سركيس نعوم
أجاب المرجع الديني عن سؤال: هل يمكن حصول تنافس أو صراع إيراني - عراقي على الشيعة؟
قال:"لا أعتقد أن هذا واردٌ في حسابات الواقع، لأنه ليست هناك مفردات لهذا الصراع، باعتبار أن الشيعة اللبنانيين لا يتحركون في عالم الانتماء والارتباط بهذا الشكل العفوي، بل إن لهم ارتباطات بالعراق وإيران كأية طائفة أخرى تملك امتدادات في العالم، ولهذا لا أتصوّر أن هناك فرصةً لهذا التنافس الإيراني - العراقي".
حتى لو حصل تناقض مهم وأساسي بين العراق وإيران الجمهورية الإسلامية؟
أجاب المرجع الأبرز: "في تصوري أن شيعة لبنان يتنوعون. وأحسب أن إيران تملك رشداً سياسياً يجعلها تنأى بنفسها وسياستها عن أيّ تدخل في صراعٍ مع العراق. ولقد كانت إيران أوّل دولة إسلامية تعترف بمجلس الحكم، كما أنها لم تدخل مع مرجعية العراق في صراع، بل وقفت سياسياً على الأقلّ مع المرجعية في النجف، ولهذا فإن هناك بعض الضوابط التي تمنع الساحة من الانهيار، أو أن تتحول إلى صراع شيعي - إيراني أو شيعي - عراقي... لكن من الطبيعي جداً أن تتأسّس الحكومة العراقية التي لن تكون حكومة شيعية، بل كل ما يطلبه الشيعة في العراق، كما في كل مكان، أن يكونوا مواطنين متساوين مع الآخرين في الحقوق والواجبات. وإذا كان البعض يتحدّث عن الأكثرية، فكما يتحدّث كل العالم عن الأكثرية الحزبية أو الأكثرية الطائفية في العالم. فلا أتصور، على الأقل في الأفق الموجود في الساحة العراقية واللبنانية والإيرانية، أن تصل الأمور إلى هذا المستوى".
هل تعتقد أن تفاهماً أو صفقةً أو أيّ شيء من هذا القبيل، وإن على نحو تمهيدي، حصل بين شيعة العراق، والمقصود هنا مرجعيات دينية أساسية، وبين أميركا؟
أجاب المرجع: "لا أتصور دقة هذه الكلمة في هذا المجال. إن المسألة هي أن قضية الاحتلال في العراق مرفوضة من كل الشعب العراقي. وربما يفكر بعض الناس سياسياً أو بطريقة الذي لا يعيش امتدادات المستقبل في السياسة الأميركية في خططها في العراق وفي ما حول العراق. قد يقولون إنه من الممكن إذا زال الاحتلال فإن الوضع العراقي قد يتحوّل إلى فوضى. وربما يفكر هؤلاء، وهذا ما سمعته من البعض، بأن فلول صدّام، كما يُعبّر عنها، قد تعود إلى حكم العراق أمام عدم وجود وضع سياسي مستقرّ قويّ بالنسبة إلى الحكم العراقي من العراقيين. ولهذا، فقد يرون أنه من الضروري جدّاً أن تبقى مثلاً بعض القوات الدولية وليس من الضروري أن تكون أميركية من أجل إيجاد حالة من التوازن الذي يمكّن العراقيين من أن يقرّروا مصيرهم بالطريقة الديمقراطية، أو غيرها. هناك وجهات نظر مختلفة، ولكن لا يمكننا الحديث عن صفقة بالمعنى السياسي للصفقة حسب ما أملك من معلومات، ولا أدّعي أنني أملك كل المعلومات في هذا المجال.
وأعتقد أن البعض ممّن يثيرون هذه المسألة، يحاولون البحث عن بعض السلبيات في الوضع الشيعي في العراق، باعتبار أن الشيعة لم يدخلوا في المقاومة العسكرية، ولكنهم يصرخون دائماً أنهم ضد الاحتلال. ولعلّنا نلاحظ أن المرجعية في النجف، رفضت استقبال أي شخص من رموز الاحتلال، بمن فيهم الحاكم المدني بريمر في العراق، وأكدت رفض العراقيين تعيين لجنة دستور من الأميركيين تماماً كما هو تعيين مجلس الحكم الانتقالي، بل إن المطلب الكبير جداً، والمعبّر عنه بالتظاهرات اعتبار الانتخاب هو الأساس للجنة التي تضع الدستور أو مجلس النواب أو الحكومة أو غير ذلك. كما أتصور أن الذهنية الشيعية العامة - من الطبيعي أننا لا نتحدث عن كل الناس سواء عند الشيعة أو السنة - هي ذهنية ترفض الاحتلال، ولا أتصور أن أحداً يملك الساحة بما يستطيع معه أن يؤكّد صفقة، لأن الذي يريد الدخول في صفقة لا بدّ أنه يملك القوة، والمرجعية في كل تاريخها لم تدخل في صفقة ولن تدخل في صفقة، مع محتلّ".
رغم كل دعواتك المتكررة إلى الوحدة الإسلامية استمرت المذهبية، ويبدو أنها متفاقمة في العراق. وهناك في المنطقة، وتحديداً في محيط العراق، نوعان من الجهات، واحد يضغط على أميركا لإعادة النفوذ السني إلى السلطة أو النظام في العراق، وآخر يدعوها إلى أن يكون لشيعة العراق، وهم الغالبية على ما يقال، دور في عراق ما بعد صدام حسين يوازي حجمهم، من دون أن يتسبب ذلك بحرمان الآخرين حقوقهم. كيف تتصور الوضع العراقي في ظل كل ذلك؟
أجاب المرجع الإسلامي: "من الطبيعي أن التراكمات التاريخية بين الشيعة والسنّة لا تزال تفرض نفسها على العالم الإسلامي، وإن من ناحية الثقافة. فالسلبية التي يمارسها الكثيرون في العالم الإسلامي ضد الشيعة، قد يمارسها أيضاً بعض الشيعة ضد السنّة، كردّ فعل أو كفعل من خلال بعض الخطوط السلبية في نظرة هذا الفريق إلى الفريق الآخر، ولكن هناك نقطة لا بد من تأكيدها، وهي أن ما نعرفه عن العراق هو أن هذه الحساسيات سوف تبقى، ولكنها لن تتحول إلى حرب بين السنّة والشيعة، لأن هناك ضوابط أساسية، وخصوصاً عندما ندرس التركيبة الاجتماعية العراقية. فالعشائر في المنطقة المسماة سنّية أو شيعية، هي عشائر مختلطة مذهبياً، فليست هناك بحسب علمي عشيرة سنّية مطلقة أو شيعية مطلقة، بل هناك سنّة وشيعة في العشائر العراقية... ونلاحظ دائماً أن الشيعة والسنّة في العراق، على المستوى الديني التقليدي، وعلى المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يعرفون أن أي فتنة دامية بين السنة والشيعة سوف لن يستفيد منها أحد. ولا يستطيع السنة من خلال الفتنة ربح الحكم في العراق، ولن يستطيع الشيعة كذلك.
وتبقى المسألة الأميركية، أتصور أن المسألة الأميركية قد تملك الضغط بطريقة وبأخرى، ولكنها بحسب الظروف الموجودة في العراق والمأزق الأميركي فيه، لا تملك الحرية الكبيرة في أن تصوغ العراق على الصورة التي تريدها عندما تريد نقل الحكم من دائرة إلى دائرة، أو أن تعزل دائرة عن أخرى، لأن الوضع الجديد في العراق جعل الشعب العراقي للمرة الأولى في تاريخه يملك قوة الكلمة، ولا أدّعي أن العراقيين ملائكة، ولكني أتصور أن المسألة السياسية تحتاج إلى دقّة، ولا يملك أحد أن يصادرها بشكل مطلق".
أحياناً كثيرة ترى الأقليّات في العالم، مذهبية أو دينية أو اثنية، نفسها في حاجة إلى حماية الدول الكبرى، الأمر الذي يدفعها إلى التحالف معها. والبعض يرى أن من سخرية الأقدار، أن الحلف الذي كان مطروحاً للوقوف في وجه أميركا، المؤلف من إيران والعراق وسوريا ولبنان، ما عاد ممكناً أن يقوم إلا بموافقة أميركا ومساعدتها، لأن غالبية شعوب هذه الدول لا تنتمي إلى الأكثرية في العالم الإسلامي، ولأَنها في حاجة إلى نوع من الحماية في ظل تنامي الأصولية السنّية، بل السلفية في هذا العالم. ما رأيك في ذلك؟
جريدة النهار:3 ذو الحجة 1424 الموافق في 25/1/2004
سركيس نعوم
عن حاجة الأقليات في العالم إلى حماية الدول الكبرى، وعن استحالة قيام المحور الإيراني - العراقي - السوري - اللبناني ضد أميركا الذي كان مطروحاً في السابق إلا إذا رعت أمريكا قيامه تأميناً لمصالحها وحمايةً له، والمكوّن من غالبية شيعية في عالم إسلامي ذي غالبية شيعية، وخصوصاً بعد استشراء الأصولية فيه، عن كل ذلك تحدث المرجع الديني السيد محمد حسين فضل الله قائلاً:
"ربما يكون هذا الطرح واردا في الآفاق السياسية الدولية مقارناً بالآفاق الخافتة في المنطقة أو في العالم الثالث. ومن الطبيعي أن كل ضعيف يحاول إيجاد القوة عند القوي، ولكن المشكلة التي تبرز في تطورات الأوضاع الدولية على مستوى المنطقة أو العالم، أنه ليس هناك ثبات في المواقف الدولية لحماية هذا الجانب أو ذاك. فنحن الآن عندما نلاحظ حلفاء أمريكا في المنطقة، حتى الحلفاء الذين يمثلون الجهات التي تعتمد عليها أمريكا في المنطقة ـ ولا نريد ذكر الأسماء لأنها معروفة ـ نجد أن أميركا من خلال تبدل خطوط المصالح واتجاهات الإدارة التي تدير مصالحها في العالم من خلالها، بدأت تتحدى حلفاءها قبل غيرهم. ولعل صدام حسين هو أول هؤلاء، لأنه كان حليف أميركا التي قمعت الانتفاضة العراقية الشيعية بعد تحرير الكويت لتثبيت نظام صدام.
فليس هناك ثبات في حركة السياسة في هذا الموضوع، كما إن المأزق الذي تعيشه أميركا في المنطقة، كأفغانستان والعراق، يعني أن أميركا لا تملك حرية الحركة حتى لو استعانت بالحلف الأطلسي، لسبب بسيط جداً، وهو أن مواجهة المآزق التي تقع فيها هذه الدولة أو تلك، لا يمكن أن تتخلص منها إلا إذا أبادت أكثرية البلد، وهذا أمر مستحيل في كل مواقع السياسة الدولية. لهذا أتصوّر أنّ هناك نقطة أخرى، وهي أن هذه الدول المحيطة بالعراق، قد يملك بعضها حساسية ضد القوة السياسية الشيعية، ولا أقول ضد تحوّل العراق دولة شيعية، لعدم طرح الشيعة ذلك لا على مستوى السيطرة على العراق واضطهاد العراقيين كما اضطهد الآخرون، ولا على مستوى التقسيم. إن كل دولة من هذه الدول مشغولة بنفسها وبما تواجهه من اللعبة الأميركية من خلال المحافظين الجدد أو الأسلوب الصهيوني، أو من خلال الخطة الأميركية التي تعمل ـ على الأقل بحسب الصورة البارزة ـ على أن تكون إسرائيل هي الأقوى، وأن تضعف كل دولة في المنطقة اقتصاديا وسياسياً وأمنياً أمام إسرائيل على الأقل. هذا ما يعتقده الناس، وهذا ما يعتقده أيضاً حلفاء أميركا، إذا صح التعبير بالحلفاء، لأن بعضهم لا يرى أن هناك حلفاء بل يرى أن هناك عملاء بحسب اللغة الاستهلاكية البارزة عندنا.
لذلك ليست هناك أية دولة في المنطقة، حتى لو عاشت الحساسية المذهبية، تملك التدخل بطريقة ضاغطة ضد هذه الأقلية ـ افرض الشيعة في المنطقة ـ. ولعلنا نلاحظ أن العلاقات الدولية على مستوى المنطقة لا تخضع لهذا. فكم كانت المشكلة كبيرة بين السعودية وإيران أو الخليج وإيران حتى من الناحية المذهبية، ولكننا نجد أن العلاقات أصبحت تتجاوز العلاقات الدبلوماسية إلى العلاقات الأمنية. وهكذا نلاحظ في علاقات تركيا، المتحالفة مع إسرائيل وأميركا، مع سوريا في هذا الموضوع.
هذا على مستوى الدول. أما على مستوى المنظمات المسمّاة السلفية، فأتصوّر أنها لا تملك تلك القوة التي تتحرك من خلالها أن تقمع شعباً، وإن كان أقلية في المنطقة، لأن شعوب المنطقة ليست في وارد الدخول في عملية حرب مذهبية، على الأقلّ في المستقبل المنظور، إذ كل دولة وكل شعب يعيش مشاكل داخلية على المستوى الاقتصادي والسياسي والأمني، ولهذا فليس هناك أحد متفرغاً لأن يفكر في أي عمل سلبي ضد الآخر، وخصوصا أن العلاقات الاقتصادية في المنطقة هي علاقات متداخلة ومترابطة. ومن الممكن طرح هذه الفكرة التي يطرحها السؤال، ولكن لا أجد أن لها واقعية في المستقبل المنظور. من الممكن جدا أن تفكر أميركا أو الدول الأخرى في إيجاد حالة من الاهتزاز أو خلط الأوراق أو غير ذلك، ولكن المسألة كما قلنا، أن أميركا لم تتحول إلى أن تكون السلطة المطلقة في العالم كله، لأنه لا مطلق إلا الله تعالى.
إن الشيعة يعملون، كما يعمل عقلاء السنة، على الوحدة الإسلامية. لذلك نقول إن هذه العوامل المذكورة تمنع هذا السيناريو، ولكن جميع العقلاء في العالم الإسلامي يعملون أمام التحديات الكبرى التي تواجه العالم الإسلامي كله على أساس التقارب إذا لم يصل إلى حد الوحدة".
هذا التقارب إذا حصل سيصب من دون أدنى شك في مصلحة السعودية وإيران مثلاً وتحديداً سيقوي النظام في كل منهما، وتالياً يؤمن المصالح الأميركية مباشرة أو على نحو غير مباشر، وهذا يعني أن الأمور عادت لتدور في فلك واحد؟؟
يجيب المرجع الإسلامي: "لدينا في الشرق العربي ـ على الأقل ـ فكرة، وهي أن أميركا تملك كل خيوط اللعبة، وأنها لا تترك في تحركها السياسي حرية للمنطقة وبلدانها المرتبطة معها بروابط معاهدات في التفاصيل. أظن أن المسألة هي أن أميركا في تطور حركيتها السياسية في المستقبل لا تملك كل خيوط اللعبة. وهذا ما نلاحظه، عندما نجد أنّ أوروبا ـ وهي الضعيفة حالياً أمام أميركا ـ تعمل من أجل إمساك خيط من هنا وخيط من هناك، وإن كانت خيوط أميركا أكثر. لذلك أتصور أنّه على الرغم من الكثير من عوامل الضغط الأمريكي على الصين واليابان والاتحادين الأوروبي والروسي، إلاّ أن هؤلاء ليسوا عالماً ثالثاً، وأميركا ليست هي الإمبراطورية التي تلغي كل الإمبراطوريات الصغيرة هنا وهناك. وهذا كلام لا ينطلق على مستوى الشعار، بل الواقع. وإلا كيف كانت أميركا مستعمرة من قبل بريطانيا؟ {وتلك الأيام نداولها بين الناس}".
المداولة التي تتحدّث عنها صحيحة، لكنها بين الدول الكبرى المستعمرة أو حتى الطاغية. أما دول العالم الثالث أو الدول الصغرى، فلا شيء يتغير فيها. بريطانيا مثلاً بقيت سنوات في المنطقة حتى زالت وأتت أميركا بعدها، فماذا حصل؟ أميركا تكرس نفسها الآن قوةً أعظم، وإلى أن تقوم قوة تنافسها أو تزيلها ماذا يحصل في العالم، وخصوصاً الثالث منه؟ ومن يضمن أن تكون هذه القوة "عادلة"، أي أن لا تعطي الأولوية لمصالحها على حساب الشعوب الأخرى كلها؟
جريدة النهار:5 ذو الحجة 1424 الموافق في 27/1/2004
سركيس نعوم
جاء في تعليقٍ له على مقولة أن "تداول السلطة" في العالم يتم بين الدول الكبيرة والمستعمرة التي تهتم بمصالحها أكثر من اهتمامها بمصالح الشعوب، وخصوصاً في العالم الثالث، وعن أن الرهان على قيام قوة دولية كبرى تنافس أميركا أو تضعفها لن يقدم الكثير لهذه الشعوب، بدليل ما نراه اليوم من تصرف أميركا التي نزعت بريطانيا عن عرش الدولة العظمى. قال السيد محمد حسين فضل الله:
"سوف نعيش هذا النوع من الارتباك السياسي والأمني والاقتصادي، سواء مع أميركا أو مع أوروبا والصين، حتى في تنافسها مع بعضها البعض. ولكني أتصور أنّ الشعوب عندما تواجه كل هذه الضغوط والآلام، فلا بد من أن تتحرك، لا سيّما أن العالم العربي أو الإسلامي هو عالم يملك الكثير من الطاقات، وإن هذه الانتفاضات الصغيرة هنا وهناك، ربما تجد في المستقبل ساحةً أكبر. نحن لسنا مثاليين أو خياليين، بل نحن واقعيون نؤمن بطاقات الشعوب وأنها يمكن أن تتفجر، ولهذا علينا أن نكون المستقبليين، ونفكر في المستقبل، فنفتح ثغرة هنا وثغرة هناك، ونوسّع تلك الثغرات بين وقت وآخر".
هل تعتقد أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية بدأت "تكوع" في اتجاه أميركا؟
"أنا لا أستعمل هذه المصطلحات، لأني لا أؤمن بالسياسة الشعاراتية المثالية. أذكر أنه قبل أكثر من خمسة عشر عاماً، أجرت معي إحدى الأسبوعيات الإيرانية حديثاً، وقلت لها سيأتي وقت ترتبط فيه إيران بأميركا سياسياً واقتصادياً وربما أمنياً، لأن شعارات الثورة الإسلامية تحدثت عن الشيطان الأكبر والموت لأمريكا، وكل المسائل العالقة بين أميركا وإيران حتى إيران الثورة هي مسائل بعضها اقتصادي وبعضها سياسي أو مخابراتي أو إعلامي، ونحن نعرف أنّ الكثير من الدول التي تختلف مع بعضها البعض حتى في شكل حاد في مثل هذه الأمور، لا بد أن تلتقي على تنازل هنا وتنازل هناك، بما يحقق مصلحة البلدين ولو بطريقة أو بأخرى.
لأن إيران، حتى على لسان الإمام الخميني، لم ترفض شرعية أميركا بالمعنى السياسي الدولي، لأنه لا فرق بين أميركا والدول الأوروبية في مسألة الشرعية الدستورية، بل إنها ركزت على مطالب معينة، مثل الأرصدة وإبعاد الوسائل المعادية. فلا بد من وقت تعود فيه العلاقات بين أميركا وإيران. وأتصور أن التطورات الموجودة في العالم، والذهنية السياسية الإيرانية الجديدة ـ وإن كان البعض يناقش في هذا التعبير ـ منذ دخول أميركا إلى الكويت كانت متوازنة، فلم ينطلق الجيش الإيراني للقيام بعمليات ضد الجيش الأميركي في الخليج، مع أن أميركا صارت على حدود إيران، لأنها صارت على حدود الخليج. لذلك فإن إيران تحاول دائماً الحفاظ على الخطوط العامة لعناوين الحرية والاستقلال والعزة والكرامة ومصالحها، لأنه ليس هناك سياسة في المطلق، أو دولة تفكر في المطلق. إن الشعارات الكبيرة التي انطلقت في بداية الثورة ومع امتداداتها، حتى أثناء الحرب العراقية - الإيرانية، كانت ضرورية من جهة تعبئة الشعب، وقد كانت لي كلمة بشكل عام في مسألة الثورات، أنه لا بد لأية ثورة من أن تمر بلحظة جنون، بحيث تتحدث في المطلق وبدون ضوابط، ولكنها عندما تتحول إلى دولة، فلا بد من أن تدرس ارتباطاتها الدولية والضغوط الدولية على جميع المستويات. وبهذا فأنا أختلف مع الذين يتحدثون بسلبية حول منطق الثورة ومنطق الدولة، لأن الثورة إنما كانت من اجل الدولة، فلا يمكن إسقاط الدولة بأساليب الثورة".
"إني أرى أن إيران بدأت تملك نوعاً من الواقعية السياسية التي تحاول بما تستطيع أن تبعدها عن خط الإساءة للخطوط العامة للمبادىء الإسلامية، وهذا ما لاحظناه عندما بدأت إيران تفكر في مصالحها كدولة، كموقفها في أفغانستان، فهي لم تساعد أميركا في حربها مع طالبان، ولكنها أعطت بعض الإشارات، كسقوط الجنود الأميركيين. وهكذا المسألة بالنسبة إلى العراق، فقد حافظت على شعاراتها، ولكنها في الوقت نفسه لم تعمل على الانعزال عن التطورات في الساحة العراقية. وهكذا بالنسبة إلى السلاح النووي، عندما عملت على أساس توقيع البروتوكول، ولكنها حاولت الحفاظ على ما تريد عندما انطلقت بدراسة الموضوع، بعدما أخذت أميركا أوروبا إلى صفها في مسألة الضغط على إيران بشأن القضية النووية. ونحن نعرف عمق العلاقات الحيوية لأوروبا في إيران، ولإيران في أوروبا، وربما ينتهي الأمر بها إذا امتنعت عن نقل المسألة إلى مجلس الأمن، أن يكون وضعها الدولي تماماً كوضع العراق في الحصار الدولي وغيره. لهذا حاولت بيع هذه المسألة لأوروبا ولم تبعها لأميركا بشكل مباشر، وخصوصاً أنها لم تعتبر أنها قدمت تنازلاً، لأن الفتوى الشرعية أنه لا يجوز لإيران إنتاج السلاح النووي، وإنما تريد وتحاول اكتساب الخبرة النووية للاستعمال السلمي. لذلك فإني أتصور أن المسألة تدخل في عملية تجاذبات تنطلق من إشارة هنا وإشارة هناك، ولكن إيران ـ في ما يبدو ـ ليست مستعجلة لتسريع هذه التطورات، لأنها ترى أن عليها البقاء محافظةً على شعاراتها بالطريقة الواقعية في هذا المجال، وهو ما لاحظناه عندما أفسحت في المجال لأن تأتي الطائرات الأميركية وموظفوها لمساعدة منكوبي مدينة "بم". إن إيران تتحرك لا على أساس السقوط تحت سلطة أميركا، ولكنها تحاول التخفف من الضغوط الهائلة التي يمكن أن تدخلها في مشاكل كبيرة جدا أكثر من هذه المسماة تنازلات هنا وهناك".
ما هو دور إيران في العراق مستقبلاً حسب تصورك؟
"أعتقد أن إيران تريد توثيق علاقاتها مع الشعب العراقي، حتى السنّي منه، وحتى الكردي، مع التحفظ على المسألة الكردية، باعتبار الحساسية من مستقبل الطموح الكردي في اعتبار الفيدرالية وسيلةً من وسائل الوصول إلى الدولة الكردية الموحدة لأكراد تركيا وإيران وسوريا والعراق.
لذلك، فإنّ دور إيران ليس دور السيطرة على العراق من خلال الشيعة، وإنما دورها كأية دولة مجاورة لأية دولة مرتبطة بها ثقافياً وتربوياً ودينياً وسياسياً واقتصادياً، إنما تريد إيجاد أرض معقولة ومسالمة ومؤثرة، لتستطيع أن تزرع في داخلها ما تملكه من الناحية السياسية في المنطقة، والحماية من تجربة أخرى كتجربة صدّام معها".
جريدة النهار:6 ذو الحجة 1424 الموافق في 28/1/2004