الساحة بما يستطيع معه أن يؤكّد صفقة، لأن الذي يريد الدخول في صفقة لا بدّ أنه يملك القوة، والمرجعية في كل تاريخها لم تدخل في صفقة ولن تدخل في صفقة، مع محتلّ".

رغم كل دعواتك المتكررة إلى الوحدة الإسلامية استمرت المذهبية، ويبدو أنها متفاقمة في العراق. وهناك في المنطقة، وتحديداً في محيط العراق، نوعان من الجهات، واحد يضغط على أميركا لإعادة النفوذ السني إلى السلطة أو النظام في العراق، وآخر يدعوها إلى أن يكون لشيعة العراق، وهم الغالبية على ما يقال، دور في عراق ما بعد صدام حسين يوازي حجمهم، من دون أن يتسبب ذلك بحرمان الآخرين حقوقهم. كيف تتصور الوضع العراقي في ظل كل ذلك؟

أجاب المرجع الإسلامي: "من الطبيعي أن التراكمات التاريخية بين الشيعة والسنّة لا تزال تفرض نفسها على العالم الإسلامي، وإن من ناحية الثقافة. فالسلبية التي يمارسها الكثيرون في العالم الإسلامي ضد الشيعة، قد يمارسها أيضاً بعض الشيعة ضد السنّة، كردّ فعل أو كفعل من خلال بعض الخطوط السلبية في نظرة هذا الفريق إلى الفريق الآخر، ولكن هناك نقطة لا بد من تأكيدها، وهي أن ما نعرفه عن العراق هو أن هذه الحساسيات سوف تبقى، ولكنها لن تتحول إلى حرب بين السنّة والشيعة، لأن هناك ضوابط أساسية، وخصوصاً عندما ندرس التركيبة الاجتماعية العراقية. فالعشائر في المنطقة المسماة سنّية أو شيعية، هي عشائر مختلطة مذهبياً، فليست هناك بحسب علمي عشيرة سنّية مطلقة أو شيعية مطلقة، بل هناك سنّة وشيعة في العشائر العراقية... ونلاحظ دائماً أن الشيعة والسنّة في العراق، على المستوى الديني التقليدي، وعلى المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يعرفون أن أي فتنة دامية بين السنة والشيعة سوف لن يستفيد منها أحد. ولا يستطيع السنة من خلال الفتنة ربح الحكم في العراق، ولن يستطيع الشيعة كذلك.

وتبقى المسألة الأميركية، أتصور أن المسألة الأميركية قد تملك الضغط بطريقة وبأخرى، ولكنها بحسب الظروف الموجودة في العراق والمأزق الأميركي فيه، لا تملك الحرية الكبيرة في أن تصوغ العراق على الصورة التي تريدها عندما تريد نقل الحكم من دائرة إلى دائرة، أو أن تعزل دائرة عن أخرى، لأن الوضع الجديد في العراق جعل الشعب العراقي للمرة الأولى في تاريخه يملك قوة الكلمة، ولا أدّعي أن العراقيين ملائكة، ولكني أتصور أن المسألة السياسية تحتاج إلى دقّة، ولا يملك أحد أن يصادرها بشكل مطلق".

أحياناً كثيرة ترى الأقليّات في العالم، مذهبية أو دينية أو اثنية، نفسها في حاجة إلى حماية الدول الكبرى، الأمر الذي يدفعها إلى التحالف معها. والبعض يرى أن من سخرية الأقدار، أن الحلف الذي كان مطروحاً للوقوف في وجه أميركا، المؤلف من إيران والعراق وسوريا ولبنان، ما عاد ممكناً أن يقوم إلا بموافقة أميركا ومساعدتها، لأن غالبية شعوب هذه الدول لا تنتمي إلى الأكثرية في العالم الإسلامي، ولأَنها في حاجة إلى نوع من الحماية في ظل تنامي الأصولية السنّية، بل السلفية في هذا العالم. ما رأيك في ذلك؟

 

جريدة النهار:3 ذو الحجة 1424 الموافق في  25/1/2004

سركيس نعوم

عن حاجة الأقليات في العالم إلى حماية الدول الكبرى، وعن استحالة قيام المحور الإيراني - العراقي - السوري - اللبناني ضد أميركا الذي كان مطروحاً في السابق إلا إذا رعت أمريكا قيامه تأميناً لمصالحها وحمايةً له، والمكوّن من غالبية شيعية في عالم إسلامي ذي غالبية شيعية، وخصوصاً بعد استشراء الأصولية فيه، عن كل ذلك تحدث المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله قائلاً:

"ربما يكون هذا الطرح واردا في الآفاق السياسية الدولية مقارناً بالآفاق الخافتة في المنطقة أو في العالم الثالث. ومن الطبيعي أن كل ضعيف يحاول إيجاد القوة عند القوي، ولكن المشكلة التي تبرز في تطورات الأوضاع الدولية على مستوى المنطقة أو العالم، أنه ليس هناك ثبات في المواقف الدولية لحماية هذا الجانب أو ذاك. فنحن الآن عندما نلاحظ حلفاء أمريكا في المنطقة، حتى الحلفاء الذين يمثلون الجهات التي تعتمد عليها أمريكا في المنطقة ـ ولا نريد ذكر الأسماء لأنها معروفة ـ نجد أن أميركا من خلال تبدل خطوط المصالح واتجاهات الإدارة التي تدير مصالحها في العالم من خلالها، بدأت تتحدى حلفاءها قبل غيرهم. ولعل صدام حسين هو أول هؤلاء، لأنه كان حليف أميركا التي قمعت الانتفاضة العراقية الشيعية بعد تحرير الكويت لتثبيت نظام صدام.

فليس هناك ثبات في حركة السياسة في هذا الموضوع، كما إن المأزق الذي تعيشه أميركا في المنطقة، كأفغانستان والعراق، يعني أن أميركا لا تملك حرية الحركة حتى لو استعانت بالحلف الأطلسي، لسبب بسيط جداً، وهو أن مواجهة المآزق التي تقع فيها هذه الدولة أو تلك، لا يمكن أن تتخلص منها إلا إذا أبادت أكثرية البلد، وهذا أمر مستحيل في كل مواقع السياسة الدولية. لهذا أتصوّر أنّ هناك نقطة أخرى، وهي أن هذه الدول المحيطة بالعراق، قد يملك بعضها حساسية ضد القوة السياسية الشيعية، ولا أقول ضد تحوّل العراق دولة شيعية، لعدم طرح الشيعة ذلك لا على مستوى السيطرة على العراق واضطهاد العراقيين كما اضطهد الآخرون، ولا على مستوى التقسيم. إن كل دولة من هذه الدول مشغولة بنفسها وبما تواجهه من اللعبة الأميركية من خلال المحافظين الجدد أو الأسلوب الصهيوني، أو من خلال الخطة الأميركية التي تعمل ـ على الأقل بحسب الصورة البارزة ـ على أن تكون إسرائيل هي الأقوى، وأن تضعف كل دولة في المنطقة اقتصاديا وسياسياً وأمنياً أمام إسرائيل على الأقل. هذا ما يعتقده الناس، وهذا ما يعتقده أيضاً حلفاء أميركا، إذا صح التعبير بالحلفاء، لأن بعضهم لا يرى أن هناك حلفاء بل يرى أن هناك عملاء بحسب اللغة الاستهلاكية البارزة عندنا.

لذلك ليست هناك أية دولة في المنطقة، حتى لو عاشت الحساسية المذهبية، تملك التدخل بطريقة ضاغطة ضد هذه الأقلية ـ افرض الشيعة في المنطقة ـ. ولعلنا نلاحظ أن العلاقات الدولية على مستوى المنطقة لا تخضع لهذا. فكم كانت المشكلة كبيرة بين السعودية وإيران أو الخليج وإيران حتى من الناحية المذهبية، ولكننا نجد أن العلاقات أصبحت تتجاوز العلاقات الدبلوماسية إلى العلاقات الأمنية. وهكذا نلاحظ في علاقات تركيا، المتحالفة مع إسرائيل وأميركا، مع سوريا في هذا الموضوع.

هذا على مستوى الدول. أما على مستوى المنظمات المسمّاة السلفية، فأتصوّر أنها لا تملك تلك القوة التي تتحرك من خلالها أن تقمع شعباً، وإن كان أقلية في المنطقة، لأن شعوب المنطقة ليست في وارد الدخول في عملية حرب مذهبية، على الأقلّ في المستقبل المنظور، إذ كل دولة وكل شعب يعيش مشاكل داخلية على المستوى الاقتصادي والسياسي والأمني، ولهذا فليس هناك أحد متفرغاً لأن يفكر في أي عمل سلبي ضد الآخر، وخصوصا أن العلاقات الاقتصادية في المنطقة هي علاقات متداخلة ومترابطة. ومن الممكن طرح هذه الفكرة التي يطرحها السؤال، ولكن لا أجد أن لها واقعية في المستقبل المنظور. من الممكن جدا أن تفكر أميركا أو الدول الأخرى في إيجاد حالة من الاهتزاز أو خلط الأوراق أو غير ذلك، ولكن المسألة كما قلنا، أن أميركا لم تتحول إلى أن تكون السلطة المطلقة في العالم كله، لأنه لا مطلق إلا الله تعالى.

إن الشيعة يعملون، كما يعمل عقلاء السنة، على الوحدة الإسلامية. لذلك نقول إن هذه العوامل المذكورة تمنع هذا السيناريو، ولكن جميع العقلاء في العالم الإسلامي يعملون أمام التحديات الكبرى التي تواجه العالم الإسلامي كله على أساس التقارب إذا لم يصل إلى حد الوحدة".

هذا التقارب إذا حصل سيصب من دون أدنى شك في مصلحة السعودية وإيران مثلاً وتحديداً سيقوي النظام في كل منهما، وتالياً يؤمن المصالح الأميركية مباشرة أو على نحو غير مباشر، وهذا يعني أن الأمور عادت لتدور في فلك واحد؟؟

يجيب المرجع الإسلامي: "لدينا في الشرق العربي ـ على الأقل ـ فكرة، وهي أن أميركا تملك كل خيوط اللعبة، وأنها لا تترك في تحركها السياسي حرية للمنطقة وبلدانها المرتبطة معها بروابط معاهدات في التفاصيل. أظن أن المسألة هي أن أميركا في تطور حركيتها السياسية في المستقبل لا تملك كل خيوط اللعبة. وهذا ما نلاحظه، عندما نجد أنّ أوروبا ـ وهي الضعيفة حالياً أمام أميركا ـ تعمل من أجل إمساك خيط من هنا وخيط من هناك، وإن كانت خيوط أميركا أكثر. لذلك أتصور أنّه على الرغم من الكثير من عوامل الضغط الأمريكي على الصين واليابان والاتحادين الأوروبي والروسي، إلاّ أن هؤلاء ليسوا عالماً ثالثاً، وأميركا ليست هي الإمبراطورية التي تلغي كل الإمبراطوريات الصغيرة هنا وهناك. وهذا كلام لا ينطلق على مستوى الشعار، بل الواقع. وإلا كيف كانت أميركا مستعمرة من قبل بريطانيا؟ {وتلك الأيام نداولها بين الناس}".

المداولة التي تتحدّث عنها صحيحة، لكنها بين الدول الكبرى المستعمرة أو حتى الطاغية. أما دول العالم الثالث أو الدول الصغرى، فلا شيء يتغير فيها. بريطانيا مثلاً بقيت سنوات في المنطقة حتى زالت وأتت أميركا بعدها، فماذا حصل؟ أميركا تكرس نفسها الآن قوةً أعظم، وإلى أن تقوم قوة تنافسها أو تزيلها ماذا يحصل في العالم، وخصوصاً الثالث منه؟ ومن يضمن أن تكون هذه القوة "عادلة"، أي أن لا تعطي الأولوية لمصالحها على حساب الشعوب الأخرى كلها؟

 

جريدة النهار:5 ذو الحجة 1424 الموافق في  27/1/2004

سركيس نعوم

جاء في تعليقٍ له على مقولة أن "تداول السلطة" في العالم يتم بين الدول الكبيرة والمستعمرة التي تهتم بمصالحها أكثر من اهتمامها بمصالح الشعوب، وخصوصاً في العالم الثالث، وعن أن الرهان على قيام قوة دولية كبرى تنافس أميركا أو تضعفها لن يقدم الكثير لهذه الشعوب، بدليل ما نراه اليوم من تصرف أميركا التي نزعت بريطانيا عن عرش الدولة العظمى. قال السيد محمد حسين فضل الله:

"سوف نعيش هذا النوع من الارتباك السياسي والأمني والاقتصادي، سواء مع أميركا أو مع أوروبا والصين، حتى في تنافسها مع بعضها البعض. ولكني أتصور أنّ الشعوب عندما تواجه كل هذه الضغوط والآلام، فلا بد من أن تتحرك، لا سيّما أن العالم العربي أو الإسلامي هو عالم يملك الكثير من الطاقات، وإن هذه الانتفاضات الصغيرة هنا وهناك، ربما تجد في المستقبل ساحةً أكبر. نحن لسنا مثاليين أو خياليين، بل نحن واقعيون نؤمن بطاقات الشعوب وأنها يمكن أن تتفجر، ولهذا علينا أن نكون المستقبليين، ونفكر في المستقبل، فنفتح ثغرة هنا وثغرة هناك، ونوسّع تلك الثغرات بين وقت وآخر".

هل تعتقد أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية بدأت "تكوع" في اتجاه أميركا؟

"أنا لا أستعمل هذه المصطلحات، لأني لا أؤمن بالسياسة الشعاراتية المثالية. أذكر أنه قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، أجرت معي إحدى الأسبوعيات الإيرانية حديثاً، وقلت لها سيأتي وقت ترتبط فيه إيران بأميركا سياسياً واقتصادياً وربما أمنياً، لأن شعارات الثورة الإسلامية تحدثت عن الشيطان الأكبر والموت لأمريكا، وكل المسائل العالقة بين أميركا وإيران حتى إيران الثورة هي مسائل بعضها اقتصادي وبعضها سياسي أو مخابراتي أو إعلامي، ونحن نعرف أنّ الكثير من الدول التي تختلف مع بعضها البعض حتى في شكل حاد في مثل هذه الأمور، لا بد أن تلتقي على تنازل هنا وتنازل هناك، بما يحقق مصلحة البلدين ولو بطريقة أو بأخرى.

لأن إيران، حتى على لسان الإمام الخميني، لم ترفض شرعية أميركا بالمعنى السياسي الدولي، لأنه لا فرق بين أميركا والدول الأوروبية في مسألة الشرعية الدستورية، بل إنها ركزت على مطالب معينة، مثل الأرصدة وإبعاد الوسائل المعادية. فلا بد من وقت تعود فيه العلاقات بين أميركا وإيران. وأتصور أن التطورات الموجودة في العالم، والذهنية السياسية الإيرانية الجديدة ـ وإن كان البعض يناقش في هذا التعبير ـ منذ دخول أميركا إلى الكويت كانت متوازنة، فلم ينطلق الجيش الإيراني للقيام بعمليات ضد الجيش الأميركي في الخليج، مع أن أميركا صارت على حدود إيران، لأنها صارت على حدود الخليج. لذلك فإن إيران تحاول دائماً الحفاظ على الخطوط العامة لعناوين الحرية والاستقلال والعزة والكرامة ومصالحها، لأنه ليس هناك سياسة في المطلق، أو دولة تفكر في المطلق. إن الشعارات الكبيرة التي انطلقت في بداية الثورة ومع امتداداتها، حتى أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، كانت ضرورية من جهة تعبئة الشعب، وقد كانت لي كلمة بشكل عام في مسألة الثورات، أنه لا بد لأية ثورة من أن تمر بلحظة جنون، بحيث تتحدث في المطلق وبدون ضوابط، ولكنها عندما تتحول إلى دولة، فلا بد من أن تدرس ارتباطاتها الدولية والضغوط الدولية على جميع المستويات. وبهذا فأنا أختلف مع الذين يتحدثون بسلبية حول منطق الثورة ومنطق الدولة، لأن الثورة إنما كانت من اجل الدولة، فلا يمكن إسقاط الدولة بأساليب الثورة".

"إني أرى أن إيران بدأت تملك نوعاً من الواقعية السياسية التي تحاول بما تستطيع أن تبعدها عن خط الإساءة للخطوط العامة للمبادىء الإسلامية، وهذا ما لاحظناه عندما بدأت إيران تفكر في مصالحها كدولة، كموقفها في أفغانستان، فهي لم تساعد أميركا في حربها مع طالبان، ولكنها أعطت بعض الإشارات، كسقوط الجنود الأميركيين. وهكذا المسألة بالنسبة إلى العراق، فقد حافظت على شعاراتها، ولكنها في الوقت نفسه لم تعمل على الانعزال عن التطورات في الساحة العراقية. وهكذا بالنسبة إلى السلاح النووي، عندما عملت على أساس توقيع البروتوكول، ولكنها حاولت الحفاظ على ما تريد عندما انطلقت بدراسة الموضوع، بعدما أخذت أميركا أوروبا إلى صفها في مسألة الضغط على إيران بشأن القضية النووية. ونحن نعرف عمق العلاقات الحيوية لأوروبا في إيران، ولإيران في أوروبا، وربما ينتهي الأمر بها إذا امتنعت عن نقل المسألة إلى مجلس الأمن، أن يكون وضعها الدولي تماماً كوضع العراق في الحصار الدولي وغيره. لهذا حاولت بيع هذه المسألة لأوروبا ولم تبعها لأميركا بشكل مباشر، وخصوصاً أنها لم تعتبر أنها قدمت تنازلاً، لأن الفتوى الشرعية أنه لا يجوز لإيران إنتاج السلاح النووي، وإنما تريد وتحاول اكتساب الخبرة النووية للاستعمال السلمي. لذلك فإني أتصور أن المسألة تدخل في عملية تجاذبات تنطلق من إشارة هنا وإشارة هناك، ولكن إيران ـ في ما يبدو ـ ليست مستعجلة لتسريع هذه التطورات، لأنها ترى أن عليها البقاء محافظةً على شعاراتها بالطريقة الواقعية في هذا المجال، وهو ما لاحظناه عندما أفسحت في المجال لأن تأتي الطائرات الأميركية وموظفوها لمساعدة منكوبي مدينة "بم". إن إيران تتحرك لا على أساس السقوط تحت سلطة أميركا، ولكنها تحاول التخفف من الضغوط الهائلة التي يمكن أن تدخلها في مشاكل كبيرة جدا أكثر من هذه المسماة تنازلات هنا وهناك".

ما هو دور إيران في العراق مستقبلاً حسب تصورك؟

"أعتقد أن إيران تريد توثيق علاقاتها مع الشعب العراقي، حتى السنّي منه، وحتى الكردي، مع التحفظ على المسألة الكردية، باعتبار الحساسية من مستقبل الطموح الكردي في اعتبار الفيدرالية وسيلةً من وسائل الوصول إلى الدولة الكردية الموحدة لأكراد تركيا وإيران وسوريا والعراق.

لذلك، فإنّ دور إيران ليس دور السيطرة على العراق من خلال الشيعة، وإنما دورها كأية دولة مجاورة لأية دولة مرتبطة بها ثقافياً وتربوياً ودينياً وسياسياً واقتصادياً، إنما تريد إيجاد أرض معقولة ومسالمة ومؤثرة، لتستطيع أن تزرع في داخلها ما تملكه من الناحية السياسية في المنطقة، والحماية من تجربة أخرى كتجربة صدّام معها".

جريدة النهار:6 ذو الحجة 1424 الموافق في  28/1/2004

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية